قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السابع عشر

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السابع عشر

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السابع عشر

لم يكن أمامه سوى المُجازفة والمُخاطرة بحياته حتى يصل، رمى بنفسه داخل دائرة الخطر حتى يصل إلى مبتغاه ويتوسط مقر الوحوش، كان حمزة موضوع على كرسي خشبي مُتهالك في مكانٍ صامت ومُظلم، نظر حوله فوجد المكان خالٍ، لا يعلم متى أتى إلى هنا، لكن الشيء الوحيد الذي يعلمه هو أنه أتى إلى هُنا بمليء إرادته!

عاد بذاكرته إلى ليلة أمس، حينما ملَّ من البحث والإمساك بخيوطٍ واهية حتى يصل إلى الحقيقة، يُريد التحفظ على شبكة رجال الأعمال المخفيين خلف رداء الطهارة ويعلم مَن هو رئيسهم، لذلك قرر كشف كل أوراقه بطريقته الخاصة، وذلك عندما كلَّف أحدهم بنشر أنه خلف ما يحدث من فشل الشُحنات التي حدثت الأيام الماضية، يثق بأن هُناك جواسيس بمركز الشرطة الذي يعمل به، لذلك كان الأمر سهلًا للغاية.

اتجهت أنظاره إلى الشرفة الصغيرة الموضوعة بالأعلى، استكشف من خلالها بأنه في وقت مبكر للغاية من الصباح، لقد تم اختطافه بغدرٍ وأتوا به إلى هُنا حيث سيأتي رب عملهم.
نظر إلى الأحبال المُكبل بها، فارتسمت ابتسامة ساخرة على ثُغره وهو يهمس بتهكم: أغبية.

تفوه بها ثم اعتدل في جلسته وحاول مد أصابعه للإمساك بطرف ملابسه، الأمر لم يمر بسهولة كما ظن، بل ذهبت أنفاسه نتيجة كتمه لها أثناء مُحاولته، وبعد عشرات المرات استطاع التقاط ماديته أخيرًا والموضوع بين ثيابه من الخلف، ابتسم بانتصار قبل أن يبدأ بحك سن آلته الحادة بالأحبال، الأمر أخذ منه ربع ساعة تقريبًا وجُرِحت يده، لكن في النهاية قد نجح وقام بفك الأحبال عنه.

هب من مكانه بعد أن قام بقطع الأحبال عن قدمه أيضًا، ثم دار بنظراته ليستكشف المكان من حوله ويدرسه جيدًا، المكان نضيف لكنه كئيب ومُعتم، لكنه نفض كل تلك الأفكار عن رأسه حينما اتجه مُهرولًا جهة الشُرفة وخرج منها بصعوبة لضخامة جسده.

نفخ بسخط عندما وجد أن المكان الذي به أشبه بالغابات، يُحيطه الأشجار من كل مكان وكأنه منطقة مهجورة تسكنها الأرواح، تقدم سائرًا على أطراف أصابع قدمه وأذناه تلتقطان كل ما كبيرة وصغيرة تصدر من حوله، لقد أتى إلى هنا بخضم إرادته ليصل إلى مبتغاه، وارتكابه لأي خطأ الآن قد يودي بحياته إلى الأبد!

نجح أخيرًا في تخطي تلك المنطقة والوصول إلى الطريق الرئيسي، كان يقف على أعصابه وكأنه ينتظر أحدهم، وحينما طال الإنتظار؛ نفخ بسخط وهو يسب داخله.
لكن لم يطول هذا الأمر كثيرًا حينما توقفت أمامه دراجة بُخارية يقودها شخصٌ ما مُرتديًا خوذته، وصوت رضوى تتحدث بعنهجية: إوعى تقول إني اتأخرت عليك!

ارتسمت ابتسامة جانبية ساخرة على جانب فمه قبل أن يُجيبها وهو يلتقط منها الخوذة: أخاف أقولك آه تقومي تذليني وتقوليلي دا موتسيكل أختي وسرقته عشان خاطرك والحركات دي زي ما عملتي إمبارح.
علت قهقاتها عاليًا وهي تستمع إلى صوته أثناء مُحاولته لتقليدها، هبطت من على الدراجة جاعلة إياه يجلس أمام المقود، وهي صعدت خلفه وهتفت من بين ضحكاتها: ياض أنا مش انتهازية للدرجادي متخافش.

ردد كلمتها الأخيرة ساخرة وقال: ياض! طب امسكي ياختي كويس عشان هنطير دلوقتي.

وعقب حديثه، انطلق يقود الدراجة النارية بسرعة عالية من يراهم يظن بأنهم يطيروا بالفعل، تمسكت رضوى بثياب حمزة جيدًا، وعادت بذاكرتها لليلة أمس حينما طلب مساعدتها هي خصيصًا دون عن أخواته، مُبررًا بأنهم إن علموا جنون ما يريد فعله لن يسمحوا له نهائيًا، ورغم اعتراضها على الأمر في البداية وخوفها عليه، إلا أنها وافقت أخيرًا أمام رجائه وإصراره، لكن بشرط؛ أن تقوم هي بتلك المهمة وستأخذ دراجة شقيقتها النارية للقيام بها.

لم تغفل عن تطور علاقتهما في الفترة الأخيرة، حينما شعرت بانجذابها الشديد له ونظراته المُحاوطة لها في كل مكان، أحبت اهتمامه بها وحنانه، أحبت رجولته الجذابة وشخصيته القوية، أحبت علاقتهما معًا وسخطه منها حينما تقول له ضاحكة:
يا حشاش يا خمورجي.

استفاقت من شرودها على توقفه فجأةً وانتفاض أجسادهم حِيال الوقوف المُفاجيء للدراجة، تمسكت به بقلق حينما أبصرت السيارة السوداء المُصفحة التي قطعت طريقهما، ليُطمأنها هو عندما دار لها بنصف رأسه وقال بجدية: خُدي مكاني ولو حصل حاجة إمشي بسرعة.
ودت لو تعترض على حديثه، لكنه لم يترك لها الفرصة للنقاش وهبط من على الدراجة وأعطاها خوذته، ثم انطلق بكلِ شموخٍ ليقف أمام السيارة وكأنه لا يهاب شيء.

راقبت رضوى الوضع بقلق وبخوفٍ عليه بالأكثر، لكنها سرعان ما زفرت بارتياح عندما وجدت مصعب يهبط من السيارة ويُصيح ب حمزة ساخطًا: تصدق يالا إنك متربتش! أنا عايز أفهم أنت بتتصرف من دماغ أهلك ليه؟
ضيَّق حمزة ما بين حاجبيه بتعجب وهو يسأله بعدم تصديق: أنت عرفت مكاني إزاي؟
رضوى كلمتني.

