قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع عشر

كان يعقوب يجلس على الأريكة بمنزله الخاص يُراجع بعض حسابات العمل التي أهمهلها في الفترة الأخيرة، كان مُنكبًا على الأوراق ومُنهمكًا في قرائتها بكلِ تركيز، في نفس الأثناء أتت ذكرى حاملة لكوب من العصير الطازج ثم انحنت تضعه أمامه على الطاولة، وبعدها جاورته ناظرة لِمَ يفعل بكل فضول، رفع أنظاره إليها فوجدها تنتبه له، فضحك بخفة أن التقط كوب العصير وارتشف منه عدة رشفات قليلة: عاجبك الموضوع؟

انتبهت له وابتسمت بخفة وهي تُجيبه: أنا أصلًا مش فاهمة حاجة، وبعدين مش أنت شغال في محل جزارة؟ حسابات إيه بقى اللي أنت بتحسبها دي؟
وضع الدفتر والقلم جانبًا، ثم استدار لها وتحدث ضاحكًا وهو يُناولها كوب العصير الخاص بها: وهو أنا عشان شغال في محل جزارة يبقى خلاص الدنيا كدا بقت سهلة؟ الموضوع أصعب مما تتخيلي.
اعتراها الفضول أكثر وتسائلت بحماس: طب ما تفهمني!

ضحك على حماستها، فعاد ليُمسك بالدفتر والقلم الذي وضعهما، ثم ثبت أنظاره عليهما وهو يقول: طيب قربي.
وبالفعل اقتربت منه حتى التصقت به، لترتسم ابتسامة خبيثة على ثغره أثناء قوله الماكر: قربي أكتر.
رفعت عيناها تُطالعه بشك، فلم ترى سوى خُبثه المُرتسم بوضوح على محياه، لتنكزه بغيظ في جانبه وهي تقول بضجر: بس يا يعقوب بقى وفهمني.

كتم ضحكته بصعوبة، ومن ثَم بدأ يشرح لها أساسيات المهنة التي تعتبرها سهلة كما تعتقد: بُصي يا ستي، حوار إن يكون عندك محل جِزارة دا مش سهل زي ما أنتِ مفكرة، لإن المشروع دا بيحتاج لراس مال كبيرة جدًا، الحوار مش بيعتمد على جاموسة أو اتنين إحنا بنشتريهم، بل ممكن توصل لإننا نشتري خمسة أو ستة في الشهر مثلًا، وأنتِ عارفة إن سعر البهايم في السوق مش رخيصة، أوقات الواحدة تبقى عاملة حوالي 70 ألف جنيه، وأوقات تانية توصل ل 80 ألف، وساعات بترخص فبتوصل ل 60 ألف، فلكِ أن تتخيلي مثلًا إن الجاموسة أو البقرة اللي هنشتريهم عاملة 70 ألف، لو ضربناهم في 6 هتوصل لكام؟ مش أقل من 420 ألف جنيه، دا غير العمولات ومصاريف الدبح والعُمال اللي شغالين معانا في المحلات، يعني الموضوع كله بحواراته، بسلطاته، ببابا غنوجه يقفل النص مليون جنيه في الشهر الواحد، علشان كدا لازم أحسب كويس أوي، أشوف المكسب أو الخسارة اللي هتجيلي من خلال المشروع دا، لو الخسارة أكتر من المكسب بيبقى لازم نشتغل على نفسنا أكتر علشان الغلطة في المجال دا بفورة، وهيقف على حِسها شغل ناس كتير.

كانت تستمع إليه بانتباهٍ شديد، تُتابع شرحه لها على الدفتر، وحينما انتهى من الشرح؛ نظرت إليه بانبهار قائلة: ياه! دا إحنا مش عايشين يا جدع! وأنا اللي مفكرة إنك سايبها على باب الله ومبتحسبش!
رد عليها ساخرًا: لأ مبحسبش كدا أبقى راجل أهبل.
ضحكت قائلة وهي تُطالعه بفخر: لأ بس عاش، فخورة بيك.
اتسعت ابتسامته وقال بكلماتٍ ذات مغزى: أنا بضعف قدام الكلام دا على فكرة، احذري بقى عشان أنتِ اللي بتجريني للرزيلة.

