رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل العاشر
أن تنعم بحياة دافئة وشريك دربٍ حنون لهو من أعظم الإنجازات التي قد تمر على الإنسان طيلة حياته.
بعد ذهاب رائف ؛ جلست نرجس على فراشها تُراجع شريط السويعات القليلة الماضية التي مرت، تتنفس براحة وكأن الغرفة مليئة بالمِسك الطيب، مُجرد وجود ذلك الدخيل الذي لم تره سوى مراتٍ معدودات؛ يُشعِرها بأنها طائر يُحلِّق في الأرجاء، وبدون قصدٍ منها تشكلت ابتسامة واسعة على ثُغرها، سألته إن كان سيُطمئنها أم لا، فكان جوابه بحدِ ذاته هو الإطمئنان بنفسه.
كانت تغفل عن باب غرفتها المفتوح ورؤية زوجة أبيها لها، كانت النار تنبش داخل فؤادها من رؤيتها سعيدة والابتسامة تشق زوجها، لطالما كرهتها وكرهت وجودها، لذلك عليها تدمير سعادتها بأيِ ثمنٍ كان، التقطت فتحية هاتفها قديم الطراز وخرجت به نحو الخارج، عبثت به وطلبت أحد الأرقام وانتظرت قليلًا حتى جائها الرد، وكانت أول الكلمات التي خرجت من فاهها هي: عايزاك على بكرة بالكتير تكون عندي.
انتظرت قليلًا لسماع جواب الطرف الآخر، وبعدها هتفت بعصبية: بقولك تتصرف وتيجي بكرة، يا إما وقسمًا بالله ما هتطول مني مليم أحمر.
هدأ غضبها قليلًا عندما استمعت لإجابته المُتلهفة وإخباره لها بالقدوم، لذلك تمتمت بهدوءٍ نسبي قبل أن تنهي الحديث معه: ماشي. مستنياك متتأخرش.
قالتها ثم أغلقت الهاتف واستدارت للدخول، لكنها شهقت بفزع عندما أبصرت زوجها يقف خلفها وعلى وجهه ترتسم معالم الشك، ابتلعت ريقها بريبة وهي تقول بتوتر: م. مالك واقف كدا ليه ياخويا؟
كنتِ بتكلمي مين يا فتحية؟
نبس بها مجدي بوجوم، فتلعثمت قائلة: دا. دا رشدي ابني كان بيقولي إنه جاي.
و رشدي ابنك هيجي يعمل إيه يا فتحية؟
قطبت جبينها بغضب، ثم دافعت عن ذاتها بتبجح وهي تقول بحدة: وأنت مش عايز ابني ييجي ليه يا مجدي؟ وبعدين هيجي يحضر خطوبة أخته اللي بعد يومين دي، مش موال يعني!
أتاه رده غاضبًا وهو يقول بصراحة أخرستها: أنا وأنتِ عارفين أنا مش عايز ابنك ييجي هنا ليه، وبعدين سيبك من جَو أخته وأخوه اللي أنتِ جاية فيه دا عشان أنا مش مصدقه ومش داخل دماغي.
صمتت فتحية تستمع إلى حديثه بوجهٍ واجم وأنفاسٍ تصعد بعنفٍ يظهر عليها الغضب، فيما أكمل مجدي حديثه وهو يرفع سبابته أمام وجهها مُتشدقًا بتحذير: لو حصل منك أو منه أي حاجة معجبتنيش صدقيني ردة فعلي مش هتعجبك أبدًا، وأديني بحذرك من أولها.
أنهى حديثه ثم رحل من أمامها بغضب بعد أن رمى إليها نظراتٍ كارهة مُحذرة، تاركًا إياها تنظر لأثره بغِلٍ قبل أن تبصق عليه من الخلف بكرهٍ زائد، لو كان الأمر بيدها لتطلقت منه وطردته من المنزل، لكنه كان مُراعيًا في البداية وكتب لها نصف المنزل فقط، والنصف الآخر له ولإبنته اللعينة.
السير في دروبٍ غير مرغوب بها لهو أمر مُوجع، أن تنتشلك الحياة من طريقٍ وردي صنعته في دواخلك ثم ترميك في طريق مليءٍ بالعُثرات هو بحد ذاته عذاب، والعذاب الحقيقي ينمو بالتدريج داخل فؤادك نتيجة لدوافع كتمتها أنت من البداية.
عاد يعقوب للخلف بسرعة فور أن وقعت عيناه على تلك التي ارتمت داخل أحضانه، طالعها بحاجبين مُقطبين وعلى وجهه يرتسم الغضب ببراعة، نظر إليها بتروٍ قبل أن يتسائل بشك: أنتِ مين؟
طالعته الفتاة بخوفٍ وأنفاسها تصعد بسرعة وكأنها كانت تركض من شيء ما، فاقتربت منه مُمسكة بكفه برجاءٍ وهي تهتف بدموع: ساعدني الله يخليك. عايزين يقتلوني.
نفضَّ يعقوب يدها بعيدًا ثم ضيَّق عيناه بحذرٍ وهو يتسائل: هما مين دول اللي عايزين يقتلوكِ؟ وأنتِ مين أصلًا وبتهربي منهم ليه؟
كان موقفه رجوليًا وعلى أهبة الإستعداد لمُساعدتها، لكنه فوجيء به ترش شيئًا ما على وجهه قبل أن تلتصق به بطريقة مُفاجئة وتقوم باحتضانه، ابتسمت بانتصار وهي تُقرِّب وجهها من خاصته ثم همست بظفر: المعلم عُمير بيبلغك سلامه يا. يا ابن هارون.
كان يُطالعها بنظراتٍ زائغة وبجسدٍ غير مُتوازن، بينما هي تقترب أكثر لتنال مبتغاها كما أمرها عمير، ولم تكتمل فرحتها عندما شعرت بجسدها يُدفع للخلف بعنفٍ وسقوط جسدها على الأرض بقوة، وبعدها صدح صوت ذِكرى العالي تصرخ بها: أنتِ بتعملي إيه؟
قالتها ثم اتجهت ناحية يعقوب ثم أسندته قبل أن يترنح جسده ويقع على الأرض الصلبة، فزعت الفتاة من وجودها المُفاجيء فلملمت ذاتها وهرعت بالهرب حتى لا يتم كشفها، كادت ذِكرى أن تلحق بها لكنها وجدت وجه يعقوب يرتمي على كتفها والدوار يعصف برأسه بقوة.
أسندته ذِكرى بصعوبة بسبب ثقل جسده وبوادر الخوف بدأت تظهر على ردود أفعالها، هي بالأساس قد خرجت من منزلها للسير قليلًا بعيد عن محيط أبيها وعائلتها، أرادت أن تختلي بذاتها قليلًا، وأثناء شرودها أثناء سيرها استمعت إلى صوت همهمات تأتي من شخصين أمامهما، لم تُبالي في البداية، لكنها تعجبت عندما رأت يعقوب يقف مع فتاة غريبة لم ترها من قبل، وازدادت صدمتها عندما وجدتها تقذف شيئًا ما على وجهه لتجعله غير واعٍ بما يكفي.
كان يعقوب يُحاول الإبتعاد عنها لكن قدماه لم تحملانه أكثر، لذلك ارتمى بثقله كاملًا على جسدها، وجدت ذِكرى صعوبة بالغة في حمله، فجلست ببطئٍ على الأرض وهو معها ثم أسندت رأسها على كتفها، وذلك حينما أخرجت هاتفها وقامت بمهاتفة أخيها تطلب منه بسرعة القدوم في أسرع وقت.
أغلقت ذِكرى هاتفها ونظرت ل يعقوب الذي يُتمتم بكلماتٍ غير مفهومة والعرق الغزير يتصبب من على جبينه، قلقت بسبب حالته فوضعت يدها على رأسه تتحسس حرارته بقلق، ولحسن الحظ وجدت حرارته عادية للغاية.
انتظرت لدقائق قليلة وأنظارها تدوران في أنحاء الشارع الفارغ من المارة، لا تعلم لِمَ الجميع هُنا ينامون مُبكرًا عكس البقية! تسللت الراحة لفؤادها قليلًا عندما وجدت أخيها إلياس قد أتى ويُهرول تجاههم، وصل إليهم وجلس القرفصاء أمامهم مُتسائلًا وهو ينظر بقلق تجاه يعقوب: إيه اللي حصله يا ذِكرى ؟
ردت عليه ذكرى بتعبٍ أثناء مُحاولتها لإسناده: ساعدني بس يا إلياس وبعد كدا نتكلم.
وأخيرًا استوعب إلياس الحالة التي تجمع كليهما، فأبعدها تمامًا عنه ثم أسنده وحده وهو يقول بصرامة: خلاص إبعدي أنتِ وأنا اللي هساعده.
طالعته ذِكرى بتردد وهي تقول: هتعرف تسنده لوحدك؟
أسنده إلياس على كتفه بصعوبة، ثم نظر نحو شقيقته آمرًا إياها على عجالة: خُدي تليفوني من جيبي واطلبي رقم عمران بسرعة.
فعلت ذِكرى ما طلبه منها، وقامت بمهاتفة عمران الذي أجابه بتعجب: خير يا إلياس فيه حاجة ولا إيه؟
تحدث إلياس بهدوءٍ نسبي قائلًا: معلش يا عمران تعالالي دلوقتي بسرعة عند الصيدلية اللي في أول الشارع.
قطب عمران جبينه بقلق وهو يتسائل: فيه حاجة حصلت؟
تعالى بس بسرعة وأنا هفهمك، بس متخليش حد من إخواتك يحس بأي حاجة.
هبط عمران من منزله مُسرعًا واتجه إلى المكان الذي أخبره به إلياس، ليُصدم وبقوة حينما لمح أخيه يعقوب يستند بصعوبة على كتف إلياس، هرع إليه بهلع وهو يتسائل بخوف: يعقوب؟ إيه اللي حصله؟
أسنده عمران من الناحية الأخرى و إلياس يُجيبه بنهيج: ساعدني بس نوصله للبيت وبعد كدا نشوف إيه الحوار.
أستند يعقوب على كلًا من عمران وإلياس والذي كان يُتمتم بكلماتٍ مبهمة غير مفهومة، وصلوا بعد مُعاناة في إسناده بسبب ثقله ووقفوا أمام باب المنزل، تردد عمران خوفًا من ردة فعل أخواته ووالديه، لكن ذِكرى سبقته عندما قامت بالضغط على جرس المنزل على بغتة.
انتظروا لثوانٍ حتى فُتِح الباب، وأول رد فعل طبيعي كان من بادر الذي تحدث بقلق: يعقوب؟ إيه اللي حصل؟
أتى الجميع على صوت بادر الصارخ باسم أخيه، بينما حنان ضربت على صدرها بفزع وهي تصرخ: إبني!
طمأنها عمران وهو يُدخل يعقوب بمساعدة الجميع، ثم وضعوه على أقرب أريكة، أبعد هارون أبنائه ثم وضع كفه على رأس ابنه يتحسسه بهدوء، وذلك قبل أن يرفع رأسه إليهم وهو يتسائل بشر: إيه اللي حصل؟ دا مش مُغمى عليه.
رد عليه عمران بقلق وهو يهز كتفه بجهل: معرفش، أنا لقيت إلياس بيكلمني بيقولي تعالى بسرعة ولما روحت لقيته بالحالة دي.
فرد عليه إلياس مُبررًا هو الآخر: وأنا كمان معرفش، أنا لقيت ذِكرى بتكلمني بتقولي تعالى بسرعة ولما روحت لقيته بالحالة دي.
انتقلت جميع الأنظار نحو ذِكرى التي توترت من الأجواء المضغوطة من حولها، فابتلعت ريقها بريبة قبل أن تقول: أنا هحكيلكم كل حاجة بس متبصوش ليا كدا بدل ما والله أعيط.
اتجه إليها أخيها يُمسك بكفها ليدعمها، ثم تحدث بهدوءٍ طمأنها: متخافيش من حد، إحكي بس عشان نعرف نساعده في أسرع وقت.
نظرت ذِكرى إلى هارون الصامت بطريقة مُخيفة وكأنه يُفكر في شيءٍ ما، ثم بدأت بسرد كل ما حدث معها وما رأته وفعلته هي، كانت معالم وجه الجميع تتلون ما بين الدهشة والحيرة والصدمة والغموض، وحين انتهت هي وجدت بدور تقول بقلق: يعني دا كله كان إتفاق وحد كان عايز يوقع أخويا يعقوب؟
هزت ذِكرى رأسها بجهل وهي تهتف بحيرة: والله ما عارفة يا بدور، بس أنا حاولت أساعده قبل ما البنت التانية تقرَّب منه أكتر وتعمل حاجة.
وتلك المرة صعد صوت بدير الذي تحدث باستنكار: أنا طول عمري بسمع إن الراجل هو اللي بيحاول يتحرش بالست، لكن إن الست هي اللي تتحرش بالراجل دي جديدة.
وجد ضربة قوية تهبط على صدره بعنف، وصوت حمزة يصعد بصرامة وهو ينهره: يا تقول كلام عاقل ورزين يا إما تكتم خالص وبلاش سخافة.
رد له بدير الضربة قائلًا بسخط: أنا مش بهزر أنا بتكلم جد.
نفخ هارون بضجر وهو ينظر أبنائه بغضبٍ لم يستطيع السيطرة عليه، وبعدها نظر ل بدران ثم قال بجمود: تعرف تفوقهولي؟
نظر بدران ل يعقوب بنظراتٍ ثابتة، ثم رفعهما مرة أخرى لأبيه وهو يقول بثقة: طبعًا.
قالها ثم اتجه نحو الداخل لجلب مستخدماته، بينما بادر كان يقف بجانب والدته يُحاول تهدأتها، لكنها لم تكف عن البكاء، خاصةً وهي ترى أمام ناظريها نوم مصعب السريع بسبب دوائه الذي يحتوي على نسبة من المُنوم، وكذلك يعقوب الغارق في عالمه.
اتجه إليها هارون حتى توقف أمامها، ثم مال على جبينها يُقبله بحنوٍ وهو يقول: متقلقيش يا حنان، هيبقي زي الفل وأحسن من الأول كمان.
طالعته حنان ببكاء ثم تمتمت بيأس: ولادي الاتنين في يوم واحد يا حَج!
عاتبها هارون برقة قائلًا: استغفري ربك يا حنان دا نصيب.
استغفرت حنان في سرها، فيما استدار هارون يُتابع ما يفعله بدران بصمتٍ، مرت الدقائق القليلة وتمتمة يعقوب بدأت تقل تدريجيًا، وذلك بعد أن حقنه بدران بإبرة وريدية حادة، بدأ يعقوب باستعادة وعيه تدريجيًا حتى بدأت الرؤية تتضح أمامه، نظر إلى الجانب بأعين زائغة، وتلقائيًا ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغره عندما لمح ذِكرى تقف أمامه، وأول الحديث الذي صعد من فاهه هو:
الحِلو اللي شاغلني.
كتمت ذِكرى أنفاسها وهي تُطالعه بحدقتين مُتسعتين بصدمة، فيما وقف إلياس أمام شقيقته ليمنع رؤية يعقوب لها وهو يقول بتشنج: واللهِ العظيم أكسَّر دماغك.
أخفضت ذِكرى رأسها بخجلٍ بالغ، وحاول الشباب كتم بسمتهم التي كادت أن تصعد رغمًا عنهم.
اقتربت حنان من ابنها ثم سألته بنبرة مُتلهفة: يعقوب حبيبي سامعني؟
هز يعقوب رأسه بالنفي وهو يُجيبها بتيهة: لأ مش سامعك.
أبعدها هارون بيده ببطئٍ ثم جلس هو أمامه وتحدث بصرامة: يعقوب فوقلي كدا عشان تحكيلي اللي حصل.
نظر يعقوب لأبيه بابتسامة واسعة قبل أن يسأله بخجل: بابا هو أنا عسول؟
قطب هارون جبينه بتعجب وهو يسأله: إشمعنى؟
ليرد عليه يعقوب بحرج: أصل البت كانت عايزة تعتدي عليا.
أخرج بدران صوتًا ساخرًا من بين شفتيه ثم قال: دي باينها طايرة منه على الآخر، ما بلاش تتكلم معاه النهاردة يا بابا وخليها بكرة أحسن يكون فاق.
رأى هارون أن هذا سيكون في صالح الجميع، خاصةً في حالة اللاوعي التي بها يعقوب، استدار هارون جهة إلياس وذكرى ثم تحدث بامتنان: أنا مش عارف أقولكم إيه، تسلموا على اللي عملتوه.
اعترض إلياس على حديثه قائلًا بعتاب: وإحنا عملنا إيه بس يا حَج! يعقوب دا زي أخويا واللي عملناه دا واجب مش أكتر.
ربت هارون على كتفه عدة ربتات خفيفة وهو يقول بفخر: ودا العشم برضه.
نستأذن إحنا بقى يا حَج عشان اتأخرنا، وإن شاء الله من بكرة الصبح هاجي أتطمن عليه بنفسي.
إذنك معاك يا حبيبي، اتفضل.
نبس بها هارون ردًا على حديث إلياس الذي أخذ شقيقته واتجه بها نحو الخارج، ولكن قبل أن يختفوا كُليًا، استمعوا إلى صيحة يعقوب العالية وحديثه العابث الذي هتف به أثناء نظره نحو ذِكرى : سلام يا حِلو.
وعلى الجانب الآخر، كانت ضحكات عمير تصدح عاليًا وترن صداها في الأرجاء، وذلك عند رؤيته لذلك الفيديو الذي صوره أحد رجاله ل يعقوب وذكرى ، والذي التقطته من وضعية مُعينة يجعل مَن يراه يظن بهم السوء!
نظر عمير إلى رجله ثم تحدث بنبرة مليئة بالفخر: عفارم عليك ياض، ابقى فكرني أحلي بوقك.
سال لعاب الأخير طمعًا وهو يقول بلهفة: تسلم يا معلم عمير، دا أنا لحم كتافي من خيرك.
تجاهل عمير حديثه الأخير ونظر للفيديو بتمعن مرة أخرى وعيناه تلتمعان بالمكر، ناهيك عن الشر الذي يتخطط داخل عقله في تلك الأثناء.
في صبيحة اليوم التالي، بدأ يوم روتيني جديد، لكن ليس روتينيًا بالمعنى الحرفي، وإنما سيكون مليء بالصدمات الموجعة.
استيقظ يعقوب بألمٍ شديدٍ في رأسه، ثم هبط لفتح محل الجزارة خاصته وذلك بعد أن قص لوالده كل ما حدث معه بالتفصيل، غيَّر وجهته في آخر لحظة، بينما كانت معالم وجهه واجمة إلى حدٍ كبير، خطواته سريعة تعكس غضبه الذي كاد أن ينفجر، وسار نحو وِجهته التي يقصدها من البداية حتى وصل إليها أخيرًا، ألا وهي. المحل الخاص ب عُمير حامد العوضي.
دفع يعقوب باب المحل بقدمه بقوة أفزعت الجالسين في الداخل، وبعدها دلف للداخل وأمسك ب عمير من ياقة ثيابه بإهانة حتى أوقفه أمامه، طالعه عُمير بصدمة واضحة ومن الداخل يرتعد خوفًا من فكرة كشفه لأمره، لكن جاء حديث يعقوب بدد خوفه هذا عندما تحدث بفحيح:
أنت لحد دلوقتي مشوفتش غضبي ولا دوقت عداوتي، يمين بالله العظيم لو عِرفت إن ليك يد في أي حاجة حصلت لهقطعهالك، أصل يعقوب هارون رضوان طيِّب آه، لكن لدغته والقبر.
أنهى حديثه ثم دفعه للخلف بكل عنفٍ أدت إلى سقوطه على كرسيه مُجددًا، طالعه باشمئزاز ثم استدار وسار عدة خطوات في نية للخروج، لكن أوقفه حديث عمير الذي ارتفع بغضب: أنت جاي تهددني وتمد إيدك عليا في المحل بتاعي؟ هي دي الأخلاق اللي علمها ليك الحَج هارون؟
توقف يعقوب محله، ثم استدار له بنصف وجهه وهو يقول بابتسامة جانبية وكلماتٍ مُبهمة ذات مغزى: صدقني أنا معاك لحد دلوقتي متربي، لكن لو عايز تشوف شخصيتي بعيدًا عن تربية الحج هارون أنا معنديش مانع.
قال كلماته وانتظر قليلًا علَّه يستمع لرد، فازدادت ابتسامته اتساعًا بشر عندما تيقن بوصل مغزى حديثه إلى الآخر، وقبل أن يتركه تمامًا ويذهب؛ تحدث ببضعة كلمات بثت الرعب داخل فؤاده قائلًا: إبقى خلي الحج حامد يجهز فلوس كتير الفترة الجاية، هنحتاجها في عمليات وكسور وشوية كدمات وإن شاء الله خير.
نظر عمير لأثره الراحل بغلٍ ثم جلس مكانه مُجددًا وعقله لا ينفك في التفكير بطريقة شيطانية، خرج من شروده على صوت رجُله والذي قال بتلعثم: ه. هنعمل إيه يا معلم؟ دا شكله ناويها على شر وإحنا مش قده!
سدد له عمير نظرة غاضبة حادة وهو يتشدق بعصبية: يعني إيه إحنا مش قده؟ لأ أنا قده ونص وبكرة تشوف الكلام دا بعينك.
طالعه الآخر بتوتر، فيما استطرد عمير حديثه يسأله بشر: بعت الفيديو للواد صاحبك اللي قولتلي عليه؟
أيوا يا معلم، وقالي على بالليل كل اللي طلبناه هيتنفذ بس عايز عربون زيادة شويتين.
وضع عمير قدمًا فوق الأخرى، ثم أمسك بخرطوم نارجيلته وهو يقول بتخطيط: إديله اللي هو عايزه، المهم ينفذ اللي اتفقنا عليه وفي الوقت المطلوب.
أما بالخارج؛ اتجه يعقوب إلى محله فوجد الصِبية قد استبقوه وبدأوا بالعمل به، لفت انتباهه محل ذِكرى المفتوح بابتهاج، كانت في تلك الأثناء تسقي الورود بعناية فلم تلحظ وجوده، شعر بالتردد في الذهاب إليها أم لا، لكنه حسم أمره واتجه ناحيتها بخطواتٍ رتيبة وهو يُفكر مليًا في طريقة للحديث معها.
وقف على أعتاب المحل وحمحم بصوتٍ خشن استرعى انتباهها، رفعت أنظارها تُطالع الزائر فابتسمت عِند رؤيته، تركت ما بيدها ثم اتجهت إليه وتحدثت بابتسامة خفيفة: إزيك يا معلم؟ عامل إيه دلوقتي؟
حكَّ يعقوب جانب عنقه بحيرة ولا يعلم كيف سيفتح معها الأمر، حاول مرارًا وتكرارًا تجميل حديثه قبل أن يصعد من فمه، لكنه وجد ذاته يتسائل بتلقائية وصراحة: هو أنا عملت معاكِ أي حاجة إمبارح وأنا مش في وعيي؟
طالعته باندهاش لسؤاله الصريح، فيما بيَّن هو سبب حديثه قائلًا: أنتِ عارفة اللي حصل إمبارح، أبويا وإخواتي حكولي على كل حاجة، كنت عامل زي السكران ومش واعي لأي حاجة، فعشان كدا بسألك أنا عملت أي تصرف مش صح إمبارح؟
بالطبع لن تخبره بما قاله أو فعله أمام الجميع، لذلك هزت رأسها بالنفي وهي تبتسم له بخفة: لأ محصلش أي حاجة.
تسللت الراحة إلى فؤاده وتحدث قائلًا: طيب الحمد لله، كويس إني كنت محترم.
كتمت ضحكتها بصعوبة وأومأت له بدون أن تتحدث، وجدت أنظاره تتجه نحو الورود ثم عاد ينظر إليها قائلًا ببسمة مُتسعة: ممكن آخد وردة!
ضحكت بخفة وهي تُفسح له الطريق وهي تُجيبه: ادخل خُد اللي أنت عايزه.
خطى بقدمه نحو الداخل ووقف أمام الزهور الكثيرة بمختلف ألوانها، واختار في أخذ أيُهم، وبعد ثوانٍ من التفكير مد يده لإلتقاط إحدى الورود الخلابة، والتي كانت من اللون الأبيض الخلاب، أخذها واستدار لها حيث كانت تستند على باب المحل وعلى فاهها ترتسم ابتسامة هادئة، اقترب منها بتروٍ حتى توقف أمامها، ثم مد يده لها بالزهرة قائلًا:
الحِلو للحِلو.
اعتدلت في مكانها مُطالعة إياه بدهشة، أنظارها الغير مُصدقة تُطالعه بتعجبٍ وكأنه فعل شيئًا مشينًا، كان يتحاشى النظر إليها مُحاولًا ألا يُطيل النظر إليها، فبرر فعلته قائلًا بحديثٍ سخيف: بمناسبة إنك ساعدتيني وكدا يعني.
استشفت حرجه من فعلته الهوجاء فلم تُرد إحراجه أكثر، لذلك مدت يدها لأخذها وتمتمت بصوتٍ خفيض: شكرًا.
قاطع حديثهم مجيء رائف الذي فُوجيء بوجود يعقوب، والذي ما إن رآه حتى تسائل مُتعجبًا: بتعمل إيه هنا؟
هز يعقوب كتفه وهو يُجيبه: مبعملش.
لم يُصدقه رائف بالطبع، وقرر معرفة ما يجري ولكن بعد أن يقضي حاجته، استدار نحو ذِكرى وتحدث بنبرة مُتلهفة: عايز بوكيه ورد أصفر.
أومأت له ذِكرى ثم اتجهت نحو ورودها الحبيبة وبدأت بعملها، وعلى بُعد عدة خطوات منها، غمز رائف ل يعقوب وهو يقول بصوتٍ خفيضٍ عابث: هتحكيلي ها؟
تصنَّع يعقوب الجهل وهو يقول: أحكيلك إيه؟
سخر رائف منه مُجيبًا إياه بتهكم: سِر جمال بشرتك يا خفيف.
طالعه يعقوب باشمئزاز قبل أن يهمس بضجر: دا أنت عيِّل فصيل.
سدد له رائف نظرات شامتة قاطعها قدوم ذِكرى التي مدت يدها له ب بوكيه من الورد الأصفر مُلتف بشريطة بيضاء لامعة، وأعلاه وضعت كارت صغير فارغ لكتابة ما يريد للشخص المُرسل إليه، التقطه منها رائف مُطالعًا الورود بإعجابٍ شديد، نظر إليها بامتنان قبل أن يقول بشكر:
تسلم إيدك، حسابه كام؟
أخبرته بسعره وهو حاسب على طلبه، نظر إلى يعقوب الواقف بينهما كالدخيل وتحدث بتشنج: إيه الوقفة عجباك هنا؟ مش يلا ولا إيه؟
حمحم يعقوب بجدية شديدة بعد أن استفاق لذاته، ثم نظر إليها قائلًا بعملية: آه طبعًا. عن إذنك يا ست ذِكرى .
قالها ثم ذهب مع رائف واتجها نحو الخارج، وفور خروجهم؛ اتسعت ابتسامة ذِكرى بقوة وهي تنظر للزهرة التي تقبع بين يديها بأعين مُلتمعة، وشعورٌ لذيذ بدأ يُدغدغ معدتها حين يلمح أثره أو هيئته.
وبالخارج. نكزه رائف في جانبه وهي يُتمتم بعبث: هي الصنارة غمزت ولا إيه؟
طالعه يعقوب بحيرة وهو يهمس بجهل: واللهِ ما أنا عارف، أنا بس حاسس إني ميَّال من ناحيتها شوية، وأبويا لو عِرف اللي عملته هيدغدغ دماغي.
توقف رائف عن السير مُطالعًا إياه بتعجب، ثم أردف باستغراب: ليه أنت عملت إيه؟
رد عليه يعقوب بندم: إديتها وردة.
تشنج وجه رائف باستنكار وحدق به ساخطًا، فيما أشاح بيده أمام وجهه وأردف قبل أن يذهب من أمامه بضجر: وأنا اللي فكرتك بوستها!
علت ضحكات يعقوب عاليًا بعدم تصديق، ثم انحنى والتقط حجر صغير وقذفه تجاهه وهو يهتف من بين ضحكاته: تصدق إنك سافل ومتربتش!
تمر الأيام ويشعر الإنسان بحالة من الضيق تحتله، والجدران تكاد أن تطبق على أنفاسه لتقتله، حتى الأمور التي كان يسعد بها؛ ما عادت تُفرحه.
جلس حسن على كُرسي مكتبه ينظر إليه بشرود وعيناه مسودتين يظهر عليهما الغضب، تذكر المكالمة التي وردته منذ قليل، والذي كان محتواها بأنهم وأخيرًا قد وصلوا إلى مكان تسنيم ابنة عمه بعد أيام من البحث عنها، تختبيء بإحدى الحارات المُتكدسة بالسكان ومجتمع ريفي، ضغط بقبضته على القلم الذي يُمسكه بين يديه ثم همس بحقد:
هانت، كلها مسألة وقت وآخد حق أمي منك، لكن حظك الحلو إني مش فاضيلك دلوقتي.
قال جُملته تزامنًا مع دخول أبيه للمكتب بملامح واجمة استعدت تعجبه، ظل حسن على وضعه هذا دون أن يتحدث مُنتظرًا تذمُر أبيه، والذي بالفعل تحدث بغضب ممزوج بالغِل أثناء جلوسه على المقعد المواجه له:
عباس الموجي خَد الصفقة مننا لتاني مرة، أنا مش عارف الراجل دا هيهدى ويسيبنا في حالنا إمتى!
أراح حسن ظهره على المقعد الأسود الوثير، ثم تحدث بسخرية وهو يهتز به يمينًا ويسارًا: طبيعي ياخدها يا طارق بيه! هو مش دافع أكتر؟ وأنت عايز تاخد ومتديش.
رفع طارق أنظاره الحادة يُطالعه بسخط، ثم تحدث بهجوم وهو يُدافع عن ذاته: ما أنا عرضت مليون جنيه، عايز إيه تاني؟
رد عليه حسن بابتسامة جانبية مُتهكمة: وهما طالبين فيها عشرة مليون، يعني عشر أضعاف المبلغ اللي أنت عرضته.
طالعه طارق بضيق، فيما اعتدل حسن في مكانه واقترب منه بجسده مُستندًا بذراعيه على سطح المكتب وهو يقول بذكاء: قوانين شُغلنا ثابتة ومبتتغيرش، عشان تكسب أكتر لازم تدفع أكتر وأكتر، والمكسب بيجي الضِعف.
زفر طارق بضيق قبل أن ينظر له بتحذير وأردف: متنساش الشُحنة اللي هتتسلم الإسبوع الجاي.
أومأ له حسن بصمتٍ، فتركه طارق ثم ذهب لمتابعة عمله، أرجع حسن رأسه للخلف بإنهاك وشعر بالإختناق يتسلل لفؤاده رويدًا رويدًا، هبَّ من مكانه حاملًا جاكيت بذلته السوداء على ذراعه ثم خرج من الشركة بأكملها مُتجهًا إلى وجهته.
اليوم هو الأحد، وبه توضع جميع أنواع الطعام الشهية على السُفرة، وقفت حنان في المطبخ تعد الطعام لأبنائها لحين عودتهم من أعمالهم المُرهقة، فدخل عليها عمران يشتم رائحته بتلذذ شديد وهو يهتف بمزاح:
عيني عليكِ وعلى جمال أكلاتك يا سِت ماما، يا بخت الحَج هارون بيكِ.
ضحكت حنان وهي تضربه على كتفه بمشاكسة وهي تقول: يا واد يا بكاش.
اقترب عمران أكثر من صواني الطعام مُتسائلًا بفضول: عاملالنا أكل إيه بقى النهاردة؟
ردت عليه وهي تُقلب الطنجرة التي بين يديها: عاملالكوا كِرشة ومُمبار وشوية سجق.
الله الله، دا إحنا هنتدلع النهاردة.
صمت قليلًا حتى تمتم بتردد بقوله: بقولك إيه يا ماما! إبقي ابعتي طبق لجيراننا الجُداد.
وضعت حنان الغطاء على الطنجرة، ثم استدارت له بكامل جسده وهي تقول باستغراب: عيني طبعًا، بس إشمعنى؟
روى لها ما حدث وقدوم جنة لشراء (الكِرشة والممبار) من محلهم لكن الكمية كانت قد انتهت، لذلك أراد أن يرسل لها واحدًا كمُجاملة، أرمأت له حنان بابتسامة صافية ثم قالت بود: حاضر يا حبيبي، هجهزهم وإبقى تعالى أنت وديهم بنفسك.
توتر عمران واعترض قائلًا: ل. لأ. إبقي خلي بدور هي اللي توديها وخلاص مش مهم أنا.
ردت عليه والدته قائلة: بدور مش هنا، طِلعت عند عمك عوض عشان تقعد مع رحمة وزهراء شوية.
زفر عمران وهو ينظر إليها بقلة حيلة بسبب المأزق الذي وضع ذاته به، ثم وافق بقوله: خلاص ماشي، لما آجي هبقى أوديه ليهم، يلا سلام عليكم.
وعليكم السلام.
ردت عليه بابتسامة هادئة وهي تُتابع أثره الراحل، فاستدارت جهة بدير الذي يجلس على الطاولة يأكل الخيار بنهم، ثم اقتربت منه وجلست بجانبه وهي تقول بخفوتٍ حَذِر: واد يا بدير؟ خدت بالك من اللي أنا خدته يا ولا؟
رفع بدير أنظاره لها قائلًا بثقة: خدت بالي طبعًا، وهو إن الخيار المرة دي أحسن من الخيار بتاع المرة اللي فاتت.
ضربته والدته على ذراعه بغيظ وهي تصرخ به بحنق: سيبك من الأكل دلوقتي وركز معايا، مش ملاحظ إن أخوك عمران حاله متشقلب اليومين دول؟ شكله كدا حاطط عينه على جنة بنت رؤوف صاحب أبوك.
قطب بدير ما بين حاجبيه باستغراب وهو يقول مُتعجبًا: من إمتى وأنتِ خبيثة كدا يامَّا؟ وأنا اللي بقول عليكِ طيبة وعلى نياتك!
دفعته حنان بغضب وهي تصرخ به بعصبية: قوم يالا دا أنت قِلة الكلام معاك أحسن.
كادت أن تقوم من مكانها، لكنها وجدت بدير يُمسك بيدها وهي يقول من بين ضحكاته: خلاص يا حنان تعالي أقعدي ومتبقيش قماصة.
طالعته والدته بحنق، فيما أكمل هو حديثه مُؤكدًا على ما قالته: أنا فعلًا خدت بالي، وكمان نظرات يعقوب أخويا إمبارح ل ذِكرى مكانتش عادية، شكله مُعجب بيها هو كمان.
وضعت حنان كفها أسفل ذقنها وهي تقول بتفكير: بس أخوك مكانش في وعيه!
رد عليها بدير بنُصح: ما هو الكلام اللي بيطلع في الأوقات دي بيكون حقيقة مش مجرد هلوسة.
رد عليه حنان بذهول: بجد يا ولا؟
ليُجيبها بدير بثقة: اسمعي مني.
تنهدت حنان بسعادة وهي تقول بفرحة عارمة: إن جيت للحق فالبنات دي طيبين ومحترمين وياريت يكونوا فعلًا مراتاتهم، كدا يبقى فاضل رضوى وناخد ال 3 بنات مع بعض.
حذرها بدير بتلقائية: بلاش رضوى عشان هي مش طايقة حمزة.
ارتسم الذهول على وجه والدته التي تحدثت بتعجب: إشمعنى حمزة؟
توقف الطعام بحلقه فور استيعابه للمصيبة التي وضع ذاته بها، نظر لوالدته بتوتر قبل أن يقول بنبرة مُتلعثمة أثارت حفيظتها: ها؟ ل. لأ مفيش حاجة.
وقف من مكانه بسرعة وكاد أن يذهب من أمامها حتى لا يقع بالحديث مُجددًا، فوجدها تُمسِك بيده بقوة وهي تقول بإصرار: تعالى هنا يا بدير وإحكيلي.
أحكيلك إيه يامَّا سيبيني الله يكرمك، أنا أصلًا معرفش حاجة.
أمسكت به بإصرار وربتت بكفها على صدره وهي تقول بحنوٍ لاستدراجه: بدير حبيب أمه! ليك عليا لو حكيت ليا هعمل الجلاش باللحمة اللي أنت بتحبه.
هز بدير رأسه بالنفي قائلًا بقوة: مش هبيع إخواتي عشان صنية جلاش يامَّا.
حاولت إغرائه أكثر ففتحت له باب العروض أكثر وهي تقول بهمس: وهعملك جنبها الفتة واللسان عصفور.
احتل البكاء معالم وجه بدير الذي قال برجاء: يامَّا بالله عليكِ سيبيني بدل ما أضعف!
طب أنت مش نفسك في جوز حمام متحمرين بالسمنة البلدي؟
وهُنا صرخ بدير قائلًا باستسلام: خلاص هقولك، بس اوعديني متقوليش لأبويا حاجة، عشان إخواتي لو عِرفوا هيمرجحوني.
ردت عليه حنان بثقة: عيب يا حبيبي مش هقول لحد طبعًا.
حين يتحد العالم ضدك ومن أجل إحزانك، تشعر بأنها نهاية الطريق وبداية الهلاك، وهذا ما تشعر به سارة، والتي تضع بذراعيها على المكتب وتستند برأسها عليهما، تشعر بأن جميع الطُرق مُغلقة بإحكام أمام وجهها، وهي وحيدة لا تستطيع المواجهة أكثر من ذلك!
هبطت دمعة شاردة من عينيها الرماديتين وهي تعود بذاكرتها للساعات الماضية، حينما إنهال عليها زوج والدتها بالضرب بعد أن هددته بفضحه إن اقترب منها مُجددًا، فهو عادةً ما يتعمد لمسها أو التواجد معها بصورة دائمة حتى تخضع له، لكن هذا لم يُزيدها إلا نفورًا واشمئزازًا.
أستاذة سارة بقالي ساعة بنادي عليكِ.
نبس بادر بتلك الكلمات عندما ناداها عدة مراتٍ ولم تستجيب له، رفعت سارة أنظارها له تُطالعه بنظراتٍ تائهة ووجهٍ شاحب، ثم ردت عليه بصوتٍ خفيضٍ: أيوا يا أستاذ بادر كنت بتقول إيه؟
استعجب لحالتها تلك لكنه لم يريد التدخل فيما لا يُعنيه، لذلك تحدث بهدوء: بقولك الحصة بتاعتك بدأت والطلبة مستنيين حضرتك في الفصل.
أومأت له سارة بصمتٍ ثم قالت: تمام ماشي، أنا هروحلهم دلوقتي.
كان من المفترض عليه تركها، لكن حالتها أثارت حفيظته وعاد ليتسائل مُجددًا: حضرتك كويسة مش كدا؟ أطلبلك دكتور لو حاسة إنك تعبانة!
نفت برأسها وهي تبتسم له بلا حياة: لأ مفيش حاجة، شوية صداع وهيروحوا لحالهم، عن إذنك عشان متأخرش.
قالت جُملتها الأخيرة ثم تحركت من أمامه مُبتعدة عنه، واتجهت ناحية الفصل الذي من المُفترض أن تُدرس له، بينما بادر اتجه نحو مكتبه ليجد رؤية في انتظاره منذ فترة قليلة، ابتسم فور أن رآها ورحب بها قائلًا:
أهلًا أهلًا دكتورة رؤية!
ابتسمت رؤية باتساع على اللقب الذي يُناديه للجميع، فتلك هي عادة بادر منذ أن بدأ مهنة التدريس، وهي تشجيع جميع طُلابه لحثهم على المذاكرة والإكمال دون أن يُشعرهم بالدونية والفشل، مما جعله محبوبًا من الجميع بلا استثناء.
اقتربت منه رؤية وجلست على المقعد بعد أن أشار لها بالجلوس، ثم تحدثت بصوتٍ خفيض حَرِج: بصراحة يا مستر بادر أنا جاية أشكرك جدًا على وقوفك جنبي ومساعدتك ليا، الحمد لله أنا جيبت مجموع كبير ودا بفضل ربنا سبحانه وتعالى ثم تشجيعك ليا ولزمايلي، جاية النهاردة عشان أقولك إني حققت حلمي وحلم ماما الله يرحمها وجيبت مجموع طب بشري وخليتها فخورة بيا.
كان بادر يستمع إليها بتأثر بالغ، خاصةً عندما تحشرج صوتها في نهاية الحديث، ورغم ذلك أكملت قائلة: أخدت بنصيحتك وبعدت عن الولد اللي كنت بكلمه، بعدت وأنا كُلي يقين إن ربنا لو شايفه إنه هيبقى خير ليا هيجعله من نصيبي، وطبعًا حضرتك كنت السبب في إني أسيب حاجة حرام أنا كنت حباها وأستعوض ربنا فيها، وفي زي الأيام دي بعد كام سنة هاجي وهقعد قدامك نفس القعدة دي وأنا بحكيلك إن ربنا استجاب لدعائي واتجوزت للشخص اللي بحبه.
طيلة الحديث لم تُمحى الابتسامة من على وجهه، فؤاده ينبض بين جنبات صدره فرحًا بما يستمع إليه الآن، لقد ترك أثرًا طيبًا في قلب إحداهن، ووجهها إلى طريق الصواب والهداية بدلًا من الضلال، سحب نفسًا عميقًا مُعبق بالراحة ثم زفره على مهل، وبعدها تحدث بأعين مُلتمعة تعكس سعادته:.
متتخيليش فرحتي بيكِ وبكلامك عاملة إزاي! حاسس إن بنتي هي اللي حققت الإنجاز العظيم دا مش مجرد طالبة عندي، عايز أقولك إن ربنا مستحيل يبعد حاجة عنك لو كانت خير ليكِ، لإن ربنا مش بيقدملنا غير الخير وبس، وفي نفس الوقت دا بعد ما تكبري هكون مستنيكِ تيجي تقوليلي إنك اتجوزتي الشخص اللي بتحبيه واللي ربنا اختارهولك، وكُلي ثقة وإيمان إنك هتيجي تاني.
وقفت رؤية من مكانها تُودعه بدموعٍ وكأنه شخص عزيز على قلبها، وبحزنٍ بالغ تشدقت: شكرًا ليك بجد يا مستر، ومش معنى إني خلصت ثانوية عامة يبقى هنسى حضرتك، أنا هجيلك كل فترة والتانية أسلم عليك.
أجابها بابتسامة واسعة: مكتب أخوكِ مفتوح ليكِ في أي وقت.
عن إذنك.
اتفضلي يا رؤية.
مرت الساعات وهلَّ الليل على الجميع، وفي تلك الأثناء كانت نرجس تعود إلى منزلها بعد أن ابتاعت بعض المشتريات للمنزل، توقفت مكانها فجأة بعد أن قاطع طريقها طفل صغير يحمل باقة من الورود ويمدها إليها، وبعدها تحدث بصوت طفولي بريء: دا ليكِ يا عسولة.
قطبت نرجس جبينها بتعجب، قائلة وهي تلتقطه منه وتنظر إليه بتمعن: من مين دا؟
انتظرت إجابة الصغير لكنها لم تستمع لشيء، أنزلت باقة الورود عن وجهها لتنظر إليه، لكنها شهقت بفزع عندما وجدت الطفل قد اختفى فجأة مثلما ظهر فجأة، وضعت يدها على صدرها تهتف بفزع وهي تنظر حولها بخوف:
بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الخبث والخبائث.
قالتها ثم هرولت من المكان بأكمله وفؤادها يطرق بخوفٍ عنيف، توقفت على مسافة مناسبة من منزلها بعد أن تأكدت من وقوفها في مكان آمن مليء بالمارة، وبعدها نظرت لباقة الزهور مرة أخرى بتمعن أكثر، فلفت نظرها ذلك الكارت الموضوع بين أوراقها، التقطته بحذر ثم بدأت بقراءة ما به بهمس:
جايلك بكل هزايمي مهموم، كنت مُنتصر وبقيت مهزوم، قلبي كان فاضي وبقى بيكِ مسكون، وبعينيكِ أنا بقيت مغروم.
كانت ابتسامتها تتسع تدريجيًا عندما تمر عيناها على كلماته، لكنها فجأة ما انمحت عندما قرأت جُملته الأخيرة والتي كانت:
تحياتي ليكِ يا صفرا، .
تشنج وجهها مع كلمته الأخيرة لكن هذا لا يُقلل من فرحتها، وإنما شعرت بأنها ليست هامش في حياة أحدهم وللمرة الأولى!
شهقت بفزع عندما شعرت بأحد يجذبها إلى منزلها بعد أن وصلت إلى أعتابه، وصوت الشخص الذي كرهته طيلة حياتها يصعد قائلًا بانتشاء وعيناه تمر على منحنيات جسدها بوقاحة: وحشتيني يا نرجس!
وعلى الجانب الآخر، كان هُناك مقطعًا يُبعث لجميع المناطق الموجودة في المنطقة بلا توقف وبدون عِلم مَن صاحبه، والذي كان يظهر به يعقوب ومعه ذِكرى في وضع مُخل غير لائق، بعد أن قاموا بإضافة بعد المؤثرات الصوتية التي تضفي للمشهد واقعية أكثر، مقطع واحد انتشر في جميع الأرجاء حتى على هواتف الرجال المُتجمعين الآن على سُفرة الطعام، رسالة واحدة ستقضي على مستقبل إحداهن وسُمعة البقية، وعِند رؤيتهم لِمَ أُرسِلَ؛ شلت الصدمة ألسنتهم!