رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع
تبدأ مُعاناة الإنسان الحقيقية عندما يعي، يُدرِك، ويتثقف، أحيانًا يكون الجهل نِعمة لا نقمة، خاصةً وسط مُجتمع مليء بالمنافقين، ومن هُنا تبدأ مُجازفته مع الحياة، مُجازفة إن استمرت طويلًا؛ ستقضي على طموحاته وأحلامه، بل من الممكن أن تقضي على حياته بأكملها.
يجلس في مكتبه الصغير على مقعد وثير، وهو يرتدي جلبابه التي تُزيده وقارًا، وأمامه رجلٌ في مثل سِنه تقريبًا ينتبه لِمَا يقوله من حديث، ارتشف هارون بضعة قطرات من الشاي، ثم قال بهدوءٍ رزين: وأنت عارف يا حَج مِنعم إن العيشة بقت صعبة على الناس كُلها، فمش هنيجي إحنا ونزود الطينة بلة فوق راسهم!
طالع مِنعم صديقه بعدم رضا وهو يقول: بس يا هارون الخسارة كدا ممكن تبقى كبيرة، وإحنا عندنا عُمال في المجزر عايزين نقبَّضهم.
رد عليه هارون بقوله الواثق: وحق العمَّال محفوظ وهيوصلهم في نهاية كل شهر زي كل مرة.
علم مِنعم بأن الحديث معه لن يأتي بنتيجة، فحديث يعقوب واقتراحه لأبيه أعجبه بشدة، حين اقترح عليه بأن يُخفض من أسعار اللحوم عن بقية السوق لمُراعاة حالة الفقراء والغير مُقتدرين ماديًا، فاستقبل جميع التجَّار ذلك الخبر بالإعتراض والمقط، وآخرون بالغِل والحقد، وازداد ذلك حينما اتجه جميع السُكان لشراء اللحوم من جِزارتهم دونًا عن الآخرين.
وجد هارون وجه مِنعم عابس، فقرر التخفيف من وجومه بقوله الهاديء الممزوج بنبرة مُعاتبة أشعرت الأخير بالذنب:
وبعدين يا حَج مِنعم أنا مش متعود عليك كدا، دا أنت أول واحد كنت بتساعدني لما الموضوع يخص الناس المحتاجة، جاي تعارضني في دي بالذات؟ حتى أنت شايف بعينيك أهو، بسم الله ما شاء الله ربنا مبارك في رزقنا وبيكرمنا من وسعه أكتر من الأول كمان، أنت إيه اللي مزعلك بقى!
شعر مِنعم بالحرج من عتاب هارون الغير مُباشر له، فرفع أنظاره إليه، ثم رسم ابتسامة صغيرة على ثُغره قبل أن يقول بود: معاك حق في كل كلمة قولتها يا هارون، الظاهر إن الشيطان عماني عن حق الناس الغلابة.
ابتسم هارون بسعادة مُربتًا على فخذه، ثم قال: وأنا معاك يا صحبي وهبعد عنك وسوسة الشيطان، زي ما أنت كنت بتبعده عني زمان.
طالعه مِنعم بإمتنان، ثم تحدث بتذكر قائلًا: ربنا يستر بقى من رجالة السوق أصلهم مش ناويين على خير أبدًا، دا غير إن ولادك مش بيسكتوا عن حقهم.
رد عليه هارون بثقة: لأ متقلقش من الناحية دي، ولادي وعدوني إنهم مش هيتخانقوا تاني.
وما إن أنهى جُملته وانتظر إجابة الآخر، حتى جاءه صوت صبي القهوة والذي هتف بفزع: إلحق يا حَج هارون ولادك بيتخانقوا والدنيا قايمة نار برا.
طالعه مِنعم بضحكة مكتومة، فاستطرد هارون حديثه مُبررًا بنبرة ساخطة: وبما إن ولادي متربوش فهما مش بيسمعوا الكلام.
قالها ثم اتجه مُسرعًا نحو أبنائه الحمقى، وخلفه مِنعم الذي علت ضحكاته على ردة فعل هارون المُضحكة بالنسبة له.
وعلى الجانب الآخر، كان الجميع يُتابع العِراك الناشب بين أبناء الحاج هارون، ورجال الحاج حامد العوضي، كان عُمير ورجاله مُسطحين على الأرض أمام يعقوب وأخواته بعدما أبرحوهم ضربًا، إلتوى ثغر يعقوب بسخرية وهو يتقدم منهم خطوتين حتى أصبح أمامهم مُباشرةً، وبعتابٍ تسائل: يعني عاجبكم قِلة القيمة اللي انتوا فيها دي؟ كدا خليتوني أتنازل عن أخلاقي وأتخانق معاكم؟ أنا مش مسامحكم.
لمح عمران بطرف عينه أبيه الذي يتقدم منهم بملامح واجمة، صُدِم من وجوده فقرر مُساعدة أخيه عندما تقدم ووقف بجانبه، ثم صاح بهم بصوتٍ مليء بالقهر: حسبي الله ونعم الوكيل فيكم، أنا عمري ما هسامحكم، عُمري، سامعين!
وصل هارون إليهم ومعه صديقه مِنعم، وبالتأكيد استمعوا إلى حديثِ عمران الأخير، ومَن يستمع لحديثه يظن بأن وجوههم مليئة بالكدمات أو الخدوش، لكن ما رآه عكس ذلك تمامًا، فالأطراف الأخرى تكاد أن تفقد وعيها من شدة الضرب! تشنج وجه هارون بسخطٍ ثم رفع أنظاره لأبنائه يُطالعهم بغضب، وبتساؤل حاد أردف: إيه اللي بيحصل هنا دا؟
وهُنا تدخل مصعب على الفور، والذي هرول إلى أبيه وتحدث بنيرة جريحة: إلحقنا يابا، ضربونا واتلموا علينا، استغلوا طيبتنا وخَدونا على خوانة، إحنا عايزين حقنا يا حَج هارون.
نقل هارون أبصاره بين أبنائه السالمين تمامًا دون وجود خدش واحد في وجوههم، وبين عمير ورجاله المُتسطحين على الأرض ويتأهون بألم، وبتهكم ساخر تسائل بهدوءٍ أخافهم: هُما مين دول اللي ضربوكم؟
ليرد عليه بدران بمسكنة: عُمير ورجالته يابا.
جزَّ هارون على أسنانه بغضب أثناء لعنه لهم في سِره، لا فائدة، فأبنائه سيظلون هكذا حتى الممات، لا مجال للنقاش أو للإعتراض في قانونهم، العُنف أفضل الإختيارات بالنسبة لهم، وهذا ما سيُصيبه بالجلطة لا شك.
استدار هارون على صوت عُمير الذي استطاع الوقوف بعد عدة مُحاولات، ثم تحدث بصراخٍ وصوتٍ غاضب: أنا مش هسكت عن حقي يا حَج هارون و...
قاطع حديثه يد غليظة وُضعت على كتفه تضغط عليه بقوة، وتبعه صوت بدير الذي تحدث بعتابٍ مُصطنع: ليه كدا بس يا عُمير ياخويا؟ هو دادي معلمكش إزاي تتكلم مع الأكبر منك يا قليل الأدب؟
احتدمت عيني عُمير بغضب، ثم دفع كفه بعيدًا وعاد لينظر مرة أخرى نحو هارون الذي يُتابع الموقف بأكمله بصمت دون الرغبة في الحديث، فتحدث عُمير قائلًا بغضب يُحاول حجمه: أنا عايز حقي وحق رجالتي يا حَج هارون.
تدخل أحد السُكان بعد أن خرج عن صمته، ثم تحدث بصراحة: عمير ورجالته هُما اللي اتعرضوا لولادك يا حَج هارون، اللي عملوه فيهم دا رد فعل طبيعي بعد ما كانوا عايزين يضربوهم.
كان هارون يثق بذلك، لكن كثرة شِجاراتهم مع عُمير ورجاله تحديدًا سيجلب لهم المشاكل وسُمعة غير لائقة، وهو لا يحب ذلك.
طالع هارون الآخر بنظرة باردة ثم تسائل: إيه رأيك في الكلام دا يا عُمير؟
ضيَّق عُمير ما بين حاجبيه ثم تحدث باندفاعٍ غاضب: يا حَج هارون اللي بتعمله أنت وولادك دا ميصحش! انتوا كدا هتوقفوا حالنا وربنا ميرضاش بالظلم.
رد عليه هارون بتأكيد قائلًا: وعشان ربنا ميرضاش بالظُلم إحنا قللنا من سعر البضاعة بتاعتنا، وفي الأول وفي الآخر كل واحد حُر يعمل اللي هو عايزه في بضاعته، أنتِ مش هتشاركنا.
يعني إيه يا حَج هارون؟
تسائل بها عمير بسخط، ليأتيه الرد بسرعة، لكن ليس من هارون، بل من رائف الذي أتى لتوه وتحدث ببرود: ما خلاص يا عَسل! هو مش قالك أنت مش هتشاركنا ولا البعيد فِهمه على قده!
استدار عُمير على صوته، فاقترب منه رائف أكثر واضعًا كفيه داخل جيب بنطاله حتى توقف أمامه، واستطرد حديثه قائلًا بسماجة: ولو فِهمك على قدك أنا هفهمك، الحَج هارون قصده يقول اللي مش عاجبه يخبط دماغه في الحيط.
كوَّر عُمير قبضته بغضب وصدره مُشتعل بالغِل والحقد، وبخفوتٍ تمتم مُتوعدًا: ماشي. خليكم فاكرين إن انتوا اللي اختارتوا، ماشي.
أخرج رائف يده من جيب بنطاله ثم أشار له بأصابعه يودعه: مع السلامة يا بيبي، في رعاية الله.
رحل عُمير ورجاله وكذلك انفض المارة والسكان من حولهم، فلم يتبقى إلا رائف و هارون وأبنائه، اتجه يعقوب نحو رائف يحتضنه وهو يقول بمشاكسة: دايمًا موجود في الأوقات الصح ياض!
ضحك رائف بخفة ثم ابتعد قائلًا وهو يغمزه بمزاح: قلب الأم بقى.
إلتوى ثغر هارون بتهكم ثم تسائل بحذر: وجودك دلوقتي وفي الوقت دا ميجيش من وراه غير مُصيبة، اشجيني.
وبدون تردد تحدث رائف بإصرار: أنا عايز أشتغل معاك يا حَج هارون.
قدرك مكتوب، لا داعي للهرب.
سار بادر في ممر المدرسة مُسرعًا بخطوات واسعة حتى يصل إلى الفصل، لقد أتى مُتأخرًا اليوم بسبب المواصلات المُزدحمة كالعادة، وها قد مرت ربع ساعة كاملة من الحصة الثانية، وصل إلى الفصل وفتح الباب على بغتة ظنًا منه بأنه فارغ من المُعلمين، لكنه انتفض بفزع عندما استمع إلى صوت إحداهن تصرخ به بغضب: اطلع برا وأقفل الباب.
وك ردة فعل طبيعية قام بادر بإغلاق الباب تلقائيًا، وصدره يعلو ويهبط بفزع، مرت الثواني ومازال يستوعب ما حدث، وبعدما أدرك الموقف بأكمله فتح حدقتاه على آخرهما وهو يهمس بصدمة: دي زعقتلي!
وبالداخل، حيث توجد تلك المُعلمة وهؤلاء الأطفال المساكين الذين يرتعشون أمامها، تحدثت وهي تكاد تلطم على وجهها من شدة الإنفعال: هو مش الدرس دا واخدينه كله ومراجعاه معاكم قبل كدا مرتين؟ فين المذاكرة بقى؟ لأ ما أنا مش ماشية النهاردة غير ما أعرف فين المذاكرة؟
تحدث أحد الطُلاب والذي يُعرَف ب دحيح الدُفعة: أنا مذاكر يا مِس سارة.
استدارت له سارة ثم تحدثت بسخط: بقولك إيه يا عم أينشتاين! إهدى كدا واصبر على رزقك عشان مولعش فيكوا كلكوا.
قالتها ثم نظرت لأحد الصِبية الذي يُحاول الإختباء خلف زميله الطويل، فنادت عليه بصوتٍ عالٍ قائلة: قوم أقف يا إبراهيم.
لطم إبراهيم على وجهه قبل أن يقف بملامح باكية، وبخفوتٍ تمتم: نعم يا أبلة؟
أجابته سارة بابتسامة صفراء: أنعم الله عليك يا قلب الأبلة، تقدر تقولي أنت في سنة كام يا إبراهيم؟
تبدد القلق من على وجه إبراهيم ظنًا منه بأن هذا هو السؤال فقط، ليُجيبها على الفور بابتسامة واسعة: تانية ثانوي يا أبلتي.
همهم سارة بخطورة وهي تُردد كلمته الأخيرة: هممم. أبلتي! طيب ال 4×4 بكام يا هيما؟
أجابها الأخير بعنهجية ونبرة واثقة: ب تمانية.
صفقت سارة بيديها بقوة وهي تهتف بسعادة زائفة: الله! إيه الشطارة دي؟ إيه الجمال دا؟ إيه الحلاوة دي؟
وعلى غير المُتوقع، وجدت سارة جميع الطُلاب يُصفقون معها لتحية زميلهم المجتهد والمُتفوق، لتزداد سعادة إبراهيم الذي ازداد تكبره وغروره أكثر، وكأنه حصل على المركز الأول للتو!
توقفت سارة عن التصفيق تُطالع الجميع بتشنج، مهنة التدريس تلك لن تخرج منها سالمة بالتأكيد، أوقفتهم بصرختها الغاضبة وهي تضرب بالعصى الغليظة على الطاولة الخشبية بقوة: بس! اخرسوا خالص، ما هو دا أخرة التعليم الحكومي، برا و يا إبراهيم، اتنيل أقعد يا إبراهيم، والمرة الجاية متجيش غير ومعاك ماما وبابا يا إبراهيم، عشان عايزاهم في كلمة سِر يا إبراهيم، سامعني ولا لأ يا إبراهيم؟
شعر إبراهيم بالريبة حِيال تكريرها لإسمه بتلك الطريقة المُخيفة، لكن وبالرغم من ذلك أومأ لها بالإيجاب، وجلس على مقعده مرة أخرى، فيما رفع آينشتاين كما تُلقبه سارة إصبعه قائلًا: أجاوب أنا يا مِس؟
أمسكت سارة موضع قلبها بتعب وهي تقول بخفوت: جاوب يا آينشتاين، ما هو أنا مليش غيرك ينصفني هنا في الفصل، ال 4×4 بكام يابني؟
وبسرعة أجابها الآخر بثقة: ب 20.
اعتدلت سارة في وقفتها كالملسوعة مُحدجة إياه بنارية، لم تنتظر لثانية أخرى قبل أن تحمل مُستلزماتها وتخرج من الفصل نهائيًا قبل أن تُصيح بصراخ: أبقى كلبة لو دخلت الفصل دا تاني.
وبالخارج. كان بادر مازال يقف مصدومًا من صراخها عليه، مُتصنمًا كالآلات يُراجع شريط الدقائق الأخيرة وما حدث معه، لكنه انتفض فزعًا عندما شعر بجسدٍ صغير مُكور يرتطم به، شهق وهو يلطم على صدره عندما وجد أن ذلك الجسد يعود لفتاة، وخصيصًا للمُعلمة سارة التي صرخت به منذ دقائق صغيرة!
نفض بادر ثيابه من لمستها وكأنها جرباء أو ما شابه، ثم رفع أنظاره مُطالعًا إياها بنارية وهو يتحدث بضيق: أنا لا يُمكن أسكت عن المهزلة اللي حصلت من شوية دي، هقدم فيكِ بلاغين لمدير المدرسة، الأول بسبب وقاحتك معايا وصُراخك فيا، والتاني بسبب طريقة تعاملك العنيفة مع الأطفال.
وبسوقية أجابته سارة وهي تُشيح أمام وجهه بلامبالاة: ياخويا بركة، يكش أترفد من أم دي مدرسة وأخلص بقى.
قالت جُملتها ثم ذهبت، تاركة إياه ينظر في أثرها بدهشة، تلك الفتاة وقحة وهو لن يصمت على ذلك أبدًا، استفاق على صوت صراخ الطُلاب من الداخل، فدلف إليهم للبدأ في حصته التي شارفت على الإنتهاء تقريبًا!
يجب عليك التخطيط قبل الإقدام حتى لا تتعثر، وإن تعثرت فلا بأس، فجميعنا تعثرنا، ونتعثر، وسنتعثر.
جالسٌ هو أمام المُتهم، يستمع لقضيته وتبريراته التي رققت قلبه، مصمص حمزة على شفتيه وهو يقول بحزن لما استمع إليه: يا كِبدي!
أخفض المُتهم رأسه بقهرٍ وهو يستطرد حديثه قائلًا: قولتلها أنا مبحبش الخيانة يا بوسي، بس بوسي خانتي.
ليُعيد حمزة فعلته السابقة مُتمتمًا بشفقة: يا كِبدي!
فأكمل الأخير حديثه بعد أن تنهد بثقل: ولما خانتني أنا مستحملتش، قُومت وأنا كُلي ألم وحزن، وفي إيدي السكينة، وبعدها قتلتها، قتلتها وعيوني مليانة دموع.
وللمرة الثالثة على التوالي يهتف حمزة بتأثر: يا كِبدي!
كانت ملامح وجه المُتهم حزينة للغاية، لكن داخله يرقص طربًا ظنًا من أن حمزة يُصدقه، لكن ما لم يكن في الحُسبان، هو انتفاض حمزة من مكانه فجأة وانقضاضه عليه، فزع الرجل ناظرًا إليه بخوف، فيما أمسك به حمزة من عنقه يضغط عليه بقوة كادت أن تؤدي إلى إختناقه، وبفحيح مليءٍ بالشر تمتم حمزة قائلًا:
بتسرح بيا يا روح أمك؟ دا أنا الحكومة يالا.
فتح المُتهم فاهه للتنفس لكنه لم يستطيع، حاول إبعاد كف حمزة المُطبق فوق عنقه وهو يقول بصعوبة بالغة: ه. هموت يا باشا. هموت.
خفف حمزة قليلًا من ضغطه فوق عنقه وهو يتسائل بشر: مين اللي وراك يالا؟ وقتلتها ليه؟
لم يتحدث الرجل بكلمة واحدة، ورغم صعوبة موقفه فضَّل الصمت دونًا عن الحديث، ابتعد عنه حمزة فجأة كما اقترب فجأة، وبصوت عالٍ نادى: يا عسكري!
مرت ثوانٍ معدودة ودخل العسكري مُسرعًا، قائلًا وهو يُؤدي تحيته العسكرية: تمام يا فندم!
أشار حمزة للرجل أثناء تشميره لأكمام قميصه إلى ساعديه وبإبتسامة خبيثة تشدق بتوعد: خُد العسل للحبس الإنفرادي لحد ما أجيله أنا.
أمرك يا حمزة بيه.
قالها العسكري قبل أن يأخذ المُتهم ويجره خلفه إلى غرفة الحجز الإنفرادي، يبدو أن أيام عذابه قد بدأت للتو، وعلى يدِ مَن؟ حمزة هارون رضوان.
طقطق حمزة رقبته بعد رحيله، ثم همس باستمتاع: شكلها هتبقى ليلة صبَّاحي.
قالها ثم ذهب خلف العسكري، وخصيصًا نحو غرفة الحجز الإنفرادي، يبدو أن مُتعته وفقرته المُفضلة ستبتدأ للتو!
حياتك وترتيباتك ستتماشى مع نواياك، سواء أكانت بالحسنة أو بالسيئة، فالحياة عبارة عن دائرة مُغلقة تدور في مدارات مُنتظمة، فيعود إليك رصيد أفعالك من جديد.
دخل عادل منزله مُستندًا على والدته هالة، بعدما سمح له الطبيب بالخروج بشرط عدم التحرك بكثرة حتى لا يُفتح جرح رأسه مُجددًا، إرتمى على الفراش وهو يتأوه بإنهاكٍ، فجلست بجانبه والدته التي ربتت على كتفه وهي تقول بمواساة: إهدى وارتاح يا حبيبي لحد ما أعملك لُقمة تُرم بيها عضمك.
عارضها عادل بقوله المُنهك: لأ أنا مش جعان يامَّا، سيبيني أنام دلوقتي وانزلي أنتِ تحت.
قطبت هالة جبينها بتعجب وهي تسأله باستنكار: أنزل تحت وأسيبك في شقتك هنا لوحدك؟
استنكر عادل حديثها فرد عليها على مضض قائلًا: وهو أنا عيِّل صغير ياما؟
ردت عليه مُسرعة: لأ طبعًا يا حبيبي، دا أنت راجل وسِيد الرجالة، أنا بس مش عايزة أسيبك لوحدك لتعوز حاجة كدا ولا كدا!
أجابها أثناء إغماضه لعينيه بانهاك: لأ مش هعوز حاجة يامَّا، سيبيني أنتِ دلوقتي بس وأنا هبقى كويس.
وافقت هالة على تركه بدون رضا، فهبت من مكانها وخرجت من غرفته، ومن ثَم خرجت من المنزل بأكمله، والذي من المُفترض منزل الزوجية الخاص به وب بدور.
عاد بذاكرته حين ضربه لها عندما اكتشفت مُكالمة إحداهن على هاتفه وتهديدها له بالفضيحة، فلم يجد مهربًا سوا إبراحها ضربًا حتى تخاف أو تصمت، لكن ما فعلته عكس ذلك تمامًا، حينما وجدها تُمسِك بإحدى العُصي الغليظة، ثم هبطت بها فوق رأسه ليسقط بعدها على الفور غارقًا في دمائه، ولولا قدوم والدته على صوت صراخه، لكانت أنهت حياته تمامًا.
جز عادل على أسنانه بحقدٍ عقب تذكره، لكنه تصنم محله فجأة عندما استمع إلى صوت غريب يأتي من أركان الغُرفة، وصوت آخر يأتي من خزانة الملابس خاصته! نظر حوله بريبة علَّه يلمح شيئًا لكن لا شيء، استند بكفيه على الفراش واعتدل ببطئٍ ثم نظر إلى الجهة التي يأتي منها الصوت، فوجدها الخزانة المُغلقة.
ابتلع ريقه بقلق، وبتسللٍ قام بالوقوف على مهل حتى لا يُؤذي جرح رأسه، واتجه نحو الخزانة، وقف أمامها ثابتًا لعدة ثوانٍ، عقله يُصوِّر له بأن هناك أشباح سكنت في المنزل بسبب هجرانه له ليومين كاملين، نفض تلك التراهات عن رأسه، وعلى بغتة قام بفتح بابيّ الخزانة، ومن بعدها صُمَّت كل الآذان بسبب صراخه الذي ارتفع فجأةً بفزع، وانتفاض جسده بعيدًا ليرتطم بالأرض بسبب خوفه.
أتت إليه والدته مُهرولة ومعه شقيقته التي أتت لتوها، والخادمة تقف تُشاهد ما يحدث بأعين مُرتعبة، شهقت هالة بفزع وهي تلطم على صدرها بعد أن رأت ابنها هكذا، انحنت بجانبه ثم سألته بهلع وهي تسنده من ذراعه: إيه اللي حصل؟ إيه اللي جرالك يا ضنايا؟
كانت أنظار عادل مُثبتة على الخزانة برعب، فحولت شقيقته رِناد أنظارها لرؤية ما يُطالعه، فشهقت هي الأخرى بفزع قائلة: ت. تِعبان. تِعبان كبير يامّا إلحقي!
نظرت هالة إلى ما تُشير، فانتفضت هي الأخرى مُبتعدة عن الخِزانة ومعها رِناد، فيما تركن عادل مُتسطحًا كما هو على الأرض الصلبة!
تشنج وجه عادل بسخط وصاح بهم صارخًا وهو يبتعد بذراعيه: هو أنا بقولك يامَّا عشان تجري وتسيبيني؟ ما تسنديني على الأقل واجري!
ردت عليه هالة التي كانت مُنكمشة مع ابنتها الخائفة: كان على عيني يابني بس العُمر واحد.
أمسك عادل بجُرح رأسه التي اصطتدم بعنفٍ أثر وقعته المُفاجئة، استدار ببطئٍ يبحث عن شيءٍ يقضي عليه به؛ فوجد تلك العصى الغليظة التي ضربته بها بدور موضوعة في أحد الجوانب، ورغم غيظه وسخطه من الأمر بأكمله، إلا أنه اتجه إليها وأمسكها على مهل، ثم ذهب ناحية الخِزانة وهبط فوق رأس الثُعبان الكبير عدة مرات للقضاء عليه.
اعتدل في مكانه وصدره يعلو ويهبط بنهيج، لقد بدأ الدوار يُهاجمه بسبب إنفعاله، ضيَّق عيناه باستغراب وقد بدأت الشكوك تحوم داخل رأسه الصغير عقب رؤيته للخزانة فارغة تمامًا من جميع الثياب، استدار ناظرًا جِهة الخادمة التي كانت تُتابع ما يحدث ببعضٍ من الخوف، وبشكٍ تسائل: هو فيه حد دخل هنا وأنا مش موجود؟
ابتلعت الخادمة ريقها بريبة وهي تُوميء له بالإيجاب، رأت عيناه تتسعان بغضب فبررت بسرعة قائلة: الأستاذ عمران والأستاذ بدران إخوات سِت بدور هُما اللي جُم هنا عشان ياخدوا هدومها، وقالولي إنك عارف عشان كدا سيبتهم يدخلوا.
والآن علم سبب ما يحدث معه ومصدر تلك الأفعى اللعينة، احتدمت عيناه بغضبٍ جامح قبل أن ينظر للخادمة ويصرخ بها بعنف: هدومك تلميها دلوقتي ومشوفش وِشك في البيت دا تاني.
ارتعش جسد الخادمة التي قالت بخوف: بس يا سِيدي أنا...
قاطعها عادل بصراخه الحاد: قولتلك إطلعي برا.
هبطت دموع الخادمة رغمًا عنها ثم أومأت له بخضوع، وبعدها اتجهت مُسرعة نحو غرفتها لتُلملم حوائجها ومن ثَم ترحل.
وبالداخل. نظرت هالة إلى عادل بشك، فسألته وهي تقترب منه: شاكك في إيه يا عادل؟
طالع عادل والدته بحدة، ثم أردف وهو يضغط على أسنانه بحقد: عمران وبدران هُما اللي عملوا كدا يامَّا، وحقي منهم ومن عيلة هارون رضوان أنا مش هسيبه.
وهُنا قررت رِناد التدخل بقولها الساخط: أنت مُفتري وبجح ومعندكش دم يا عادل، أنا مش عارفة مراتك كانت مستحملاك إزاي وأنت فيك كل العِبر.
نظر لها كُلًا من عادل وهالة بغضب، فيما أردف هالة بنبرة مُتعصبة لتطاولها على شقيقها الأكبر: قصدك إيه يا بت أنتِ؟
ردت عليها رِناد بشجاعة مُغلفة بالضجر: قصدي أنتِ فاهماه كويس يامَّا، يعني مش كفاياه كان عايش على قفاها وهي بتصرف عليه! لأ وكمان لما عِرفت إنه بيخونها ضربها، ومن بجاحته عايز ياخد حقه اللي مش موجود منها ومن عيلتها كمان!
أتاها الرد مُسرعًا من أخيها على هيئة صفعة قوية هبطت فوق بشرة وجهها، شهقت رِناد بعنف عقب فعلته تلك، وازدادت صدمتها بعدما اقترب منها مُمسكًا إياها من خُصلاتها يجذبها بعنف وهو يصرخ بها بسباب وَقِح: يا بنت ال يا زبالة، أنا هوريكِ إزاي تتكلمي مع أخوكِ اللي أكبر منك كدا تاني، يا بنت ال يا.
وكأن ماسورة من الشتائم انفجرت من فاهه عقب حديثها الصادق الذي نطقت به، صرخت هالة بفزع ثم تدخلت للفصل بين أولادها وهي تصرخ ب عادل قائلة: خلاص سيبها أنت اتجننت؟ ابعد عنها بقولك!
قالت جُملتها الأخيرة بصراخٍ وهي تدفعه عنها بكل ما تملك، فعاد عادل للخلف وهو يرميها بنظراتٍ مُخيفة كالسهام، بينما رِناد هرولت بعيدًا وخرجت من المنزل بأكمله ودموعها تهبط باندفاع، ناهيك عن صوت شهقاتها الذي ارتفع بألم.
نظرت هالة إلى ابنها بغضب وهي تُصيح به بعصبية: ليه اللي أنت عملته في أختك دا؟ أنت جرا لمُخك حاجة؟
ردت عليها عادل بوقاحة: وأكسرلها دماغها كمان لو فكرت تتكلم كدا معايا تاني.
طالعته هالة بنظرة ساخطة مُحتقرة، قائلة قبل أن ترحل من أمامه: دي أختك يا عادل مش بدور، أنت فاهم!
قالتها ثم اتجهت إلى الأسفل لرؤية ابنتها، بينما تركته ينظر لأثرهم بسخط، سار نحو الفِراش ثم تمدد عليه بإرهاق وكأن شيئًا لم يحدث! وكأن قلبه قد نُزِع منه الرحمة مُسبقًا!
وقفت ذِكرى بجانب جنة أمام إحدى المحلات الموجودة بنفس المنطقة التي يقطنون بها، كانت مساحة المحل كبيرة لا بأس بها، تتسع إلى عدة أقسام تقريبًا، ارتدت جنة نظارتها الشمسية بعدما ألقت نظرة عابرة على المكان، ثم استدارت نحو ذِكرى التي ترتدي قُبعتها لتحميها من حرارة الشمس الحارقة، وتحدثت بحيرة:
أيوا أنا مش فاهمة، هتفتحي المحل دا لإيه بالظبط؟
نظرت إليها ذكرى بابتسامة واسعة، ثم أجابتها غامزة إياها بمشاكسة: خليها مُفاجئة مش دلوقتي.
ضيَّقت جنة عيناها بشك وهي تقول: والله شكلك هتسوحينا، المهم! قولتي لبابا؟
هزت ذكرى رأسها بالنفي وهي تقول بلامبالاة: لأ مش مهم، هو كل اللي يهمه إني ماخدش منه فلوس وأصرف على نفسي، والفلوس اللي أنا هفتح بيها المحل دا من حسابي، غير كدا أنا مش في دماغه أساسًا.
تنهدت جنة بضيقٍ ثم تمتمت بيأس: ربنا يهديه.
أخرجهم من حالتهم البائسة صوت العامل الذي أتى لتوه، يمد يده بالمفتاح إلى ذِكرى وهو يقول: اتفضلي المُفتاح يا ست ذِكرى ، وإن شاء الله بكرة هاجي أكمَّل شغل في المحل، وخلال يومين بالكتير هنخلصه.
تعجبت جنة من حديثه فتحدثت باستغراب: هتخلصه بالسرعة دي؟
رد عليها الأخير بابتسامة صغيرة: المحل يُعتبر كان نضيف وجاهز، إحنا خدناه وِش معجون والباقي أمره سهل إن شاء الله.
أومأت له كلتاهما، فشكرته ذِكرى بامتنان قائلة: شكرًا جدًا بجد.
العفو يا سِت ذِكرى .
قالها ثم ذهب هو والعُمال الذين أتوا معه، بينما ذِكرى نظرت نحو جنة وهي تقول: تعالي معايا ساعديني أقفل المحل، الدكان تقيل ومش بعرف أشده لوحدي.
أومأت لها جنة بالإيجاب ثم ذهبت معها لإغلاق الدُكان الحديدي، ارتفعت ذِكرى بجسدها واقفة على أطراف أصابع قدمها، ثم أمسكت به بصعوبة تحاول شده إلى الأسفل، لكن ولسوء حظها يبدو بأنه عالِق، و جنة كانت أقصر منها في القامة فكانت تنتظر منها أن تجذبه ولو قليلًا حتى تُساعدها، لكن فشل الأمر.
ابتعدت ذِكرى مُتنهدة بتعب، ثم قالت بنهيج: يالهوي! لأ دا الواحد صِحته على قده، ابقي فكريني نغير باب الدكان دا ونجيب بداله بوابة حديد أحسن.
جعدت جنة وجهها بألم بدأ بالإنتشار مُجددًا في قدمها اليُسرى، ابتعدت قليلًا ثم استندت بيدها على الحائط في مُحاولة منها للثبات وعدم إظهار الألم، لكن رغمًا عنها خرج تأوهًا بسيطًا من بين شفتيها، استمعت ذِكرى إليها فاقتربت منها بقلق وهي تسألها: مالك يا جنة؟ حاسة بحاجة؟
نفت جنة برأسها قائلة: لأ مفيش حاجة، أنا بس نسيت آخد دوا المُسكن بتاعي فرجلي وجعتني.
طب استني هحاول ألاقي حد يقفل المحل وبعد كدا نمشي سوا.
قالتها ذِكرى وهي تنظر حولها بحيرة علَّها تلمح أخيها، بينما جنة هتفت قائلة: لأ براحتك أنا همشي لوحدي، البيت مش بعيد يعني دا خطوتين.
نظرت إليها ذِكرى بتردد ثم طالعت المنزل الذي يبعد عدة خطوات قليلة وتمتمت بقلق: مُتأكدة هتعرفي تمشي لوحدي ولا آجي أسندك.
جعدت جنة وجهها بسخط ثم دفعتها بعيدًا وهي تقول بنبرة حانقة: ياختي قولتلك هعرف أروح لوحدي، أنتِ شيفاني مشلولة!
تشنج وجه ذِكرى أثناء مُتابعتها لسيرها على مهل بعيدًا عنها، وبصوتٍ هامس أردفت: صدق اللي قال. خيرًا تعمل، شرًا تلقى.
تمتمت بحديثها هذا ثم استدارت نحو المحل مرة أخرى وحاولت إغلاقه لعدة مراتٍ عديدة، تخشى أن تذهب وتتركه فتُسرق أرفف الزجاج الموجودة بداخله، وهي ليست معها أموال أخرى لشراء غيرها، أغمضت عيناها وهي تضع يدها على صدرها وتتنفس بعنفٍ، وبسخطٍ تشدقت:.
منك لله يا عمي، اللهي يارب تولع أنت وولادك بالفلوس اللي سرقتوها مننا.
استمعت إلى صوتٍ عنيف يأتي من أمامها فجأةً، شهقت بخضة وهي تتراجع تلقائيًا، لكنها هدأت قليلًا عندما رأت يعقوب يُغلق باب الدُكان، والذي بدوره تحدث بسخرية: شايفك عاملة زي الفرخة الدايخة بقالك ساعة فقولت أعطف عليكِ وأساعدك.
الفرخة الدايخة؟
كررتها ذكرى باستنكار، فأكد عليها مُومئًا بالإيجاب دون أن يتراجع، بل استطرد حديثه قائلًا بمسكنة: أنا مكنتش هساعدك على فكرة، بس أبويا هو اللي قالي، وأنا عشان طيب القلب ومُرهف الحِس قررت أساعدك.
إلتوى فم ذِكرى بتشنج وهي تُجيبه: لأ الله يكرمك والله، مش عارفة أودي جمايلك دي فين.
طالعها بنظرة عابرة، قبل أن يلتوى فاهه بابتسامة طفيفة، ثم رحل.
بينما ذِكرى نظرت لأثره بصمت، لا تعلم لِمَ هو غريب إلى هذا الحد، فعِراكه وشِجاره منذ قليل أظهر لها بأنه شخصية سيئة كثيرة المشاكل، ومساعدته لها الآن وعدم رفع أنظاره لها تعكس ذلك، إذن. أي شخصية هو؟
هزت كتفها بلامبالاة قبل أن تتجه نحو محلها لإتمام قفله بالقِفل الحديدي.
شعورك بالتيهة دائمًا، يجعلك كالغريق في دوامة تجمع بين الماضي والحاضر، شتان ما بينهما من فروق، لكن الندبات تظل واحدة على الأغلب!
سار عمران مع رائف صامتين، كُلٌ منهم في ملكوته الخاص وحيرته المُتشددة، استمع عمران إلى زفرة رائف المُعبقة بالضيق، فتوقف أمامه وتسائل بترقب: مالك يا رائف؟ متخانق مع جدك ولا موضوع نرجس اللي شاغلك؟
ابتسم رائف بسخرية وهو يُجيبه مُتهكمًا: هتصدق لو قولتلك الإتنين؟ حاسس إني في متاهة ومش عارف أخرج منها، ومهما حاولت بفشل وبرجع لنقطة الصِفر تاني.
كانا قد وصلا إلى إحدى الأماكن المُطلة على النيل، فجلس كلاهما على السور يُتابعان منظر الغروب الذي بدأ يحل عليهم، وهُنا تحدث عمران قائلًا بتعجب: مش جِدك عايزك تِرجع عشان الوِرث؟ وعمك عايز يشتري منك الوِرث دا؟ ما تبيعه يا عم وأهو تستفاد من الفلوس اللي هتطلعلك من وراهم وبالمرة تبعد عنهم طالما تاعبينك كدا!
صوت خرج من فاهِ رائف الذي همس بعدها بتخطيط: لأ، مش هعمل كدا، هما هناك عايشين في سوهاج وفي قرية ريفية، عمي عايز ياخد الأرض اللي من نصيبي عشان يضمها على أرضه ويفتح سوبر ماركت كبير، ووجود سوبر ماركت في قرية ريفية صُغيرة هيبقى مكسب كبير بالنسباله، وأنا مش عايز كدا، أنا عايز أحرق دمه وأشوفه وهو متعصب ومخنوق، بتغسل من جوايا.
كان عمران يستمع إليه بانتباه دون مُقاطعته، وحين انتهى؛ وضع كفه لا قدمه وهو يقول بمؤازرة: أنا عارف يا رائف إنك شوفت منهم كتير، وعارف إنك بتكرههم، وبصراحة دا حقًا، وطالما أنت مش بتأذيهم يبقى أنت كدا صح وفي التمام، يعني...
ترك جُملته مُعلقة مما أثار انتباه الآخر، فضيَّق رائف عيناه وهو يسأله بحذر: يعني إيه؟
وهُنا غمزه عمران بمشاكسة يدعمه في فعلته: يعني كيدهم براحتك يا صحبي.
ضحك رائف عاليًا، فرد إليه غمزته وهو يقول بنبرة ماكرة: من الناحية دي متقلقش، مش محتاج توصية.
ربت عمران على فخذه بفخر وهو يقول: جدع ياض.
ابتسم له رائف باتساع، فعاد عمران ليتسائل بانتباهٍ زائد: طب و نرجس؟ هتعمل إيه مع مرات أبوها؟
رد عليه رائف بنبرة ماكرة وأعين شاردة مُتوعدة: لأ دي بقى سيبها عليا، حسابها معايا هيكون عسير.
الجميع يتحد على مُغادرتي، حتى جُدران غُرفتي، أضحت باردة حِيال سماعِها لمُعاناتي.
كانت رحمة شقيقة زهراء تُمسِك بهاتفها بأيدٍ مُرتعشة، وعلى فاهها ترتسم ابتسامة مُتوترة أثناء تحدثها مع ابن عمها على الهاتف، فقالت: ال. الحمد لله يا مروان كلنا كويسين، أنت عامل إيه؟ و. و عبير؟
قبضت على كفها بقوة أثناء نُطقها لإسم الأخيرة غصبًا، وكأن شفتيها ترفض تفوهها باسمها الخائن، أتاها صوت مروان من الناحية الأخرى وهو يتشدق بابتسامة واسعة: الحمد لله يا رحمة أنا بخير، و عبير لسه مكلمها إمبارح كويسة الحمد لله، خلينا فيكِ أنتِ، وحشاني وواحشني القعدة معاكِ.
ورغمًا عنها تكونت العبرات داخل جفنيها، تود أن تصرخ به وتُعنفه، لِمَ لا يشعر بها ولا بدقاتها التي تُنادي بإسمه؟ أهو أصم لتلك الدرجة حتى لا يستمع لنبضاتِ فؤادها؟ أهو أعمى ليتجاهل لمعة عينها؟ أم أنه بارد بلا مشاعر؟
أسئلة كثيرة دارت في تلك الأثناء داخل عقلها منعتها من استماعها لندائه المُتكرر باسمها، لكن فزعت مع ندائه الأخير الصارخ بها، بعد مُحاولاتٍ عديدة من الهدوء: أنتِ يا كائن يخربيت سنينك الباقة هتخلص.
ارتسمت ابتسامة طفيفة على ثُغرها، وأجابته بخفوتٍ أثناء تجفيفها لوجهها من دموع عينيها: معفن.
رد عليها بشفاه مُلتوية وصوتٍ حانق: الله يسامحك يا ستي، قوليلي بقى! حال البيت عندك عامل إيه؟
وقفت رحمة من مكانها مُجيبة إياه وهي تتجه نحو شُرفتها: بدور بنت عمك هتتطلق.
استمعت إلى شهقته من الناحية الأخرى، وصوته يصعد بذهول: هتتطلق من جوزها؟
أجابته رحمة بسخافة تُشبه سخافة سؤاله: لأ من أبوها.
يا ظريفة يا بنت الظريفة.
رددها حانقًا، فردت عليه بسخط وهي تقول: ما أنت بتسأل أسئلة غبية شبهك يا مروان! يعني هي اللي بتتطلق هتتطلق من مين يعني؟
جعد مروان وجهه وهو يُجيبها بنباهة: يا بت كنت بتأكد.
وأديك اتأكدت أهو يا سيدي، المهم إنها هتتطلق من عادل عشان ضربها، وطبعًا عمي هارون مسكتش، وحتى لو سِكت فولاده عُمرهم ما هيسكتوا عن حق أختهم أبدًا.
أكد مروان على حديثها ضاحكًا: أيوا أيوا عارفهم، دول جبروت، بس والله وحشوني أوي، وكلكم وحشتوني.
استندت رحمة بكتفها على حافة الشُرفة، وبأعين مُلتمعة وصوتٍ راجٍ تحدثت قائلة: وأنت إيه اللي مانعك تيجي؟ مش كفاية غُربة بقى؟
ارتسمت ابتسامة خفيفة على ثُغره ورد عليها قائلًا: أقولك سِر بس توعديني متقوليش لحد؟
انتبهت حواس رحمة واعتدلت تستمع إلى ما سيقول، ثم أردفت بفضول: سِر إيه؟
رد عليها بصوتٍ عابث: إوعديني الأول إنك مش هتقولي لحد.
ردت عليه بنفاذ صبر: يا عم مش هقول.
انتظر لثوانٍ قليلة زادت من فضولها، وتحدث بعدها بما جعلها تصرخ فرحًا: أنا هاجي الأسبوع الجاي.
وبتلقائية شديدة صرخت بسعادة وهي تسأله: إحلف كدا وحياة أمك!
قهقه مروان عاليًا على ردة فعلها المُتحمسة، ثم قال بسعادة: آه والله، كنت ناوي أعملهالكم مُفاجئة بس مبعرفش أخبي عليكِ حاجة.
شعرت رحمة بفؤادها يطرق بين جنبات صدرها بعنف، وبدون وعي تحدثت هامسة: أحلى مُفاجاة والله العظيم.
ابتسم مروان باتساع وكاد أن يُجيبها، لكنه استمع إلى صوت أحدهم يُناديه، لذلك تحدث إليها آسفًا: سلام دلوقتي يا رحومة لحد ما أكلمك تاني.
مع السلامة.
قالتها بهمسٍ سعيد، ها قد عادت الحيوية إلى وجهها مرة الأخرى، وإن قالت بأن هذا أفضل خبر قد استمعت إليه طيلة حياتها، لن تكذب، عشقته بكل جوارحها وهو جاهل، وجهل العاشق للمعشوق لهو عائل.
صرخاتٌ مُتألمة، وضجيجٌ مكتوم، تأوهٌ يعلو، وحِقدٌ مزروع، مشاعر مُختلطة بين الطرفين، والمقصود بالطرفين هُما حمزة والمُتهم.
ابتعد عنه حمزة بعد أن أبرحه ضربًا، كان غضبه يعمي عيناه بسبب عِناد الآخر على عدم البوح، تحرك صدره صعودًا وهبوطًا أثر المجهود العنيف الذي بذله، وبنهيجٍ تحدث مُهددًا: ها يا عبدالله؟ هتعترف ولا لأ؟
مال عبدالله على جانبه غير قادرًا على التنفس بطريقة صحيحة، وبصعوبة شديدة تمتم: م. مش. هقد يا باشا. ه. هيقتلوني.
اقترب منه حمزة خطوتين، ثم جلس كالقرفصاء أمامه ليكون على مواجهة منه، وبصوتٍ هامس مليء بالشر تحدث قائلًا: ما هو أنت لو مقولتليش مين اللي وراك هقول إني عِرفت منك، وأنت عارف إن الجواسيس موجودة في كل مكان، وقتها فعلًا هيقتلوك.
اتسعت حدقتي الآخر بفزع، ليبتسم حمزة ابتسامة صغيرة لم تصل لعينيه وهو يُكمل حديثه: لكن لو قولتلي أوعدك إني هحميك منهم ومش هيقدروا يوصلولك.
رفع عبدالله أنظاره له يُطالعه بتردد، فعلم حمزة أن دهائه وحيلته الكاذبة عليه قد صدقها وبجدارة، وازدادت ثقته حينما تحدث عبدالله بعد ثوانٍ عديدة من التفكير قائلًا بمزيجٍ من الخوف والريبة: ه. هقولك يا باشا.
وبالخارج.
وصل مصعب إلى القِسم مُتأخرًا كعادته وهو يُصفر باستمتاع، اتجه نحو مكتب أخيه لكنه وجده فارغًا، قطب جبينه بتعجب ثم استدار لينظر للعسكري وتسائل باستغراب: أومال فين حمزة يا عسكري؟
أجابه العسكري باحترام: حمزة بيه في الحبس الإنفرادي مع المُتهم يا فندم.
وبهمسٍ خافت تمتم في سِره: مُتهم؟ هو قرر يشتغل ظابط بجد ولا إيه؟
طالعه مرة أخرى وقال: طيب لما يجي بلغه إني جيت وخليه يتصل عليا.
أدى له العسكري التحية وهو يقول بانتباه: تمام يا فندم.
رحل مصعب من أمامه واتجه نحو مكتبه المُجاور لمكتب أخيه، أغلق الباب خلفه ثم اتجه نحو المقعد وارتمى عليه وهو يتنهد براحة، وكأنه جاء ليلهو لا ليعمل!
استمع إلى طرقة خافتة على باب مكتبه، فاعتدل مُتأففًا بضيق وهو يقول ساخطًا: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، هو الواحد مش هيعرف يرتاح في حياته أبدًا؟ حتى شُغله مش هيعرف يتقاعص فيه شوية؟
أنهى تذمره لذاته ثم تحدث بصوتٍ عالي: أدخل.
دخل العسكري عقب سماحه بالإذن للدخول، ثم أردف باحترام وهو يؤدي تحيته العسكرية: فيه واحدة عايزة سيادتك برا يا مصعب باشا.
وقبل أن يرفض مصعب طلبه، وجد تلك الغبية المدعوة ب روان تدخل فجأةً دون السماح لها، وعلى ثغرها ترتسم ابتسامة بلهاء واسعة وهي تقول: مصعب بيه إزيك يا فندم، أكيد فاكرني صح؟ أنا روان إسماعيل من جريدة حنتيرة دلعني دوت كوم.
أغمض مُصعب عيناه بقوة يُحاول حجم غضبه، فيما استعجبت هي لفعلته وتسائلت بتعجب أثناء إقترابها منه: أنت نِمت يا فندم ولا إيه؟
منعها العسكري من الإقتراب أكثر بغلاظة، ففتح مصعب عيناه آمرًا إياه بصرامة: سيبها يا عسكري واُخرج واِقفل الباب وراك.
أطاعه العسكري باحترام، وبالفعل خرج مُغلقًا الباب خلفه، بينما هي تقدمت أكثر وهي تتحدث بنبرة مُعاتبة: رئيس الجريدة بهدلني المرة اللي فاتت على الأخبار اللي حضرتك إديتهالي يا فندم، وقالي إن حضرتك أهبل عشان تديني الأخبار دي.
ضيَّق مُصعب عيناه بغضب أثناء سؤاله لها: قال إني أهبل؟
أومأت له روان بتأكد وهي تُعدِّل من وضع نظارتها الطبية، ثم أكملت حديثها قائلة بجدية: وقال إن الأخبار دي مُثيرة للضحك من للجدل، فأنا جاية آخد من حضرتك أخبار مُثيرة للجدل وتوديني في ستين داهية تشيلني، يمكن يموتوني المرادي وأخلص.
وبشرٍ تسائل مصعب: مين رئيس الجريدة دي؟
أجابته روان ببساطة: بابا.
حسنًا مُصعب، لا داعي لتتقمص الدور إلى تلك الدرجة، عاد إلى طبيعته وهو يتسائل بتشنج: أبوكِ؟ أنتِ متأكدة إنه أبوكِ ولا جوز أمك؟ أصل محدش بيسلَّم أبوه تسليم أهالي كدا.
عادي عادي، أصل أنا دايمًا مودياه في داهية وجيباله مشاكل من كل مكان، مجاتش عليك يعني.
إلتوى ثغر مصعب بابتسامة مُتهكمة أثناء قوله المُستنكر: ونِعمَ التربية ياختي، ونِعم التربية يا ضنايا.
تجاهلت روان سخريته منها، وجلست أمامه مُتحدثة بحماس: ها؟ هتديني أخبار مُثيرة للجدل؟
بس متجيش تعيطي في الآخر!
تفوه بها بحذر، لتنفي على الفور بحديثها الواثق: لأ لأ متقلقش يا فندم، أنا قدها.
ارتسم الخبث على وجه مصعب، والتمعت عيناه بمكرٍ خطير، فتحدث هو بنبرة غامضة: ماشي يا ستي، اكتبي عندك...
خرج حمزة من غرفة الحجز وهو يُصفر باستمتاعٍ رهيب، أخذ ساعة يده من العسكري الذي يقف في الخارج، فارتداها أثناء حديثه الصارم والمؤكد: عايز حراسة مُشددة على الحجز دا، مش عايز دبانة تدخل أو تدخل غير بأمري أنا، مفهوم!
أدى الحارس التحية وهو يقول بصوتٍ قوي: أوامرك يا فندم.
تركه حمزة ثم اتجه نحو مكتبه، مزاجه في أقصى حالاته سعادة، وذلك بعد أن أخذ كافة المعلومات التي ستُساعده في الوصول إلى المُجرم الحقيقي، دخل مكتبه وجلس على المقعد بتروٍ، فوجد الحارس يدخل بعده قائلًا بصوت جاد:
مصعب بيه أخو حضرتك يا فندم جِه من شوية.
رفع حمزة أنظاره إليه، ثم تحدث بجدية: تمام يا عسكري، نص ساعة ولما يجي تاني ابقى دخله.
أومأ له العسكري باحترام، ثم غادر من أمامه وتركه يعود لشروده مرة أخرى، وبعد دقائق من الصمت المُخيف، تمتم مع ذاته بتلذذ: حسن طارق عاشور.
أخرجه من شروده صوت جَلبة عالية تأتي من الخارج، فهب من مكانه سريعًا ثم اتجه ليرى ما في الأمر، فتح الباب على بغتة، فوجد مجموعة من الشباب والفتيات يتوقفن بمظهر فوضوي، حوَّل أنظاره نحو العسكري وتسائل بنبرة صارمة: فيه إيه ومين دول؟
ردت عليه إحداهن بوجهٍ دامي مُتورم وهي تُشير لإحدى الفتيات: أنا عايزة حقي يا حضرة الظابط، الحيوانة دي بهدلتني زي ما أنت شايف كدا وأنا جاية أقدم فيها بلاغ.
نظر حمزة إلى الفتاة المقصودة، فصُدم عندما وجدها ابنة صديق أبيه، وخاصةً رضوى !
جالت عينيّ حمزة على الوجوه الغاضبة، ولم يخفى عليه نظراتهم المُتوعدة التي يرمونها إليها، من الممكن أن يأذوها إن لم يتدخل لحل الأمر بطريقة سِلمية للجميع، عاد ينظر ل رضوى التي تُطالعهم بأعين باردة، ثم أشار لها قائلًا بغلظة: تعالي ورايا. وانتوا خليكم هنا.
قال جُملته الأخيرة وهو ينظر للجمع الهائل الواقف أمامه، وبعدها دلف للداخل ومعه رضوى بعد أن أغلقوا الباب خلفهم، جلس حمزة على المقعد الخاص به وأشار إليها بالجلوس، وبعد أن جلست تحدث بصوتٍ هاديء: عارفة العيال اللي برا دول لو خدوا إجراء ضدك هيتحكم عليكِ ب قد إيه؟ مش أقل من ست شهور.
طالعته رضوى بنظراتٍ حادة وهي ترد عليه بشراسة: دول شوية زبالة، عمَّالين يتكلموا على عرض أختي وشرفها، وأنا أكيد مش هقف ساكتة وأنا سامعاهم بيقولوا كدا عنها.
وبترقب تسائل حمزة: معاكِ دليل؟
وبثقة شديدة أخرجت هاتفها من حقيبة يدها، ثم قامت بتشغيل التسجيل الذي قامت بحفظه عندما كانت في النادي، وكان محتواه كالتالي:
سِمعت إن حازم ساب جنة بنت خالتك يا تالين، دا حقيقي فعلًا؟
ردت عليها تالين وهي تنظر بطرف عينها نحو رضوى التي كانت تجلس على الطاولة المُجاورة لها، وأكدت حديثها قائلة: أيوا يا بيري دا حصل، وبيني وبينك أحسن إنه سابها.
ليه؟
فأجابتها الأخيرة بنبرة شيطانية وكذب: أصل مفيش راجل هيآمن لواحدة سلمته نفسها!
شهقت بيري بصدمة، وكذلك استعجب أصدقائها الكُثر المُتجمعين حولها، فجميعهم يعلمون أخلاق جنة وسيرتها الطيبة بين أعضاء النادي، وما تقوله تالين ما هو إلا إفتراء وكذب في عرض فتاة بريئة وشرفها، رأت تالين صدمتهم، ففتحت فاهها حتى تُكمِل كذبها والطعن في شرف الأخرى، لكن قاطع حديثها هو هجوم رضوى المفاجئ عليها.
من سوء حظ رضوى بأنها فتحت جهاز المُسجل حينما بدأوا بالحديث عن حازم وتالين، حتى تستمع إليه شقيقتها جنة وتُباشر بنسيانه دون أن تحن له مُجددًا، لكن حديثها جعل الدماء تغلي في أوردتها، فلم تشعر بذاتها إلا وهي تهجم عليها تجذبها من خصلاتها الشاردة، ثم أسقطتها أرضًا وبدأت بتكييل الضربات إلى وجهها وجسدها دون شفقة، وبالطبع لم يكف لسانها عن السباب، فلقد أُعميت بصيرتها واشتغل الغيظ والغضب داخل فؤادها:.
يا بنت ال يا زبالة، هي مين دي اللي سلمت ليه نفسها يا بنت العيلة الحرامية، ورحمة أمك ما هسيبك النهاردة يا حقيرة.
وانقطع المُسجل هُنا، بعدما حاول أصدقاء تالين إبعاد رضوى من فوقها، وبعد محاولات كثيرة للغاية نجحوا أخيرًا، لم تشعر رضوى بأنها كانت تجز على أسنانها وهي تستمع إلى التسجيل مرة أخرى، تريد أن تخرج إلى تلك القذرة وإبراحها ضربًا حتى يتعفن جسدها، بينما حمزة لم تكن حالته تقل عنها، فالحديث عن العرض والشرف لهو أمر حقير، وقبل أن يفتح فاهه للتحدث، وجد رضوى تُقاطعه بشراهة أفزعته وهي تهب من مكانه بغضب:.
حق أختي لو مجاش أنا هخرج أقتلها دلوقتي.
وضع حمزة يده على صدره بفزع، ثم أشار لها بالجلوس وهو يقول: يخربيتك خضيتيني! أقعدي واتهدي أنتِ بس وهعملك اللي أنتِ عايزاه.
جلست رضوى مكانها مُجددًا وصدرها يعلو ويهبط بنهيجٍ غاضب، بينما حمزة نادى على العسكري بصوتٍ غاضب: يا عسكري!
دخل إليه العسكري قائلًا باحترام: تمام يا فندم!
دخَّل الحلوين اللي واقفين برا دول.
أومأ له العسكري ثم خرج وغاب لثوانٍ، وبعدها دلف مرة أخرى ومعه الشباب، توقف الجميع أمامه مُرتصين، وأول من بدأت بالحديث هي تالين التي صاحت بغضب عقب رؤيتها لنظرة رضوى الشامتة:
أنا عايزة أعمل محضر تعدي في البني آدمة دي يا حضرة الظابط.
استند حمزة بظهره يُريحه على مقعده الوثير، ثم أردف بتهكم صريح: مش لما تشوفي المحضر اللي هي مقدماه فيكِ الأول!
انتشر الغضب والإستنكار على وجوه الجميع، بينما كان التعجب والإستغراب من نصيب رضوى لكنها لم تتحدث، بينما أوضح حمزة حديثه وهو يلتقط هاتف رضوى من أمامه، ثم قام بتشغيله بصوتٍ مُرتفع حتى يستمع إليه الجميع، وبعد دقائق، انتهوا جميعًا من الإستماع إلى التسجيل، فاستغل حمزة صدمتهم وتشدق بخبث:.
عارفين انتوا محاضر السب والقذف والخوض في الأعراض فيها كام سنة؟ مش أقل من 3 سنين مستريح، يعني حضرتك يا أستاذة تالين هتقدمي محضر تعدي، هتقدم الأدلة اللي تثبت برائتها ودفاعها عن أختها، وفي الحالتين أنتِ اللي خسرانة.
رمشت تالين بعينيها عدة مرات تُحاول إستيعاب المُصيبة التي حلت فوق رأسها دون قصدٍ منها، وبتردد واضح تسائلت: ي. يعني ليه؟
رد عليها حمزة بأريحية: يعني حضرتك مُدانة للأستاذة رضوى بإعتذار، وتعويض مادي لا يقل عن 30 ألف جنيه، وإلا...
ترك جُملته مُعلقة لتُزيد من ريبتها وريبة أصدقائها، ثم أكمل حديثه بخبث: وإلا الأستاذة رضوى هتتخذ الإجراءات القانونية ضدك من اللحظة دي، وهتضطر للأسف إني أخليكِ هنا أنتِ والصُحبة الكريمة أربع أيام على ذمة التحقيق.
هزت تالين رأسها بهستيريا عقب استماعها لإقتراحه الأخير، وبدون أن تنتظر لحظة أخرى، أخرجت دفتر شيكاتها من حقيبتها، ثم خطت عليه بعض الكلمات والأرقام ووضعته أمامهم على المكتب، ارتسمت ابتسامة واثقة على ثُغر حمزة الذي تحدث بسماجة:
ودلوقتي جِه دور إنك تعتذرلها.
نظرت تالين إلى رضوى بتردد، تحول إلى الحقد عقب رؤيتها لابتسامتها التي خطت شفتيها، قبضت على كفها بقوة لتُخفي غيرتها منها، اغتصبت ابتسامة صفراء على فاهها، ثم تحدثت قائلة: أنا. أنا أسفة.
استند حمزة بذراعيه على المكتب، ثم أشار نحو الآخرون وهو يقول بنبرة صارمة ومُحذرة: أي تعرُض منكم ليها أنا مش هتساهل أبدًا، ودلوقتي تقدروا تتفضلوا برا.
تفوه بجُملته الأخيرة ببرود، وهُم ليس لهم حق للإعتراض، تابعت رضوى رحيلهم بابتسامة مُتسعة مُتشبعة بلذة الإنتصار، وبعد ذهابهم؛ استدارت إلى حمزة هاتفة بتلقائية: دا إبليس بيعيط من دماغك يا جدع! لأ بجد ظابط بجد مش هزار.
ارتسمت ابتسامة طفيفة على ثُغره وهو يقول بعبث: أي خدمة، وعِدي الجمايل يا ستي لحد ما نحتاجك لوقت عوزة.
أومأت له بسعادة، فيما مد يده لها بوصل المال قائلًا: وخُدي الشيك أهو، وقبل ما تعترضي إعرفي إن دا حقك وحق أختك اللي خاضوا في عرضها وجابوا سيرتها بالباطل.
طالعته رضوى بتردد، وقبل أن تعترض وجدت الصرامة مُرتسمة بوضوح داخل حدقتيها، لذلك مدت يدها وأخذته منه، ثم وضعتها داخل حقيبتها.
هبت من مكانها ثم تمتمت بشكرٍ: شكرًا جدًا يا حمزة باشا.
قالتها بإمتنانٍ واضح، فأرسل لها ابتسامة خفيفة، قبل أن يقف مكانه ويُلملم أشيائه، ثم أردف بنبرة جادة: العفو يا رضوى ، يلا تعالي معايا أوصلك في طريقي، أنا كمان مُروح.
طالعته بذهول في البداية، ومن ثَم تحدثت بتوتر رافضة عرضه: ل. لأ شكرًا أنا هروَّح لوحدي.
وضع هاتفه ومحفظة نقوده في جيب بنطاله، وحمل سلسلة مفاتيحه في يده، ثم مرَّ من جانبها مُلقيًا لها ابتسامة جانبية وهو يقول: لأ أنت بقولك مش باخد رأيك.
ازدادت حدقتاها اتساعًا وظلت واقفة مكانها تُتابع ظهره بجمود، استدار لها فوجدها على حالتها تلك، فعلت ضحكاته عاليًا ثم قال بضحك: يا بنتي أنا مش هخطفك، الوقت اتأخر فهوصلك مش أكتر.
خجلت رضوى منه، وبتوتر سارت بجانبه حتى وصلت إلى سيارته، وبعدها انطلقا معًا غافلين عن مصعب الذي من المفترض أن يرحل مع حمزة، لكن يبدو أن الأحمق قد نسيَه تمامًا!
كونك رجلًا لا يمنعك من مُباشرة حياتك بطريقة تافهة تروق لك، وهذا هو المبدأ الذي يسير عليه بدير، ذلك الفتى اليافع الذي يرمي هموم الحياة خلف ظهره دون أن يُعيرها أي إهتمام، هبط على الدرج بتدللٍ وهو يُغني باستمتاع حتى وصل إلى الدور الأرضي، حيث تقبع ضيفتهم تسنيم.
وقف أمام بابها ثم طرقه بهدوء، انتظر قليلًا حتى فتحت له بملامح مُتعجبة، ليتحدث هو بابتسامة بلهاء مُتسعة: بتقولك أمي هاتي بصلتين.
تجعد جبينها بضيق ظنًا منها بأنه أتى لمضايقتها، فعدَّلت من وضع غطاء رأسها، ثم توقفت أمامه مُتحدثة بكل قوة: اسمع يا أستاذ منير.
قاطعها بضيق: بدير.
فعادت هي لتقول بنبرة أكثر قوة: اسمع يا أستاذ بدير، مش علشان جيت ضيفة عندكم هتفتكرني سهلة لسمح الله! لأ يبقى أنت متعرفنيش كويس، أنا اللي يجي ناحيتي أو يقرب مني؛ أعوره، فأنا بطلب منك بكل هدوء وإحترام إنك تتلاشاني وتتلاشى وجودي عشان منزعلش من بعض، على الأقل لحد ما أمشي من هنا.
أنهت حديثها وهي تُطالعه بشراسة، وانتظرت قليلًا علَّها تجد ردًا منه يعتذر على فعلته، وبعد ثوانٍ، وجدته يبتسم باستفزاز وهو يُكرر حديثه: هاتي بصلتين بقى.
احتل الغضب وجهها وفاض بها الكيل، وما كادت أن تُوبخه بوقاحة، حتى قاطعها هو بحديثه الساخط: يا آنسة إحنا حاطين البصل هِنا في الدور اللي تحت، وهتلاقيه جوا تحت الكنبة اللي جنب الحيطة.
رمشت بأهدابها عدة مرات ونظرت حيث يُشير، فعادت تُطالعه بريبة وأعين ضيقة علَّها تستشف كذبه عليها، لكن ملامحه كانت جادة للغاية، لذلك قررت الولوج ورؤية ما إن كان هُناك بصل حقًا أم يكذب عليها، لكنها أغلقت الباب في وجهه بوقاحة لحين أن تتأكد، فمن الممكن أن يكون يكذب عليها ويود أن يُدخلها حتى يعتدي عليها أو ما شابه!
نظر بدير للباب المُغلق بعدم تصديق، تلك المعتوهة لا تأمن له حقًا! إلتوى ثغره بابتسامة مُغتاظة وهو يهمس لذاته: ماشي. ما هو العيب مش عليكِ، العيب على الغلطة اللي عاملالي فيها الأميرة ديانا وقاعدة فوق زي عِجل البحر.
أنهى حديثه مع ذاته تزامنًا مع إنفتاح الباب، وظهور تسنيم من خلفه بملامح وجه خجلة، مدت يدها إليه بالبصل، ثم تحدثت برقة: اتفضل يا أستاذ بدير البصل.
التقطه بدير من بين يديها وهو يُتمتم برقة مُقلدًا إياها: كتَّر خيرك، ويكرم أصلك، وربنا يكتر من أمثالك يا شيخة والله.
قالها ثم ذهب من أمامها صاعدًا لمنزله، بينما هي نظرت لأثره المُختفي وهي تهمس بتعجب: هو أنا عملت حاجة ضايقته ولا إيه؟
ظل يدور حول نفسه حول طاولة المطبخ يُفكر بقلق وضيق، نفخت والدته بغيظ والتي كانت تُجهز طعام العشاء من تصرفاته التي كادت أن تُصيبها بالجنون، لذلك دفعت الصحن الذي كان يقبع بين يديها بعصبية ثم تشدقت بسخط قائلة:
يابني اتهد بقى حولتني!
توقف بدير عن السير ثم استدار لها مُتحدثًا أثناء اقترابه منها: هتفاتحي أبويا في الموضوع اللي قولتلك عليه إمتى يامّا؟
دفعته حنان من كتفه بسخط ثم صاحت مُستنكرة: يابني أنتَ عايز تشلني ولا تموتني مجلوطة؟ أنت عايز أبوك يطلقني بعد العُمر دا كله بسببك؟
تأفف بدير بحنق ثم خرج من المطبخ وهو يُتمتم حانقًا: ماشي يامّا ماشي. هيجي يوم وتحتاجيلي، وقتها لن أرحم أحد.
نظرت حنان لأثره وهي تضرب كفيها ببعضهما البعض بقلة حيلة، ثم هتفت بيأس أثناء إكمالها لتحضير الطعام: ربنا يهديك يا بدير يابن بطني وتعقل يارب.
وبعد مرور نصف ساعة؛ تجمع السبعة شباب على طاولة الطعام بعدما أتوا من عملهم، وعلى رأسهم يجلس أبيهم الحاج هارون يرتدي جلبابه، وعلى المقعد الذي يُجاوره تجلس زوجته حنان تضع جميع أصناف الطعام أمامه، ابتسم هارون لها بحنان ثم أمسك بكفها يُقبله، تبعه قوله المُمتن:
تسلم إيدك يا أم يعقوب.
أخفضت حنان رأسها بخجل ثم أجابته على استحياء: تسلملي يا حاج.
حمحم يعقوب بعبث ثم تحدث بصوتٍ ماكر مُوجهًا حديثه لأخيه الذي يجلس بجانبه: شايف ياض يا عُمران الرومانسية؟ اتعلم من أبوك بقى علشان لما نتجوز كلنا منتوكسش قُدام الجماعة.
رد عليه عمران بنفس العبث: مفيش زي الحاج هارون يا اخويا.
تدخل حمزة في الحديث قائلًا بحالمية: أبوكوا دا أستاذ وهناخد عنده دروس خصوصية في الرومانسية.
كاد أن يتحدث مصعب هو الآخر، لكن قاطعه والده والذي هتف بصرامة قاطعة: أنت بالذات متتكلمش يا سافل يا قليل الأدب، وحسابك معايا بعدين على اللي أنت عملته إمبارح.
أردف بكلماته ثم استدار لأبنائه الآخرين: لو سمعت نَفس كائن حي فيكم أنا هقطعه، بلاش الكلام اللي يكسف أمكم دا يا ولاد هارون.
قال الأخيرة بعبث، ليُهلل أبنائه بتصفيق حاد، ثم استمعوا إلى صفير عالي كان مصدره بدران الذي أردف بضحكات عالية: هو دا الحاج هارون ولا بلاش.
ضحك جميع أخواته بما فيهم أبيه، بينما حنان كانت تُتابعهم بحنق، فاستدارت برأسها تجاه هارون تُعاتبه بهدوء: إخص عليك يا حاج، كدا تكسفني قدام العيال.
قهقه هارون عاليًا ثم أمسك كفها مُجيبًا إياها بعشق يتزايد مع مرور الزمن: وتتكسفي ليه يا حنان؟ دا أنا لو عليا أقول للدنيا كلها إني بحبك عشان أنتِ سِت أصيلة وتستاهلي كل الحلو اللي في الدنيا.
تلاشى عِتاب حنان كُليًا وحلّ محله الحب، فأجابته بحب هي الأخرى: ربنا يخليك ليا يا حاج وميحرمنيش منك ولا من ولادنا أبدًا.
كان جميع أبنائها يُتابعونهم بنظرات مُلتمعة، وكلٌ منهم يتمنى لو يجد نصفه الآخر الهاديء كما فعل والديهم، يُريدون الحصول على علاقة هادئة خالية من الشوائب، لكن هل ستتحقق أمانيهم يا تُرى؟
أخرجهم بدير من الحالة الهائمة بقوله المُتردد: عايز أفاتحك في موضوع كدا يابا.
انتبه له أبيه وكذلك جميع أخواته، فمال عليه بادِر مُتحدثًا بهلع: اخرس الله يخربيتك أبوك لو عِرف هيوأدك.
تجاهل بدير تحذيره ثم أكمل حديثه بقوة مُصطنعة قائلًا: بصراحة كدا يابا أنا متقدملي عروسة.
ثانية. واثنان. وثلاثة. وعمَّ الصمت على الجميع، كانت بدور تُتابع ما يحدث وهي تقف بصمت، تنتظر ردة فعل أبيها على حديث شقيقها الغبي، طال صمت هارون ومعه زاد قلقهم وحيرتهم، ليتحدث بدير بنبرة قلقة: ق. قولت إيه يا بابا؟
قولت كل خير يا روح وقلب وعيون وكبدة بابا، عيدلي كدا قولت إيه يا حبيبي؟
كان هارون يتحدث بابتسامة واسعة بعد أن خرج عن صمته، ليبتسم بدير بعد أن وجد ملامح أبيه يشوبها السعادة: بقولك متقدملي عروسة يا حَج.
نظر هارون حوله وكأن يبحث عن شخصٍ ما، توقفت أنظاره على بدور التي تُتابع ما يحدث بقلق بالغ، ثم تشدق بصياح: زغرطي يا بت يا بدور، أخوكِ كِبر وبقى يتقدمله عرايس.
نظرت إليه بدور بتردد، فكرر حديثه بنبرة أقوى: زغرطي يا بت بقولك عايزين نفرح بأخوكِ.
وفي اللحظة التي تلتها علت صوت الزغاريد تملأ أركان المنزل، تبعه صوت بدور الهاتف بسعادة وهي تذهب لإحتضان أخيها: مبروك يا واد يا بدير، متعرفش أنا فرحنالك إزاي!
عانقها بدير بسعادة وهو يُصيح بفرحة عارمة: الله يبارك فيكِ يا غلطة.
فيما اقترب منه عمران الذي علت زغاريده هو الآخر، وبعدها صاح بسعادة: العريس المُنتظر، وأخيرًا حد عبرك يا واد! دا أنت كنت قربت تبور خلاص.
أخفض بدير رأسه للأسفل بخجل وهو يقول بصوت خافت: يوه بقى يا عمران متكسفنيش.
تدخل بدران في الحديث قائلًا بمشاكسة: ياختي بطة! بتتكسفي يا بيضة!
علت ضحكات الرجال عاليًا، بينما بادر صدَّق الحوار بأكمله وذهب لمُعانقة أخيه مُتشدقًا بابتسامة واسعة: ألف مبروك ياخويا، عقبال الفرحة الكبيرة.
تدخل مصعب في الحديث بقوله: ليك عليا في الليلة الكبيرة هنعزم كل الظُباط ورجال الأعمال، هنعملك أحلى فرح.
أكد حمزة على حديثه قائلًا: وفقرة ضرب النار هتكون عليا أنا.
طالعهم بدير بفرحة عارمة لفرحتهم وسعادتهم له، لكن توقفت أنظاره على يعقوب الذي لم يتحدث بكلمة واحدة، فتسائل مُحدجًا إياه باستغراب: مش هتباركلي ولا إيه يا يعقوب؟
اتسعت ابتسامة يعقوب فجأة، والذي هتف بشماتة قبل أن يُهرول إلى غرفته مُسرعًا ويُغلق الباب من الداخل: دا انتوا هتاكلوا عَلقة!
وبعد أن أنهى حديثه وحجز ذاته داخل غرفته، استمع إلى صوت صراخ إخوته وصوت أبيهم الصارخ بهم يعلو بعصبية: يا شوية كلاب أعمل فيكم إيه تاني؟ بتباركوله على إيه يا مواكيس يا ولاد الموكوس؟ أشد في شعوري منكم يا ناس؟ ألطم!
إحتل الهلع وجه الجميع بعد أن أمسك أبيهم عصاه وبدأ بالهرولة خلفهم لضربهم، لتعلو صوت صرخات بدير الذي احتجزه أبيه في أحد الأركان وهو يستنجد بهم: إلحقوني يا خلق. إلحقوني يا هُو. أبويا هيقتلني عشان عايز أتجوز.
ليرد عليه هارون بشر: أنا مش هخليك تنفع لا عريس ولا عروسة حتى.
وبالداخل. حيث يقبع يعقوب الذي نجى منهم بصعوبة، اتسعت ابتسامته بشماتة وهو يهمس لذاته: تبقى تتجوز في الجنة بقى يا بدير ياخويا.
قالها ثم اتجه إلى خزانته وأخرج منها أعز الأشياء على قلبه، وهو كمانه الحبيب، أمسكه بحرص ثم اتجه إلى الشرفة حيث النسيم العليل الذي ينتشر في الأجواء ليلًا، ثم جلس على المقعد يتابع ضوء القمر الهاديء، الأجواء أكثر من رائعة للعزف على الكمان كما يُحب.
أغمض عيناه بكلِ هدوءٍ وأريحية، ثم بدأت يده تخط معزوفة أقل ما يُقال عنها بأنها رائعة ومؤثرة في ذاتِ الوقت، يترك الزِمام لمشاعره لتهديه تأثيرًا يصعد على هيئة عزفة سالبة للأنفاس، وقد كان النوع الغالب هو الحُزن.
وبالشرفة التي تُجاوره تمامًا، كانت ذِكرى تجلس بكل هدوء لمُتابعة الطبيعة، لكن أفسد شرودها صوت العزف القادم قريبًا منها، أجواء شاعرية حزينة مئة بالمئة، وكأن الأمر ينقصه غِناء حزين تتماشى مع تلك المعزوفة، وهي لم تتأخر في ذلك، بل وجدت ذاتها تُغني دون وعيٍ منها كلمات أغنية حزينة، دائمًا ما تُصيب روحها بالألم!
معقول! ما نعود أحباب. نُمرق مِتل الأغراب. ولا نبقى سوى، ولا نبقى سوى...
ياما قالوا الهوا غلاب، ولا مرة حسبنا حساب، نبعد يا هوى، يا هوى.
ياما ياما عشاق، ضاعوا وصاروا، كالعمر أوراق.
ياما كنا نقول، عاشقين على طول، لا لا مش معقول، تقدر يا فراق.
تاري المكتوب، يا هوى مكتوب. ولا تتعب يوم، يا قلوب.
كان يعقوب يستمع لصوتها المُعبق بالمشاعر منذ البداية، وعلى الفور تعرف عليه، لم يرد المقاطعة، خاصةً بأن صوتها شجن عذب أبهره، انتهت المعزوفة وانتهى معه غنائها، ورفع كلاهما أنظارهما لمُطالعة السماء الكحيلة الصافية لبضعة دقائق، وبعدها اتجها إلى النوم بعمق.
فلتت بدور من أبيها بأعجوبة، ولحُسن حظها لم تطالها عصاه، ابتسمت بسعادة وهي ترقص لانتصارها، لكن ابتسامتها قد اختفت تمامًا وحل محلها الصدمة عندما فتحت الرسالة التي أتت إليها على هاتفها، والتي كان مُرسلها زوجها عادل، فتحت الفيديو الذي أرسله لها بأيدي مُرتعشة، وبعد ما شاهدت نصفه تقريبًا، لطمت على صدغها بهلع وهي تهمس ببكاء: يا نهار أسود! يا نهار أسود!
ارتعش جميع جسدها وهي تقرأ رسالته الأخيرة بصوتٍ هامس ووجهٍ شاحب كالأموات: لو مش عايزة الفيديو الحِلو دا الكل يشوفه، انزليلي دلوقتي وحالًا.