جلست بجانبه صامتة وكأنها ابتلعت لسانها، بينما هو عاد لعلمه وهو يكتم ضحكته بصعوبة، مرت دقائق كثيرة لا تفعل شيء سوى مُتابعته، لقد تعلقت به وبحنانه حد اللعنة، تشعر بانجذاب هائل له، خاصةً لشخصيته التي تمزج بين القوة والحنان بذاتِ الوقت، وآه من حنانه الذي يُرمم شروخًا لم يفعلها من الأساس، ابتسامته التي يرميها إليها لتجعلها في وادٍ آخر، تهيم بنظراته المُطمئنة، وحديثه الآخاذ، نبرته الودودة، ومزاحه، ضحكاته، استطاع أن يشغل كل تفكيرها في فترة قليلة للغاية.

لكنها تخاف! هي الآن قاربت على التعلق، ولن تُنكر ذلك، تخشى مقته لها بعدة معرفة الحقيقة، تخشى انعزاله عنها وتركها ترتطم بمضخات الهواء القاتلة، تُحارب وتُجازف لمحو خوفها والإستكمال، هل سيشعر بها ويُقدر موقفها؟ أم أن ردة فعله ستكون قاتلة؟

وبدون أن تعي شعرت بانقباض صدرها فجأة، بدأت القشعريرة تسري تدريجيًا بين أوردتها، ورغمًا عنها هبطت دمعة حارقة على صفحة وجهها وهي تُطالعه بحرقة، هو لا يستحق هذا، لا يستحق كذبها وخيانتها، هذا وإن سُمي ما حدث خيانة من الأساس!
رفع يعقوب رأسه إليها وكاد أن يتحدث، لكنه بتر حديثه عندما وجدها على تلك الحالة، ترك ما بيده مُسرعًا وأمسك بكفها يحتويه بين قبضته، ثم تسائل بقلق: مالِك يا ذكرى بتعيطي ليه؟

ارتعشت شفتيها بأسى وهي ترى لهفته وقلقه عليها، هي لا تستحق كل هذا الحب، وهو لا يستحق خيانتها، لذلك انفجرت في البكاء تحت أنظاره المذهولة، قرَّبها منه ضاممًا إياها لصدره، وذراعيه يُحيطان بها بحماية، وكأنه يحميها من شيءٍ ما سيؤذيها، وعلى غير المعتاد؛ رفعت ذراعيها لتُحيط بعنقه وتُبادله العناق، تدفن ذاتها داخل جسده وكأنها تطلب منه أن يحتويها ويهرب بعيدًا عن هذا العالم، قبَّل خصلاتها بحنو، ثم سألها بقلقٍ لم يقل: طيب قوليلي إيه اللي حصل، افتكرتي حاجة زعلتك؟

لم تجد جوابًا سوى إيماءة بسيطة أصدرتها، فمال عليها مُقبلًا جانب عنقها ثم تشدق قائلًا: حقك عليا.
رمشت بأهدابها عدة مراتٍ تحاول استيعاب ما فعله، وبدلًا من كونها كانت تشعر بالخوف، باتت تشعر بالخجل الآن، ابتلعت ريقها بتوتر وابتعدت عنه ببطئٍ حتى بات وجهيهما قريبان للغاية، التمعت عيناه بحبٍ واقترب أكثر، بينما هي شعرت بالتردد وهي تبتعد عنه بهدوء هامسة: أنا. أنا بقيت كويسة.

حمحم بجدية وحاول إعادة ثباته الذي فقده منذ ثوانٍ لا تُعد، تلك الفتاة وكأنها ساحرة! تسلبه دون إرادةٍ منه، فمد يده لكوب العصير ثم أعطاه لها، قائلًا وهو يتحاشى النظر إليها: خُدي اشربي العصير دا.
التقطته منه بصمت وبدأت ترتشف من ببطئٍ، ومن الحين والآخر تُطالعه بطرف عينها لرؤية ما يفعل، غافلة عن مُتابعته لها من بعيد أثناء انشغاله بعمله!

عاد عمران مع أبيه إلى المنزل مُتهدل الأكتاف يجر أذيال خيبته، وذلك بعد أن وجدا المنزل فارغًا من قاطنيه، ظن بأنه سيجد إلياس على الأقل ليتحدث معه، لكن لم يجد سوى الصمت، ارتمى على الأريكة بوجوم ومعالم وجهه يغلبها السخط، ليتحدث هارون بنبرة مُتهكمة وهو يُجاوره:
اللي يشوفك يقول البت هتتجوز بكرة.

حك عمران مؤخرة عنقه بضجر مُجيبًا إياه: مش هتتجوز، بس هتتخطب، دا أنا عرفت بالصدفة من إلياس النهاردة الصبح، عشان كدا كنت عايز ألحق.
هي لحمة! وبعدين متقلقش لو من نصيبك ومكتوبة ليك يبقى مش هتكون لحد غيرك، اتهد أنت بس وإتكى على الصبر.

أومأ له عمران بصمت مُتنهدًا بعمق، وذلك في نفس الأثناء التي دخل عليهما حمزة يرمي السلام، أجاب عمران بصوتٍ مسموع، بينما هارون أجاب في سره ولم يُعيره أي اهتمام، بل ثبّت أنظاره على الشاشة التلفاز مُدعيًا الإنشغال بها، اقترب منه حمزة وتحدث بعلو:
السلام عليكم.

ولثاني مرة يُجيبه عمران وأبيه لم يُبدي أي ردة فعل، ليقترب منه حمزة أكثر حتى يُجاوره، بعد أن دفع عمران بعيدًا بوقاحة، فيما تمتم حمزة بمزاح وهو يُحاوط كتف أبيه بذراعه:
مش بترد السلام ليه يا حج هارون؟ عايز تدخل النار؟
حاول هارون الثبات والاستمرار على تجاهله، فمال حمزة على كتفه مُقبلًا إياه وهو يقول بأسف: أنا أسف والله حقك عليا، مكنتش أقصد أكلمك بالطريقة دي.

لم يتزعزع أو يرمش بجفنه، فتحدث حمزة راجيًا: يا بابا عشان خاطري متزعلش مني، أنت عارف إني بحبك وميهونش عليا زعلك والله.
وأمامه حديثه وإصراره، لانت ملامح وجه هارون الجامدة، كان يعلم بأن حمزة لن يُطيل لمصالحته، فهو في كل تلك السنوات زرع داخلهم الحب والمودة، وها هي ثمرة تعبه واجتهاده تطرح الآن، نظر إليه بطرف عينيه وتصنع الحدة وهو يسأله:.

يعني اللي أنت عملته دا صح؟ فوق ما أنت غلطان جاي كمان وبتبجح فيا ولا كأني واحد من الشارع مش أبوك.
اعتدل حمزة مُمسكًا بكفه يُقبله بحب، ثم رفع أنظاره إليه مُعتذرًا: أنا أسف والله، عارف إني كنت قليل الأدب معاك بس قسمًا بالله ما يهون عليا زعلك.

لم يتحمل هارون القسوة عليه أكثر من ذلك، لذلك جذبه لأحضانه مُعانقًا إياه، ثم ضربه على ظهره بقوة آلمته أثناء قوله المُشاكس: طالما بتحبها ساكت ليه؟ مقولتليش ليه ونروح نتقدم ليها؟
ضحك حمزة بخفة أثناء مُبادلة أبيه للعناق، ثم أجابه بتنهيدة حارة وهو يتذكر الحديث الذي دار بين كليهما: قالتلي إنها مش مستعدة دلوقتي.

قطب هارون جبينه بتعجب تزامنًا مع خروج حمزة من أحضانه، وبعدم فهمٍ تسائل وهو يُطالعه بحذر: مش جاهزة لإيه بالظبط؟ مش هي بتحبك وأنت بتحبها؟ يبقى إيه اللي يمنعكوا؟
طالع حمزة أبيه بحيرة والجهل يرتسم داخل عيناه هو الآخر، ثم رد عليه بقوله: واللهِ ما عارف يا بابا، ممكن تكون لسه متأثرة باللي حصل مع أختها، أو خايفة من فكرة الجواز عمومًا، ما هو مفيش تفسير منطقي غير كدا.

جعد هارون وجهه باستغراب، حديثها مُثير للريبة ولا يدخل العقول، يُفكر في إن كانت تخفي شيئًا ما أم لا، وكل ذلك كان حمزة يُراقب ردة فعل أبيه، وانتبه إليه حينما رفع أنظاره إليه قائلًا:
عايز تدور وراها كويس يا حمزة.
استرعى الحديث انتباه ابنه الذي تسائل باستغراب: إيه الكلام دا يا بابا؟ أنت شاكك فيها ولا إيه؟

كان عمران مُتابعًا للحديث بأكمله بكل انتباه، حتى قرر التدخل وأجابه بدلًا عن أبيه: مش حكاية شك، بس رفضها إنك تتقدم دا غريب أوي وخصوصًا لو فيه مشاعر متبادلة بينكم انتوا الاتنين، أكيد انتوا مش هتتجوزوا على طول وهيكون فيه فترة خطوبة تتعرفوا أكتر، فالحوار فعلًا غريب وفيه إن زي ما أبوك بيقول.
أكد هارون على حديث عمران بقوله: بالظبط كدا، قبل ما تاخد أي خطوة رسمية اتأكد إن مفيش من وراها حاجة.

طالعهما حمزة بتيهة، شعور الحيرة تملك منه أكثر وبقوة، تنفس بعمقٍ وتثبتت أنظاره بنقطة ما في الفراغ ومن ثَم قال: حاضر.
تمتم بها، فوجد يد أبيه تمتد له يدعمه بنظراته، ليُسدد إليه حمزة ابتسامة مُمتنة قبل أن يستأذن منه باحترام ويذهب لمباشرة عمله، وبالفعل رحل، لكن عقله مازال مشغولًا بالحديث الذي دار منذ قليل.
ليس كُل مَن بالمصحة مرضى نفسيين، أحيانًا يكون مَن بالخارج هُم الأكثر شرًا وخطورة.

كانت الساعة قد تعدت العاشرة مساءًا، وهذا هو موعد الدوام الخاص ب بدران، نظر في ساعة معطفه وبعدها هب من مكانه واقفًا وسار تجاه إحدى الغُرف، وتحديدًا غرفة مازن الأمير.
دلف إليها بخطوات حذرة، لم ينسى المرة السابقة التي هاجمه بها، وجده محله يجلس على الفراش بصمتٍ مُريب، يضم ركبيته إلى صدره ويدفن وجهه في قدمه، واهتزازاته للأمام وللخلف مازالت مستمرة، تقدم منه بهدوء ثم أردف بما جعله ينتبه إليه:.

عامل إيه يا مازن النهاردة؟
لم يُجيبه، بل لم يُبدي أي ردة فعل من الأساس، وإنما اتخذ السكوت رفيقًا له وفؤاده صندوقًا لآلامه، جلس بدران على المقعد المجاور لفراشه ثم تمتم بلامبالاة اصطنعها:
عارف يا مازن الحالات المُستعصية اللي زيك كدا لما بتطول في فترة علاجها المفروض إحنا كدكاترة نفسيين نعمل إيه؟

توقف مازن عن الاهتزاز، واستطاع بدران بمهارته ودهائه أن يجذب انتباهه له أكثر، لذلك أكمل خطته بقوله الزائف: بندخلهم جلسات كهربا، بحيث يخرجوا من القوقعة اللي دافنين نفسهم فيها ويبدأوا يباشروا مهمتهم الجديدة وهي الدفاع.

لم يفهم مازن أي شيء مما يقال، بل رفع أنظاره إليه يُطالعه عن كُثب، وهُنا ظهر ل بدران الحلقات السوداء التي تُحيط بعينيه، ووجهه الشاحب حد الإصفرار، كما أن ذقنه نبتت بكثرة وخصلاته كذلك، رمى ذلك بعيدًا واتجه إلى نقطة أخرى في الحديث قائلًا:
أنا مش هعمل كدا أكيد لإني ضد الفكرة دي تمامًا، بس أنا عايزك تحكيلي، إيه اللي وصَّل المستشار الكبير مازن الأمير للنقطة دي؟

أغمض مازن عينيه بقوة هائلة وهلع عقب استماعه للقب الذي وضعه بدران قبل اسمه، وبارتعاش طلب منه برجاء: مش عايز أحكي، مش عايز أفتكر، سيبني لوحدي.
وبرزانة طبيب مُعالج تسائل بدران بدهاء: ولما أسيبك لوحدك عقلك هيسيبك؟ ولا هيوديك لنقطة تانية وذكريات أنت مش عايز تفتكرها؟

تجمعت الدموع بمقلتي مازن، دموعٌ كثيفة نتجت عن جُرح فؤاد لم ولن يلتئم بمرور الزمن، ارتعش كفيه وظهر هذا واضحًا ل بدران الذي يدرس أدق ردات فعله، وحينما طال صمته واجهه بدران بما يخاف مواجهته: عقلك بيسيبك يا مازن؟ ولا بيفكرك دايمًا باليوم اللي اتقتلت فيه عيلتك؟

تخشب جسد مازن، تخشب بالمعنى الحرفي، فيما استعمل بدران أسلوب المُعالجة بالصدمات حينما أكمل الحديث قائلًا: والدك. والدتك. مراتك. ابنك. كلهم ماتوا في حريق بيتك مش كدا؟

انتهى إلياس ووالدته وكلتا شقيقتيه من إنهاء الفحص على قدم جنة، وذلك بعد أن ذهبوا بها حينما اشتد ألم قدمها أكثر، صعدوا إلى السيارة وانطلق بهم في وجهته نحو المنزل، بينما جنة مالت برأسها على زجاج السيارة تُغمض عينها بتعبٍ وتتزايد لديها رغبة البكاء، كلما مر على خاطرها حديث الطبيب الذي أخبرهم بجدية:.

يا أستاذ إلياس سبق وقولت لحضرتك إن أي تأخير في خطوة علاج الآنسة جنة هيعود عليها بالسلب، وممكن بعد الشر المرض ينتشر في رجليها أكتر ومنقدرش نسيطر عليه، علشان كدا لو تقدروا تيجوا على المستشفى من بكرة تعالوا، وأنا بنفسي هكون في انتظاركم.
لا تعلم بما أجاب أخيها، فلقد حُوصرت في دائرة من الخوف سحبتها للأعماق، صُمَّت أذانها عن الحديث وبقى داخلها يرتجف من الخوف.

استفاقت بعد نصف ساعة من شرودها على وصولهم للمنزل، هبط الجميع بينما هي نظرت لقدمها بعجز، لم يطول شرودها عندما شعرت بالباب يُفتح و إلياس ينحني تجاهها، وعلى بغتة قام بحملها، شهقت بخضة وهي تُحيط به من عنقه، لتستمع إلى حديثه المشاكس وهو يسير بها نحو الداخل:
فراشة ياخواتي؟ بس أنا أشك إنك بغبغان.
ضربته على كتفه بغيظ قائلة وهي تضحك: اتلم واحترم نفسك.

دخل بها غرفتها، ثم وضعها برقة على الفراش، وأتى بوسادة كبيرة من القطن الناعم وأسند بها ظهرها حتى لا يؤلمها، وأخرى وضعها أسفل قدمها المُصابة لترفعها عن مستوى قدمها، انتهى من ذلك ثم اتجه إليها وجلس قبالها، ثم تحدث بجدية وصرامة زائفة:
شوفتي الدكتور قالك إيه؟ الأكل ثم الأكل ثم الأكل، أي دلع كدا ولا كدا هتلاقيني جايبك من شعرك، عايزك فيكِ لحمة كتير كدا، زي البت رضوى التخينة.

كانت رضوى على وشك البكاء خوفًا على صحة شقيقتها، لكن ما إن استمعت إلى حديث أخيها؛ تشنج وجهها باستنكار ثم صاحت به بصخب: هي مين دي اللي تخينة يا عديم الأدب والأخلاق أنت؟ ما تنقي ملافظك يا جدع!
أشار إلياس بإصبع سبابتها تجاهها وهو ينظر ل جنة التي تكتم ضحكتها بصعوبة: شايفة السوقية وقلة الأدب؟ يعني فوق ما هي تخينة فهي نوتي.

تقدمت منه رضوى حتى وقفت قبالته وسألته بضيق حقيقي وهي تنظر لجسدها: أنا بجد تخينة يا إلياس؟ أخس شوية يعني؟
لوى إلياس شفتيه باستنكار وهو يجيبها: تخسي مين يا بنتي؟ أنتِ كُلك على بعضك ستين كيلو بالهدوم اللي عليكِ.
ارتاحت لإجابته كثيرًا، لكن ثوانٍ ما انقضت عليه تضربه على ظهره بقوة وهي تنهره بعنف: ولما هو لأ بتقول عليا تخينة ليه ها؟ هو أنت عايز تحرق دمي وخلاص.

هب إلياس من مكانه بعنف مُحاولًا صد الضربات العشوائية التي تُوجهها له، تضربه بكلتا ذراعيه وكأنها تسبح في نهرٍ ك كلب البحر أو ما شابه، وبصعوبة بالغة استطاع الهجوم مُمسكًا إياها من خصلاتها وهو يقول بِ غِل:
طيب تعاليلي بقى عشان أنا ساكتلك من الصبح.

أصبحت الغرفة عبارة عن ساحة معركة بين كل من إلياس ورضوى، صرخاتهم تعلو تارةً وتنخفض تارةً أخرى، ولم يتوقفوا إلا على صوت والدتهم التي دخلت لتوها واضعة الطعام على الكومود، ثم استدارت إليهم مُعنفة إياهم بغضب:
قسمًا بالله لو ما سكتوا واحترمتوا نفسكم دلوقتي لهكسر الشبشب فوق دماغك أنت وهي.

توقف الاثنان عن أفعالهما الطفولية ومشاجرتهم، وقفا من على الأرض وعدلا من ثيابها المُشعثة وصدريهما يعلو ويهبط بنهيجٍ قوي، كانا يُسددان نظرات متوعدة لبعضهما البعض، فقاطع حرب النظرات تلك صوت صفاء التي تحدثت بصرامة:
يلا على برا انتوا الاتنين لحد ما أختكم تخلص أكل.
اعترض إلياس قائلًا: بس يا ماما أنا ه...
قاطعته بسخط: قولت برا يا إلياس مش هكرر كلامي تاني.

نفخ إلياس بغيظ وبالفعل اتجه نحو الخارج، بينما رضوى ظلت واقفة مكانها وهي تُراقب الموقف بصمت، إلتوى ثغر صفاء بابتسامة ساخرة وهي تسألها بتهكم: فزَّاعة واقفة أنتِ صح؟
طالعتها رضوى بغباء وتسائلت: بتكلميني أنا يا ماما؟

شهقت بخضة حينما وجدت والدتها تتجه ناحيتها وداخل عيناها يرتسم الوعيد، لذلك هرولت من أمامها مُسرعة ولحقت بأخيها إلى الخارج، تاركة والدتها تقوم بمهمة إطعام شقيقتها بنفسها والإطمئنان على دوائها.
وبالخارج. ارتمت رضوى على الأريكة بجانب إلياس تسأله بتذكر: آه صح، عملت إيه في الشغل اللي كنت رايح تقدم فيه؟

أجابها ناقمًا وهو ينظر إليها بطرفِ عينه: مش قابلتك وقتها يا بومة؟ الإنتر يو اتأجل بسبب مشكلة حصلت مع مدير الشركة، والمفروض أروح بكرة تاني.
استنكرت جُملته الأولى، ومع ذلك تمتمت بتمني: إن شاء الله هتقبل فيها أنا متفائلة خير.
يارب.
آمن على دعائها، واستدار قائلًا بهدوء رغم سخطه: عرفتي إن فيه عريس متقدم ل جنة وهيجي بكرة؟

دُهشت من الحديث واعتدلت مُتسائلة باستغراب: عريس؟ طيب مش المفروض نستنى شوية لحد ما تخلص من مرحلة علاجها؟
هز كتفه بضيقٍ قائلًا بشرود: دا المفروض، بس هي قالتلي إن العريس جاي من طرف بابا وإنها موافقة تقابله.
بابا؟
قالتها بشنج، فيما أكملت حديثها بعدم تفكير لم يدوم لثوانٍ معدودة: يارب بس ميكونش جابرها عليه.

رد عليها بثقة: لأ متقلقيش، المرة دي مش هسمح ليه يجبرها على أي حاجة، سواء هي أو أنتِ، إحنا مش عايشين في سوق اللي معاه فلوس أكتر يجي يشتري ويخلع.
ابتسمت له بصدق وكادت أن تتحدث، لكن قاطعها صوت هاتف إلياس الذي رن صداه في الأرجاء، والذي أنار باسم عمران.
شعورٌ مُزعج، أنا تشعر بأن الجميع يتهمك بالظُلم، وأنت بالفعل ظالم!

جلس مصعب على كرسيه في المكتب الخاص به وهو يتحرك يمينًا ويسارًا ونظراته مُثبتة بشماتة على عادل الذي يُطالعه بحقد، ارتسمت ابتسامة صغيرة على فمه وهو يسأله ببراءة:
ها يا دولا مش هتقولي الكوكايين دا تجارة ولا شَم؟
أجابه عادل بهجوم: الحاجات دي مش بتاعتي، معرفش مين اللي دخلها بيتي.
تصنع إلياس الأسى وهو يمط شفتيه بضيق، ومن ثَم قال: تؤ تؤ أنا مش بحب اللف والدوران، تلاشى غضبي عشان متزعلش مني.

صمت عادل يُطالعه بغضب، يود أن يذهب إليه والفتك به إربًا حتى يُقلل من غضبه، بينما مصعب حوَّل أنظاره جهة العسكري الجالس بجانبه يُدون ما يُقال، ثم أملاه قائلًا: اكتب عندك يابني، قررنا نحن مصعب هارون رضوان، حبس المتهم عادل نبيل محمد أربعة أيام على ذمة التحقيق، أُقفل المحضر على ساعةٍ وتاريخه 12/9/2023.

وبالفعل تم نقل عادل إلى غرفة المجرمين ليظل تحت الملاحظة، فالتوت ابتسامة عابثة على ثُغر مصعب، وازدادت أكثر حينما هاتفه أخيه يعقوب والذي تحدث بقوله الماكر:
إيه الدنيا؟
أجابه بثقة: فُل الفل، قولي أنت. عرفت إزاي إن معاه مخدرات.
كان يعقوب جالسًا على فراشه مُستندًا بظهره على أخشابه، ليُجيبه بخبثٍ بعد أن وضع ذراعه خلف رأسه: ومين قالك إن دي مخدرات؟

صُدِمَ مصعب وهو يُحوِّل أنظاره جهة الكيس البلاستيكي الأبيض بين يديه، ثم سأله بذهول: أومال دا إيه؟
لتأتيه الإجابة منه بدهاءٍ: دا سكر بودرة.
فرغ مصعب فاهه بصدمة، فيما أكمل يعقوب الحديث قائلًا: هيفضل محبوس على ذمة التحقيق لحد ما يتعرض على النيابة وبعدها يكتشفوا إن المخدرات مش مخدرات وهيطلع، دي بس قرصة ودن عشان يعرف يلعب مع ولاد هارون بعد كدا.

سخر مصعب وأكمل الحديث قائلًا: وطبعًا عادل معفن ومحيلتوش يقوَّم محامي يدافع عنه، وأختك مش طايقاه فمش هتساعده بمليم، دارسها أنت صح ومن كل الجوانب ها؟
ضحك يعقوب بخفة وأغلق الهاتف بوجهه بعد أن قال: غور.

وبالفعل أنهى المكالمة، وتمدد باستمتاعٍ جلي وهو يتذكر آخر مرة قام بزيارة شقيقته، حينها هبط عادل إلى منزل والدته بعد أن مل من حديثهم، و بدور دخلت إلى المرحاض، فاستغل هو الفرصة ودلف إلى غرفة نومه وتحديدًا خزانته، ثم فتحها على مهل ووضع به كيس سكر مطحون، وبعد أن عاد إلى منزله قام بالتبليغ عنه.
استفاق من شروده على قدوم ذكرى إليه وتمددت بانهاكٍ قائلة بتنهيدة حارة: حاسة إني تعبت أوي النهاردة.

طالعها باستغراب وهو يتسائل: ليه أنتِ عملتي إيه النهاردة؟
أجابته قائلة بلامبالاة: معملتش.
ضحك بخفة وهو يتمدد بجانبها، واستدار ينام على جانبه ووجهه يُقابل خاصتها، ثم تسائل على بغتة: هي أمك كانت بتتوحم على إيه وهي حامل فيكِ؟
فوجئت من سؤاله واتبعه ضحكة منها وهي تُجيبه: كبدة.
رد عليها بانبهار: إيه دا وأنا كمان.
ال Us.
جذبها إليه لتستقر بين أحضانه، ثم أردف بارتياح: طيب نامي نامي، نامي نوم الظالم عبادة.

انغمس الظلام أكثر وبات الليل أكثر حِلكة مما كان عليه من قبل، الساعة دقت الثانية عشر، الجميع نيام والصمت يعم المكان، وهُنا استغلت رضوى هذا الهدوء واتجهت خارج منزلها بتسلل.
خرجت من المنطقة بأكملها وهي تنظر حولها بخوف، وحين اطمأنت من عدم رؤية أحد لها، سارت بكل ثقتها، لكنها غفلت عن حمزة الذي كان يعود من عمله ورآها تتسلل بتلك الطريقة المُثيرة للريبة، وهُنا تردد حديث والده داخل عقلها، فقرر مُراقبتها.

ظلت تسير وتسير حتى وصلت إلى منطقة نائية لا يسكنها فرد وهو يتبعها، دخلت إلى شارع مهجور ومن بعده منزل قديم مُتهالك، لكن يوجد به الكثير من الصخب، توقف مكانه للحظات يخشى الدخول، يخشى اكتشافه لِمَ يُحطم فؤاده، وبدون إرادة منه اتبعها إلى الداخل، ويا ليته لم يتبعها!

فبمجرد دخوله، وجدها تقف مع مجموعة من الفتيات والشباب من ذَوي النفوذ الضخمة والسُلطات الهائلة، تُمسك بيدها ورقة عريضة وتشتم ما يوجد فوقها من مادة مُخدرة بيضاء، ترتشفها بتلذذ وانتشاء، والحقيقة الصادمة التي توصَّل إليها حمزة هي؛ أن رضوى مُدمنة!

الفصل التالي
بعد 16 ساعة و 49 دقيقة.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة