رواية أمواج قاتلة الجزء الثاني للكاتبة نداء علي الفصل الحادي عشر
ابتسمت بخجل بعدما أشبعها غزلا بكلماته العاشقة لها واكتفت بوضع رأسها فوق كتفه بارتياح لينظرا سويا الى أشعة الشمس التي أعلنت عن رغبتها بالغروب تاركة المجال لقمر يهفو الى مراقبة عاشقيه..
تنهدت ميادة بحب مرهق من سنوات البعاد وابتسم نوح بسعادة طغت فوق سماء حياته المتعبة لتعقد ميادة حاجبيه بعد قليل متسائلة بغيرة واضحة:
قولي يانوح بيه عملت ايه مع عروستك، ولا ناوي تسيبني لوحدي وتروحلها؟
قهقه نوح فزادها هياما به وتعلقا بوجوده الا أنه تحدث اليه بحب قائلا:
وحد جالك عني هسيب الچنة وارمي نفسي في النار يا جلبي؟
مطت شفتيها بدلال فاقترب منها متحدثا ببعض الكلمات المشاكسة التي زادتها خجلا وزادته هو سعادة
زفر بعض قليل بهدوء محاولا ان يطمأنها قائلا:
اني رحت لأبوها وفهمته اني متچوز ومهجدرش اتچوز تاني وخلاص حكاية وانتهت من أساسها..
ميادة: اممم.
نوح: وااه، ايه اممم ديه ممصدجاش چوزك حبيبك وواد عمتك اياك!
ميادة: بجد بحب اسمعك بتتكلم صعيدي يانوحي..
نوح: وانتي مهتكلمنيش صعيدي ليه ولا نسيتي؟!
ميادة: مش ناسية بس عادي يعني
نوح بحب: طيب ما نچرب ولو معرفاش اعلمك
غمزها بعينه فنظرت اليه بغيظ قائلة:
على فكرة بقي انت مش مؤدب
نوح مقهقا: لاه اسمها جليل الحيا خليني اعلمك بالمظبوط
ميادة: فعلا انت جليل الحيا
نوح: وبعشجك
ميادة: واني كمان بعشجك.
نوح: شفتي بجى اني استاذ شاطر، ممكن بجى نطلع فوج الچو برد عليكي اهنه
ميادة: اوك، خلينا نطلع ونقعد مع ماما وبابا شوية
حملها نوح قائلا بتحذير مرح:
لاه ممنوع مفيش خروج من حضني واصل غير لحضني وبس لا ماما ولا بابا ولا اي مخلوج
ميادة: نوح وبعدين معاك؟
نوح: كل خير يا ست العرايس
وغادرا حاملا اياها بحب بعدما ألقى خلف ظهره أحمالا ارهقته لسنوات...
قطع حماد منتصف المسافة الى اقرب مشفى بينما زوجته لم تتوقف عن الصراخ بألم جعله يفقد اعصابه ليصيح بوجهها قائلا:
اكتمي بجي خلاص جربنا نوصل
مديحة: اااه، يا حماد هموووت مجدراش اتحمل
حماد بحدة ناتجة عن توتره وخوفه: خلاص جولتلك اعملك ايه اطير اياك
مديحة: سرع شوي الله يكرمك مجدراش ياخلج.
واستمع حماد الى ما تقوله زوجته ولا أحد يعلم أكان يسرع هو الى قدره ان قدره سارع اليه وباغته ليقلب حياته رأسا على عقب بعدما اصطدمت سيارته بشاحنة نقل عملاقة ظهرت امامه من العدم ولم يستطع تجنبها بسبب سرعته الفائقة فانقلبت سيارته لتندفع طفلته الصغيرة بقوة خارج زجاج السيارة الأمامي فتفقد حياته على الفور أمام أعين حماد التي امتزجت بداخلها دمائه ودموعه ليتيقن أن زرعته التي رواه في الماضي بطيشه وعنفوانه صارت شجرة ذات اغصان متشابكة التفت حول رقبته فأهلكته واهلكت معه تلك الصغيرة التي لم يكن يرجو من الدنيا سواها...
وللمرة الثانية تعود ميادة الى مصر ولكن تلك المرة تخشى من الفراق الذي قد يهلك روحها ففيما مضى لم تكن تهتم لنوح أو لغيره ولكن الأن لا تهتم لأحد سواه، هل تلك الحادثة التي جعلتها هي ونوح ينهيان أيام العسل التي لم تدم طويلا ويعودان بترقب وخوف ستنتهي على خير ام ستكون بداية لألام جديدة.
امسكت ميادة بيد نوح الموضوعة فوق مقعده بالطائرة ونظر هو اليها محاولا طرد افكاره التي تطارده وتمني لو ان تسير الأمور على خير...
أعلن الطبيب الذي خرج من غرفة حماد عن قيامهم بما يلزم لإنقاذه لكنه اعقب قوله بتلك الكلمة التي تنهي الكثير من الأمال قائلا
احنا عملنا على اللي علينا والحالة حرجة وكله على الله.
شهقت شهيرة بفزع ومسد فهد فوق ظهرها محاولا تهدئتها ونظر نعمان اليها مشفقا على حالها وحال ابن شقيقه الذي لم يتخيل ان ينتهي بها الحال هكذا
طلبت شهيرة الى فهد ان يساعدها على الدخول الى ولدها ففعل ما طلبته بهدوء...
ومن يفقد احد ابنائه يخر بنيانه ويتهدم دون رأفة به ومهما حاول فيما بعد أن يعيد تشييده يبقى عاجزا وان استطاع واستكمله يستشعر نقصانه فكيف لبيت رائع الهيئة أن يفقد احد اركانه!
ورغم البعاد والقسوة ورغم القوة الظاهرية للجميع يبقي الابن نقطة ضعف لأمه..
نظرت شهيرة الى جسد ولدها الممدد فوق فراشه الطبي بعجز
عجز جعلها تبكي بضعف وخوف؛ مشاعر لم تمر عليها من قبل وتمنت لو أنها حلم وينتهي
تود الوقوف على قدميه والاسراع اليه واحتضانه عله يفيق ويتحدث اليه ولكنها عاجزة فقدماها تعقبانها الأن على ذنوب ارتكبت في الماضي وقد أن أوان حسابها.
تذكرت لحظة مولده وكم كان يوما سعيدا ربما كان الأسعد بحياتها البائسة التي لوثها حقدا تولد مع مرور السنوات وسمحت هي له بالسيطرة عليها الى أن طرد ما بداخلها من حب وتسامح ولم يدع مجالا لسواه
ارادت الاقتراب من فراشه لكنها وقعت بقوة فصرخت تستغيث بأحدهم وقبل أن يأتيها أحد فتح حماد عينيها بضعف باحثا عنها لتمتلئ عينيه بدموع الاشتياق الى تلك الواقعة أرضا بجواره.
مد حماد يده اليها راغبا في مساعدته لكن ضعفه وألالامه جعله يتأوه فتألمت شهيرة بدورها قائلة
ولدي، جلب امك يا حماد، سلامتك ياريتني اني مكانك
حماد: ياااه يامه، معجول هشوفك جبل ما أموت.
ارتفع نحيب شهيرة فقد ظنت انها قادرة على حمايته من الجميع وظنت انه بهروبه لن يمسه سوء وأمهله الله كثيرا إلى ان تأكدت شهيرة أن ما فات ماضيا ليس الا وربما هو كذلك للبعض ولكن الخالق لا يغفل ولا ينسى وها هي عاجزة كليا حتى عن احتضان وليدها تماما كما كانت نوارة وقت وفاة حليمة، لقد كانت نوارة تدعو ليل نهار بكلمة واحدة لم تصرخ بوجوههم ولم تسعى إلى أخذ ثأرها بل فوضت الأمر إلى الله ويا له من أمر جلل يتغافل الكثيرون عنه.
رق قلب حماد لوالدته فحاول الاعتدال ومساعدتها وعندما يأس من ذلك ضغط الزر المجاور له لتأتيه بعض قليل احدى الممرضات التي ساعدت شهيرة على العودة إلى ذلك الكرسي الذي صار ملجأها الوحيد الأن
ساد الصمت قليلا ليتسأل حماد بلهفة قائلا:
نوح هيرچع ميتا يامه..؟رايد اشوفه
شهيرة: جاي يا حماد، راچع ياولدي ميجدرش يتأخر عنك
حماد: خابر يامه، عمره ما اتأخر عني واصل..
اشتد التعب بحماد فأغمض عينيه وتسرب إلى قلب شهيرة الخوف فنادته بخفوت وصوت مرتعش: حماد انت زين؟
حماد: زين يامه متخافيش
شهيرة: سامحني ياجلبي، سامحني اني السبب في كل حاچة
حماد بيأس: لاه يامه مكنتيش السبب لحالك اني كمان غلطت، كان بأيدي اتغير بس مجدرتش...
شهيرة: ميچراش حاچة انت بس تجوم بالسلامة وكل شي يتصلح، هروح اني واحب على يد نوارة واجولها تسامحك وتسامحني بس انت تجوم يا ولدي...
حماد: مبجاش ينفع يام حماد، خلاص مبجاش ينفع
مر يومان وحالته تسوء وحالة الجميع من حولها تزداد سوءا، فارقت زوجته الحياة بعدما استطاع الأطباء انقاذ جنينها بصعوبة وتم وضعه في بأحد الحضانات الى يكتمل نموه
وكان الصمت يفرد اجنحته فوق المكان فلا يجد احدا ما يقول وخاصة نوح الذي لم يستطع ان يعلن راية الاستسلام لذاك الواقع المرير...
دلف الى غرفة شقيقه بخطى مثقلة.
وبعض العلاقات بين الاخوة لن يدرك مغزاها الكثيرون فبعض الأحيان تستشعر ان أخاك قد خلق منك، يستحيل ان تتكرر مشاعرك ناحيته تجاه اي احد فهي صداقة لا خوف يشوبها وحب غير مشروط وأمان لا ينكسر حتى وقت الخصام والجفاء يعاندك قلبك ويرغب في الاطمئنان عنه مدعيا بداخلك انه فضول ليس الا ولكن الحقيقة ان غيابه يكسرك ولا ينجبر ذاك الكسر الا بقربه.
واما من فقد شقيقا كانت يرى فيه انعكاسا لطفولة ولت ومراهقة مزعجة وشباب لم تدعهما الايام ينعما بها ورجولة ونضج ضن عليهما الزمن بنيلها؛ يفقد شغفه بالحياة فالأخ يمنع ذلك الخواء الذي ينخر الروح ويتأكلها
امسك نوح بيد حماد وكأنه يستمد منها قوة للحديث فنظر اليه حماد نظرات شملت شريط حياته بأكمله ليتحدث بنبرة مودعة:.
متبكبش واصل ياخوي، انت طول عمرك سندي يا نوح، خابر اني كنت احس انك ابوي؛ حتى جبل ابوك ما يموت، عمري ما جربت حضنه وحنيته بس ربنا عوضني بيك
نوح باكيا بضعف: لاه يا حماد، اوعاك تهملني ياخوي اني مليش غيرك..
حماد: ادعيلي يا نوح، ادعيلي كتير جوي، خابر يانوح حاسس اني هرتاح بجى، تعبت من الندم ورايد ابعد عن الدنيا كلياتها، كنت خايف اموت واهمل جميلة بتي.
خابر يانوح اني عمري ما كنت هچوزها واصل ويجى واحد ويجتلها كيه ماجتلت اني حليمة؛ معلوم ربنا كان هيحرج جلبي عليها اكمنها الغالية..
خفت صوته قليلا وبدا ان التعب بلغ منه مبلغه واراد نوح ان يستوقفه لكنه تحدث قائلا:.
خابر اني ظلمتك معاي بعملتي وعمرك ضاع على مفيش، انساني بجى وعيش حياتك ياخوي وادعيلي بالرحمة. اوعى تنسى يانوح خايف ربنا ميرحمنيش ووجتها ابجى خسرت دنيا وأخرة ولو ربنا كتب عمر لأبني خلي بالك منيها معهلش مكتوب عليك تحمل همي حي وميت..
ربيه زين يانوح، سميه رحيم يمكن يطلع رحيم كيه اسمه وميشربش الجسوة ولا يدوج طعمها..
أعلنت الاجهزة الموصولة بجسد حماد عن توقف قلبه عن النبض وصعود روحه من جسد دمرته تلك الحادثة أو ربما هذا سبب وفاته المعروف للعيان ولكن مالا يعلمه الكثيرين أن تلك الروح التي صعدت إلى خالقها هي التي هلكت من سنوات وهل هناك ألما اشد من هلاك الروح
احتضن نوح شقيقه بتملك وقهر ورفض لذلك الفراق الأبدي، شدد من احتضانه املا ان يعود اليه مرة أخرى لكنه استشعر برودة بتلك الجثة بين يديه وكأنها ليست جسد أخيه..
نظر اليه اكثر من مرة محاولا الصمود ولكن كيف نصمد امام الموت..
صرخ رافضا باكيا نادما، حائرا وكأنه فقد طريق العودة..
تحدث بتيه قائلا:
وبعدهالك يا حماد، هتهملني لحالي كيف واني كنت عايش عل أمل نتچمع انا وانت من تاني، بالله عليك تجوم..
جوم ياخوي، متكسرش ضهري ياحماد.
وليت الحياة تسير وفق القلوب المعذبة ولكنها خلقت لتكون دار للألم والفراق حتى ندرك أنها مفرقة لا تدوم فيها صحبة ولا تستمر فيها سعادة وذاك هو المغزى منها، فراق واشتياق وعذاب نهايته يقين أن الدنيا ممر يؤدي الى جنة أو نار
وقد يبدو النسيان كلمة بسيطة نقولها كي نهرب من أمواج الحزن التي تأتينا بغته فنعطي لأنفسنا دافعا للصمود قائلين
غدا سننسي؛ لكننا لا ننسي مطلقا وكأن غدنا هذا قد غادر بلا رجعة.
نظر نوح الى الفضاء الفسيح البادي خلف زجاج نافذته ولم يدرك اقتراب ميادة من موضع وقوفه، نظرت إلى وجهه الذي كساه الحزن ولحيته التي نمت، ارادت احتضانه لكنها تخشى ردة فعله فهو منذ وفاة شقيقه يتحاشى الجميع ويتجاهلها...
نادته باشتياق قائلة:
نوح، حبيبي كفاية كده انت بتأذي نفسك، تعالي اقعد معانا واطمن على والدتك، وادعي لأخوك بالرحمة
نظر اليها بتمعن ليصدمها بسؤاله قائلا:
رايدة تجولي انك حزنانة على حماد اياك؟
ميادة بثبات: تقصد ايه يانوح؟
نوح: اجصد انك دلوك خدتي حجك وزيادة تجدري ترچعي مطرح ما چحتى وبزياداكي اكده
ميادة: انت بتقول ايه؛ انت بتتخلي عني تاني عايزني ابعد تاني!
امسك ذراعها بقسوة ناظرا اليها بألم قائلا:
خلصنا يابت خالي اخوي مات واني حياتي انتهت معاه..
ميادة: يعني هتسيبني وتطلقني، هتقدر تنساني هتقدر تسيبني لراجل غيرك يا نوح، هتتحمل ابقى ملك لحد تاني!؟
نوح بغضب: اسكتي، مش عايز أسمع.
ميادة بغضب: لا مش هسكت انت جبان بتختار الهروب اخوك مات لان عمره انتهى ومش هكدب واقولك انا حزينة عليه انا حزينة عل سنين عمره اللي ضيعها عالفاضي مع ان ربنا اداله فرصة وحياة جديدة، قدر يبدا ويكون عيلة ويخلف ومع ذلك صمم عل نهايته اللي ملهاش رجوع
مش هقدر انسى انه قتل اختي حتى لو كان غصب عنه بس في النهاية قتلها واعتقد ان دلوقتي قدرت تحس بالنار اللي فضلت جوة قلبي سنين.
بكت بانهيار فأشاح بوجهها عنه لتستكمل بقهر:
مش هقدر انسى انه ضيع اجمل سنين عمري وعمر امي، وعمرك انت قبل مننا
اخوك كان أناني اختار يعتمد عليك وانت سمحتله يتمادى ومع ذلك انا مش شمتانة فيه بس مش حاسة بحاجة ناحيته، ليه بتحملني ذنب مش ذنبي
نوح: جولتلك خلصنا انتي چبتي من الاخر لا انا هنسى ولا انتي هتنسي.
ميادة: انا نسيت كل حاجة يا نوح، او اخترت اتناسى واكمل معاك، حرام عليك متضحيش بيا علشان حاجة مليش يد فيها، انا بحبك
نوح بصراخ وقسوة واحتياج يخفيه خلف تلك القوة:
واني معوزش اشوفك تاني، بسببك هملت حماد وانشغلت عنيه، بسبب الچري وراكي هنا وفي بلاد
بعدت عن اخوي وملجاش جدامه طريج غير الادمان، انتي السبب واني مستحيل اسامحك واسامح نفسي..
تراجعت للخلف خطوتان ودفعتها كرامتها الى تركه ولكن القلب أبى فعادت اليه ناظرة اليه برجاء الا يفعل والا يبتعد، وظل هو صامتا حائرا لا يعلم ايلقى بنفسه بين يديها ويبكي أخاه الذي ذبحه رحيله عنه أم يتركها تغادر بلا رجعة ويبقي وحيدا إلى الأبد.