كانت تلك إجابة مصعب الذي رد عليه بتهكم، ليستدير حمزة جهة رضوى التي ابتسمت له بتوتر وبررت له قائلة: افرض كان حصل حاجة واتقفشنا؟ كنت عايزة أضمن سلامتنا يا جدع.
تشنج وجه حمزة بسخط وهو يُصيح بها باستنكار: تصدقي إني راجل مُهزق عشان طلبت منك مُساعدتك!

لوت شفتيها بضيق، بينما مصعب دفعه للخلف بغضب هاتفًا بحدة: خليك معايا هنا وقولي أنت كنت عايز تهبب إيه؟ لو كان حصلك حاجة مكانش حد هيدرى بيك ولا هيلحقك بسبب غبائك.
زفر حمزة بسخط لاعنًا رضوى بداخله، ثم رفع أنظاره لأخيه الذي ينتظر الفرصة المناسبة للهجوم عليه، وكأنه يتأهب للثأر من الساعات المتواصلة التي قضاها في القلق عليه، لذلك رد عليه بهدوءٍ حتى يضمن تفاعله معه:.

علي فكرة المهمة اللي كنت جاي فيها يُعتبر نصها نجحت، ولازم نمشي من هنا دلوقتي عشان ألحق اللي بخططله.
وهو إيه اللي بتخططله؟
هكذا تسائل مصعب بريبة وهو يقترب أكثر من أخيه، ليهتف حمزة على عجالة بعد أن وعده بقص كل شيء له لاحقًا: بعدين يا مصعب بالله عليك، المهم دلوقتي خُد رضوى ووصلها وأنا هكمل الباقي.

اعترض مصعب على الفور وهو يُصيح به بحدة: لأ طبعًا أنا مش هسيبك لوحدك أنت اتجننت؟ وبعدين أبوك على أعصابه هناك في البيت وأمك مبطلتش عياط من إمبارح.
طب كلمهم وقولهم إني بخير.
لم يُبال بالجزء الأول من الحديث، فعاد مُسرعًا إلى الدراجة النارية وصعد عليها بعد أن أنزل رضوى التي طالعته بعدم فهم، ارتدى خوذته ثم رفع عيناه لها مُطالعًا إياها بشر وهو يهتف بتوعد: وحياة أمك حسابك معايا بعدين.

قالها ثم رحل من أمامهم بسرعة البرق، تاركًا رضوى تنظر في أثره بصدمة، وأخيه يكاد أن يشتعل من عناده وفؤاده يتآكل من القلق عليه، وبالرغم من ذلك تمتم لذاته بتصميم: ماشي يا حمزة، أنت اللي اخترت.
هدوءٌ كالجليد يظهر للجميع، وأُخفي في الداخل ضجيجٍ مُخيف.

نامت ذِكرى بعد أرق ليلة كاملة قضى بها يعقوب ساعاته لطمأنتها، خاصمها النوم لعدة ساعاتٍ ولم يمل من الحديث معها أو معرفة ما تُحب، وإن كانت تنجذب له في البداية قيراطًا، فالآن قد انشرح له جسدها بأكمله ليس فؤادها فقط.
بينما هو تركها نائمة بالأعلى وهبط لمنزل أبيه بعد أن علم منهم باختطاف حمزة، وذلك بعد أن هاتفه عمران وأخبره بأحدث التجديدات، جلس بجانب والدته يُربت على كفها بحنانٍ وهو يقول:.

يا أمي والله مصعب لسه مكلمني وقالي إن حمزة بخير، هو أنتِ مش لسه سامعاه بودنك.
رفعت حنان كفها لمسح دموعها التي هبطت بكثرة على وجنتيها، وقالت من وسط نحيبها: مش ههدى ولا هيرتاحلي بال إلا لما أشوفه قصاد عيني، أنت وأخوك كدابين هو أنا مش عارفاكم؟
ضحك يعقوب بيأس وحاول ردعها عن تفكيرها السيء بقوله المُمازح: بتشكي فيا وفي أخلاقنا؟ طب والله عيب يا ست حنان اللي بتقوليه دا.

نظرت له بطرف عينها ولم تكف عن البكاء، ليتقدم منهم هارون وجلس بجانبها على الناحية الأخرى وتمتم مُتحدثًا بهدوء يُغلفه الوِد: يعقوب مش بيضحك عليكِ يا حنان، مصعب كلمني وقالي إن حمزة كويس، وبعدين لو كان جراله حاجة بعيد الشر كنتِ هتلاقينا قاعدين حواليكِ كدا؟
تسائل بجُملته الأخيرة بسؤالٍ كان بالنسبة لها جواب لخوفها، فنظرت إليه بتردد وتحدثت بقلق: بس...

قاطعها مُقبلًا رأسها بحنان قائلًا بابتسامة هادئة: مفيش حاجة اسمها بس، قومي يلا ادخلي أوضتك ارتاحي شوية عشان لما حمزة ييجي تجهزيله أكل من إيديكِ الحلوين دول.
لم يفشل ولو لمرةٍ واحدة في احتواء خوفها وتحويله إلى طمأنينة، ابتسمت حنان له بحب ومن ثَم هبت من مكانها وقالت بحنان قبل أن تتوجه إلى غرفتها: حاضر يا حَج، لو حد احتاج حاجة يناديلي أنا هفضل صاحية لحد ما حمزة ييجي.

أومأ لها بابتسامة صغيرة بثت الطمأنينة لجسدها، وتابعها بعينيه حد دخلت لغرفتها، ومن ثَم استدار لأبنائه مُجددًا وتحدث بوعيد: اللي عمله أخوكم دا مش هعديه بالساهل.
دافع يعقوب عن أخيه باستماتة وبرر فعلته بقوله المُتعقل: يا حَج اللي عمله دا تبع شغله وأكيد هو أدرى بمصلحته.
رد عليه هارون بحدة نبعت من قلقه عليه: وشغله مش بيقوله روح ارمي نفسك في النار ولا يموت نفسه.

تنهد يعقوب بضيق لعلمه بحقيقة حديث والده، اتجه عمران جهة هارون وتحدث بمزاح: خلاص بقى يا حجوج لما ييجي حمزة نكد عليه هو، إحنا ذنبنا إيه يتنكد علينا؟
نظر هارون له بطرف عينيه، فاستمع إلى صوت خطوات بادر الذي ارتدى ثيابه وتحدث بتثاؤب أثناء ارتمائه على الأريكة: أروح المدرسة النهاردة ولا بلاها؟ أنا هموت وأنام.

رد عليه هارون بسخرية وعيناه تنتقل عليه بنظراتٍ ذات مغزى: ويا ترى هتاخد الأبلة اللي أنت جايبها معاك ولا هتروح لوحدك؟
اعتدل بادر في جلسته وطالع أبيه بعدم فِهم وهو يسأله: قصدك إيه يا بابا؟
قصدي إني مش عاجبني الحال المايل بتاعكوا دا يا ولاد هارون، مش كل يومين ألاقي واحد داخل ومعاه واحدة في إيده، دا مبقاش بيت دا بقى لوكاندا.

كان يقصد بحديثه بدران الذي أتى ومعه تسنيم، و مصعب الذي أتت إليه روان، والآن بادر الذي دخل عليهم ليلة أمس ومعه سارة، هو لم يُبالغ في ردة فعله حقًا، لكن المنزل تحول إلى فندق صغير يستقبل الزوار.
استمع الجميع إلى صوت بدير الذي كان يجلس على الأريكة بجانب بادر ويتحدث بحنق: وهو أنا يعني لازم أدخل عليكم بواحدة عشان تجوزوني؟ دا إيه البيت اللي عياره فالت دا؟

وعقب حديثه، وجد زجاجة المياه البلاستيكية تصتطدم بوجهه وصوت أبيه يصعد بسخط: ورب مُحمد يا بدير أنت لو منجحتش في كُليتك السنادي ما أنت متجوز طول عمرك، بقالك سبع سنين في الكُلية يا اللي منك لله ولسه متخرجتش!
برر له بدير بعقلانية: يا حَج الدكاترة هما اللي بيحبوني، مش ذنبي يا جدع إن هما عايزيني معاهم!

اقترب منه هارون خطوتين حتى توقف قبالته، رفع بدير أنظاره بريبة جهة والده ليرى تعابير وجهه الواجمة، وبعدها تحدث بصوتٍ غاضب: اسمع يالا أنا جِبت أخري منك، لو منجحتش السنادي عقابي ليك هيبقى ملهوش أول ولا آخر، وأنت عارف إني مش بهزر.
اعترض بدير حانقًا وهو يهتف بغيظ: يابا ما أنت عارف إني مكُنتش عايز أدخل صيدلة، أنا داخلها بس استخسار في المجموع مش أكتر.

ابتعد عنه أبيه بعد أن طالعه باشمئزاز: أنا قولت اللي عندي ومش هعيد كلامي تاني.
قالها ثم دلف إلى غرفته هو الآخر ليستريح قليلًا، بينما يعقوب نظر لأخواته بعبث قبل أن يقول بنبرة ماكرة: هطلع أنا بقى لمراتي يا شوية فقر.
مصمص عمران على شفتيه بأسى وهو يهتف: ناس هايصة وناس لايصة.

عادت رضوى إلى المنزل في تمام الساعة السادسة صباحًا تقريبًا، خشت استيقاظ أحد أفراد عائلتها ورؤيتها تأتي من الخارج في مثل هذا التوقيت، وكأن ما تخشاه قد حدث بالفعل، وذلك عِند ظهور أخيها إلياس أمامها وسؤاله لها:
كنتِ فين في الوقت دا يا رضوى؟ وخرجتي من إمتى أساسًا؟

ابتلعت رضوى ريقها بتوتر وحاولت الثبات أمامه قدر الإمكان ثم أجابته: كنت بتمشى شوية، حسيت إني مخنوقة من جو البيت فخرجت بدري قبل ما الناس تصحى عشان أبقى على راحتي.
لم يُكذبها أو يشك في حديثها، فأجواء المنزل في مثل تلك الأيام متوترة ومُتعبة للأعصاب بشدة، ابتسم لها بحنوٍ وهو يُربت على رأسها، ثم قال بود: طيب ادخلي كملي نومك عشان متتعبيش بقية اليوم.

أومأت له بابتسامة هادئة، لكنها لاحظت ارتدائه لملابس الخروج مما جعلها تتسائل بتعجب: هو أنت خارج ولا إيه؟
تنهد بقلة حيلة وهو يُجيبها بحنق: أيوا خارج، ورايا Interview في شركة كبيرة ولازم أكون هناك من بدري، ادعي يقبلوني عشان أعرف أشتغل من تاني.

طالعته بحنان ثم رفعت كفها تُربت على جانب ذراعه وكأنها تدعمه، ثم قالت بتمني وحديثٍ أزال من توتره قليلًا: متأكدة إنك هتتقبل، أنت مجتهد وبتحب شغلك وواثقة إن ربنا هيكرمك.
كاد أن يُجيبها، لكنه فتح عيناه على مصرعيهما وتحدث بعجالة قبل أن يدفعها ويُهرول ذاهبًا: منك لله يا بعيدة هتأخريني، غوري من وشي.
تشنج وجهها ثم تمتمت مع ذاتها بغيظ: دا يخربيت الندالة اللي بتجري في دمك.

قالتها وهي تسير نحو الداخل واتجهت نحو غرفتها مُباشرةً، نظرت نحو مرآتها أثناء خلعهت لثيابها بإرهاق، لكنها تذكرت ما حدث في الساعات الماضية القليلة، ارتسمت ابتسامة صغيرة على ثُغرها وحديثِ حمزة مازال يرن في آذانها حتى الآن حينما قال:
عاملة شبه اللعنة، كل ما أحاول أبعد بلاقيني بقربلك من أول وجديد.

تتذكر حينها خجلها منه، ومُحاولاتها لتغيير الحديث، قُربهم هذا يروقها بشدة، أحبت هذا التجاذب وتلك المشاعر التي تجتاحها حينما تراه، لا تعلم أتشعر بالحماسة، التوتر، الخجل، أم بالحب!

نفضت كل تلك الأفكار عن رأسها وبقى شيء واحد يدور بداخلها، وهو خوفها عليه من تلك المُهمة التي سيقضيها وحده، من حديثِ مصعب علمت بخطورتها عليه، لذلك التقطت طلاء أظافرها وجلست على الفراش وبدأت بوضعه حتى يُقلل من توترها وخوفها ولو قليلًا.
تظل تختنق وتختنق وداخلك يسعى للخلاص.

وصل حمزة إلى المكان الذي قصده منذ البداية، حيث ذلك الميناء الذي سيتم فيه تسليم الشُحنات، والتي من المفترض أن تخص حسن طارق عاشور، اختبأ خلف أحد البراميل البلاستيكية الكبيرة والمُحملة بمواد البناء، ثم ارتفع برأسه قليلًا لرؤية ما يدور، لقد علم منذ عدة أيام أن الشُحنة سيتم استلامها صباحًا عكس ما يحدث دائمًا، لذلك قرر خوض تلك التجربة.

ضيَّق عيناه باستغراب عندما وجد جميع العُمال يقفون والحيرة والقلق مُرتسمين على وجوههم، لفت انتباهه طارق عاشور الواقف بينهم وعلى وجهه يظهر الإمتعاض والغضب، لكن ما أثار تعجبه هو عدم وجود حسن من الأساس!

كان على مسافة كبيرة منهم فلم يستطع الاستماع إلى حديثِ طارق وأوامره التي يُمليها على رجاله، فلفت انتباهه تلك الباخرة الكبيرة التي أتت وظهرت من العدم فجأة، اقترب أكثر بحذر عندما لاحظ انشغالهم، حيث بدأوا بنقل البضائع وكأنهم سربٍ من النمل يعملون بلا توقف، وتلك كانت لحظته للهجوم، ولأسفه الشديد قد ضاعت عليه، عندما رأى على مرمى بصره أحد الرجال مِن مَن يرتدون الأقنعة حاملًا بيده سلاحًا ضخمًا ويُوجهه إلى أحد الرجال دون أن يُبصروه، وفي اللحظة التي تلتها كان صوت الطلقات يعلو بصخبٍ في الأرجاء، مما نشر الهرج والمرج من حوله.

تبعثر الجميع بهلع، وعاد حمزة إلى مكانه راكضًا، عيناه مُرتكزتان على هذا المُقنع الذي يتفنن في اصتطياد فرائسه بكل حرفية، يقف على مكانٍ عالٍ مخفي عن الأنظار، ينتقي من الضحايا ما يُريد دون أن يرمش له جفنٍ أو تهتز يده بخوف، يبدو بأنه قد أتى لهُنا خِصيصًا من أجل تلك المُهمة، لكن مَن هو؟
جز حمزة على أسنانه بغيظ، كيف علم هذا المُقنع بتلك الشُحنة؟ كيف وصل إلى هُنا من الأساس؟

دقائق مرت وصوت الصيحات قد ارتفع بهلع، وزاد أكثر عندما استمعوا إلى صوت صافرات الشرطة الذي اتفق معهم حمزة من قبل، لم يجد بُدًا سوى العودة لدراجته النارية مُجددًا والرحيل بسرعة، وقبل أن يرحل ألقى نظرة عابرة لذلك المُقنع، فوجده ينظر إليه ويُطالعه بانتباه، أثار إندهاشه عندما رفع كفه بجانب رأسه ليُلقي التحية له، ومن بعدها اختفى تمامًا!

لم يُريد حمزة الانتظار أكثر، فأسرع بالذهاب هو الآخر والإنطلاق قبل رؤية أحدهم له، لكن عقله مازال مشغولًا بما حدث معه منذ قليل.
مرت ساعات أخرى حتى باتت الساعة الثانية عشر ظهرًا، وهُنا علت صوت الطرقات على باب منزل مروان بصخبٍ، فتح الباب بنعاث، فوجد رحمة تدفعه من كتفه وهي تهتف بغلظة:
هو أنت جاي من السفر عشان تقضيها نوم؟ دي لو واحدة حامل وبتتوحم مش هتنام الوقت دا كله.

راقبها مروان بسخط أثناء اتجاهها نحو الستائر لفتحها وتمتم بنعاث: أنتِ إيه اللي جابك في الوقت دا يا مُتطفلة؟
استدارت له لتُحدجه بنظراتٍ مُستنكرة وهي تُردد خلفه بسخرية: في الوقت دا؟ إحنا بقينا الضهر يا أستاذ، وبعدين يلا فوَّق كدا وصحصح عشان بابا عايزك تحت.
أعاد خصلاته المُتناثرة على وجهه للخلف، ثم تسائل باستغراب وهو يتثائب بكسل: عايزني ليه؟ غريبة، أنا لسه معملتش أي مصايب!

ضحكت على حديثه وجلست على مقعد بعيد عنه نسبيًا، ثم تحدثت بتفكير: يمكن عايزك عشان مستغرب إنك مبتعملش مصايب! عايز يتطمن على صحتك يعني.
نال اقتراحها إعجابه فهتف بتبجيل: لأ تصدقي أقنعتيني!
ابتسمت بخفة، فأكمل هو حديثه واقفًا من مكانه: خلاص أنا هدخل آخد شاور وهنزل على طول.
وقفت هي الأخرى فحذرته بإصبع سبابته وبنبرة صارمة: بس متتأخرش! أنا حذرتك أهو.
رد عليها بنبرة ماكرة: طب ما تخليكِ معايا لحد ما أخلص!

اشتعلت عيناها بغضب وهتفت به بسوقية: ما تتلم يالا واحترم نفسك بدل ما...
قاطعها ثم دفعها بقرف نحو الخارج وهو يقول: بس بس يخربيت ألفاظك، ماسورة مجاري وطفحت في وشي!
نظرت له باشمئزاز بطرفِ عينها، قبل أن تتركه وتذهب: ما تتأخرش ياض وانجز في يومك دا.
أغلق الباب بعنفٍ عقب رحيلها وتمتم بسخرية: لسه لسانك بينقط سكر زي ما أنتِ.
صمت قليلًا ثم عاد ليهمس ضاحكًا: بس إن جينا للحق فهي سكر أصلًا.

وبالأسفل، تحديدًا في الطابق الأرضي.
تمددت ياسمين بجانب تسنيم وهي تحتضنها، من المفترض أنها الأخت الأكبر، لكنها تشعر الآن بأن تسنيم تحتوي آلامها ووجعها، وجع فؤادٍ عشق قاسٍ فتفتت.

ربتت تسنيم على خصلاتها بحنان وهي تحتضنها، ومن الحين للآخر تطبع قُبلة رقيقة أعلى رأسها وكأنها تُطمئنها، تتذكر الليلة الماضية حينما ذهب بدير لجلبها، ظلت تتآكل وتبكي بخوفٍ إلا أن رأتها تقف أمامها بكامل عافيتها، حينها نست وجعها وهرولت لاحتضانها باشتياق، خوف كلتاهما من خسارة إحداهما أصابتهما بالرعب، لكن كل هذا قد ذهب هباءً حينما ظلا معًا، وعادت تسنيم من المشفى بعد أن سمح لها الطبيب بالخروج.

نظرت إليهما روان بحنين وهي تسألهم بود: مش هتاكلوا؟
نظرت إليها تسنيم ورفضت بقولها: أنا مش جعانة، كُلي أنتِ عشان علاجك، وأنا هاكل لما أنام شوية.
أومأت لها روان بصمت وتركتها حتى ذهبت في ثُباتٍ عميق بجانب شقيقتها، نظرت للطعام بيأس ورفضت تناوله، هي دائمًا ما تخشى الوحدة ولا تُحبذ تناول الطعام وحدها، لذلك تركته واتجهت نحو الخارج لتشتم أنفاسها قليلًا.

كانت في طريقها للبوابة الخارجية، لكنها شهقت بخضة عندما ظهر أمامها مصعب من العدم، ارتسمت ابتسامة جانبية على فمه وهو يسألها بمراوغة: إيه شوفتي عفريب ولا إيه؟
ردت عليه ساخرة وهي تلوي فاهها باستنكار: لأ وأنت الصادق. شوفتك أنت.
مقبولة منك عشان متجبسة وحالتك تصعب على الكافر بس.
وكأنه يقوم بذلها! هكذا تسائلت داخلها قبل أن تسمعه يقول باهتمام: المهم خدتي علاجك؟

هزت رأسها نافية وهي تمط شفتيها بضيق، ليسألها بتعجب بعد أن لاحظ معالم الضيق على وجهها: ليه؟
ردت عليه بوجوم وكأنها طفلة صغيرة تشكو لأبيها ما يُزعجها: المفروض آكل الأول وأنا مش بحب آكل لوحدي، بتخنق.
اتسعت ابتسامة بحنان وهو يقول بعد تفكير دام لثوان: بس كدا؟ هاتي يا ستي الأكل وأنا هاكل معاكِ.
رفعت أنظارها له تُطالعه باندهاش وهي تسأله بلهفة: بجد؟

ضحك بخفة على ردة فعلها، ثم أومأ لها بالإيجاب، فركضت هي للداخل مُسرعة ثم أغلقت باب الغرفة على كُلًا من تسنيم وياسمين، ثم جرت طاولة الطعام بيدها السليمة حتى باتت أم باب المنزل لكن من الداخل، ودعته بابتسامة واسعة: تعالى ادخل.

دخل ليجلس على مقعد جذبه من الجانب، وهي فعلت المِثل فباتت تجلس أمامه، لقد قالت له بأنها لا تشتهي الطعام حينما تجلس وحدها، لكن بمجرد أن جلس وتجهز ليناول الطعام معها، وجدها تلتهم الطعام بتلذذ دون حتى أن تُعيره أي إهتمام.
إلتوى ثُغره بابتسامة ساخرة وهو يُطالعها بامتعاض، ثم تحدث ساخرًا وهو يُربع ساعديه أمام صدره: طيب اعزمي عليا حتى!

أدركت الوضع فطالعته بحرج وهي تبتلع ما تلوكه داخل فمها، ثم تحدثت بضحك: فكرتك بدأت تاكل، المهم كُل عشان عايزاك في موضوع كدا.
إيه عايزة تتقدميلي ولا إيه؟
علت ضحكاتها بصخب، فهزت رأسها بالنفي وهي تقول من بين ضحكاتها: لأ يا جدع مش للدرجادي.
ابتسم على ضحكتها التي أنارت وجهها، إلتهمت عيناه تفاصيل وجهها وتثبتت على عيناها التي تُغلَق حينما تضحك، وبتلقائية همس بما جمدها وجعلها تنظر له بصدمة: بس أنا عايز.
إيه؟

همست بها بصدمة، لتجد ضحكته قد اتسعت وهو يقترب منها بجسده العُلوي وقال بدون مُراوغة: عايز أتقدملك.
سرت قشعريرة داخل جسدها، شعرت بكلِ إنشٍ بها يتفاعل مع فؤادها الذي يتحرك بعنفٍ كما لو يريد أن يخرج من مضجعه، صنمتها الصدمة، ولم يُشفق عليها، وبعد كل هذا استقام واقفًا وتحدث بابتسامة هادئة وتعابيرٍ آسرها:
هطلع أكلم أبويا وبعدها هتقدملك رسمي من أبوكِ.

قالها ثم ابتعد عنها خطوتين، لكنه توقف واستدار لها مرة أخرى غامزًا بمشاكسة: متنسيش تاخدي علاجك عشان تخفي بسرعة يا. يا عروسة.
أحيانًا لا تكون الكوابيس حين تكون نائمًا فقط، وإنما من الممكن أن يتشكل أمامك شخص على هيئة كابوس لن تستطيع الهرب منه.
جففت ذِكرى خصلات شعرها بعد الإستحمام، توقفت أمام المرآة وعلى ثُغرها ترتسم ابتسامة هادئة، ابتسامة لا تتشكل إلا في وجود مُسببها، ألا وهو يعقوب.

أمسكت بفرشاة خصلاتها ثم بدأت بتسريحها، مرت دقائق حتى انتهت من ترتيبهم وبعدها أتى يعقوب من خلفها والذي تمتم بحنق: يلا يا ذكرى عشان ناكل أنا جعان.
أومأت له ضاحكة وهي تُرتب من أشيائها، شهقت على بغتة حينما شعرت به يجذبها لتقف أمامه، وبمُفاجئة جعلتها تُطالعه بعدم تصديق؛ قام برفع كفه وإزالة رابطة شعرها، ثم بعثر خصلاتها من جديد.
نظر لما فعلت يداه بابتسامة راضية وتحدث برفق: كدا بقى شكلك أحسن على فكرة.

وأنا كدا؟
نطقت بها بضجر، ليؤكد لها بابتسامة عابثة: بحبك وأنتِ منكوشة.
لاحظ نظراتها المُمتعضة والغير راضية، فعلت ضحكاته عاليًا ثم أحاط بها من كتفها وانطلق معها للخارج تحت عدم اقتناعها بما فعل، تململت بين يده وعادت يداها لتُمشط خصلات شعرها وقالت بضيق: يا يعقوب بتضايق والله، مبحبش شعري منعكش.

ابتلعت بقية كلماتها حين هبط على وجنتها يُقبلها برقة، وصوته يصعد بصرامة: وأنا بحبه كدا ومتجادلنيش، وكل مرة هتجادليني فيها هبوسك.

فتحت عيناها على مصرعهما ونظرت إليه بعدم تصديق، ليذهب بوجهه بعيدًا ويكتم ضحكاته التي كادت أن تصعد على معالم وجهها المُنصدمة، جلسا معًا على طاولة الطعام وكانت تُبدي اعتراضًا هائلًا على أكلها لكميات كبيرة من الطعام، لكنه كان يُطعمها بيده ويُرسل إليها نظرات مُحذرة بمعنى لا فائدة من الهرب.

هبط مروان إلى شقة عمه عوض بعد أن أخذ حمام بارد سريع، وجد زوجة عمه نعيمة تُرحب به باشتياق وهي تحتضنه: الندل قليل الأدب اللي مشوفتش وشه غير مرة واحدة من يوم ما جِه!
احتضنها ضاحكًا، فبرر لها بمسكنة مُصطنعة: والله كنت نايم، وبعدين بنتك اللي تتشك في جنابها جت قلقت منامي ربنا يقلق منامها.

كانت رحمة تُقلب بين قنوات التلفاز بملل حتى استمعت إلى حديثه الذي يخصها، فاعتدلت جالسة وتحدثت باستفزاز: شكرًا يا محترم يابن الناس يا متربي.
استغربت زهراء من إثنائها عليه بتلك الطريقة الساخرة، فتسائلت بتعجب: انتوا متخانقين ولا إيه؟
ذهب إليهم حتى جلس على المقعد المُجاور لهم، ثم تحدث مُبتسمًا بسخرية: نتخانق؟ يا شيخة خسئتِ وإحنا من إمتى وإحنا بنتخانق، صح يا رحومة؟

حاولت رحمة إخفاء ابتسامتها التي كادت أن تصعد رغمًا عنها، ثم قلدته بمشاغبة: خسئت يا كداب، إحنا متخانقين عشان أنت قليل الأدب.
فتح فاهه للدفاع، فأتى الجواب من نعيمة وهي تُدافع عنه باستماتة: بس يا بت متشتميهوش.
اتسعت ابتسامة مروان وهو يُطالعها بامتنان، لكنها اختفت مرة أخرى حينما استمع إليها تستكمل بقية الحديث: أنا بس اللي أشتمه.

إلتوى فمه بضجر وأجابها بنبرة ساخرة: كتّر خيرك والله يا مرات عمي، مش عارف من غيرك كنت هلاقي مين يهزقني.
علت ضحكاتهم عاليًا وشاركهم هو في الضحك، ليُقاطعهم صوت انفتاح الباب ودخول عوض منه بعد أن انتهى من صلاة العصر، وما إن رآه هتف اتجه إليه مروان يُعانقه باشتياق ويقول بابتسامة واسعة مُغلفة بالمزاح: عوض! واحشني يا راجل.

شعر بضربة قوية هبطت على ظهره من الخلف، أتبعه صوت عوض الذي صعد ضاحكًا: عوض سادة كدا يا قليل الأدب؟ وبعدين هو أنا لازم أناديلك عشان نشوف وِشك؟
ردت رحمة بدلًا منه بسخرية: أصله كان مخمود بعيد عنك يا بابا.
مازحها مروان بثقل بعد أن ابتعد عن عمه: مخمود ولا محمد ههه.

علت ضحكاته بصخبٍ عقب حديثه، لكنه استكشف بأنه هو الوحيد الذي يضحك، والبقية يُطالعونه بقرف لمزحته الثقيلة، ربت عوض على كتفه وهو يهز رأسه بيأس: متهزرش تاني يا مروان وتعالى معايا عشان عايزك.
ذهب مروان مع عوض وجلسا معًا على مقاعد الطاولة والموضوعة في شُرفة المنزل، كان مروان مُتأهبًا ومُستعدًا للإستماع إليه، وبالفعل بدأ عوض الحديث قائلًا:.

الحوار دا المفروض أنا وعمك هارون نفتحه معاك بس هو مضغوط اليومين دول، عشان كدا كلمتك أنا فيه.
خير يا عمي قلقتني!
جاءت نعيمة ومعها بعض الأوراق ثم وضعتها أمامهم، وبعدها رحلت بصمتٍ تاركة إياهم يتحدثان على راحتهما، وهُنا أمسك عوض بتلك الأوراق ومد يده بها له وهو يقول: طبعًا أبوك الله يرحمه وصاني أنا وعمك عليك أنت وأختك والست والدتك، ويشهد ربنا إننا مقصرناش في حاجة لحد يومنا دا، صح ولا أنا غلطان؟

صح يا عمي.

نطق بها على عجالة، ليستطرد عوض حديثه قائلًا بجدية: أبوك الله يرحمه قبل ما يموت كان شاري حِتة أرض ليك ولأختك، خمس فدادين عشان يضمن مُستقبلكم بعدين، لكن يشاء القدر وأخويا الله يرحمه يموت قبل ما يكمل رسالته ليكم، أبوك مامتش قضاء وقدر، أبوك كان مخبي إنه كان مريض بالسرطان الرئوي ومات، خبى عليكم وعلينا كُلنا عشان منقلقش، وساب لينا وصيته مع المحامي، وأملاكه كلها كتبها باسمك أنت بس، ودي الأوراق اللي تثبت بملكيتك لحق أبوك.

كان مروان يستمع إليه بقلبٍ وجل، لم يهمه كل هذا بقدر تلك الجُملة التي فتتت فؤاده إلى أشلاء أبوك كان مخبي إنه كان مريض بالسرطان الرئوي ومات، تسللت الدمعات إلى مقلتيه وشعر بأنفاسه تثقل شيئًا فشيئًا، ورغم عنه هبطت دمعة حارقة على وجنته وهو يُعيد حديث عمه بعدم تصديق:
سرطان رئوي؟

طالعه عوض بحزنٍ فمد يده ليُمسك بكفه، ثم ربت عليه برفقٍ قائلًا: كلنا اتصدمنا وقتها بعد ما عرفنا، خصوصًا إنه كان مخبي علينا ومحدش فينا عِرف غير بعد ما مات وفتحنا الوصية.

مازال تحت تأثير الصدمة، عقله لا يستطيع استيعاب ما أُلقي عليه الآن، حاول عوض أن ينتقل للموضوع الآخر علَّه يُلهيه عن حزنه الذي بان بوضوح على وجهه: المهم أمك وأختك دلوقتي ميعرفوش إن أبوك كاتب كل المُمتلكات باسمك، وكل ما الست والدتك تيجي تفتح الموضوع نحاول نداري عليه ونقول لما أنت تنزل من السفر، ودلوقتي أنت نازل بقالك أسبوعين أهو وكل المستور لازم يتكشف.

جفف مروان عيناه من الدمع ثم رفعهما جهة عمه وتسائل بصوتٍ مُتحشرج واستغراب: طب وأبويا كاتب كل حاجة باسمي أنا بس ليه؟
استمع إلى زفرة عوض المُختنقة والذي رد عليه بأسف: أقولك بس متزعلش؟
أومأ له مروان بريبة، ليُعاود عوض الحديث بقوله: والدتك سِت طماعة واللي في إيديها مش ليها، خصوصًا وأنت عارف إن أخوالك مش أحسن حاجة، وللأسف أختك خدت من طبعهم كتير.

تنهد مروان بزفرة مُختنقة، أزعجه الحديث بتلك الطريقة عن والدته وشقيقته، لكنه ولأسفه الشديد يعلم بأن الحديث لا يوجد عليه شائبة واحدة، أخفض رأسه للأسفل وكأنه لا يقو على الحديث أو المُتابعة، لقد أنهكته تلك الحقائق وتلك المُستندات التي ستفتح عليه أبواب من الجحيم.

وقف عوض من مجلسه، ثم تحرك جهة مروان حتى توقف بجانبه، رفع كفه يُربت بها على كتفه بحنان، ثم قال بنبرة حاسمة لا تقبل النقاش: قوم وارفع راسك يا مروان، أنا مش بقولك الكلام دا عشان توطي، أنا عايز أسد واقف وسط معركة عشان الجاي مش هيبقى هيَّن، خصوصًا من إخوات الست والدتك واللي حاطين عينيهم على ورث أبوك.

رفع مروان عيناه الحمراوتان له، فتابع عوض حديثه بلين تلك المرة: أنا عايزك تكلم والدتك وأختك عشان ييجوا يقعدوا هنا، أختك مش وحشة بس عايزة اللي يوجهها للصح من تاني، وأنت جيت ودي مهمتك يا بطل.
تصنع مروان الابتسام حتى لا يُشعر عمه بالحرج، فاقترب عوض مُعانقًا إياه قبل أن يهمس له: متخافش مش هتبقى لوحدك، أنا وعمك هارون وولاده هنبقى في ضهرك، محدش هيقدر يدوسلك على طرف بس أنت حارب عشان حق أبوك وتعبه ميضيعش.

أومأ له مروان وهمس بخفوت قائلًا: حاضر يا عمي، عن إذنك.
قالها ثم هرب من أمامه قبل أن تسقط دموعه أمامه، يشعر بالإنهزام والضعف للمرة التي لا يعلم عددها، يشعر بقلة الحيرة والأسى، يشعر بأنه وحده في معركة لا يخوضها إلا هو، ووسط كل هذا ظهرت رحمة أمامه وقاطعت طريقه ثم تسائلت بقلق:
مالك يا مروان؟
مفيش.
كانت إجابته مختصرة ونطق بها ثم صعد مُهرولًا للأعلى، تاركًا قلب يتعلق بأثره وينظر له بلوعة.

الحياة الخضراء دواء للروح، والمقصود بها هي الأراضي الزراعية، أمسك رائف بيدِ نرجس التي تسائلت بعدم فهم: أنت موديني فين يا رائف الجو حر هنا أوي.
أسرع رائف في خطاه وتحدث بابتسامة واسعة مُتحمسة: تعالي بس هوريكِ حاجة حلوة.
وأمام حماسته تلك لم تجد مفرًا سوى بالصمتِ والابتسامة بيأس على تصرفاته، لقد اكتشفت منه جانبًا آخر غير الذي يظهره للجميع، جانب طفولي وثرثار، لكن ما لا تعلمه بأن رائف ثرثار دائمًا!

وصلا إلى المكان المطلوب، حيث غرفة صغيرة مصنوعة من أعواد القش، وأمامها توجد بقرتين وحِمار، نظرت إليه نرجس بعدم فهم، فأشار نحو الغرفة وتحدث قائلًا بضحك: الجاموسة بتاعتي بتولد.

تشنجت معالم وجهها وهي تُطالعه باستنكار، لكنه لم يُبال، وإنما جذبها معه نحو الداخل لترى ما يحدث، وما إن خطت قدماها الغرفة، حتى تمسكت به بقوة وهي ترى البقرة تُجازف لتُخرج ولدها، تركها واقفة، ثم تقدم من الرجل الذي يُساعد بقرته في الولادة وتسائل بقلق:
ها يا ريس؟ إيه الأخبار؟
رد عليه الآخر براحة: متقلقش يا باشا، هانت.

أومأ له رائف وظلت نظراته تُتابع البقرة بقلق، كان يدعو الله بأن تتم ولادتها على خير، وكأنها زوجته هي التي تلد أو ما شابه!
مرت الدقائق وتقدمت منه نرجس قليلًا مُمسكة بكفه، ثم قالت ضاحكة بعد أن قل توترها قليلًا: لو أنا اللي بولد مش هتبقى قلقان كدا.
وعقب حديثها كاد أن يرد عليها، لكنه صمت بفرحة حينما أنجبت البقرة بقرة أصغر، وبدون وعي هتف بسعادة: يارب ولد، يارب ولد.

علت ضحكات نرجس بعدم تصديق وهي تراه يكاد أن يرقص من الفرحة، وازدادت أكثر عندما دخل عليهم رأفت الذي أطلق زغرودة عالية وهتف بعدها قائلًا بضحكة واسعة: مبروك ياض يا رائف، مبروك ما جالك ولا.
توقف رائف عن الابتسام حينما رآه ثم تسائل بتشنج: أنت إيه اللي جابك هنا يالا؟
لم يرد على حديثه، وإنما اقترب أكثر حتى بات جواره وتسائل بحماس: لو ولد هتسميه إيه بقى؟

ارتسما ابتسامة صفراء على ثغر رائف الذي أجابه باستفزاز: رأفت.
تشنج وجه رأفت ونظر إليه بغيظ هاتفًا: يا ظريف!
برر له رائف بقوله: دا تعبير عن الحب.
التعبير دا تكتبه في الإمتحان يا عسل، أنا ماشي أحسن جتك نيلة.
قالها بحنق ثم رحل تاركًا ضحكات رائف تتبعه، نظر إلى نرجس واقترب منها على بغتة ثم تحدث بنبرة آسرتها: عارفة لو طلعت جاموسة بنت هسميها إيه؟

خشت إجابته، لكنه أكمل حديثه بابتسامة واسعة وأدت ضحكتها: نرجس الصفرا.
ارتدى يعقوب ثيابه للخروج، والتي كانت عبارة عن قميص رمادي اللون وبنطال من اللون الأسود الداكن، ثم مشط خصلاته الثائرة للخلف، ورش عطره بقلة، لتصبح هيئته خلابة للغاية.

خرج من غرفته فوجد ذكرى تجلس أمام التلفاز تستمع لإحدى الأفلام الأجنبية، يظهر عليها الإنتباه الشديد، ناداها ليلفت انتباهها، فتوقفت واقتربت منه وهي تسأله بريبة: إيه الأناقة والشياكة دي كلها؟ هو أنت رايح فين؟
استشعر من حديثها غيرتها، فقرر مراوغتها وهي يتصنع اللامبالاة: هروح لفين يعني، رايح لواحد صحبي.
ضيقت عيناها وهي تسأله بحذر: وصاحبك دا عنده إخوات بنات؟

دُهِشَ من سؤالها، فعلت ضحكاته بصخبٍ على غيرتها الواضحة للعِيان، انكمش وجهها بسخط لتُربع عن ساعديها أمام صدرها وهي تسأله بضيق: والله؟ هو سؤالي بيضحك للدرجادي؟
سيطر على ذاته بصعوبة، واقترب منها مُحيطًا إياها من كتفها وهو يقول بضحك: بهزر معاكِ متزعليش، أنا رايح ل بدور أختي علشان أتطمن عليها وهاجي بسرعة.

سرت الطمأنينة بين أوردتها، وأخيرًا استطاعت الابتسام ثم طلبت منه بابتسامة واسعة: هاتلي حاجة حلوة وأنت جاي.
مال عليها يُقبل خدها برقة، وأردف بحنان: من عينيا، يلا سلام وخلي بالك من نفسك.

تفوه بكلماته تلك ثم تركها وغادر، تركها تُلاحقه بعينين مُلتمعتين، أرادت الطمأنينة؛ فطمأنها، أرادت الدفيء؛ فاحتواها، أرادت الحرية؛ فأطلقها، قدم لها كل شيء بدون مُقابل، وأمام كل ذلك تشعر بنبضاتها ترتفع في وجوده، لم تمنع فؤادها من الإنجذاب إليه، هو يستحق ذلك وأكثر.

أغلقت الباب خلفه وعادت لتجلس مكانها مُجددًا، استمعت إلى صوت هاتفها فالتقطته بهدوء، لكن سُرعان ما فتحت حدقتاها بصدمة حينما رأت رسالة من ابن عمها فادي وكان محتواها:
وحشتيني يا زوز.
ارتعش كفاها بخوف، ها قد عاد ليُطاردها من جديد، عاد ليُنغص عليها معيشتها، هبطت دموعها برعب وهي تهمس ببكاء: ياربي أعمل إيه؟ أتخلص من المصيبة دي إزاي بس؟
وعلى الجانب الآخر.

وصل يعقوب إلى منزل شقيقته، دق بابها ببرودٍ ففتح له عادل الذي ما إن رآه؛ حتى رسم ابتسامة واسعة لكنها مُبطنة بالحقد والكُره، وبعدها أردف وهو يفسح الطريق له: أهلا يا يعقوب، اتفضل ادخل.

دلف يعقوب نحو الداخل وهو يرمي إليه نظراتٍ باردة، تزامنًا مع قدوم بدور لرؤية مَن الطارق، توقفت مكانها تُطالع يعقوب بذهول من وجوده، خاصةً أنه أعلن الخِصام معها بعد أن ذهبت مع زوجها، التمعت عيناها بالدموع قبل أن تركض إليه وترتمي داخل أحضانه، ضمها إليه وهو يتنهد بثقل، لم يستطع مُقاطعتها لأكثر منذ ثلاثة أيام، ثار عليه فؤاده وأعلن تمرده على قسوته مع مُدللته الصغيرة، لينتهي الأمر به يقف هُنا ويضمها إليه باشتياق.

هبطت دموعها وعلت صوت شهقاتها وكأنها تعتذر عن فعلتها الشنيعة، خاصةً حديثها الجارح له بعد أن اعترض على حديثها، شددت من احتضانه وهتفت من بين بكاؤها: أنا أسفة.
قبَّل جبينها برقة وهو يقول بحنان: متتأسفيش يا حبيبتي، حقك عليا أنا اللي قسيت عليكِ.
ابتعدت عنه تُطالعه برجاء لكي يقبل أسفها، ليمد أصابعه ويمسح عبراتها ثم قال بمزاح: خلاص بقى أنا مش جاي عشان تنكدي عليا، والله أمشي.

قال جُملته الأخيرة وعاد خطوتين للخلف، فتمسكت بذراعه بلهفة وهي تمسح دموعها بسرعة: لأ والله خلاص، تعالى ادخل.
وبالفعل دلف معها تاركين عادل يُطالع يقف مكانه بعد أن تابع هذا المشهد الدرامي باستنكار، جلس يعقوب على الأريكة بينما هي أردفت بسعادة قبل أن تتجه إلى المطبخ: استنى هروح أعملك عصير ليمون بالنعناع اللي أنت بتحبه وهجيلك.

وقبل أن تعطيه فرصة للاعتراض، اتجهت مُسرعة لتعد ما قالت عليه، فيما اقترب منه عادل وجلس على الأريكة المُقابلة له، ثم قال بمجاملة: منور واللهِ يا يعقوب.
طالعه باشمئزاز ولم يُجبه، بينما عادل أكمل بسماجة وبنبرة شامتة: دا أنا قولت إنك مش هتيجي هنا تاني بعد ما أختك كسرت كلمتك ورجعتلي من تاني.

ابتسامة جانبية صغيرة ارتسمت على جانب فم يعقوب الذي رد عليه ببرود: والله أنا جاي عشان أختي اللي ضافرها برقبتك، مش عشان أنت رخيص لأ.
أصدر عادل ضحكة ساخرة قبل أن يقول بتخطيط: عارف يا يعقوب أنا محتاج إيه؟
ارتشف يعقوب بضعة قطرات من كوب المياه الموضوع أمامه، ثم أجابه بقوله المُهين: محتاج تبقى راجل.

برزت عروق رقبة الآخر بغضب حقيقي تلك المرة، وود لو يذهب للفتك به والخلاص منه نهائيًا، قاطع حرب النظرات تلك قدوم بدور حاملة لأكواب العصير، ثم جلست بجانب أخيها وبدأت بالحديث مع بحماس وكأنها لم تتحدث معه منذ أعوام، وتفاعل معها يعقوب بسرعة حيث أنهما مُعتادان على هذا منذ قديم الأزل، غافلين عن نظرات عادل التي تشملهم بوعيدٍ قاتل.

أتى الليل وتوجه بدران إلى غرفة المريض بعد أن اطمئن على صحة أخيه حمزة وعودته إلى المنزل سالمًا، والآن ما يشغل باله هو ذلك المريض وحالته المُستعصية، لم يعلم منه سوى أن اسمه هو مازن الأمير، يظل صامتًا أغلب الوقت ونظراته تخفي الكثير من الحروب خلفها، ومهمته كطبيب نفسي هو إخراج تلك الحرب المُشتعلة من داخله حتى لا يُصاب بالكتمان.

دلف إلى غرفته كالعادة، لكنه توقف مُتعجبًا عندما لم يراه على فراشه، ظن بأنه دخل إلى الغرفة الخاطئة، لكنه تأكد من صحتها، سار عدة خطوات نحو الداخل ببطئٍ شديد ونظر حوله بحذر، ليتفاجئ بهجوم أحدهم عليه على بغتة، تفادى هجومه وتحرك للجانب، فيما نظر له الآخر بشر وعاود الهجوم عليه مُجددًا، حاول بدران تثبيت حركته لكن الآخر كان في حالة اهتياج غريبة، تعركل بدران بالمقعد مما أعطى الفرصة ل مازن بالهجوم عليه وغرز القطعة المُدببة بكف يده.

صرخ بدران بألم أصاب خلايا يده بقوة، لكن توقفت أنفاسه عن الخروج حينما وضع الآخر سِن الآلة الحادة على عُنقه ونظرات الشر تلتمع داخل عيناه، تبدو أنها لحظاته الأخيرة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة