قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن

حين تجلس بعيدًا وسط بُقعة من الضوء وتستقر عيناك على غُرفة مُظلمة داكنة شديدة السواد، يطرق فؤادك خوفًا، ويبدأ عقلك بطرح بعض الأسئلة الغيبية التي ليس لها أي إجابة، وأولهم؛ ماذا سيحدث إن جلست في الظلام وحدك؟ الإجابة مجهولة لكنها حاسمة وهي؛ الهلاك في مستنقع الذكريات!

خلع حسن رابطة عنقه وهو يشعر بالإختناق، كُل شيء من حوله يُحيطه السواد، لا مكان لتسلل بقعة من الضوء لتُنظِّف حياته، وُلِدَ مُتسخًا وسيموت هكذا، أبعد قميصه الأسود عن جسده ليظل عاريًا أمام مرآة المرحاض المُربعة، ينظر لصورته المُنعكسة بتشوش كبير وأعين غائمة، نظراته مليئة بالظلام، وفؤاده غارق به، تُرى هل سيحتل الظلام، أم سيحتل عليه؟

ذهب بعيدًا بنفور وكأنه لا يُريد رؤية وجهه، ضحك بسخرية أثناء وقوفه أسفل قطرات المياه في حوض الإستحمام، فحتى هو ينفر من رؤية ذاته، فما بال الآخرين؟

وهُنا! اختلطت دموعه بقطرات المياه الساقطة فوق جسده، ظن بأن أخْذْ حمامًا باردًا سيُريح جسده وذاكرته من آلام وُشِمت داخل فؤاده بنصلٍ حادٍ بارد! لكن لم يُزيده ذلك إلا مرارة وقهرة، تهبط المياه على جسده وكأنها سوط غليظ يُعذبه، فيزداد ألمه أكثر وأكثر ومعه تزداد دموعه.

أنهى حمامه والتقط منشفه كبيرة جفف بها جسده، ارتدى سروالًا قصيرًا وترك جذعه العلوي عاري ثم خرج من المرحاض، أعاد خصلاته المُبتلة إلى الخلف أثناء تدليكه لفروة رأسه بألم، فصداع رأسه ما عاد ليتركه أبدًا، زفر بضيق عندما تذكر مُحادثته مع أبيه صباحًا، هو بالأساس يشعر بالضغط يحوم من حوله بكلِ جانب، فأتي هو وضغط عليه أكثر، ليت والدته كانت معه!

لكن هل والدته ستكون سعيدة لِمَ وصل إليه من جُرم؟ وعِند تلك النقطة انتفض من مكانه بغضب واتجه نحو خِزانته مُسرعًا ثم بدأ بارتداء ثيابه وحدقتيه مليئتين بالحِقد، مرت دقائق وانتهى من أمر ثيابه، فالتقط هاتفه ومفاتيح سيارته من على الكومود ثم اتجه للخارج.

من مظهره وأناقته ظن الحُراس بأنه ذاهب لعمل يخص شُحناته الخاصة، لكن السبب كان مُختلفًا تمامًا، تبعه الحراس فأوقفهم هو بإشارة واحدة من يده ثم أكمل طريقه وحده، استقل سيارته ثم اتجه بها خارج يلته الشاهقة، دار حول يلته حتى وصل إلى آخرها من الخلف، والتي كانت أشبه بمنطقة مهجورة صامتة.

هبط من سيارته بأناقته المعهودة واتجه إلى أحد الأبواب السرية وقام بفتحها، استمع إلى صوت ضجة في الداخل فابتسم ابتسامة لم تصل لعينه ثم أكمل دخوله بعد أن أغلق الباب خلفه، وبالداخل؛ قام بفتح الإقفال ثم دلف إلى تلك المُزعجة الصغيرة وتحدث ساخرًا: إيه يا ياسمين؟ مزهقتيش من محاولاتك؟

توقفت ياسمين في مكانها بعد أن استمعت إلى صوته المقيت، استدارت له بعنف ثم اقتربت منه بسرعة وهي تُطالعه بنارية بعينيها الخضراوتين المُتمردتين، ثم صرخت به بغضب: أنت حابسني هنا ليه يا حسن؟ وفين تسنيم أختي إنطق!

نظر حسن لمحياها بنظراتٍ مُتمعنة، ثم مدَّ كفه يُمرره على جانب وجهها الأبيض بتروٍ، عادت للخلف بانتفاضة وكأنه أفعى على وشك لدغها رامية إليه نظرات اشمئزاز، ضحك بسخرية وهو يقترب منها حتى وقف قبالتها تمامًا وهمس: بيعجبني فيكِ إصرارك.
ردت عليه بقرف ووجها يتجعد باشمئزاز: وأنت مفيش حاجة فيك بتعجبني، كُلك على بعضك وسخ.

تجمدت ابتسامته واحتدت عيناه غضبًا، رفع يده يُمسد على خصلاتها الكنستائية برقة، قبل أن يقبض عليهم بقوة آلمتها وهو يُتمتم بفحيح: مش قولتلك بلاش تلعبي معايا أنا؟ وأنتِ لسانك طويل وعايز قطعه.

أغمضت عيناها وهي تجز على أسنانها بقوة تمنع خروج تأوهها، لكن رغمًا عنها تجمعت الدموع داخل مقلتاها، شعرت بأنامله تمسح دموعها وصوته يخرج هاديء مُعاتب: ليه؟ ليه مُصرين تخرجوا أسوا ما فيا وفي الآخر بتقولوا عليا أنا اللي وِحش؟
فتحت عيناها له وهي تُجيبه بصراحة رغم صعوبة موقفها: أنت مش وِحش، أنت زبالة ومريض نفسي ومحتاج تتعالج.

احتدمت عيناه غضبًا تزامنًا مع قبضه أكثر فوق خصلاتها، دفعها بعيدًا عنه بعنف فاصتدم ظهرها في الحائط من خلفها، وقعت على الأرض عندما فشلت في السيطرة على توازنها، وبالرغم من ذلك اعتدلت صارخة به بغضب: فين تسنيم أختي يا حسن.
أدار ظهره عنها ثم أجابها بغل أثناء إتجاهه لطريق الخروج: هِربت، ولما ألاقيها هقتلها.

وضع يده على مقبض الباب وكاد أن يُغلقه، لكنه تصنم محله عندما استمع إلى حديثها المُهتاج بعصبية أعمت بصيرتها عن وضعها الحالي: هتتحاسب يا حسن، كويس إن أمك ماتت وغارت من وشك قبل ما تشوف الحالة اللي أنت بقيت فيها.

وكأنها بحديثها هذا أشعلت فتيل غضبه ورمت نارها على وقوده، عاد إليها حسن بخطواتٍ سريعة غاضبة وأمسكها من خصلاتها يجذبها إليه بعنف، فيما شقت يده طريقها نحو وجهها يهبط عليه بضرباتٍ مُبرحة دون رحمة، لم يُعطي لبكاؤها أو لصراخها أدنى إهتمام، فكلماتها وجدت الطريق إلى قلبه ليُفتته إلى شظايا، شظايا قادرة على دفنها حية!

حاولت أن تُبعده وهي تصرخ به بعنف، لكنه كان كالمُغيب، توقف وصدره يعلو صعودًا وهبوطًا مع تشكُّل عرق غزير على جبينه، أرجع خصلات شعره الهوجاء للخلف، ثم رفع إصبع سبابته يُهددها بنبرة صريحة: سيرة أمي لو جت على لسانك تاني هقطعهولك، هي أشرف من إنك تجيبي سيرتها أنتِ وأختك الزبالة.

تمددت ياسمين على الأرض كالجثة الهامدة، تشعر بالأرض تميد بها، لا تعلم كيف تحوَّل وأصبح بذلك السوء، أغمضت عيناها تستلم لإغمائتها المؤقتة، لم تشعر به وهو يرتمي جالسًا بجانبها، نظر إليها بنظراتٍ غائمة والدموع تشق طريقها نحو وجهه، وصوته الهامس يصعد مُتألمًا: أنا. أنا مكنتش أقصد. مكانش ينفع تجيبي سيرة أمي. هي. هي. ياسمين ردي عليا!

حديثه كان مُبعثرًا كحالِ قلبه، هو مُشتت، خائف، وتائه! وكل هذا ينعكس على أفعاله بالسلب، الجميع يتأذى منه بلا استثناء، حتى الفتاة الوحيدة التي أحبها تُعاني الآن بين يديه! لم يقدر على قتلها كما أخبر أبيه، فؤاده تمرد عليه ومنعه من ذلك، رغم أنها شقيقة الفتاة التي قتلت والدته!
هو دا بقى السبب اللي مخليكِ مُصرة على الطلاق؟

شهقت بدور بفزع من تواجده المُفاجيء هذا، نظرت حولها بسرعة لطلب المساعدة لكنها وجدت الجميع مُنشغل حول جنة الفاقدة للوعي، استمعت إلى صوته الساخر أثناء شده أكثر على معصمها: بتدوري على مين؟ محدش فاضيلك يا حلوة.
ضربت بدور على يده بغل وهي تصرخ به: سيبني أحسنلك يا عادل يا إما وقسمًا بالله أصوت وأوديك في مصيبة.
طالعها بنظراتٍ حادة غاضبة وهو يقول بتحد: طب لو جدعة إعمليها، محدش هينجدك من تحت إيدي المرادي.

لأ أنا موجود يا روح أمك.
وتلك الكلمات صعدت من فاهِ بدير الذي أتى على بغتة، ولم يكد عادل أن يستوعب حديثه حتى تلقَّى لكمة قوية على وجهه أدت إلى إختلال وزنه والسقوط أرضًا، شهقت بدور بفزع ثم اتجهت مُسرعة لتتوقف أمام أخيها حتى تمنعه من الاسترسال وهي تقول برجاء: خلاص يا بدير عشان خاطري، بلاش فضايح في يوم زي دا.
حوَّل بدير أنظاره إليه ثم تسائل بشر وهو يُشير إلى الآخر: بيهددك بإيه الكلب دا؟

تصنمت أوصال بدور فجأة كما لو كانت عروس قطنية غير مُتحركة، فطبيعة بدير المرحة تخفي خلفها شلالات من النيران المُتأججة والغضب والجامح، وإن علم ما يحدث وراء ظهره لن يتردد للحظة واحدة في قتله، لذلك أخفت عليه على الفور وهي تُجيبه بالنفي:
مش بيهددني بحاجة، كان جاي عشان عايز يرجعلي.

أخرج بدير صوتًا ساخرًا من بين شفتيه وهو ينظر نحو عادل الذي اعتدل واقفًا بصعوبة، وبتهكم صريح تحدث بنبرة مُهينة: هه ترجعلها؟ ابقى سلملي على أمك.
قالها ثم أمسك بكف شقيقته وابتعد عنه كُليًا، غافلًا عن نظراته الحارقة التي يرميها إليهم، وهُنا توعَّدَ. توعَّدَ لجميع عائلة هارون لرد كرامته المهدورة بينهم.

وعلى الناحية الأخرى حمل إلياس شقيقته واتجه بها نحو الداخل بعيدًا عن الجموع المُحتشدة بالخارج، وضعها برفق على فِراشها وأتى خلفهم شقيقاتها ووالدتها صفاء التي صرخت على رضوى بفزع:
اتصلي على الدكتور بسرعة يا رضوى .
أومأت لها رضوى بسرعة وأمسكت الهاتف بأيدي مُرتعشة، وقامت بمُهاتفة الطبيب لإخباره بالقدوم في أسرع وقت.

وبالخارج. توقف الرجال بحيرة لا يعلمون ما عليهم فِعله، أيذهبون ويتركوهم في مِحنتهم، أو يظلون دون وجود أي داعٍ لهم؟ وجاء إليهم الجواب عندما خرج إليهم إلياس بملامح واجمة، فذهب إليه يعقوب يُربت على كتفه بمؤازرة وهو يقول: متقلقش يا إلياس، إن شاء الله أختك هتبقى كويسة وأحسن كمان.
آمن إلياس على حديثه بتمنٍ، فوقف عمران بجانبه على الناحية الأخرى ثم تسائل بحذر: هي أول مرة يُغمى عليها ولا هي تعبانة؟

حك إلياس وجهه بحزنٍ وهو يُجيبه بإرهاق: لأ تعبانة، عندها كانسر.
صُدِم الجميع من تصريحه وظلوا صامتين لثوانٍ عديدة، وأول مَن خرج من صدمته كان عُمران الذي تمتم بتلجلج: خ. خير. خير إن شاء الله.

كانت هُناك حالة من الصمت المُريب تجوم في الأرجاء، لكن قاطعه صوت هارون الصارخ باسم حمزة بحالة من الفزع الذي جذب انتباه البقية، فاستدار يعقوب مُستأذنًا من إلياس قائلًا: طيب ثواني يا إلياس هشوف أبويا ماله وأجيلك تاني.
ربت إلياس على كتفه قائلًا بامتنان: براحتك خُد وقتك.

حين يتمالك الغضب الإنسان، يشعر بأنه على وشك الإنفجار، وهذا ما يشعر به الآن أثناء تمدده على فراش المشفى، مُغمض العينان لكن غضبه يظهر على وجهه نتيجة تشنجه أثناء ضغطه على أسنانه، اقتربت منه روان وتسائلت بقلق عندما طال نومه:
مصعب باشا أنت مُت؟
لم يُجيبها أو حتى التفت لها، بل ظل على حالته تلك فيما أكملت هي بندم أثناء إقترابها منه: على فكرة أنا مكُنتش أقصد، الموضوع جِه فجأة وأنا اتصدمت.

فتح عيناه على بغتة مُطالعًا إياها بشرر، وترك العنان للسانه ليبوح بما يجيش به صدره: هو إيه اللي مكنتيش تقصدي؟ كنتِ هتموتينا بغبائك وتقولي مكنتش أقصد؟ أنتِ عارفة لو مكناش هربنا كان إيه اللي ممكن يحصل فينا؟ ببساطة كانوا هيقتلونا.
دافعت عن ذاتها مُبررة بغيظ: ما هو أنت مينفعش كنت تقولهم إني مراتك برضه!

كانت تقولها وهي تبتعد للخلف، فلم يُمهلها الفرصة للفرار وأمسك بها من معصمها ليُقربها منه في حركة مُباغتة، ثم تسائل بعصبية: أنتِ إيه اللي جابك ورايا أصلًا؟ كُل شيء وله حدود وأنتِ ما شاء الله غبائك مبينتهيش.
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تُجيبه: كنت عايزة أجمع معلومات عن المُهمة الجديدة.

زفر مصعب بتأفف، واستفاق للوضع الذي به حينما أمسك بيدها أثناء غضبه فتركها على الفور وهو يتنهد ساخطًا، أراح رأسه على الوسادة من خلفه وعاد بذاكرته للحدث الذي أوصله لتلك النتيجة.

Flash Back:
اتجه مصعب نحو مركز الشرطة الذي يعمل به، بعد أن جائه اتصالًا هامًا يُخبره بضرورة القدوم للقبض على إحدى العصابات التي تُهدد الأمن بين العامة، لم يُخبر أخيه حمزة بسبب حالته، بل ذهب وحده ومعه عدد ليس بالكثير من العساكر، ولم يلحظ السيارة التي تتبعه.

وصل مصعب إلى إحدى المناطق النائية، بها عدد من المباني لا بأس به لكنها فارغة نوعًا ما، جهَّز سلاحه وكذلك استدار نحو رجاله يُخبرهم بصوتٍ خفيضٍ آمر: كله هيتم بهدوء وسرية عشان الناس اللي عايشة هنا، بقدر الإمكان عايزين نطلع بأقل الخساير عشان محدش يتأذي، تمام يا رجالة؟
تمام يا فندم.

وعلى بُعدٍ قريبٍ منهم، جهزت روان كاميرتها بحماس والتقطت إليهم عدة صور أثناء تحدثهم معًا وفي أيديهم الأسلحة، وبعد أن رأتهم يتحركون بعيدًا بتسلل إلى إحدى العمارات ذات مظهر قديم، هبطت من سيارتها مُسرعة وهرولت خلفهم، وصعدت بتروٍ تُحاوا تتبُع أي صوت لكنها لم تجد، قطبت جبينها بتعجب واقتربت أكثر، فانتفضت بفزع عندما استمعت إلى صوت تبادل الطلقات بين الطرفين!

اختبئت خلف باب المنزل الذي دخلوا إليه مُبتلعة ريقها بتوتر ويدها تضغط فوق كاميرتها بعنف وكأنها تستمد قوتها منها، استمعت إلى الصمت المُفاجيء الذي عم الأرجاء، جعدت ما بين حاجبيها بتوتر عندما استمعت إلى صوت مصعب يصعد بنبرة مُتهكمة حادة:
وأنت مفكر إنك لما تستخبى تحت الكنبة مش هنعرف نمسكك يا أبو سمسم؟

أتاه صوت أبو سمسم مكتومًا من تحت الأريكة وهو يهتف بصراخ: يا باشا متخلينيش أستعمل معاك العنف، أنا لحد دلوقتي مش عايز أتغابى.
نظر أحد الضباط إلى مصعب يقول له باقتراح: أمسكه من رجليه وأسحبه يا فندم؟
طالعه مصعب بطرف عينيه بتشنج ازداد أكثر عندما استمع إلى صوت ضابط آخر يتحدث قائلًا: أو ممكن نشده من شعره!

حك مصعب وجهه بضيق ثم نظر حوله بتعجب، من المفترض أنه أتى ليلقي القبض على تاجري المخدرات، لكن لا يُوجد هُنا سوى رجل واحد، وفي تلك اللحظة دقَّ ناقوص الخطر داخل عقله، يبدو أن هُناك مؤامرة تُحاك خلف ظهورهم!

في تلك الأثناء، كانت روان تقوم بتصوير كل ما يحدث وتُسجله، سيكون هذا خبرًا مُفرحًا لأبيها بالتأكيد، شهقت بفزع عندما شعرت بمن يحيط رقبتها من الخلف على بغتة، ثم دفعها للداخل أثناء قوله الغليظ: ارمي سلاحك أنت وهو يا إما هخلص عليها.

استدار الجميع بمُفاجئة، وصعد الرجل من أسفل الأريكة ليتجه بضحكة دنيئة نحو صديقه، فيما احتلت الصدمة وجه مصعب عندما أبصر تلك الغبية، ما الذي تفعله هنا في تلك الأثناء، وجَّه الضباط أسلحتهم إليه، فصرخ بهم الأخير بقوله:
بقولكم ارموا سلاحك أنت وهو بدل ما أدبحها!
أشار لهم مصعب بترك أسلحتهم أرضًا، ثم رفع أنظاره إليه وهو يقول بحذر: نفذنا اللي طلبته، سيبها بقى.

نظر الطرف الآخر إلى روان المُرتعبة بغموض، وبعدها وجه حديثه نحو مصعب وتسائل بتروٍ: تقربلك إيه دي؟
علم مصعب سبب سؤاله، إنه تمويه لمعرفة القرابة التي تجمع بين كليهما، فإن علم قُربها منه سيطمئن لمعرفته الوطيدة بفعله أي شيء لإنقاذها، وبدون تردد أجابه مُصعب بقوله: مراتي.

ارتسمت ابتسامة ظافرة على وجهه، لكنها انمحت بسرعة عندما صرخت روان ب مصعب قائلة بتوبيخ: مراتك إيه يا كداب! هيقتلوني منك لله، والله يا باشا أنا لا أعرفه ولا أقربله حاجة، دا أنا واخداه مصلحة عشان أوصل للأخبار مش أكتر.

نظر الرجل ل مصعب بحدة، والذي بدوره أطلق سبابًا عنيفًا بسبب غباء تلك الفتاة التي تُثير أعصابه دائمًا، وبسبب انشغالهم في الحديث، لم ينتبهوا للأربع ضُباط الذين جاءوا من خلفهم وهاجموهم في مكانهم، عمت حالة من الهرج في المكان، خاصةً عندما انضم عضوين آخرين من أعضاء العصابة، وفي لحظة غادرة انطلقت رصاصة طائشة من سلاح أحدهم، واستقر بذراع مصعب الذي بدوره صرخ بألمٍ بالغ.
Back:.

خرج مصعب من شروده على صوت روان التي ظلت تُتمتم بندم: يا مصعب باشا رُد عليا مينفعش المُعاملة دي! متحسسنيش إن أنا غلطانة بعد إذنك!
حاول مصعب تحمل الألم ونظر إليها بشر هامسًا بفحيح: بعد كدا لو فكرتي بدماغك تاني أنا هدشدشهالك، فاهمة؟
هزت رأسها بتوتر وهي تُتمتم: حاضر والله، حُط ثقتك فيا.

طالعها بتهكم بطرف عينيه، فقاطع تلك الأجواء المُتوترة هو دخول أبيه وأخواته بقلق، وأول مَن تحدث هو هارون الذي قال بخوفٍ بالغ: إيه اللي حصلك يا مصعب.
كان أبيه قد تقدم منه ووقف بجانبه، فربت مصعب على كفه بيده السليمة قائلًا: مفيش حاجة يا حَج هارون دي إصابة خفيفة.
تقدم منه يعقوب الذي أردف بعصبية نتجت عن خوفه البالغ: مبتاخدش بالك من نفسك ليه يا بغل أنت؟

رد عليه مصعب بوجوم وبكلماتٍ ذات مغزى: والله كنت واخد بالي بس منهم لله العالم الظالمة.
وبعد حديثه، شعر بشيءٍ ما يرتطم في وجهه بعنف وصوت حمزة يصعد غاضبًا: ولما أنت طالع مهمة جديدة مقولتليش ليه يا حيوان.
دلك مصعب وجهه بألم وهو يُجيبه ضاحكًا: قولت بدل ما نموت إحنا الاتنين، أموت أنا لوحدي.
ضربه بدير مكان جرحه بدون قصد مُعنفًا إياه: متقولش الكلام دا بعد كدا يالا، أنت زي الحصان أهو!

صرخ مصعب بعنف عقب فعلته، فاعتذر بدير بتوتر وهو يضغط على جُرحه من جديد: خلاص أنا أسف، بقيت كويس؟
جز مصعب على أسنانه بألم، فجذب هارون ابنه بعيدًا وهو يصرخ به: بيقولك تعبان يا أغبى خلق الله.
طالعه مصعب بحنق قائلًا: لأ طِلع فيه اللي أغبى منه يا حَج.
قالها وهو ينظر تجاه روان التي تقف في زاوية بعيدة عنهم، قطب هارون ما بين حاجبيه بتعجب وهو يتسائل: مين دي يا مصعب؟

وبثقة شديدة ردت عليه روان بغباءٍ اعتبرته ذكاء بالغ: أنا مراته.
أتى يأسي فتغلب على قلبي، قلبي المُحمَّل بالحُزنِ والألمِ، ليت الزمان يعود دقيقةً، علِّي أمحو بحاضري دمعي.
جلست بدور بجانب فراش جنة شاردة، لقد ذهب أخواتها فجأة وبقى معها عمران فقط بأمرٍ من أبيه، حوَّلت أنظارها تجاه جنة الصامتة، كُلٌ منهن تحمل ألمًا خاص بها، مدت كفها ببطئٍ تُمسك بكفها، ثم سألتها بحنوٍ وهي تبتسم لها:
عاملة إيه دلوقتي؟

أجابتها جنة بلا حياة: كويسة.
تربعت بدور أمامها ثم تحدثت بحماس: أحكيلك حاجة؟
نبرتها المُتحمسة أثارت انتباه جنة، فأدارت وجهها لها تسألها باستغراب: احكي.
اتسعت ابتسامة بدور لنجاح خطتها، فاعتدلت في مكانها وتحدثت هامسة وهي تقترب بوجهها منها: عادل جالي النهاردة و بدير قفشه معايا.
رمشت جنة بأهدابها بعدم تصديق ثم تسائلت بذهول: جالك؟ هو ليه الجُرأة إنه يجيلك لحد عندك كمان؟ أنا الحقيقة مشوفتش بجاحة كدا.

إلتوى ثغرها بابتسامة هازئة وهي تقص لها حكايتها بنبرة مؤلمة: مين اللي كان يصدق إن دا اللي كنت بحبه وواجهت أهلي وقتها عشانه! كِبرت وعرفت إن أي حاجة أبويا أو أمي كانوا معترضين عليها فدا عشان مصلحتي، دايمًا ليهم نظرة لقدام إحنا بنكون جاهلين عنها، سواء في جواز أو صحاب أو حتى عيلة، يا ريتني كنت سمعت كلامهم وممشيتش ورا قلبي، كل مرة كنت بدفع تمن مُعارضتي ليهم، بس المرادي التمن غالي. غالي أوي.

هبطت دمعة شاردة من عيناها وهي تقص عليها حزنها، فمدت جنة يدها إليها لتُمسِك بخاصتها، وبعدها تحدثت بمواساة:.

متلوميش نفسك على حاجة ملكيش ذنب فيها، إحنا جايين الدنيا دي عشان نغلط ونتعلم من غلطنا، مش كل ما تواجهنا مشكلة نقول ياريتنا! كل حاجة بتحصل في حياتنا دلوقتي ربنا كاتبهلنا قبل ما نتولد حتى، مش يمكن اللي بيحصل دلوقتي درس عشان نتعظ منه؟ متزعليش وداوي قلبك بنفسك، كُله رزق، والرِزق بيتوزع في الوقت المناسب متشيليش هم.

داوى حديثها شروخًا كثيرة تشقق به فؤادها، مسحت بدور دموعها وتحدثت بما أضحك الأخرى: بقولك إيه أنا حبيتك، تيجي تتجوزي أي حد من إخواتي؟
ضحكت جنة بخفة وهي تعترض بمزاح: بصراحة أنا بخاف منهم، بحسهم مُربعين كدا.
لوت بدور شفتيها يمينًا ويسارًا في حركة شعبية، ثم كررت حديثها بسخرية: إخواتي أنا مُرعبين؟ ما أنتِ مشوفتهمش في البيت وهما بيتخانقوا زي العيال الصغيرة على حلة الفشار.

ضحكت جنة بمليء فاهها وهي تُردد بذهول: فشار؟
شاركتها بدور الضحك وتحدثت بعدها قائلة: عندك عمران أخويا مدمن فشار، نايم بياكل فشار، صاحي بياكل فشار، زعلان بياكل فشار، فرحان بياكل فشار، علاقته مع الفشار مُريبة متفهميهاش، حاسة إنه لما يخلف؛ هيخلف عيل براس فشارة.

كانت جنة تضحك عاليًا دون أن تستطيع السيطرة على ذاتها، وضعت يدها على فاهها ثم تحدثت بخفوت من بين ضحكاتها: يخربيتك هتودينا في داهية، اسكتي خالص أحسنلك بدل ما أخوكِ يطب علينا دلوقتي.
أشاحت بدور بيدها بلامبالاة وهي تصيح بنذق: أخويا قاعد مع أخوكِ برا، بحسهم شبه بعض أوي.
بجد؟ دا إزاي؟
لترد عليها بدور مُتهكمة: نفس الوقاحة.

الهرب ليس حل دائم، بل مؤقت، توقفت صفاء أمام رؤوف وهي تُصيح به باستنكار: هو إيه اللي عادي يا رؤوف؟ بقولك بنتك تعبت ومحتاجة كيماوي تقولي عادي؟
تأفف رؤوف وهو يتخطاها، ثم ارتمى بجسده السمين نسبيًا أثناء قوله الساخط: يعني عايزاني أعمل إيه يا صفاء؟ الفلوس اللي كانت حيلتنا خلاص خِلصت، والمحروس ابنك قعد من شغله ومبقاش حيلتنا اللضا.

ذهبت خلفه وجلست على الأريكة المُجاورة له بجانب بناتها: طب والحل يا رؤوف؟ وبعدين دخولك وخروجك الكتير دول مش مريحني، حاسة إنك بتخطط لحاجة أنا مش عارفاها.
أخرج رؤوف سيجارة وقام بإشعالها أثناء حديثه المُبهم: لقيت الحل اللي هيرجعلنا فلوسنا وأملاكنا من تاني.
نظرت رضوى لشقيقتها ذكرى بقلق، الجميع بهذا البيت يعلم عقل أبيهم المُتحجر وتفكيره المُهلِك، فيما تسائلت صفاء بتعجب وبعضٍ من الريبة: حل إيه؟

نفث رؤوف دخان سيجاره قبل أن يقول بما ألجم أجسادهم: حازم ابن أخويا اتقدم ل ذِكرى وأنا وافقت.
ومن بعد حديثه هذا هبت ذِكرى من مقعدها وهي تصرخ بتشنج: حازم مين دا اللي اتقدملي وأنت وافقت؟ بأي حق أصلًا تقرر حياتي من غير ما تقولي؟
وقف رؤوف مُنتصبًا أمامها هو الآخر، وبعدها تحدث بعصبية: أنتِ إزاي تكلمي أبوكِ بالطريقة دي يا قليلة الأدب؟ واضح إني قصرت في تربيتك.

أشاحت ذِكرى بيدها أمام وجهه هاتفة بغضب أعمى: هو من ناحية قصرت في تربيتي فأنت فعلًا قصرت، أنا عُمري ما حسيت من ناحيتك بحب ليا، دايمًا حاطط مصلحتك قبل مصلحتي ومبتفكرش غير في نفسك وبس، أنت أناني وأنا بكرهك، ومش من حقك أبدًا تقولي أتجوز مين ومتجوزش مين، أنت ملكش حق أصلًا تدخل في حياتي.

وفي نفس الوقت بالخارج، حيث يجلس كُلًا من عمران وإلياس على المقعد الموجود في مدخل المنزل أمام الزروع، أخفض عمران هاتفه عن أذنه بعد أن قال براحة ل يعقوب الذي كان يُهاتفه: طب الحمد لله، لو فيه أي جديد بلغني على طول، سلام.
نظر له إلياس بانتباه مُتسائلًا: ها طمني! مصعب عامل إيه دلوقتي؟
رد عليه عمران براحة: الحمد لله تمام، يعقوب طمتي عليه وقالي إنه إتصاب إصابة خفيفة.

زفرة مُرتاحة خرجت من فاهِ إلياس الذي تمتم بالحمد، وللحقيقة فكَّر كثيرًا في إخبار عمران بسر بدور حتى يكون أحد إخوانها على عِلم بما يحدث، وقبل أن يتحدث؛ استمع إلى صوت الصراخ يأتي من الداخل!

دلف إلياس مُسرعًا ومعه عمران، فوجدا ذِكرى تقف أمام أبيها تُطالعه بتحدٍ وهو يُطالعها بغضب، و صفاء تُحاول الدفاع عن ابنتها بكل قوتها، بين رضوى تُطالع الوضع بقلق، اقترب إلياس منهم أكثر وما كاد أن يتسائل عن سبب العِراك، حتى استمع إلى حديث صفاء التي تحدثت باستنكار:.

حازم مين دا اللي عايز تجوزه ل ذِكرى يا رؤوف؟ أنت نسيت إنه كان خطيب جنة أختها؟ ما بلاش دي. نسيت إزاي رمى بنتك بعد ما خِسرت كل فلوسك وأبوه ضِحك عليك وخد كل حاجة وبيَّعك أملاكك؟
استدار لها رؤوف بعنف ثم صرخ بها في المقابل: وأدي الفرصة جاتلي على طبق من دهب والواد طلب إيديها مقابل إنه يرجعلي كل حاجة.

تقدم إلياس منه والذي تحدث بحدة طفيفة: أنت بتقول إيه يا بابا؟ أنا مستحيل أخلي أختي تتجوز بالطريقة دي وبالغصب كمان.
أطلق له والده نظرات نارية قبل أن يقول بنبرة مُهينة له: خليك في حالك يا فاشل يا صايع وشوف نفسك.
وهُنا بلغ الغضب عنان السماء في أفئدة الجميع عقب إهانته ل إلياس محبوب الجميع، خاصةً ذكرى التي هبطت دموعها بعنف وتحدثت بوقاحة: مش هتجوزه يعني مش هتجوزه، ولو عاجبك خليه ليك لوقت عوزة.

حديثها كان وقحًا خالي من الأدب تمامًا، وبالطبع لم يتحمل رؤوف ذلك وذهب إليها مُمسكًا إياها من خصلاتها بعنفٍ، بينما يده الأخرى طالت وجهها تهبط فوقه دون شفقة أو رحمة لصرخاتها، تدخل عمران في الفصل بينه وبين ابنته وهو يُصيح بصوتٍ عالٍ:
يا عم رؤوف مفيش حاجة بتيجي بالطريقة دي أبدًا، استهدى بالله الأول.

نجح عمران وإلياس في الفصل بين ذِكرى ورؤوف بصعوبة، وبالرغم من ذلك عَلى صوت ذِكرى التي صرخت بدورها ببكاءٍ عنيف: اعمل اللي تعمله برضه مش هتجوزه، وقسمًا بالله لو حصل هموت نفسي وما هطولك اللي في بالك برضه.

ارتفع صدر رؤوف صعودًا وهبوطًا، بينما وقف إلياس أمام أبيه وخلفه شقيقته أثناء قوله الحاد: المرادي مش هتعرق تمشي كلامك علينا، كل حاجة في حياتنا سمحنالك تدَّخل فيها رغم عنفك معانا وطريقة الحيوانات اللي بتعاملنا بيها، لكن لحد الجواز واستوب، أختي مش هتتجوز حازم إلا على جُثتي.
أتاه الرد من أبيه على الفور، لكن على هيئة صفعة قوية هبطت على وجهه بعنف، تبعه صوت رؤوف الحاد أثناء تحرُك صدره صعودًا وهبوطًا:.

أنت سافل وحيوان وقليل الأدب، والكلمة اللي قولتها هي اللي هتمشي، جهزي نفسك الجمعة الجاية خطوبتك على ابن عمك.
قال جُملته الأخيرة وهو ينظر تجاه ذِكرى التي وضعت كفها على فمها بصدمة عقب فعلة والدها، جز إلياس على أسنانه بغضبٍ جامح قبل أن يستدير نحو ذِكرى آمرًا إياها بحدة: ادخلي أوضتك.
قالها ثم اتجه نحو الخارج بخطواتٍ سريعة تكاد أن تأكل الأرض من تحتها، وتبعه عمران الذي نظر للوضع بنظراتٍ يائسة للتخفيف عنه.

وبالداخل. كانت جنة تستمع لحديث أبيها بوجهٍ جامد خالٍ من المشاعر، وأمامها بدور التي طالعتها بقلق وريبة، مدت يدها إليها تهزها بخفة وهي تتسائل بتروٍ: جنة أنتِ كويسة؟
تمددت جنة على الفراش واستدارت مُعطية لها ظهرها مُتحدثة بخفوت: سيبيني لوحدي عايزة أنام.
طالعتها بدور بتردد، فأصرت عليها جنة بقولها الواهن: بعد إذنك يا بدور عايزة أكون لوحدي.

تنهدت بدور بقلة حيلة وتوقفت ذاهبة من الغرفة بأكملها، خرجت إليهم فوجدت الوضع مُتأزم والأجواء مُتوترة، فقررت تركهم بمفردهم حتى لا تكون كالدخيلة بينهم.
بينما توقف إلياس بالخارج ودموعه مُتحجرة داخل مقلتيه، وضع عمران يده على كتفه ثم تحدث بتهوين: متزعلش، عارف إن اللي أبوك عمله غلط بس أكيد هو مش قصده.

نظر إليه إلياس بطرف عينه وقال ساخرًا: مش كل الأبهات زي أبوك يا عمران، ومش كل واحد اتجوز وخلف يستاهل يبقى أب.
طالعه عمران بيأس، فتنهد إلياس بقوة قبل أن يستدير جهته بكامل جسده ويقول بقوة: أنا عايز أتجوز أختك يا عمران.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة