رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل مئة وأحد عشر
جلست باستحياء على المقعد الخاص بالعروسين في منتصف القاعة تراقب بنظرات شمولية ومتوترة أوجه المتطلعين إليها من المدعوين، رسمت تلك الابتسامة المصطنعة على ثغرها لتخفي ارتباكها الكبير، انتفض جسدها قليلاً حينما شعرت بتلك اليد توضع على كتفها، أدارت رأسها للجانب لتجد والدتها محدقة فيها بنظرات حانية وهي تربت عليه برفق، مالت عليها هامسة:
-زي القمر يا بنتي، ربنا يحميكي ويكفيكي شر العين.
اكتفت بسمة بالابتسام المجامل لها وهي تهز رأسها بإيماءة خفيفة، ثم عاودت التحديق أمامها، جاهدت لتخفي حالة التوتر والصراع التي تعتريها، هي خائفة مما هي مقبلة عليه، فتنتظرها حياة جديدة مليئة بالكثير من التحديات والقرارات، عليها أن تكون فيها عقلانية تفكر بتريث وتتجنب حالة الاندفاع الأعمى التي تسوقها في بعض التصرفات، تنفست بعمق لتحافظ على جمودها الزائف، توجهت أنظارها نحو عريسها الذي كان يرقص طربًا مع محبيه، بالطبع لم يدخر وسعه في دعوة معارفه وأقربائه وأصدقائه ناهيك عن كل من له صلة به، امتلأت القاعة عن بكرة أبيها، وتسابق الجميع في تقديم التهنئات والمباركات له كل على طريقته الخاصة، تنهدت مطولاً حامدة الله في نفسها أنها أثرت الجلوس على التمايل والرقص أمام تلك الأعين الذكورية التي تعج القاعة بها.
سعادة لا توصف تملكته حينما رفضت النهوض وتضاعفت أكثر ببقائها في مكانها كالملكة شامخة لا تطالها الأيدي، دق قلبه بقوة معلنًا عن حبه اللا محدود لها، لم تفارقها عيناه، وبين الحين والأخر كان يلتفت نحوها ليرمقها بنظراته العاشقة بالرغم من إحاطة الشباب له ممن يماثلونه عمرًا أو أصغر بقليل ليقوموا بواجبهم معه، تسابق دياب معهم في إظهار حماسه بليلة العمر، وزادت الأجواء حماسة مع انفعالهم المندمج بالأغاني الشعبية المحمسة.
كان يترقب على جمر متقدة مرور الساعات لينفرد بها فيتمكن من التعبير لها عن مشاعره العميقة لها، ألهى عقله بما يحدث حوله مؤقتًا كي لا يهلك من كثرة الانتظار والتفكير.
على الجانب الأخر جلست نيرمين على الطاولة القريبة من مقعد العروسين واضعة على حجرها رضيعتها، لم تفارق البسمة شفتيها، وتمايلت برفق مع النغمات المحفزة للحواس مداعبة ابنتها التي كانت تضحك ببراءة، انحنت على جبينها تقبلها، ضمتها إليها وأكملت دندنتها مع الأغاني، أبعدت أسيف أعينها المتطلعة إليها لتستدير برأسها نحو والدة زوجها، كانت بحاجة للعون، فتحركت صوبها، سألتها بنعومة:
-عاوزة مساعدة مني يا طنط؟
أجابتها جليلة بقلق: -اتأكدي يا بنتي إن كل حاجة موجودة في البوفيه ده، مش عاوزين الناس تاكل وشنا
-حاضر.
أشرفت معها على إعداد الطاولات المعدة بالطعام الشهي وساعدهم الطهاة في رص الصحون بطريقة منمقة تمكن المدعوين من تناول ما يشتهون، دنا منهما منذر متأملاً زوجته المنهمكة فيما تفعل بهيام، مرر أنظاره ببطء على ثوبها الكريمي بنظرات لامعة، هو ملائم لها، ويزيدها رونقًا وتميزًا، أخرج من صدره تنهيدة حارة تحمل الكثير، وصرف عن ذهنه التفكير في أمور لا تصلح إلا في منزلهما، التوى ثغره ببسمة عذبة وهو يتساءل باهتمام:.
-إيه الأخبار؟
ردت جليلة بابتسامة عريضة: -اطمن يا منذر، كل حاجة تمام
هز رأسه بإيماءة خفيفة، ثم وضع يده على ظهر زوجته متسائلاً: -عاملة ايه يا حبيبتي؟
أجابته بهدوء رقيق: -كويسة يا حبيبي!
دس منذر يديه في جيبي بنطاله متابعًا بمرح: -الواد دياب أصحابه مولعين الفرح على الأخر
التفتت برأسها حيث ينظر، وردت ضاحكة: -ايوه، ماهو باين!
أضاف بجدية مشيرًا بحاجبيه: -كويس إن بسمة مقامتش ترقص مع أصحابها!
ردت عليه أسيف موضحة: -هي من الأول قيلالي إنها مش حابة تعمل كده
-أحسن
ارتفع حاجبي أسيف للأعلى مبدية تفاجئها بظهور ذلك الشخص عند مدخل القاعة، هتفت فجأة باندهاش:
-إيه ده؟
نظر لها منذر بغرابة متعجبًا تبدل حالها، وقبل أن يحرك شفتيه ليسألها تابعت هاتفة:
-بص هناك، شايف من جه؟
نظر إلى حيث أشارت متسائلاً باقتضاب: -مين؟
ارتسم على ثغرها ابتسامة متحمسة وهي تجيبه: -دكتور نبيل!
حل الوجوم على وجهه وتبدلت تعابيره للانزعاج، نظر لها مرددًا بتجهم: -والله، ومالك مهتمة أوي كده؟!
ردت بحماس وابتسامتها لم تفارق شفتيها: -أنا مش مصدقة، ده جاي الفرح، أكيد نيرمين هتفرح أوي، ده إنسان كله ذوق و..
اشتعلت نيران الغيرة بصدره لمجرد مدحها لغيره، لم يتحمل المزيد من الترهات عنه، فقاطعها صائحًا بحدة:
-أسيف!
زادت تعجبها من صلابته الحادة، وردت متسائلة بحذر: -في ايه؟
تابع بجمود لا يبشر بأي خير: -مش واخدة بالك إنك زودتيها؟
قطبت جبينها مبررة حديثها: -ليه بس؟ بالعكس والله د. نبيل محترم وأخلاقه عالية، المفروض نرحب بيه!
كانت على وشك التحرك نحوه لتستقبله لكنه أوقفها جبرًا قابضًا على ذراعها، تأوهت من قوة ضغطته، وهتف آمرًا بلهجة صارمة:
-إياكي تتحركي من هنا!
استنكرت هجومه الغير مفهوم عليه، بالإضافة إلى طريقة إمساكه بها، حاولت نزع ذراعها من قبضته، لكنه لم يفلتها، ظلت أنظاره المحتقنة مسلطة على وجهها، ضغطت على شفتيها قائلة بامتعاض:
-مايصحش يا منذر، ده ضيفنا، ومايعرفش حد إلا احنا
هتف محذرًا بتهديد ضمني: -هي كلمة يا بنت رياض، ولو خالفتيها هايبقلنا كلام تاني مع بعض!
فغرت ثغرها مصدومة من نبرته العدائية، ردت متسائلة بعدم تصديق: -قصدك ايه؟ إنت عاوز تمد إيدك عليا؟
أرخى أصابعه عنها قائلاً بصلابة: -افهمي انتي بقى!
احتدت نظراتها نحوه مستنكرة ما يفعله، ردت بغيظ: -بقى كده يا منذر!
انتبهت جليلة للشجار الدائر بينهما، فتدخلت على الفور قبل أن يتفاقم ويتطور للأسفل هتفت متسائلة:
-في ايه يا ولاد، إنتو اتحسدتوا ولا إيه؟
رد منذر بتشنج: -اسأليها.
اغتاظت من تحميله اللوم دون سبب مقنع وكأنها ارتكبت جريمة ما، وجل ما قالته هو الترحيب بالضيف، صاحت بنبرة متعصبة:
-شايفة يا طنط؟!
نظر لها مطولاً بحنق، استشعرت من نظراته عصبية جمة رغم عفوية تصرفها، أطلق سبة خافتة قبل أن يتركها وينصرف مبتعدًا عن الاثنتين، تابعته أسيف بأعين متوهجة للغاية متعجبة مما حل به من عصبية غير مبررة، لم يكن على تلك الحال قبل لحظات، وفجأة تحول للنقيض، وبات يهددها بالضرب إن خالفت أوامره، كانت تلك هي المرة الأولى منذ زواجهما التي ينفعل فيها عليها بتلك الطريقة الهوجاء، خفق قلبها بقوة، بدت العبرات محبوسة في مقلتيها أخرجتها جليلة من شرودها العابس متسائلة:.
-ايه اللي حصل؟ فهميني يا بنتي!
كزت أسيف على أسنانها بغضب كاتمة في صدرها ضيقها منه، لكن عكست تعبيرات وجهها حالة الاستنكار والغضب التي تتقد بداخلها، استشفت جليلة نشوب خلاف حاد بينهما، واستمعت إلى تفاصيله منها، حاولت لملمة الأمور بينهما، فأردفت قائلة بهدوء:
-متزعليش نفسك، هما الرجالة كده طبعهم حامي!
صاحت مستنكرة وهي تلوح بذراعها: -بس مش للدرجادي يا طنط! بقى أنا يقولي كده.
ربتت جليلة على ظهرها متابعة بلطف: -معلش، مايقصدش، وإنتي بردك استحملي شوية، هي الست عليها الاستحمال، وصدقيني شوية وهتلاقيه هدى ورجع زي الأول
زفرت أسيف بغضب دون أن تعجب، لا جدوى من الجدال معها، فهي ستدافع عن ابنها وستبرر له تصرفه المبالغ فيه معها، كتمت بصعوبة ضيقها، وحاولت جليلة توضيح الأمور لها من منظورها الشخصي، أصغت لها دون مقاطعة حتى قالت بجدية:
-المهم تتصالحوا مع بعض، اوعوا تباتوا متخانقين!
ردت بعد اقتناع وهي تكتف ساعديها أمام صدرها: -إن شاء الله
ابتسمت لها جليلة قائلة بود: -ربنا يصلح حالك يا بنتي! ويهدي سركم مع بعض
نظر لها بتأمل قبل أن يتقدم بخطوات ثابتة نحو الطاولة التي تجلس عليها، لم يتأخر في تلبية دعوتها والحضور إلى حفل زفاف أختها، تشكل على تعابير وجهه ابتسامة متشوقة وهو يردد:
-مدام نيرمين!
استدارت برأسها نحوه على إثر صوته المميز، تفاجأت بوجوده بالقاعة، لم تستطع إخفاء علامات الاندهاش من على وجهها، تداركت الموقف سريعًا، وحاولت النهوض من مقعدها لترحب به قائلة:
-دكتور نبيل
أشار لها بيده لتجلس وهو يرد: -خليكي مرتاحة، أنا قولت أجي أبارك بنفسي للعرسان
جلست نيرمين باسترخاء على المقعد معيدة وضع رضيعتها على حجرها، وردت بلطف: -الله يبارك فيك.
تابع بهدوء دون أن يخفي ابتسامته عن ثغره: -وعقبالك إن شاء الله!
تورد وجهها من جملته تلك، ورغم يقينها أنها عبارة مجاملة لكنها لمست قلبها، سريعًا اقتحم عقلها ذكريات متنوعة من ماضيها الموجع حتى لحظة اكتشافها لمرضها، تنهدت قائلة بضجر:
-متشكرة، أنا خلاص خدت حظي، ومستنية..
قاطعها مشيرًا بكفه: -احنا اتفقنا على ايه!
ابتسمت لصرامته المحببة معها، وهزت رأسها بتفهم، تابع مضيفًا بصوته المتحمس: -وبعدين ينفع نزعل في يوم زي ده؟!
ردت مبتسمة: -عندك حق
لمحته عواطف من أعلى الكوشة فتهللت أساريرها، مالت على ابنتها لتهمس لها بشيء ما في أذنها، ثم تحركت بتمهل نحو طاولة نيرمين، هتفت مهللة بسعادة وهي تمد يدها لمصافحة نبيل:
-ازيك يا ضاكتور
بادلها التحية قائلاً: -أهلاً يا حاجة
-شرفتنا يا ابني.
-الله يخليكي يا رب، وألف مبروك للعروسة، ربنا يسعدها
ردت بامتنان: -يا رب يا ابني، وعقبال ما نفرح بيك!
انعقد ما بين حاجبيها وهي تتابع: -مش إنت لسه ماتجوزتش؟
أجابها بابتسامة مصطنعة رغم خبوها قليلاً: -لأ أنا اتجوزت وانفصلت!
تفاجأت نيرمين بذلك، فلم يسبق لها أن سألته عن أي شيء يخصه، واليوم هي اكتشفت عنه القليل، ردت والدتها بود:
-أها، ربنا يعوضك خير بالأحسن
وجه أنظاره نحو نيرمين مرددًا: -إن شاء الله.
تابعت عواطف قائلة: -اتفضل ارتاح يا ضاكتور
هز رأسه وهو يقول: -شكرًا.
تركتهما عواطف بمفردهما متجهة نحو ضيوفها لترحب بهم، ساد صمت حذر بينهما، لم تحاول فيه نيرمين كسره، واكتفت بالتحديق في أي شيء إلا هو، استشعرت نظراته المسلطة عليها، وعمدت قدر المستطاع على عدم الالتفات نحوه، استغل نبيل الفرصة لتأملها على راحته، كانت أكثر حيوية عن وجودها بالمشفى، أحدث ظهوره في حياتها فارقًا ملحوظًا معها، وهي لا تستطيع إنكار ذلك، حاول التودد إلى مريضته التي شغلت باله مؤخرًا، فاستطرد حديثه هاتفًا:.
-ماشاء الله بنوتك شبهك
التفتت نصف التفاتة نحوه وهي تجيبه باقتضاب: -تسلم
لاحظ صمتها الطويل واكتفائها بالرد بالكلمات الموجزة، فأكمل متسائلاً باهتمام: -ممكن سؤال إن مكانش ده يزعجك؟
استدارت نحوه مبدية تحفزها لسؤاله الغامض وهي ترد: -اتفضل
أومأ بعينيه قائلاً بحذر: -هو أبوها فين؟
تشنجت تعبيرات وجهها، فتابع موضحًا بحرج: -احم. قصدي يعني بيجي يشوفها ويسأل عليها و..
انزعجت من ذكره لشبيه الرجال، من أذاقها العذاب والذل، تجرعت على يده ألوانًا مختلفة من المهانة والإذلال حتى قسى قلبها وأصابه الحقد والغل، لم يعبأ يومًا بمشاعرها ولا برغباتها، فقتل فيها كل شيء وتحولت إلى ما هي عليه، وما عزز من ذلك جحود عائلته وشراستهم معها، أفاقت من شرودها المؤقت مرددة بامتعاض عابس:
-لأ، ومش هايشوفها لأنه في السجن!
صدم مما قالته واكتفى بالإيماء برأسه متفهمًا، تابعت مضيفة بتشنج: -أنا مش بأحب أتكلم عنه، سيرته بتقفلني!
خاف أن تكون قد استاءت من حديثه وتسبب في إيلامها بصورة غير مباشرة، فاعتذر فورًا قائلاً:
-أنا أسف، مكونتش آآ..
قاطعته بفتور: -عادي
أخفضت أنظارها لتداعب رضيعتها بحنان أموي مغدقة عليها بقبلات صغيرة، ابتسم للطفها معها، وسألها بهدوء:
-تسمحيلي أشيلها شوية؟!
استغربت من طلبه المريب، لم تتمكن من رفضه، فابتسمت قائلة: -اتفضل
تناول الرضيعة منها ليهدهدها بود، ظلت ابتسامته الساحرة مرسومة على ثغره، ربت على ظهر رنا برفق قائلاً بنبرة ذات مغزى:
-ماشاء الله على الجمال، إنتي زي ماما حلوة وضحكتك جميلة!
خجلت نيرمين من غزله المتواري عنها، وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه رغم تلك الحماسة الرهيبة التي تملكتها، انتابتها مشاعرًا مختلفة عن ذي قبل، أحاسيسًا لم تخوضها أبدًا، هي ظهرت لها في وقت حرج لتكون كالضوء في النفق المظلم لترشدها في دربها المرير، لم تشعر بشفتيها وهما تبتسمان بنعومة، لكن التقطتها عيناه فزادتا إشراقًا.
تعمد الجلوس إلى جوارها ليقلص المسافات بينهما، ناولها الرضيعة قائلاً: -ربنا يباركلك فيها.
ردت مجاملة: -يا رب!
تنهدت بعمق لتتابع بحزن واضح: -نفسي بختها يكون أحسن مني وتعيش حياتها و..
قاطعها نبيل بجدية: -إن شاء الله، وبعدين أنا عاوز أقولك على حاجة كنت مأجلها لحد ما أخد رأيك فيها
قطبت جبينها متسائلة باهتمام وهي تعدل من وضعية رضيعتها على حجرها: -حاجة ايه دي؟
رد بلا تردد: -دلوقتي في علاج جديد، هو تجريبي بس هايفيد حالتك كتير.
لوت ثغرها للجانب قائلة بتهكم يائس: -أخره يعمل ايه؟ هايأجل موتي كام يوم والسلام!
عاتبها مرددًا برفق: -بلاش روح التشاؤم دي، كل حاجة بإرادة ربنا!
مد يده ببطء ليضعها على كفها المسنود على الطاولة بعد أن أسندته متابعًا: -وأنا متعشم خير
نظرت مصدومة إلى يده التي تحتضن راحتها، ثم عاودت التحديق في وجهه بأعين متسعة، لاحظ اندهاشها فسحب كفه ببطء قائلاً بابتسامة مهذبة:
-أسف.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة وظلت ترمش بعينيها بتوتر ملحوظ متحرجة من فعلته تلك، ومع ذلك لم يندم على تصرفه المتجاوز، وظلت ابتسامته المشرقة تزين وجهه بالإضافة إلى نظراته المتأملة لها.
التهت بمتابعة المدعوين متجنبة الحديث معه كاتمة في نفسها ضيقها من تصرفه المبالغ فيه، ومع ذلك بدا وجهها عابسًا للغاية، حاولت أن تبتسم لكن كانت بسمتها باهتة، اختلست النظرات نحوه فوجدته مشغولاً بالحديث مع والده، ضجرت أكثر من تجاهله المقصود لها خاصة حينما التقت أعينهما معًا، فرمقها بحدة قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنها، نغزة قوية ضربت قلبها فألمتها من جفائه القاسي، أولته ظهرًا، وأخفت قدر المستطاع ضيقها، سلطت أنظارها على العروس التي كانت تمرر أنظارها على الجميع، لوحت بيدها لها كتعبير عن اهتمامها بها، ثم أسرعت بالذهاب للمرحاض لتختفي بداخله قبل أن تنهمر عبراتها تأثرًا، لا تعرف ما الذي أصابها لتصبح على تلك الحالة الضائقة ويختنق صدرها على الأخير.
زفر دياب بصوت مسموع وهو يلقي بثقل جسده المنهك من كثرة الرقص ومجاراة الشباب في حركاتهم الحماسية، التفت نحو عروسه هاتفًا بمرح:
-هدوا حيلوا الله يحرقهم، مش ملاحق
نظرت له بأعين قلقة وهي ترد: -فرحانين عشانك!
وقبل أن يضيف كلمة أخرى اندفع الصغير يحيى نحوهما صائحًا ببراءة: -تعالي نقرص يا مس بسمة!
عقد دياب ما بين حاجبيه متعجبًا من جملته تلك، وسأله بغرابة: -مين دي اللي تقرص يا يحيى؟
ردت بسمة موضحة بابتسامة سعيدة: -قصده نرقص، الأطفال بينطقوها غلط
حك دياب مؤخرة رأسه متفهمًا، ونظر لصغيره مطولاً دون أن يعلق عليه، تابع يحيى قائلاً بإصرار:
-يالا يا مس
اعترض والده عليه مبديًا انزعاجه: -هو أنا مش مالي عينك ياله!
عبس يحيى بوجهه مرددًا: -بابي
ربتت بسمة على ظهر الصغير بحنو، ثم انحنت قليلاً على جبينه طابعة قبلة صغيرة عليه وهي تقول:
-معلش يا حبيبي، ماينفعش هنا.
احتج الصغير على رفضها قائلاً بتجهم: -ما بابي بيقرص من الصبح!
رد عليه دياب مازحًا: -هو أنا شغال ناموسة ولا ايه؟
بدا الصغير مُصرًا على اصطحابها له، ولن يقبل بالرفض مطلقًا، لذلك عمدت إلى استخدام أسلوب الرفق معه، وضعت كفها على طرف ذقنه لتمسح عليه بحنو وهي تقول:
-شوية وهارقص معاك.
حرك رأسه وهو يقفز مرحًا في مكانه، ثم اندفع عائدًا ليلهو مع الصغار بالقاعة، أمسك دياب بكف يدها ضاغطًا عليه بأصابعه، فنظرت له بجدية، قرب كفها منه وهو يمازحها قائلاً:
-زي العسل، طالع لأبوه
اكتفت بتحريك رأسها بالإيجاب وهي تستعيد يدها منه، سألها بغموض غامزًا بطرف عينه: -ايه بقى؟
ردت بحدة طفيفة: -نعم
تابع بابتسامة متسعة: -مش هاتقولي حاجة؟
قوست بسمة فمها قائلة باقتضاب: -لأ!
أشار لها بكفه مكملاً: -بشوقك، المهم خمساية والبوفيه يفتح
حذرته بسمة بسبابتها بصرامة واضحة: -بأقولك ايه، أنا مش بتاعة حركات التورتة، خد بالك!
فهم مقصدها فيما يتعلق بتبادل القبلات العابثة أثناء تقطيع قالب الحلوى، بالطبع لم يكن ليقبل بذلك أمام مرأى رفاقه من الشباب، فمازالت حميته مسيطرة عليه، ورغم جدية ملامحه إلا أنه رد بلطف وهو يوميء بحاجبيه:
-وأنا مقبلهاش أصلاً.
التفتت لتنظر أمامها قائلة بتنهيدة: -كويس اتفقنا على حاجة
رد عليها بغموض وهو يطالعها بنظراته الوالهة: -احنا متفقين من زمان، بس انتي اللي مش واخدة بالك!
التقطت أذناها كلماته الصادقة ومع ذلك ظلت متيبسة في مكانها دون أن يظهر أي تغيير ملحوظ على تعابيرها، فقط ضغطت على أصابعها بقوة محاولة تخفيف حدة التوتر المستحوذة عليها.
رغم ضيقه منها إلا أن أعينه كانت تعرف الطريق إليها بين الجميع، انقبض قلبه بقوة حينما لم يجدها حوله، لم يستطع منذر التحكم في عينيه التي بحثتا عنها بتلهف، حبس أنفاسه مترقبًا وهو يجول بين جموع الشباب الذين يملأون القاعة، تنفس الصعداء حينما رأها تحادث والدته، همس لنفسه بضيق:
-تعبتي أعصابي!
التفتت أسيف فجأة لتجده محدقًا به، حاولت أن تبتسم له لتزيل ما بينهما من مشاحنات عملاً بنصائح والدته، لكن عبوسه الصارم صدمها، نظر لها بحدة قبل أن يوليها ظهره ويتحرك مبتعدًا موجهًا لها صفعة قوية في قلبها، رأتها جليلة على تلك الحالة الواجمة فمسحت على ظهرها هامسة لها:
-معلش، تلاقيه لسه مضايق، بس شوفتي جه يدور عليكي لما ملاقكيش.
هزت رأسها بإيماءات خفيفة رغم عدم اقتناعها بمعظم ما قالته، ومع ذلك كانت محقة في أمر واحد أنه أتى من أجلها وإن كان لا يزال غاضبًا، تنفست بعمق مخرجة زفيرًا يحمل الكثير من الهموم وتابعت بفتور باقي الحفل.
أوشك الحفل على الانتهاء، وبدأ المدعوين في الانصراف واحدًا تلو الأخر، ولم يتبقَ إلا أفراد العائلتين وقليل من الحضور يتبادلون الأحاديث العابرة، لاحقًا توجه العروسان نحو السيارة مصحوبان بالزغاريد والدعوات بالذرية الصالحة، ساعدت أسيف بسمة على وضع ثوبها إلى جوارها لتجلس بارتياح وهي تحدثها قائلة:
-ربنا يسعدك يا بسومة، تستاهلي كل خير والله
ردت عليها ابنة عمتها بتوتر: -أنا مرعوبة جدًا.
طمأنتها قائلة بتأكيد: -متخافيش، دياب بيحبك أوي
ردت بسمة بتخوف بائن: -عارفة ده، بس قلقانة!
ضحكت مرددة بعبث: -ده طبيعي، مش عروسة بقى، أومال العريس يعمل ايه؟
صاح دياب مهللاً وهو يستقل السيارة ليجلس إلى جوار عروسه: -هاترغوا كتير، أنا تعبت، عاوزين نروح!
ثم أدار رأسه تجاه النافذة ملوحًا للواقفين: -متشكرين يا جدعان، عملتوا الواجب وزيادة
رد عليه منذر بجدية: -اتجدعن يا عريس وارفع راسنا.
كور دياب قبضة يده قائلاً بتفاخر: -اطمن يا ابن أبويا، انتو معاكو غضنفر (أسد) في البيت!
ضحك منذر من دعابته الطريفة، وتابع باهتمام ركوب الجميع في السيارات لكنه لم يجلس إلى جوار زوجته التي تيقنت من استمرار ضيقه منها، فكرت مليًا في إزالة رواسب تلك المشاحنة الطفيفة بينهما على طريقتها الخاصة بالمنزل، ربما كبرياؤه يمنعه من المبادرة بالتصالح لكنها ستسعى لكسر أي حواجز بينهما.
أعد لها المنزل الخاوي بالطابق الأخير بالبناية التي تقطن بها عائلته لتكون عش الزوجية، وأسسها بكل ما تحتاج إليه من أثاث جديد وأجهزة حديثة، شعرت بسمة بالارتياح لأنها لن تضطر للانتقال بعيدًا عن أمها وأختها، فهي تبعد فقط عنهما عدة دقائق سيرًا، ترجلت من السيارة بمفردها ناثرة ذيل ثوبها خلفها، ودع دياب عائلته قائلاً بمرح:
-احنا عارفين السكة من هنا
ردت عواطف بود: -مش هاوصيك يا ابني على بنتي، دي نور عيني.
آمال رأسه مؤكدًا بجدية دون أن تختفي ابتسامته: -اطمني يا حماتي، دي الحتة اللي في اليمين والشمال!
حمل منذر الصغير يحيى على كتفه بعد أن غفا في نهاية الحفل، اتجه لمدخل البناية بخطوات متهادية، رأى والدته تصعد على الدرج بتريث، تنحت للجانب لتفسح له المجال للمرور متسائلة:
-هو نام؟
أجابها بجدية مشيرًا بعينيه: -ايوه، هاطلعه ونازل تاني
اقترحت عليه جليلة بنبرة دافئة: -ما تبات يا ابني معانا
رد باقتضاب: -لا.
عبست قليلاً بوجهها وهي ترد: -ده مراتك مش هاتمانع يعني، وهي..
قاطعها بهدوء: -أنا عارف، بس سبيني على راحتي يا أمي
هزت رأسها متفهمة وهي تقول: -ماشي يا منذر، وبالراحة عليها سامعني؟
مط فمه قائلاً بتجهم: -إن شاء الله
تنهدت مضيفة بتفاؤل: -ربنا يهدي سركم! العين بردك عليكم!
لم يعقب عليها وواصل صعوده المتأني للطوابق العليا، تبعته والدته بتريث متمتمة بكلمات خفيضة تدعو له بصلاح الحال.
ولج دياب مع حبيبته بسمة التي تأبطت ذراعه إلى مدخل البناية، وقبل أن يقدم على شيء مخجل أو متهور حذرته بصرامة:
-مش عاوزاك تشيلي، ماشي!
قطب جبينه متعجبًا وهو يرد عليها ساخرًا: -هو أنا قادر أشيل نفسي، كملي لسه السلم طويل، احنا أخر دور يا أبلة!
تابعت بصلابة وقد تحولت تعبيراتها للجدية: -على مهلي، مش تسربعني
هز رأسه مداعبًا: -حاضر هاشيلك الطرحة بس، ده أخري!
أكملا صعودهما على الدرجات التي لا تنتهي ببطءٍ شديد، لم ترغب في صعود والدتها معها واكتفت بتوديعها في المدخل بعد أن رأت الإرهاق متمكنًا منها، كذلك لم تكن بحاجة إلى وجودها، فكل شيء معد سلفًا في المنزل، وبالتالي عدم صعودها لن يؤثر في شيء، الأمر المقلق بالنسبة لها هو اختلائها معه، هي متأكدة أنه لن يفوت الأمر دون أن يتودد بشتى الطرق لها، وهي في حالة تعب لا تحسد عليها، عصرت عقلها بشدة لتصل إلى فكرة مقنعة أو حجة ما تمكنها من تأجيل تلاحمهما الجسدي والوجداني معًا، لكن لتصارع الأفكار في ذهنها لم تصل لشيء، نفخت مغمغمة مع نفسها بكلمات متبرمة، في حين تغمد دياب سعادة لا توصف لرحيل الجميع بعد ذلك اليوم المشحون، مضي الكثير ولم يبقَ له فقط إلا لحظات معدودة لينفرد بها أخيرًا، نعم إنها ليلته المنشودة والتي طال انتظاره لها..!