رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع عشر
علت الصرخات عقب انطلاق صوت الرصاصات الذي دوى صوتها عاليًا في الأرجاء، طلقات اخترقت جسدها لتسقط على الأرض الصلبة سريعًا، لكن مهلًا! المُصابة ليست تسنيم فقط! بل تسنيم وروان معًا!
كان بدير قد انخفض بجسده على الفور كردة فعل طبيعي عقب استماعه لتتابع الرصاصات فوق رأسه، وحينما توقف الصوت؛ رفع رأسه ليجد كُلًا من تسنيم وروان مُتسطحين على الأرض ويُحيطهم بقعة كبيرة من الدماء، انتفض جسده سريعًا ثم ذهب إليهن وهو يصرخ عاليًا مُناديًا على إخوته، بالأساس كان جميع أهلي المنطقة يخرجون من منازلهم عقب توقف صوت الطلقات، وما إن استمعوا إلى صوت صراخ بدير هرولوا إليه مُسرعين.
هبط يعقوب مُسرعًا أولًا، وبعده تبعه هارون والبقية، تصنمت أجسادهم وحلت الصدمة فوق رؤوسهم فور رؤيتهم لجسد الفتيات مُتسطحًا دون حِراك، كان بدير يضرب على وجه تسنيم تارةً و روان تارةً أخرى، والوحيدة التي استجابت له هي روان التي حركت رأسها وتأوهت بضعفٍ، هبط إليها مصعب بسرعة، ثم انحنى عليها وقام بالضغط على عُنقها للتأكد من نبضها، ولحُسن حظها بأنها مازالت على قيد الحياة.
استدار هارون جهة يعقوب الذي يُحاول الإتصال بسيارة الإسعاف، ثم قال على عجالة: روح أنت جهز العربية يا يعقوب بسرعة عشان ننقلهم على المستشفى بأسرع وقت.
أومأ له يعقوب على الفور، وبالفعل ركض من بين الجمع المُحتشد أمام منزلهم يُتابعون ما يحدث بشفقة وقلق، فيما نظر هارون ل بدران قائلًا: كلم حد من صحابك يا بدران خليهم يجهزوا علشان يستقبلونا في مستشفى ().
أومأ له بدران بتيهة وأخرج هاتفه مُسرعًا للإتصال بإحدى زُملائه الأطباء، وعلى مقربة منهم، كان بادر مُتصنمًا محله، أنفاسه باتت ثقيلة للغاية، يشعر بجبلٍ ضحم يجثم فوق صدره ويمنعه من التنفس، تلك الذكرى البشعة التي داهمته حين رؤيته لِمَ حدث سيطرت عليه وبقوة، لذلك لم يجد مهربًا حينما هبطت دموعه رغمًا عنه وباتت أنفاسه لا تخرج إلا بصعوبة!
كان هو واقفًا على الدرج بالأعلى فلم يراه أحد، لذلك جلس عليه بوهنٍ وهو يتنفس بعنف ليلتقط أنفاسه.
جاء يعقوب ووقف أمام بوابة المنزل الرئيسية بالسيارة، ثم حمل مصعب روان التي فقدت وعيها تمامًا وأدخلها، وكذلك فعل بدير المثل مع تسنيم، وصعد معهم الجميع حتى هارون ذاته، دخل يعقوب ليتحدث مع والدته بعجالة، لكنه تصنم محله عندما رأى حالة شقيقه بادر التي تطورت وبات وجهه أزرق بشدة، لذلك صاح بكل عنفوان:.
عمران! سوق أنت أنا مش جاي.
لم تسنح الفرصة لأحد للسؤال، وإنما أخذ عمران محل يعقوب في السيارة، وانطلق بها بأقصى سُرعته، بينما هرول يعقوب بهلع إلى أخيه الذي مال برأسه بإنهاك على الحائط أثناء تنفسه بصعوبة، ثم تحدث بارتعاش:
بادر؟ بادر فوق محصلش حاجة، هما كويسين فوق يا حبيبي.
انتبهت له والدته التي كانت تُغلق البوابة هي و بدور حتى يفترق الناس من أمام منزلهم، بعدما تعالت همساتهم المُتحججة، صرخت حنان بهلع وهي تركض إليهم: ماله أخوك يا يعقوب؟
ابتلع يعقوب ريقه بصعوبة أثناء رؤيته لانسحاب روح بادر تقريبًا، لذلك رفع رأسه بعنف ل بدور ثم صرخ بها: إجري هاتي البخاخ بسرعة.
أومأت له بدور بهستيريا ثم ركضت لجلب ما طلبه، بينما بادر كان في عالم آخر، عالم سجنه وجعله حبيس لذكرى كلما داهمته تُصبه تلك الحالة، الدماء! كلما رآها يشعر بأنه غريق يتلوى للنجاة، مرت ثوانٍ غير معدودة وأتت بدور راكضة ومعها بخاخه، التقطها منها يعقوب بسرعة ثم وضعها داخل فمه وضغط عليها عدة مراتٍ، وأخيرًا وبعد أن ظن أنها النهاية، شعر بأنفاسه تعود لطبيعتها مُجددًا بالتدريج.
أسنده يعقوب ببطئٍ وسار معه حتى وصل إلى فِراشه، ثم مدده عليه بلين، جلست والدته أمامه على الفراش ومسدت على خصلاته بحنان وهي تهتف ببكاء: إيه اللي صابك يا حبيبي؟
كان حينها مازال يشعر بالدوار يُداهمه، وبالرغم من ذلك أمسك بكفها ثم قبله بحبٍ وهو يهمس بصوتٍ ظهر به الإنهاك واضحًا: متقلقيش يا ست الكل أنا بخير.
قبلت حنان كفه هو الآخر والتي تمتمت بعد أن هبت من مكانها: هقوم أعملك حاجة ترم بيها عضمك، وأنت خليك هنا وارتاح.
ذهبت من أمامه على عجالة، بينما يعقوب اقترب منه مُقبلًا جبينه بحنوٍ ثم قال براحة: ألف سلامة عليك، هروح أجيبلك بخاخ من الصيدلية عشان دا قرَّب يخلص.
سدد له بادر نظرة مُمتنة، فيما ذهب يعقوب من أمامه دون حتى أن يرفع نظره على شقيقته التي تتطلع به بلهفة.
حوَّلت بدور عيناها جهة بادر الذي يُطالعها بصمت وعيناه تراقبان ردات فعلها، وبدون أن تتحدث اقتربت منه وجلست على طرف الفراش، ثم مالت برأسها على صدره تستند عليه دون التفوه بشيء، وهو لم يكن يريد منها الحديث، فأحاطها من ظهرها وربت عليه بربتاتٍ خفيفة، وكانت تلك هي الدعوة الصامتة لتبدأ في البكاء!
مرت الدقائق وهما على حالتهما تلك، هي تبكي وكأنها وجدت الملاذ أخيرًا، وهو يُربت عليها بهدوءٍ ظاهري يعكس حزنه المكتوم داخله، توقفت شهقاتها وهدأت أخيرًا، فمال على رأسها مُقبلًا إياها وصوته يصعد حنونًا يشوبه القلق:
مالِك؟
أنا خايفة.
ردت عليه بإختصار، فأجابها مُبتسمًا بخفة: ما أنا عارف، خايفة ليه؟
كانت نظراتها مُنخفضة للأسفل، ابتلعت ريقها بصعوبة ثم رفعت عيناها الدامعة له، وتحدثت بصوتٍ راجٍ: هحكيلك بس توعدني محدش يعرف، لا أبويا ولا إخواتي، محدش عارف اللي هحكهولك دا غير إلياس ابن عمي رؤوف.
ضيَّق ما بين حاجبيه بتعجب وهو يتسائل بحذر: إيه الموضوع اللي يخليكِ تحكيه للغريب ومتحكهوش لإخواتك.
اختنق صوتها ببكاء وهي تُجيبه بيأس: أنا في مصيبة.
استقبلت المشفى اثنتان من المرضى على عجالة، دلفت كلًا من روان وتسنيم إلى غرفة العناية المُشددة في وقت مُتأخر من الليل، المشفى كانت هادئة إلى حدٍ ما وهذا ما سهَّل وجودهم هنا.
نظر مصعب إلى ثيابه المُمتلئة بدمائها، وللحظة أصابت القشعريرة جسده حينما مر بعقله إصابتها بمكروهٍ ما، جف حلقه وأصاب التوتر كيانه، وبدون أن يشعر وجد ذاته يدعو لها برجاءٍ وخوفٍ من فقدها: يارب نجيها.
تقدم حتى توقف أمام زجاج غرفة العناية، فوجد الأطباء يفعلون قُصارى جهدهم لنجاتها، من ربكته وخوفه عليها لا يعلم هل أصابت الطلقات ذراعها أم قلبها، شعورٌ بشع لم يُجربه من قبل أحسه تجاهها، رغم سخطه لها في معظم الأوقات، لكن يبدو بأنها طبعت وشومها داخل فؤاده!
وبجانبه تمامًا، كان يقف كُلًا من بدير وبدران، القلق كان يُسيطر عليهم، نظر بدير إلى أخيه وتحدث قائلًا بصراحة: بدران أنت بتحبها؟
طالعه بدران بذهولٍ وبوجهٍ مُتشنج من الاستغراب: بحبها؟ أنت بتقول إيه؟
هرب بدير من أنظاره التي تُحاوطه وبرر له بتوتر: يعني. علشان شايفك قلقان وخايف عليها وواقف مستنيه.
لم يكد يُكمل جملته حتى قاطعه بدران بقوله الصارم: لأ مش بحبها يا بدير، ريَّح قلبك.
نظر إليه بدير بتردد، فيما أكمل بدران حديثه قائلًا: أنا زي ما وقفت جنبك علشان أتطمن عليها، وقفت هناك قدام الأوضة التانية علشان أتطمن على الآنسة روان برضه، ومش أنا لوحدي اللي قلقان هنا، لا دا الكل وأولهم أبوك.
تنهد بدير بثقل ورد عليه قائلًا: مش قصدي حاجة، متزعلش مني.
ربت بدران على ظهره وهو يقول مُبتسمًا: لأ متخافش أنا مش زعلان، لإني لو كنت زعلت كنت خرشمت وشك.
لوى بدير فمه باستنكار وعاد بأنظاره نحو غرفة تسنيم وهو يُتمتم مُتشدقًا: لأ كتَّر خيرك يا حنيْن.
وعلى مقربة منهم، وقف كُلًا من عمران وحمزة أمام أبيهم الذي أردف بقسوة: عايز أعرف مين اللي عمل كدا يا حمزة، مين اللي اتجرأ ودخل حارة هارون وعمل كدا في أهل بيته.
أومأ له حمزة ثم قال بجدية بالغة: حاضر يا حَج، بكرة بالكتير وهوصل للي عمل كدا، وقتها وديني ما هرحمه.
احتدت عيني هارون التي هتف بحدة: مش عايز منك تعمل حاجة يا حمزة غير إنك تعرفلي مين اللي عمل كدا وبس، أنت فاهم ولا لأ؟
زفر حمزة قائلًا: حاضر يا بابا.
حوَّل هارون أنظاره جهة عمران الصامت وأردف بتذكر: روح البيت يا عمران وهاتلي فلوس من خزنة المكتب عشان مش عامل حسابي، وشوف يعقوب وبادر مجوش ليه وطمني عليهم.
هز عمران رأسه باحترام وأردف حينما أوشك على الذهاب: عينيا يا حَج.
سار عدة خطوات مُبتعدًا عنهم، فناداه حمزة بعد أن استأذن من والده وتحدث قائلًا: استني يا عمران أنا جاي معاك.
يعني برضه يا رائف هتعمل اللي في دماغك وهتسافر؟
هتف يعقوب بتلك الكلمات بضيق، فاقترب منه رائف الذي قابله صدفةً حين ذهابه هو و نرجس، مُربتًا على كتفه وهو يقول: واللهِ ما هتأخر، هو شهر بالكتير أوي هاخد حقي وهرجع تاني بعدها.
طالعه يعقوب بعدم رضا وأردف: بس أنت بتقول إن الناس دي مليانة شر، إزاي هتقدر عليهم لوحدك؟
رد عليه رائف بثقة: لو هما جواهم شر، فأنا جوايا نار قادرة تحرق كُل شِبر في بيتهم.
علم الآخر بأن لا فائدة من إقناعه، لذلك تحدث بلين: طيب خلي بالك من نفسك، ومتترددش ثانية واحدة إنك تكلمني لو احتاجت لحاجة، سامع يا رائف؟
ترك رائف يد نرجس التي كان مُمسكًا بها، واقترب منه ضاحكًا أثناء مُعانقته له ثم قال: ياض عيب عليك أنت أخويا مش صاحبي، يعني أكيد أنت هتبقى أول واحد ألجأله لو حاجة حصلت.
ربت يعقوب على ظهره بحب وهو يقول: أيوا كدا، ومتتأخرش علينا بقى.
غمزه الآخر بمشاكسة: لأ أتأخر دا إيه! دا أنا هروح هقعد هناك محترم وهرجع على طول.
قهقه يعقوب ضاحكًا ثم دفعه بعيدًا قبل أن يقول بنبرة ماكرة: اتوصى في الإحترام ها؟ إحنا ملناش بركة إلا هو.
علت ضحكات رائف كذلك، و نرجس تبتسم بحرج على حديثهم، وجدت يعقوب ينظر لها ثم قال بابتسامة هادئة: ألف مبروك يا عروسة.
الله يبارك فيك.
إجابتها كانت مختصرة تحمل بين طياتها الخجل والحرج، ودَّع الصديقان بعضهما البعض ثم اتجه كُل منهم إلى طريقه، وكل طريق مُختلف عن الآخر من حيث الأقدار والحقائق التي ستقلب مجرى حياتهم رأسًا على عقب.
ما كانت النيران محطًا للإشتعال فقط، بل للإنفجار كذلك، وهذا ما شعر به بادر بعد أن انتهت بدور بقص كل ما حدث له، انتظرت للإستماع إلى حديثه أو أن يُلقي أي ردة فعل، لكنه ظل صامتًا لدقائق عديدة رفضت الحديث بهم، وحين يأست؛ تسائلت بريبة:
ساكت ليه يا بادر؟
وكأنه استفاق لها الآن، فابتسم له بتصنع قبل أن يُربت على ذراعها برفق، وأردف بما أدهشها: روحي نامي الوقت اتأخر دلوقتي.
زاد قلقها أكثر وخوفها، فعادت لتسأله يحذر: طيب واللي حكيتهولك؟
رد عليها ببساطة قائلًا: وهو إيه اللي حكيتهولي؟ مش أنتِ عايزة ترجعي لجوزك؟ ارجعي.
إيه؟
رددتها بصدمة، فعاد ليقول مُجددًا: أنتِ دلوقتي سِت حامل، وشهور حملك هتقضيها عند جوزك زي ما طلبتي، ودلوقتي روحي نامي عشان أنا بنفسي الصبح اللي هوصلك لبيت جوزك.
بث القشعريرة في جسدها بحديثه، فطالعته بأعين مُتسعة وملامح وجه يظهر عليها عدم التصديق، ولم تكد تستوعب ما يُقال، حتى وجدته يدفعها بعيدًا وهو يردف: يلا روحي نامي بقى، وأنا كمان هنام عشان تعبان.
كانت تظنه يمزح أو ما شابه، لكن وجهه الجاد وصرامته معها في الحديث جعلتها تشك في أمره، وبيأسٍ تملك من أوردتها هبت من مكانها وغادرت الغرفة، غادرتها بأعين دامعة وفؤادٍ مفطور وخوفٍ من القادم.
وفي الداخل، حرَّك بادر عنقه يمينًا ويسارًا حتى استمع إلى صوت فرقعة مفاصله، وبعدها تمتم بابتسامة أخذت من الشر أطنانًا: ماشي يا عادل، دا أنا هخلي وقعتك سودة.
انتهى اليوم واتجه الجميع لأخذ قيلولة صغيرة، وبعدها سطعت الشمس لتُجبر الجميع بدلالها على الإستيقاظ.
وهُنا في سوهاج، وتحديدًا في تلك المنطقة الزراعية.
وقف صبري عم رائف وبجانبه ابنه رأفت أمام الأراضي الزراعية الشاهقة يُتابعون حركة الجرار لإزالة المزروعات وحفر المنطقة لتكون جاهزة للبناء، استدار رأفت الذي نفث دخان سيجاره من داخل رئتيه وهو يستدير إلى والده:
طب وجدي رأيه إيه في الحوار دا يابا؟
اتجه صبري بأنظاره نحو ابنه مُحدجًا إياه بنظراتٍ قاسية، ثم صعد صوته مُحذرًا بعنف: جدك ميعرفش أي حاجة عن اللي بتحصل يا رأفت، لو عِرف كل اللي خططناله هيضيع.
سحب رأفت نفسًا آخر من تبغه بعد أن قال بشرود وعيناه تحوم على أرضهم التي باتت كقطعة من الصحراء: وتفتكر إن رائف لو عِرف هيسكت.
رد عليه والده بنبرة حاسمة: مش هيعرف هو كمان، حتى لو عِرف، هنكون حطيناه قدام الأمر الواقع ومش هيقدر يفتح بوقه بنص كلمة.
ومباشرةً وبعد انتهاء حديثه، وجد قوات الشرطة تُداهم المكان وعدد من الضباط يقف أمامه تحت نظراتهما المُستعجبة، تقدم منهم الضابط ثم تسائل بنبرة جادة: مين فيكم صبري عتمان المُحمدي؟
تبادل كُلًا من صبري ورأفت النظرات القلقة، حتى خرج الأول عن صمته قائلًا: أنا يا باشا صبري المُحمدي، خير فيه حاجة؟
أتى في تلك الأثناء عتمان وهو ينظر للأراضي بدهشة، وبعد اقترابه تسائل بصدمة: فيه إيه؟ إيه اللي بيحصل هنا؟
وفي تلك الأثناء فجَّر الضابط قنبلته بقوله: مطلوب القبض على صبري عتمان المُحمدي بتهمة نهب أرض المدعو رائف سعيد المحمدي.
نزل الاسم على رؤوس الجميع كالقنبلة الموقوتة، ظلوا صامتين لدقيقة كاملة ينظرون لبعضهم البعض دون الحديث، فكان أول من تحدث وخرج من صدمته هو صبري الذي هتف بقوله المُتلجلج: را. رائف؟
وهُنا ظهر بطل الحكاية بنفسه، والذي تقدم مُنهم أثناء إرتدائه لنظارته الشمسية، وقميصه الأبيض وأسفله بنطال من اللون الأسود الحالك، ثم تحدث بابتسامة شامتة أثناء توزيعه لنظراته فيما بينهم:
أيوا رائف يا عمي، رائف سعيد المُحمدي.
أخذ منهم الأمر ثوانٍ للإستيعاب، ورغم عدم رضا عتمان عما فعله ابنه من دون علمه، إلا أنه صاح بالأخير مُعنفًا: هتحبس عمك عشان حِتة أرض يا رائف؟
ابتسم رائف باصفرار قبل أن يُجيبه: آه هحبسه.
قالها ثم استدار للضابط الذي يُتابع الحوار بأعين مُترقبة، ثم أردف بنبرة جادة حملت بين طياتها الكثير: شوف شغلك يا حضرة الظابط.
ومن بعدها ذهب من أمامهم بخُطى مُتريثة هادئة، والانتشاء يملأ جسده حينما استمع إلى صوت صراخهم يأتي من خلفه، وكُلًا من رأفت وعتمان يطلبان ترك صبري، لكن لم يستمع إليهم الضابط حينما ألقى القبض على صبري ووضعه في عربة الشرطة، وخلفه ذهب والده وابنه للحاق به، والفلاحون من حولهم يُتابعون ما يحدث باهتمام.
وضع رائف يداه داخل جيب بنطاله أثناء سيره، وأطلق صفيرًا مُستمتعًا يُبين انتصاره، وصل إلى سيارته التي يركنها بمسافة عن الأراضي، ثم ركب بجوار نرجس التي ما إن رأته حتى تسائلت بقلق:
كنت فين دا كله يا رائف؟ قلقتني.
وعلى بغتة مال عليها رائف وقبَّل وجنتها بحنوٍ، ثم ابتعد عنها وهو يقول: متقلقيش يا قلب رائف.
كست الحُمرة وجهها وشعرت بالحرارة تزداد داخل جسدها من الخجل، عدَّلت من حجابها وحاولت تغيير الموضوع بقولها المُتلعثم: ه. هنروح فين دلوقتي؟
ابتسم لإدراكه مُحاولتها التي فشلت بها، لذلك اعتدل أمام مقود السيارة، ومن ثَم انطلق بها وهو يُجيبها بخبث: على بيت العيلة.
وجودك داخل دوامة من الكوابيس المؤرقة لهو أمر مُنهِك على العقل والفؤاد، تشعر بأنك كالغريق الذي ينتظر قشة للتعلق بها، أو كغريبٍ يسيرُ في الصحراء وحيدًا دون وجود ما يجعلك على قيد الحياة.
سائرًا هو وأصدقائه على الطريق بعد خروجهم من حصة اللغة العربية التي دامت لساعتين متواصلتين، تأفف بادر بسخطٍ وتحدث بضيق: ضهري اتقطم من القاعدة، دا أنا لو هطلع من الأوائل مش هقعد ساعتين في درس واحد!
أجابه صديقه محمد بضحك: متفولش فيها بس، يارب دا كله ييجي بفايدة في الآخر.
ليرد عليه صديقهم الآخر كريم بتمني: وأدخل كلية حلوة عشان أتجوز أماني.
نكزه بادر في معدته بضجر وهو يُصيح به: هو أنت مواركش حاجة في حياتك غير أماني؟
ورغم الألم الذي سيطر عليه بسبب ضربته، إلا أنه هتف بأعين مُلتمعة وقال: أنا أُمنيتي هي أماني، ومبلاقيش راحة في حياتي غير بوجود أماني.
استمع إلى صوت محمد الضاحك بمزاح: يا عم كاظم الساهر متسرحش كدا، إحنا لسه في تالتة ثانوي يعني مشوارنا لسه طويل.
ضحك ثلاثتهم بمرح، فنظر بادر إلى أحد الأركان قائلًا: أنا هروح أجيب أيس كريم، اقعدوا انتوا في الضِلة هنا لحد ما آجي.
ارتمى محمد بثقله كله على المقعد الموضوع في الشارع وهو يقول بألم وكأنه امرأة في أواخر الثمانين: آه ياخويا بالله عليك روح، وأنا هقعد أريح رجلي هنا لحد ما تيجي.
طالعه بادر بسخرية، ثم ذهب إلى الجانب الآخر من الطريق لشراء المثلجات له ولأصدقائه، مرت دقائق قليلة حتى فرغ العدد الكبير من أمام البائع، ثم أتى دوره واشترى هو، وحينما انتهى وأخذ مطلبه؛ سار عدة خطوات مُهرولًا جهة أصدقائه، لكنه صرخ بفزع عندما رأى إحدى الشاحنات فقدت السيطرة على ذاتها وانطلقت بسرعة هائلة وسط الجموع، ابتعد بادر عنها ركوضًا جهة صديقاه، وحينما أوشك على الوصول؛ وجد الشاحنة تصتدم بهما بعنفٍ أدت إلى تناثر الدماء على وجهه!
شهق بادر بفزع أثناء نومته وهب من على الفراش بوجهٍ مُتعرق وجسدٍ مُرتعش، تلك الذكرى لا تنفك أن تذهب عن عقله، مقتل صديقاه أمام عيناه يُلازمه حتى الآن، لن ينسى بأنه فقد النطق لشهرٍ كامل بسبب صدمته، وحينما عاد لطبيعته، باتت الدماء بالنسبة له كداءٍ قاتل، وحينما رآها ليلة أمس أحس بالإختناق وشعر بأن الموت يُداهمه بقوة.
نظر بجانبه وقد هدأ نهيج صدره قليلًا، فوجد الساعة قد تعدت السابعة والنصف، وقف من مكانه ثم اتجه للخارج، فوجد الجميع مُتجمع بالصالون ومعهم أبيهم، استداروا له وفور أن رأوه اتجهوا لهم مُسرعين للإطمئنان على صحته، فزع بادر من الهجوم المُفاجيء عليه وعاد للخلف تلقائيًا وهو يهتف بفزع:
انتوا عايزين مني إيه يا شوية أوباش؟
نظر إليه مصعب وتحدث بقلق: إيه اللي حصلك يا بادر؟ أنت كويس؟
لم يُرِد أن يُقلقهم بشأنه، لذلك دفعهم بعيدًا واتجه ناحية والده للجلوس بجانبه، ثم أجابه بغرور: أحسن منك ياخويا، وبعدين أنا مالي؟ ما أنا زي الفل أهو!
كان يعقوب جالسًا بجانب والده على الناحية الأخرى، فقذف له البخاخ وهو يقول بسخرية: طب خد يا عسل خلي دي في جيبك ومتمشيش من غيرها تاني.
كانت قد ارتطمت بوجهه، فطالعه بغيظ ثم نظر لوالده يشكو منه بقوله: عاجبك عمايل ابنك قليل الأدب دا يا حج؟
لم يُجيبه هارون على سؤاله، وإنما عاد بظهره إلى الخلف وهو يتسائل بخبث: ألا مين سارة اللي كنت بتهلفط باسمها طول الليل يا بادر يا حبيبي؟
كتم بادر أنفاسه وهو ينظر لوالده بعدم تصديق، فصعد صوت يعقوب قائلًا بشماتة: بما إني أخوك وخايف على مصلحتك، فأنا اللي سمعتك بتردد اسمها إمبارح وأنت نايم، ولما أبوك جِه قولتله، ومن رأيي المتواضع يا ولاد إننا نجوز بادر عشان حالته بقت سيئة للغاية.
إحمرت وجنتي بادر خجلًا، فهتف مُسرعًا: ل. لأ. أكيد أنت سمعت غلط.
علت ضحكات حمزة عاليًا والذي ضربه على كتفه وهو يتشدق بمكر: ياض قول دا إحنا إخواتك ومش عايزين غير مصلحتك، ومتقلقلش مش هنذلك لأ.
استدار له بادر مُطالعًا إياه بنارية، وبتلقائية هتف بدون قصد وغضب: ما بلاش أنت يا بتاع رضوى!
وهُنا صعد صوت عمران مُقلدًا حمزة بشفقة: فضحك يا كبدي!
كان غيظ حمزة على آخره، وازداد أكثر عقب قول عمران وتشفيه به، لذلك أردف بتبجح: ما بلاش أنت يا بتاع طبق المُمبار والكرشة!
وضع يعقوب يده على فاهه يمنع ضحكاته من الظهور بسبب ردة فعل والده المُنصدمة على ما يستمع إليه، ومن داخله يهمس بريبة: أنا هسكت عشان محدش يكلمني.
بينما هارون هتف مُنصدمًا وهو يوزع نظراته بينهم: ممبار وكِرشة؟ هي حصَّلت يا عمران؟ وأنا اللي كنت مفكرك العاقل اللي فيهم!
تلجلج عمران في الحديث أمام أبيه وقال: ل. لأ يابا متفهمنيش غلط، أنا كنت مستني الوقت المناسب وآجي أحكيلك على موضوع الممبار دا.
تدّخل مصعب في الحديث وهتف بمكر: ويا ترى تقصد أي ممباراية فيهم.
وبتلقائية رد عليه عمران: الصغيرة.
انطلقت ضحكات الجميع رغمًا عنهم، وشاركهم هارون الضحك وهو يهز رأسه بيأس، ثم رفع أنظاره جهة بدران الصامت وتسائل: وأنت يا حزين؟
لسه حلوفة زي ما هي.
كانت إجابة مُناسبة لحالته هو و زهراء، استمعوا إلى صوت طرق الباب، فاتجه بدير لفتحه، وما إن رأى الطارق حتى أردف بسخرية:
أهي الحلوفة بذات نفسها جت أهي.
طالعتهم زهراء بتعجب، وتقدمت بعد أن دفعته بغيظ وهي تقول بتبجح: اتلم يا عسل بدل ما أزعلك.
فتح بدير فاهه بصدمة، ثم صاح بها باستنكار: أنتِ بتتكلمي كدا ليه يا بت أنتِ؟ هو محدش مالي عينيكِ ولا إيه؟
تطلعت إليه بقرف ولم تُجيبه، وإنما تقدمت من هارون وطلبت من بادر بهدوء: لو سمحت يا بادر قوم من جنب عمي عايزة أقوله كلمتين على إنفراد.
إنفراد؟
هتف بها بادر بتشنج، ثم عاد ليستكمل حديثه قائلًا ونظراته تحوم على الجيش الذي يرتص أمامه: إنفراد وسط الجيش اللي موجود دا؟
يا جدع كُلك نظر، قوم بقى خليني أقعد!
وقف بادر من مكانه وجلست زهراء بدلًا منه، ثم تحدثت بانتباه: هما البنات اللي كانوا هنا ماتوا يا عمي؟
صاح بها بدير بسخط: بومة. عليا الطلاق بومة وهتجيبلنا الفقر بكلامك دا.
قهقه هارون عاليًا، وتحدث من وسط ضحكاته قائلًا: لأ يا ستي بعد الشر عليهم، الحمد لله هما حالتهم كويسة وإحنا جايين نغير هدومنا وبعد كدا هنروح ليهم تاني.
اتسعت ابتسامتها واحتلت الراحة صدرها وهي تقول: طب الحمد لله، هطلع ألبس أنا بقى عشان هاجي معاكم أنا و رحمة، وكمان قولت لأبويا و مروان فهما هييجوا معانا، وماما كمان هتيجي ما هو مش معقول نسيبها لوحدها، يلا سلام عليكم بقى هطلع أجهز بسرعة عشان منتأخرش.
قالت حديثها دُفعةً واحدة، ومن ثَم هبت من مكانها واتجهت نحو الأعلى بسرعة، وذلك بعد أن سددت ابتسامة واسعة ل بدران الذي بادلها بأخرى مثلها لكنها عاشقة!
هز هارون رأسه بيأس وتمتم ضاحكًا: عليه العوض ومنه العوض، محدش عاقل في البيت دا كدا؟
منذ أن استعادت وعيها وهي جالسة على الفراش بنظراتٍ شاردة وأعين دامعة، تشعر بأن الغرفة تطبق على أنفاسها، ورأسها يرسم لها آلاف السيناريوهات التي لا تذهب عن بالها، جسدها الآن يرتعش كاملًا دون مُبالغة، لكنها ترتعش من الداخل لا من الخارج.
استمعت إلى صوت الباب يُفتح فرفعت أنظارها ببطئٍ لتُطالع مي التي خاصمها النوم طيلة الليل قلقًا على شقيقتها، وأول شيء نطقه لسانها هو: اطلعي برا.
وقفت مي مكانها تُطالع سارة بأعين دامعة وندمٍ ظهر واضحًا على نبرة صوتها المُرتعشة حينما قالت: أنا أسفة.
وبجمودٍ أعادت سارة حديثها: قولتلك اطلعي برا.
رفعت مي كفها أمام وجهها تطلب منها برجاء وهي تتقدم منها: طيب على الأقل اسمعيني و...
ابتلعت بقية حديثها بخوف عندما استمعت إلى صرختها العالية: قولتلك اطلعي برا، مش عايزة أشوف وشك.
هبطت دموع مي بقهرٍ وهي ترى نبذ شقيقتها لها، عادت إلى الخلف بظهرها أثناء بكاؤها العنيف، وأردفت من بين شهقاتها بحسرة: أنتِ كمان هتكرهيني؟
حاولت سارة الثبات أمام نبرتها الجريحة، وتذكرت معاناتها في الماضي مع والدتها حينما نبذتها وتزوجت عشيقها، وذلك بعد وفاة والدها مُباشرةً، لم تُجيبها، وإنما استدارت مُعطية إياها ظهرها دون حتى أن تُبالغ في الحديث، شعرت بصوت الباب يرتطم بقوة فعلمت أن شقيقتها قد خرجت بالفعل، وهنا سنحت لها الفرصة للإنهيار والبكاء، هي لم تُؤثر ولو قليلًا في إعطائها الحنان الذي تُريد، وبفعلتها تلك قد قسمت ظهرها حقًا!
جلست على فراشها ثم دفنت وجهها داخل كفيها، ليس لديها أي رفقة أو أصدقاء حتى تشكو لهم، والدتها لا تهتم بأمرهم ولو واحد بالمائة، كذلك عائلة والدها الذين نسوا وجودهم بعد وفاته، باتت وحيدة في عالم مليء بالوحشة، تشعر ذاتها مُحاصرة داخل دائرة مُغلقة رغم انفتاح الحياة من حولها، والأدهى من ذلك، تشعر بأنها منبوذة!
وقف رائف بسيارته أمام أحد المنازل الشاهقة في سوهاج، منزل كبير وضخم يُحيطه أشجار النخيل والخُضرة من كل مكان، هبط منها وكذلك فعلت نرجس، خلع نظارته واستدار لها قائلًا بابتسامة هادئة:
قرَّبي.
اقتربت من نرجس ببطئٍ وأنظارها تحوم في المكان من حولها، وحينما وصلت إليه ابتسمت قائلة: المكان هنا حلو أوي.
أحاط بها من كتفيها بحماية، ثم سار بها نحو الداخل وهو يقول بتهكم: بس من جوا مليان سحالي وحرابيق.
رفعت رأسها إليه تُطالعه بعدم فهم، حتى تسائلت مُتعجبة: هُما وحشين؟
هز رأسه نفيًا مُجيبًا إياها ببراءة: دول مفيش في رِقتهم.
وصلا إلى الردهة الداخلية والباب الرئيسي الكبير المفتوح على مصرعيه، فأوقفها أمامه وتابع بنبرة صارمة: المهم عايزك تسمعيني كويس.
نظرت إليه بانتباه، فيما أكمل هو بقوة: اللي يكلمك شُقيه.
ولم يدعها تُجيب أو تستفسر عن ماهية حديثه، وإنما جذبها نحو الداخل وسار بكل غرور وهيبة، أوقفت سيرة الخادمة التي تسائلت بتعجب: أنت مين يا جدع أنت؟
تجاهل حديثها واتجه نحو غرفة الصالون الكبيرة وأردف بأمر: جهزيلنا الأكل يا حَجة.
تشنج وجه الخادمة باستنكار، فهرولت خلفه قائلة بصوتٍ عالٍ جذب انتباه الجالسين بالداخل: هي مين دي اللي حجة يا عديم النظر والإحساس؟ هو أنت اتعميت في نظرك ومش شايف الجمال والحلاوة؟ قال حجة قال!
وقف الجالسون بالداخل عندما رأوا القادم ناحيتهم، وأول مَن تحدثت هي زوجة عمه التي رددت اسمه بعدم تصديق: رائف؟
إلتوى ثغر رائف بابتسامة واثقة عقب رؤية معالم الصدمة مُرتسمة على وجوههم بوضوح، فخرج صوته هازئًا: إزيك يا تِعبانة!
تهجمت ملامحها على الفور، واقتربت منه بخطواتها الغاضبة وهي تسأله بِغل: أنت إيه اللي جابك هنا؟
أجابها بهدوءٍ مُثير للإستفزاز: جاي مِلك أبويا يا بُثينة، هتشاركيني؟
شعر بكف نرجس الذي ضغط فوق خاصته لتمنعه من الحديث، لكنه لم يُبالي بفعلتها، وإنما استطرد حديثه تحت نظرات زوجة عمه الحارقة: ولا هي البجاحة خلتك تعيشي وتبرطعي في مال غيرك ومخلياكِ عايشة سفلقة؟
وتلك المرة جاءته الإجابة من ابنة عمه نور التي جاورت والدتها وصاحت به مُستنكرة: مالك داخل حامي علينا كدا ليه يا رائف! ما تحترم نفسك وخلي بالك من كلامك يا بني آدم أنت!
أشرق وجه رائف الذي حياها بنبرة مُتحمسة: أهلًا أهلًا بالتِعبانة التانية! والله القاعدة في البيت دا وسط الأفاعي والتعابين وحشتني أوي!
لاحظت نرجس اضطراب الأجواء من حولها، فاقتربت من هامسة بريبة: خلاص يا رائف كفاية، تعالى نمشي أحسن.
نظر إليها بطرف عينه يُطمئنها بنظراته، فيما استمع إلى صوت زوجة والده التي هتفت بنبرة ساخرة: ومين الحلوة إن شاء الله؟ يا ترى شاقطها ولا ماشي معاها؟
ظنت بأنها بحديثها ستُثير حنقه وتُغضبه، لكنها وجدته يُجيبها بتصنع الشفقة وأردف بما جعل دماؤها تغلي: مش معنى إنك جاية البيت دا تصليح غلطة لعمي إني هبقى زيك!
اتسعت ابتسامته بحقدٍ وهو يوزع نظراته بين بُثينة وابنتها وأكمل: ومش معنى إن بنتك متجوزة بفضيحة من ابن العمدة إني هبقى زيها!
لاحظ وجوم الاثنتان لكن لم يهمه ذلك، بل استطرد حديثه بقوله: الوساخة في العيلة دي متوزعة بالتساوي وبعدل ربنا، لكن أنا مراتي أنضف منكم، وكلكم على بعضكم كدا متجوش ضفر فيها.
أوصل إليهم ما يُريد إيصاله، نظراتهم التي يرموها إليه لو كانت تحرق؛ لأحرقته حيًا، شدد على يدِ نرجس ثم أخذها وابتعد عنهم خطوتين مُتجهًا نحو درج الدور العلوي، وقبل أن يصعد، استدار لهم وهتف بتذكر:
يقطعني! نسيت أقولكم إن عمي مقبوض عليه.
تجمعت عائلة هارون بأكملها في تلك الغرفة التي جمعت كلًا من تسنيم وروان معًا، إصاباتهم لم تكن هينة، لكنها ليست قاتلة ولحُسن حظهم، فلقد أُصيبت روان من كتفها طلقتين مُتتابعتين، و تسنيم سُدِدَ إليها طلقة في معدتها أدت إلى نزيفها، فكانت حالتها أسوأ من روان بقليل.
جلس هارون على المقعد ونظر إليهن براحة ثم قال: حمدالله على سلامتكم.
ردت عليه تسنيم بوهن: الله يسلمك يا عمو.
فيما تحدثت روان بحلقٍ جاف: أنا جعانة، عايزة نص كيلو كباب وكُفتة.
نظر إليها مصعب بطرف عينه وقال بغيظ: شوفي. أنتِ طول ما أنتِ ساكتة وحاطة لسانك جوا بوقك بتكوني زي الفل، إنما لما بتتكلمي حالي بيتشقلب مش عارف ليه!
وجدها لم تُعير حديثه أي إهتمام، وإنما أردفت بهدوء وابتسامة خافتة: ومتنساش البيبس الدايت.
ضحك عليها هارون بمليء فاهه وهو يرى تشنج وجه ابنه، بينما حنان اقتربت منها وربتت على رأسها بلطفٍ وهي تقول بابتسامة خفيفة: حاضر يا حبيبتي، قومي أنتِ بالسلامة بس وإحنا هنجيبلك اللي أنتِ عايزاه.
لم تستطع مُداراة حُزنها خلف مُشاكستها أكثر من ذلك، وإنما هتفت بأعين دامعة وبنبرة مُرتعشة: عايزة بابا.
نظر الجميع لبعضهم البعض بحيرة، فيما اقترب منها مصعب وتحدث بابتسامة صغيرة: هاتي رقمه وأنا هكلمه يجيلك.
هزت رأسها بالنفي وهي تُجفف دموعها التي هبطت على وجنتيها، ثم أجابته بحزن: ملوش داعي، هتلاقيه في أوضة 209 انزل هاته وتعالى.
لوى فاهه بيأسٍ قائلًا: حتى أبوكِ مسلمش منك؟
رفعت أنظارها له فوجد الدموع تتشكل داخل مقلتيها بكثافة مُجددًا، ليهتف سريعًا وهو يتجه محو الخارج: خلاص خلاص أنتِ ما بتصدقي!
خرج ممصعب من الغرفة مُهرولًا تحت أنظار أبيه التي تُحاول سبر أغواره، ومن موقعه هذا، هو متأكد من وقوع ابنه بتلك الصغيرة جالبة المصائب، وتيقن حينما وجد الدموع مُتجمعة داخل مقلتيه ليلة أمس، حاول إخفاؤها، لكن هذا لم يخفى عنه أبدًا.
كانت تسنيم مُستندة برأسها للخلف، شعرت بمن تُمسد على خصلاتها فرفعت عيناها ببطئء لتجدها بدور التي سألتها بود: عايزاني أجيبلك حاجة؟
هزت تسنيم رأسها بالنفي وهي تبتسم لها بوهن ثم أجابتها بنبرة خافتة: لأ مش عايزة حاجة.
طيب أجيبلكم حاجة تشربوها؟ عصير أو ماية، أو حاجة يعني.
كان هذا السؤال صاعد من فم بدير لكن أنظاره مُثبتة على تسنيم بقلقٍ واضح لحالتها الواهنة.
في تلك الأثناء دخلت كُلًا من زهراء ورحمة ومعهم مروان، والذي ما إن رآهم بدران حتى هتف بنبرة مُستمتعة: أهي الحلويات هتكمل أهي.
ضربه يعقوب في معدته وصعد صوته يُحذره: أبوك لو سمعك هيخليك مداس لمحل الحلويات ذات نفسه، فاخرس خالص دلوقتي.
تقدمت زهراء من تسنيم وروان بابتسامة مُتسعة، ثم تشدقت بقولها: ألف سلامة عليكم يا حبايبي، جيبتلكم شوية بسكوت وعصير وشيبسي من اللي أنا بحبهم.
سألها حمزة ضاحكًا: يا شيخة اتقي الله بقى! وأنا اللي قولت البعيدة بقت بتحس زينا؟
ومن إمتى وأنت بتحس من الأساس يا حمزة؟
هتفت بها بسخرية، فيما تحدث حمزة مُغتاظًا: لأ والولية حساسة أوي.
سعل بدران بقوة لمنعه من مضايقتها، فقاطعهم صوت فتح الباب ودخول مصعب ومعه إسماعيل، والذي ما إن رأى ابنته حتى هرول إليها قائلًا بفزع: روان يا حبيبتي مالِك؟
ألقت روان ذاتها بين أحضان والدها ومن بعدها سمحت لدموعها بالهطول، علت صوت شهقاتها باشتياقٍ له، وذراعاها يُشددان من احتضانه، فهتفت من بين شهقاتها قائلة بصعوبة:.
متزعلش مني أنا بحبك، مش هكتب اسمك في المقالات دي تاني، هكتب اسم مصعب باشا بس.
أغمض مصعب عيناه للسيطرة على انفعالاته، ففتحهما مُجددًا وتحدث بضحكة صفراء: أنا الحقيقة أخلاقك دي أحرجتني، لأ بجد مش عارف أودي جمايلك دي فين!
خرجت روان من أحضان والدها الذي يضحك عاليًا كالبقية، فيما جففت هي دموعها بكفيها وهي تُجيبه: متقولش كدا يا مصعب باشا إحنا أهل، وأنا كمان ميرضينيش إن تعبك يروح في التراب كدا!
كانت ملامح وجهه تظهر وكأنه مقروفًا من شيءٍ ما، فجذبه والده من يده وهو يضحك: تعالى أقعد بدل ما أنت من صباحية ربنا واقف على رجلك كدا.
ارتمى مصعب بجانبه بانهاك، ومرت الدقائق والجميع يتسايرون ويتحدثون معًا، حتى قاطع حديثهم هذا صوت طرقات صغيرة على الباب، تبعه دخول أحد الصغار وهو يرتدي معطف طبي وحول عنقه يُحيط به سماعة خاصة بالمرضى!
نظر الجميع بتعجب إلى الصغير الذي يسلك طريقة نحو تسنيم الذي يظهر عليها الخمول، وقف بجانبها ورفع سماعته لها وبالطبع لم يصل لمستوى رأسها بسبب قِصر قامته، نظر حوله بحيرة حتى وقعت مقلتاه على الحل، فذهب سريعًا نحو المقعد الذي يجلس عليه بدير وقال أثناء دفعه له: لو سمحت يا عمو هات الكُرسي.
دفعه بدير بغيظ وهو يقول: وسَّع يالا دا الكرسي بتاعي.
طالعه الصغير بغيظ فدفعه بقوة تلك المرة قائلًا: أنا بقولك لو سمحت وبكلمك باحترام، هات الكُرسي بقى!
كاد بدير أن يُعاند معه، فتحدث إليه هارون بنفاذ صبر: خلاص يا بدير إديله الكرسي وخليه يمشي.
ذعن بدير لمطلب أبيه ونظر للصغير بغيظ، فأخذه منه بنظراتٍ مُتشفية ثم اتجه إلى تسنيم ووضعه بجانبها، طالعه الجميع بتعجب لكنه لم يُبال، وإنما صعد عليه وبدأ بفحص رأسها بسماعة المرضى!
وبدون أن يقصد استند بيده على جرح معدتها، فتأوهت بعنفٍ أدى إلى انتفاض الجميع من مضاجعهم، ذهب بدير مُهرولًا حيث الصغير، ثم أبعده عنها رافعًا إياه من ياقة ثيابه وتسائل بغضب: أنت مين يالا وبتعمل إيه هنا؟
رفرف الصغير بقدميه في الهواء وصرخ به بحدة: سيبني بقولك، أنت مش عارف أنت بتكلم مين ولا إيه؟
هكون بكلم مين يعني؟
تسائل بها بدير بتشنج، ليُجيبه الصغير بفخر رغم الوضع الذي به: أنا الدكتور مُغيث قاسم طاحون.
كان عمران قد استأذن من أبيه لقضاء مشوارٍ ما، ورغم عدم راحة هارون لحركة أبنائه المُريبة تلك الأيام، إلا إنه سمح له بالذهاب، ومن داخله يدعو الله بأن يمر كل شيء مرور الكِرام.
سار عمران مُتأففًا بسيارته وسط الزحام، عالق منذ نصف ساعة في ذلك التكدس المُزدحم، وبعد أن خرج من معركة السيارات التي كان بها، أسرع بسيارته قليلًا أثناء سيره في طريقه للمنزل، وبعد دقائق؛ أبطأ من سرعته حينما لمح شخص يعرفه يسير وحده، نعم. إنها جنة!
توقف أمامها بسيارته وظهرت الدهشة على محياها وهو يسألها قائلًا بابتسامة هادئة: راحة فين يا أنسة جنة؟
ذُهلت من وجوده وأصابها الحياء من ابتسامته تلك، خاصةً بعد حديث إلياس معها حول إعجابه بها، خرج صوتها مُتوترًا وهي تُجيبه بخفوت: راحة على البيت.
اقترح عليها وكأنه وجد الفرصة المُناسبة لوجوده معها: طيب تعالي معايا أوصلك، أنا كمان مروح.
رفضت بحرج وهي تهز رأسها بالنفي: ل. لأ شكرًا، أنا هرجع لوحدي.
أصر عليه بابتسامته التي لم تخفت أو تقل: يا بنتي تعالي هو أنا هعضك؟ المسافة لسه طويلة وأكيد مش هتمشيها كلها لوحدك.
خضعت أمام إصراره واستدارت لتصعد بجانبه، وما إن أغلقت باب السيارة، حتى وجدته ينطلق بها سريعًا، كان الصمت هو السائد بين كليهما، حتى قاطعه هو بسؤاله: بتدرسي إيه يا جنة؟
خدمة اجتماعية.
أجابته فعاد ليتسائل: مفكرتيش تشتغلي؟
نفت برأسها ضاحكة: لأ بفرهد بسرعة.
شاركها الضحك على إجابتها المُقنعة نسبيًا، فتسائلت هي باهتمام: وأنت مُتعلم؟
علم سبب سؤاله هذا، تظنه جاهل بسبب عمله مع أبيه، لكنه أجابها بالحقيقة قائلًا: آه يا ستي مُتعلم، ومعايا بكالريوس تجارة.
طالعته بانبهار أثناء استدارتها له نصف استدارة، وسألته بدهشة: ومفكرتش تشتغل في مجالك؟
أجابها عابثًا بنفس إجابتها: لأ بفرهد بسرعة.
ضحكت بصخبٍ أثناء تقليده لنبرتها في الحديث، وعلت ضحكاته هو الآخر، لكنها ابتلعت بقية ضحكاتها بصدمة حينما على رنين هاتفها يُعلن عن اتصال مُغنيًا:
دلعني في حبك دلعني. دا أنا قبلك ياما قلبي وجعني،
شهقت وهي تنقض على هاتفها تمنع صوته من الخروج وأغلقته كُليًا، بينما وضعت كفيها على وجهها تُخفيه بخجل وهي تستمع إلى ضحكاته الصاخبة التي صعدت رغمًا عنه، وبعد مُدة استمعت إلى صوته الماكر وهو يقول:
عيني.
دلف قاسم إلى غرفة المرضى فوجد صغيره مُتعلقًا على ذراع إحدى الشباب، فتمتم بلامبالاة أثناء فحصه ل روان: خليه معاك يا كابتن لحد ما أخلص الله يكرمك.
نظر بدير ل قاسم بتعجب وأردف بغباء: هو حضرتك مين؟
إلتوى ثُغر قاسم والذي تشدق بتهكم: معاك الدادا، أي خدمة سيادتك؟
ضرب هارون ابنه وهو يسب غباءه، وبعدها نظر إلى قاسم مُتحدثًا بابتسامة صغيرة: متأخذناش يا دكتور سيبك منه، المهم طمني على البنات، ممكن يطلعوا إمتى؟
نظر قاسم لتحاليل روان بين يده، وبعد ثوانٍ رفع ناظريه له وهو يتحدث بعملية جادة: الآنسة روان ممكن تطلع النهاردة لو تحب، إصابتها مش خطيرة.
استمع إلى صوت روان المعترض وهي تقول: لأ أنا إصابتي خطيرة، إيش فهمك أنت؟
تشنج وجه قاسم ساخطًا والذي أجابها بحنق أثناء اعتداله في مكانه: لأ ما أنا مدرستش سبع سنين طب واتنين تدريب عشان تيجي حضرتك وتعدلي على شغلي!
قلقت روان من جديته المفرطة، فابتلعت ريقها بقلق وهي تعتذر له: يوه بهزر معاك يا دكتور!
تركها قاسم لاويًا شفتيه، ثم اتجه نحو تسنيم يتفحصها بعناية لعدة دقائق، استدار جهة هارون الذي ينتظر حديثه باهتمام، فتحدث قاسم قائلًا: الآنسة تسنيم كويسة وبخير، لكن للأسف حالتها متسمحش إنها تخرج النهاردة، ودا لإنها نزفت دم كتير كان ممكن يسببلها مشكلة لقدر الله، عشان كدا هتضطر تفضل يومين كمان هنا تحت الملاحظة.
أومأ له الجميع وهم ينظرون جهة تسنيم بشفقة، فعاد بدير ليتسائل بقلق على حالتها الواهنة: طيب هي مالها كدا؟ من ساعة ما فاقت وهي نايمة ومتلوهة.
رد عليه قاسم بعملية: طبيعي جدًا في حالتها، خصوصًا مع كمية الأدوية والمسكنات اللي هي خدتها.
أومأ له براحة، فاتجه إليه قاسم وحمل ابنه المُتعلق من يد بدير، ثم شكره ضاحكًا: شكرًا على الخدمة الإنسانية دي، عن إذنكم.
قالها ثم اتجه نحو الخارج وهو يُمسك ب مغيث من ياقة ثيابه كأنه لِص ملابس أو ما شابه!
استمع إلى رنين هاتفه فاتسعت ابتسامته على آخرها ثم أجاب بشغف: أيوا يا هولا؟
أتاه صوت أهلة من على الناحية الأخرى تُجيبه بابتهاج: ألو يا عيون وقلب هولا من جوا، مغيث حبيب قلبي عامل معاك إيه؟
نظر قاسم ل مغيث الذي يُسدد له نظراتٍ حانقة، ثم أجابها بابتسامة مُتسعة: قاعد بياكل بيتزا وبيشرب بيبس أهو، المهم أنتِ عملتي إيه النهاردة؟
أجابته ضاحكة: استحميت.
رد عليها مُبجلًا عملها العظيم: كفاءة.
حل الليل على الجميع وأصرت روان على المكوث مع تسنيم حتى لا تتركها وحدها، بينما ذهب الجميع على وعد القدوم صباحًا، خطت أقدامهم في حارتهم فوجدوا الأنوار موضوعة ومعلقة في كل مكان، وفي المنتصف يوجد شاشة كبيرة للغاية كما في قاعات السنيما الضخمة، وجميع أهالي المنطقة مُتجمعين أمامها.
قطب هارون ما بين حاجبيه بتعجب وهو يتسائل: هو فيه فرح ولا إيه؟
أتته الإجابة من يعقوب الذي تحدث بشر: ومش أي فرح يا حَج، أنا عايزك تتفرج بس.
شعر هارون بالريبة حيال نبرته الغامضة، وما زاد قلقه هو ذهاب بقية أبنائه خلفه، وعلى بُعدٍ ليس بالقريب أو بالبعيد منهم، رأى الجميع عمران قادم ويُمسك أحد الرجال بطريقة مُهينة ووجهه مدمي، وخلفه يأتي حمزة مُمسكًا بالفتاة التي أوقعت يعقوب في فخها، و بدران قام بجلب عمير من منزله بالإكراه حتى يُشاهد العرض، وكل هذا على مرأى ومسمع من الجميع.
صعد يعقوب على الناصية وصاح بعلو صوته وهو يوزع نظراته على الجميع: طبعًا فيديو فضيحة يعقوب هارون رضوان وصل للكل على تليفوناتكم، وكلكم ظنيتوا بيا السوء وإني ماشي مشي بطال، شكيتوا في تربية الحج هارون اللي لحم كتافكم من خيره ومحدش دافع بكلمة واحدة حتى! بس أنا هنا دلوقتي عشان كدا، عشان أثبت إن الحج هارون عِرف يربي ولاده صح وإن كل اللي حصل هي لعبة وسخة من حد أوسخ.
صمت يرى معالم الجميع التي تحولت إلى التعجب والدهشة، خاصةً عمير الذي تصنم جسده من هول الصدمة! التقطت عيني يعقوب. ذكرى وعائلتها يقفون ويتابعوا ما يحدث بذهول، ارتفعت صفارة من فمه ومن بعدها تحولت جميع الأنظار إلى الشاشة الموضوعة في المنتصف، والذي كان يظهر بها أحد رجال عمير وهو يعترف على ألاعيبه:.
ال. المعلم عمير هو اللي عمل كدا، هو اللي بعت زينة للمعلم يعقوب عشان. عشان تقضي معاه ليلة ويصورهم وينشر الفيديو في المنطقة. بس. فيه بنت جت دافعت عنه و زينة أول ما شافتها جريت، وقتها المعلم يعقوب مكانش في وعيه وهي حاولت تسنده وتساعده بس معرفتش. بس كان فيه واحد بيصورهم وبعدها الفيديو اتبعت لواحد تاني علشان يفبركوا. بس والله العظيم أنا مليش ذنب.
كان الرجل يتحدث بنهيج في مقطع الفيديو الذي عُرض أمام الجميع، وبعدها أشار يعقوب لأحدهم ثم قاموا بتشغيل مقطع فيديو آخر، وكانت المدعوة زينة هي من تتحدث به تلك المرة ببكاء:
أنا مليش دعوة، أنا طلبت اللي اتنفذ مني بالحرف الواحد وبعدها خدت حقي من المعلم عمير ومشيت على طول.
كانت علامات الإندهاش والإستنكار بادية بوضوح على وجوه الجميع، ومن بعدها علت الهمهمات بغضب، منهم من يسب عمير ومنهم من يطلب بمعاقبته، هبط يعقوب عن المسرح وأبصاره مُثبتة على عمير الذي يرتعش خوفًا، ثم شمَّر عن ساعديه وهو يهتف بفحيح: ودلوقتي جِه دوري إني آخد حقي.
ابتلع عُمير ريقه برعب وهو يعود بخُطاه للخلف، نظر للجمع من حوله فهتف باستنجاد: إلحقوني.
فكانت الإجابة من يعقوب كالمعتاد قائلًا بشر: هيلب يور سيلف يا روح أمك.
وكانت تلك هي النقطة الفاصلة قبل أن يهجم عليه يعقوب ويُمسكه من تلابيبه يهزه بعنف، ثم سدد لكمة قوية عرفت الطريق جيدًا إلى عينيه، وقدمه التي اتجهت إلى معدته تضربها بقوة، مما أدى إلى إنحنائه للأمام وصراخه بألم، فاستغل يعقوب هذا وهبط بكوعه على ظهره بضربة أوقعته أرضًا، لم يُشفق عليه، وإنما صعد فوقه وسدد له اللكمات المُبرحة إلى وجهه مرة أخرى حتى نزف الدماء من أنفه وفمه.
شعر بمن يسحبه إلى الخلف، لكنه كان كالمعمي وهو يُجازف لإبعادهم، لكن أخواته حاصروه من كل مكان حتى لا يذهب مُستقبله هباءًا وتضيع حياته إن قتله في لحظة غضب!
تحرك صدره بنهيج صعودًا وهبوطًا بغضبٍ عارم وهو يُراقب هرولة حامد العوضي إلى ابنه الجاثم كالجثة، وهُنا صاح بكل قوته بصراخ: مش قولتلك ربي ابنك يا حَج حامد بدل ما أربيهولك أنا؟ ورب مُحمد لو سابوني عليه دلوقتي لهقتله.
أتت قوات الشرطة بعدها وقاموا بإلقاء القبض على عمير ورجله وكذلك زينة التي تصرخ برجاء، ثم أخذوهم بأمرٍ من حمزة ومصعب اللذان يُتابعان ما يحدث بتشفي.
بينما يعقوب وقف في المنتصف وصاح بكل قوته: اسمعوا انتوا كمان كلكوا. اللي هيجيب سيرتي ولا سيرة الست ذكرى بكلام مش بطال هيكون مصيره زي مصير الكلب دا، والمكان اللي شِهد على فضيحته، هيكون هو نفس المكان اللي هنكتب فيه الكتاب بكرة قدام أهالي المنطقة كلها.
تفرقت الجموع وصعد الجميع إلى منازلهم، بينما ذكرى كانت في حالة يُرثى لها من القرار المُفاجيء الذي اتخذه يعقوب على بغتة، هل حقًا ستتزوجه غدًا؟
وفي منزل هارون، وقف عادل أمام كتلة مشتعلة من النيران وهتف بتبجح: أنا جاي آخد مراتي.
كانت بدور في تلك الأثناء تُجهز احتياجاتها في الداخل، فاقترب منه بادر حتى توقف أمام، ثم تحدث بكلماتٍ ذات مغزى: خُدها، بس ياريت تجهز أنت كمان عشان دورك جاي.
وكأن اليوم مر سريعًا وأتى اليوم التالي، حاول هارون بشتى الطرق مع رؤوف للموافقة بتلك الزيجة، وبالإكراه وافق رؤوف أخيرًا، و إلياس في الفترة الأخيرة يظل مختفيًا لفترات طويلة، وحينما علم بما حدث سعد لرد كرامة شقيقته.
وها هم الجميع يجلسون أمام المأذون لبدأ عقد القران، كانت ذكرى تشعر بأن وجنتيها تشتعلان من الخجل، هي الآن محط أنظار الجميع وجالبة للأنظار، فلقد تزينت بفستان رقيق من اللون النبيذي المُشتعل مع زينة وجه رقيقة.
لمحت أبيها يدلف للداخل ومعه أخيه وابني عمها! وهُنا كانت صدمتها عندما رأت فادي معهم! شعرت بالبرودة تسري بين أوردة جسدها والرعشة تُصيب كيانها، بحق الله ما الذي أتى به إلى هُنا؟ انمحت ابتسامتها كُليًا وحل محلها التوتر والقلق، ولم تنتبه إلى الشيخ الذي بدأ في عقد قرانها، الشيء الوحيد الذي رأته هي ابتسامة فادي الخبيثة لها في الخفاء!
استفاقت على صوت الشيخ الذي يسألها: موافقة يا بنتي على الزواج؟
طالعته ذكرى بتوتر وظلت صامتة لوقتٍ كبير أثار تعجب الجميع وأولهم يعقوب الذي حدجها بريبة، فأعاد الشيخ سؤاله مُجددًا: موافقة يا بنتي على الزواج؟
وأخيرًا خرج صوتها وقالت: موافقة.
وهنا هتف الشيخ بمباركة وبجملته المعتادة: بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
تعالت صوت الزغاريد من رضوى التي ضربت بتحذيرات والدها عرض الحائط وبيَّنت سعادتها بشقيقتها، وكذلك شاركتها جنة في إطلاق الزغاريد بفرحة عارمة.
هبت ذكرى من مكانها ثم نظرت إليهم بتوتر وتحدثت قائلة: ه. هروح الحمام أغسل إيدي.
قالتها ثم هربت من أمام الجميع بسرعة كالرياح، تابعها يعقوب بغموض، فبررت له والدتها بابتسامة صغيرة: عروسة ومكسوفة بقى.
كانت ذكرى تأكل الأرض من سرعتها، تريد الإبتعاد بقدر الإمكان عن هذا المكان والإختلاء بنفسها، لكنها شهقت بفزع عندما رأت آخر شخص تمنت رؤيته في تلك الأثناء، وهو فادي ابن عمها والذي أحاط بها من خصرها وتسائل بمكر:
ويا ترى بقى عريس الغفلة عارف إن الحلوة مش بنت بنوت ولا مستغفلاه؟