رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن عشر
أخذها قاسم للأسفل بعد أن اطمئنت على شقيقتها المُوصلة بالأسلاك، مظهرها أشعل فتيل الحقد في قلبها أكثر، طعنوها في أكثر الأشخاص قُربًا منها، يمنى مركز أسرارها وحِصنها المنيع كادوا أن يقتلوها، لكن مهلًا! فاللعب لم يبدأ بعد.
جلسا على مقاعد الكافتيريا المُجاورة للمشفى، لتستند أَهِلَّة بإرهاق على الطاولة أمامها، تشعر بقلبها يؤلمها مرة أخرى عندما تُفكر أن هذا من الممكن أن يحدث مُجددًا معها أو مع أحد شقيقاتها، وتلك المرة لن تتحمل هي متأكدة، من الممكن أن تُصاب بذبحة صدرية تقضي عليها تمامًا مثل ما كان سيحدث منذ قليل.
شعرت بصوت قاسم يُناديها، لترفع عينيها المُرهقة تجاهه بكل تلقائية، مدَّ يده بإبتسامة بشوشة مُمسكًا بكوبٍ من عصير الليمون قائلًا: خُدي اشربي وهَدي أعصابك لغاية ما الأكل يجي.
هزت رأسها نفيًا وهي تبتلع ريقها بصعوبة قائلة: لأ مش عايزة، مش جايلي نِفس آكل وأختي محجوزة فوق.
رد عليها بصرامته المعهودة بعد ما أمسك بكف يدها ووضع به كوب العصير رغمًا عنها قائلًا: أنا مش باخد رأيك، أنا بقولك اشربي ولما يجي الأكل هتاكلي، خِلص الكلام.
تأففت وهي تهز رأسها بحدة طفيفة: يا قاسم خلاص مش عايزة آكل.
قلدها قاسم قائلًا بنبرة مشاكسة قليلًا: يا أَهِلَّة وأنا قُلت هتاكلي.
حدجته بيأس وضحكة طفيفة تشكلت رغمًا عنها على ثغرها، لترتشف القليل من العصير الذي أعطاه لها، وللحق كانت عطشة للغاية، بينما أمسك قاسم بهاتفه وظل يعبث به قليلًا ثم وضعه أمامه مُجددًا.
ارتشفت أَهِلَّة العصير كاملًا تحت نظراته المُحذرة التي كان يرميها لها، لتُبادله النظرات باستخفاف وهي تُنهي آخر كمية في الكوب، وضعته أمامها ثم هتفت بلامبالاة مُصطنعة: على فكرة أنا شارباه بمزاجي، متفكرش إنك غصبتني على حاجة.
غمزها أثناء قوله المؤكد بعبث: عارف.
حلَّ الصمت قليلًا عليهم قبل أن يستند بكِلتا ذراعيه على الطاولة وهو يتسائل بهدوء: مقولتليش ليه إن عندك كتمان مُزمن؟
انتبهت لحديثه وسؤاله، قبل أن تقطب جبينها بضيق وهي تسأله: وعرفت منين إني عندي كتمان مُزمن؟
أخرج صوتًا ساخرًا من فمه ثم أجابها قائلًا بتهكم: لأ أبدًا، أصل فيه واحدة كانت بتموت قدامي من شوية وهيجيلها أزمة قلبية.
غضبت من وقاحته معها فجزت على أسنانها بغيظ قبل أن تُجيبه بوقاحة مُماثلة له: ملكش دعوة، ومتدخلش في اللي ملكش فيه.
كانت نظراته ثابتة غير غاضبة عقب كلماتها، هبت من مقعدها بعنف ثم انتشلت هاتفها من على الطاولة وكادت أن تذهب؛ إلا إن منعها من الذهاب عندما أمسكها من يدها مُجلسًا إياها مرة أخرى، لكن تلك المرة جلست على المقعد المُلاصق لمقعدة هو، طالعته بغيظ قبل أن تصرخ بعصبية: سيب إيدي وخليني أمشي متعصبنيش.
تلك المرة أثارت استفزاه، لتجده قد اقترب بوجهه منها تزامنًا مع ضغطه الشديد على كفها الذي يُمسكه بين يده، قبل أن يهمس لها بتحذير استشعرت خطورته: قسمًا بالله لو صوتك عِلي عليا تاني لهتشوفي وش عمرك ما شوفتيه في حياتك، بلاش أنا عشان متزعليش، واترزعي اطفحي اللي هيجيلك عشان متقعيش مني أنا مش فاضي أشيلك كل شوية.
سحبت يدها بعنف من بين يديه مُربعة إياهم أمام صدرها، ثم أشاحت بوجهها للناحية الأخرى دون أن تُجيبه، هي بالأساس لم تطلب مساعدته لكي يُحدثها بتلك الطريقة، وللعجب قد خافت من تهديده، يبدو بأن لديه جانب آخر لم تكتشفه بعد، وذلك الجانب لن يُعجبها على ما تظن، لم تكن تتوقع بأنه كان يُراقبها، كان قاسيًا معها لكنها استفزته عندما قامت بالصراخ في وجهه، وهذا أكثر ما يزعجه، بل ويُزعج جميع الرجال تقريبًا.
استفاقت من شرودها وتفكيرها عندما وجدته يقول بصوت حنون ليِّن عكس ما كان به من قبل: يلا كُلي.
فرغت فاهها بصدمة عندما وجدت الحنان يحوم بوجهه، هل هذا الرجل طبيعي! سؤال طرأ على ذهنها فجأةً ولم تعلم بأنه علم ما يدور بخلدها، لتجده يقول بهدوء: مفيش أي راجل هيستحمل إن واحدة سِت تعلي صوتها عليه قدام الناس.
لم تُجيبه، بل مدت يدها ببرود تلتقط الشطيرة التي طلبها لها ثم أكلتها بهدوء تحت أنظاره، لمحت بطرف عينها طيف شقيقتها التي تقترب منها حتى باتت أمامهما مباشرةً، والتي تحدثت وهي تُوجه حديثها ل قاسم: طلبتني ليه يا أبيه؟
أشار قاسم للمقعد بعينه أثناء وضعه ليده بجيب بنطاله، ثم تشدق بهدوء: اقعدي وكُلي عشان متدوخيش.
هزت رأسها نافية وهي تقول بصوت مبحوح: لأ مليش نِفس مش عايزة آكل.
أغمض قاسم عينيه يُحاول ضبط أعصابه قبل أن يفتحهما مُجددًا أثناء قوله الساخر: هو أنتِ وأخواتك متعرفوش تقولوا حاضر من غير كلام كتير.
طالعته أَهِلَّة بغيظ ولم تُعلق، بينما ملك استسلمت ثم جلست تتناول الشطيرة بهدوء، أراد قاسم أن يُخرجها من حالة الحزن التي حلت عليها، لذلك أردف لها بمزاح: بس مكنتش أعرف إن عندك مشاعر وأحاسيس زينا كدا يا ملك؟
ضيقت ملك عينها وهي تسأله بشك: قصدك إيه يا أبيه؟
جعد قاسم جبينه بتشنج عقب كلمتها ليقول: جتك بَو في جنابك، بقولك إيه خليكِ مكتومة أحسن.
مطت ملك شفتيها بضيق ثم أكملت شطيرتها بصمت، بينما أهلة ضحكت بخفوت ثم خبأت وجهها بكف يدها حتى لا تظهر ابتسامتها له، لكنه ولسوء حظها قد رآها، كاد أن يتكلم؛ لكن هاتفه صدح عن اتصال هام ليُجيب سريعًا، وبعد الإستماع للطرف الآخر أجاب بهدوء: تمام أنا جاي حالًا.
وقف من مكانه مُنتشلًا مفاتيح سيارته ومحفظته من على الطاولة، قبل أن يُوجه حديثه لهم باستعجال: ورايا مشوار مهم هقضيه وهاجي تاني.
أومأوا له بهدوء وكاد أن يذهب، لكنه توقف فجأة عائدًا ل أهلة مُجددًا، ثم انحنى لمستواها هامسًا في أُذنها بعبث: متبقيش تخبي غمازاتك عني تاني ماشي؟
قالها ثم ذهب تاركًا إياها مُتجمدة في مكانها، ابتلعت أهلة ريقها بشرود عندما سألتها ملك بتعجب: كان بيقولك إيه؟
هزت أهلة رأسها مُجيبة إياها بصوت مبحوح: م. مفيش. خلينا نطلع ل يمنى يلا.
وافقتها ملك على الفور، فأخذوا أشيائهم ثم صعدوا للمشفى ليظلوا بجانب شقيقتهم النائمة.
هُناك الكثير من الإنجازات التي يُقدمها الإنسان لنفسه، لكن أفضلها هو الثقة.
عاد قاسم إلى منزله ليقوم بتبديل ثيابه المُتسخة ثم صعد إلى والدته للإطمئنان عليها، وحدها نائمة في عالمها فقام بتقبيل جبينها بحنان شديد وعاطفة جياشة، ثم هبط للأسفل مُجددًا ليستقيل سيارته ثم اتجه إلى وجهته التي وصل إليها بعد نصف ساعة تقريبًا.
دلف إلى البهو الكبير واضعًا كِلتا يديه في جيب بنطاله الأسود، والذي يعلوه قميصًا من اللون الأبيض، بالإضافة إلى رائحة عطره المُميز وخصلاته المُهندمة بإهتمام.
صعد إلى الدور الثاني بواسطة المصعد، قبل أن يستقبله رجلًا يرتدي بذلة رسمية وملامح وجه خالية من أي تعبير تمامًا، والذي تشدق بعملية وإحترام: اتفضل يا قاسم بيه جوا، سيادة العميد مستني حضرتك.
أومأ له قاسم بملامح وجه جامدة قبل أن يدخل من ذلك الباب الذي أشار له الحارس منذ قليل، دلف ليجد رجل في نهاية عقده الخمسون تقريبًا جالسًا على مكتبه الوثير، والذي ما إن رآه وقف ببطئ ماددًا يده لتحيته، قبل أن يقول بعملية: اتفضل يا قاسم اقعد.
بادله قاسم التحية قبل أن يقول بشكر: شكرًا يا سيادة العميد، خير إن شاء الله؟
أجابه العميد بعد أن جلس مكانه مجددًا: كل خير إن شاء الله، اللي حصل ل يمنى أخت خطيبتك ليك علاقة بيه؟
مش فاهم حضرتك وضحلي قصدك!
تسائل قاسم ببرود إجابة على سؤال العميد، ليبتسم العميد مُغازي بخفة ثم سأله مُجددًا بنفس الطريقة: اللي حصل ل يمنى ليك علاقة بيه يا قاسم؟
ليه شايفني قتال قُتلة؟
أطلق العميد مُغازي ضحكة عالية صدحت صداها في الأرجاء، كذلك تشكلت ابتسامة جانبية على فم قاسم عقب حديثه الأحمق بعض الشيء، أردف العميد من بين ضحكاته قائلًا: لا تصدق أقنعتني!
اعتدل قاسم في جلسته ثم تشدق بجدية قائلًا: أنت عارفة يا سيادة العميد إن مفيش أي عداوة بيني وبين يمنى وإني كنت شاكك فيها بس مش أكتر، لكن للأسف كانت ضحية واتاخدت بين الرِجلين.
هز العميد رأسه باقتناع ثم تسائل بنظرات ثاقبة: وأنت معرفتش مين اللي عمل كدا؟
سخرية شديدة ظهرت على وجهه وهو ينظر له بصدمة مُصطنعة أثناء قوله: على أساس إنك معرفتش مين اللي عمل كدا يا سيادة العميد!
لوى مُغازي شفتيه باستنكار وهو يتسائل بسخط: أنا مش عارف مين العميد فينا، أنا ولا أنت!
أجابه قاسم بعنهجية مُصطنعة: واحد يا باشا.
هز العميد مُغازي رأسه بيأس، ثم طالعه بجدية شديدة وهو يقول بخفوت: عايزك تخلَّص كل حاجة النهاردة، مش عايز غلطة واحدة يا قاسم، بالأصل مختار الأرماني شاكك فيك، وأنا هكلف صهيب يروح للمكان اللي مخطوفة فيه والده خطيبتك.
هز قاسم رأسه بشرود، قبل أن يتحدث بغموض قائلًا: لأ سيب صهيب عليا أنا هقوله كل حاجة، بس أم أَهِلَّة لازم تختفي الفترة دي عشان متتعرضش لحاجة.
أومأ له العميد بهدوء قبل أن يتسائل: هتنفذ امتى؟
استدار له قاسم قبل أن يُجيبه بأعين تلتمع بها الوعيد: النهاردة بليل.
بالتوفيق يا بطل.
أحنت نبيلة ظهرها وشعرت باليأس يتخلل أوردتها، هبطت دموع نبيلة بأسى عندما أخبرتها تلك المجهولة بمقتل ابنتها ونيتها لقتل ابنتها الثانية، ظلت تصرخ لكن صرخاتها كانت مكتومة بسبب ذلك اللاصق، حاولت مِرارًا وتكرارًا الفكاك لكنها تفشل كل مرة، لا تعلم مَن تلك وماذا تريد من بناتها، كل همهما أن تظل فتياتها في مأمن بعيدًا عن تلك المريضة كما أسمتها.
شعرت بخطوات في الخارج فظنت بأنها هي، لكن خاب حدثها عندما وجدت الذي يدلف هو رجل ضخم البنية مُلثم الوجه لا يظهر منه سوى عيناه، انكمشت على مقعدها بخوف ودموعها تهبط بجزع، خاصةً عندما اقترب منها أثناء إمساكه لسلاحه بين يده، ابتلعت ريقها برعب ناطقة الشهادة داخلها، ودت لو ترى فتياتها لكن يبدو أن حياتها ستنتهي الآن.
اقترب المُلثم منها ثم هبط لها حتى بات على مسافة قريبة منها وبعدها تحدث هامسًا: متخافيش أنا جاي أخرجك من هنا.
طالعته بلهفة وانتبهت كل حواسها له بعدما كانت خائفة كهرة صغيرة، رفع أصابعه ليُزيل هذا اللاصق الموضوع على فمها ثم تحدث بخفوت: هفكك دلوقتي وهنخرج من هنا، بس خليكِ ورايا وأيًا كان اللي هتشوفيه ملكيش دعوة بيه، ماشي؟
هزت رأسها بالإيجاب، فجلس هو القرفصاء ثم بدأ بفك الحبال من حولها، انتهى في ثوانٍ معدودة ثم هبَّ من مكانه واقفًا آمرًا إياها بسرعة: يلا ورايا مفيش وقت.
أومأت له سريعًا ثم لحقت به فباتت تسير خلفه مباشرةً حتى لا تتعرض للأذى إن اقتحم المكان أحد الرجال، وجَّه سلاحه أمامه وبات يُراقب المكان بإهتمام وتركيز شديد، خرجا من المبنى المتهالك الذي كانوا به ثم هرول بها تجاه سيارته للنجاة من هنا، لكن ولسوء حظهم استمعوا لصوت الرصاصات تأتي من كل جانب حولهم.
دفعها المُلثم لداخل السيارة بسرعة كبيرة، ثم استدار ليصعد هو من الجهة الأخرى قبل أن يُبادلهم الطلقات هو الآخر لتستقر في رأس أحدهم، انطلق بالسيارة ضاغطًا على سرعتها حتى هرولت بدرجة مُخيفة ومازال يُبادلهم الطلقات، انخفضت نبيلة للأسفل لتحتمي من بطش الرصاصات التي تتطاير في الأجواء وصراخها يعلو عند زيادة صوت الرصاصات، بعد خمسة دقائق كان قضى على جميع من بالسيارة بسبب مهارته في التصويب، وقام بتضليل السيارة الأخرى حتى هرب من بين أيديهم.
تنفس الصعداء عندما فر منهم أخيرًا، ثم تمتم ببضعة كلمات ضاجرة لم تفقه نبيلة منها شيء، ابتلعت ريقها برعب ثم اعتدلت تجلس في مقعدها، قبل أن تتسائل بريبة: أنت. أنت مين؟
جاءها رد صهيب الحانق وهو يقول: أنا اللي سيبت شهر عسلي ومراتي عشان أنقذك يا ست أم أهلة.
قطبت نبيلة جبينها بضيق من وقاحته، ثم تسائلت بسخط: أنت مين يا جدع أنت! وإيه قلة الذوق اللي فيك دي يا بني آدم؟
أوقف صهيب السيارة على بغتة ثم استدار إليها متحدثًا بتشنج: تصدقي إني قليل الذوق فعلًا عشان سيبت البسكوتابة بتاعتي وجيت ليكِ!
أخذ أنفاسه المُغتاظة ثم انطلق بالسيارة بسرعة عالية تحت أنظارها المندهشة من وقاحته، بينما هو يتذكر مُكالمة أخيه منذ قليل يُخبره بالذهاب إلى أحد المناطق النائية وحده مُتسلحًا بكل عناية ليستطيع صد أي هجوم سيواجهه، ضغط على المِقود بسخط من أوامر أخيه الصارمة، ثم هتف مُتحسرًا عندما تذكر تركه لزوجته قائلًا: على عيني أسيبك يا بسكوتة والله، بس نعمل إيه! حُكم القوي.
استفاق عندما استمع إلى سؤال نبيلة القانط: أنت واخدني على فين دلوقتي.
أجابها بوقاحة قائلًا: هشوف أي مُكنة أتوايكِ فيها لحد ما نخلص من المرار الطافح دا.
فتحت فاهها بعدم تصديق ولم تستطيع ما تقوله، ليُناظرها بطرف عيناه وهو يسألها بعبث: عملتي يا مدام خلوهم يخطفوكِ! شكلك مش سهلة أنتِ صح!
كل هذا ولم يكن يعلم بأن تلك المرأة التي تقبع أمامه هي حماة أخيه المُستقبلية، نظرًا لأنه لم يراها من قبل، أغمضت نبيلة عيناها بغضب من ذلك الكائن الوقح الذي يجلس جانبها، لكن بالنهاية هو أفضل من هؤلاء المجرمين الذين اختطفوها.
مكانٌ صاخب يرتفع فيه صوت الموسيقى والأغاني الصاخبة، وهُنا! حيث تجلس هي بجوار أمجد الذي سمحت له بوضع يده على خصره، اقترب أمجد من أُذنها قائلًا بحماس: ما تيجي نرقص يا سهيلة الجو روعة.
تجرعت آخر رشفة من المشروب والذي يحتوي على نسبة كحول ضئيلة للغاية على حسب مطلبها هي، ثم أومأت له بالإيجاب قائلة: أوك يا ميجو، يلا بينا.
اتسعت ابتسامته بسعادة، ثم جذبها لساحة الرقص يتمايل معها بكل وقاحة، فأحيانًا يضع يده على خصرها، وأحيانًا أخرى يُلامس جانب وجهها وهي سعيدة للغاية بذلك، تحولت لشخصٍ آخر تمامًا، لم تكن هي كما كانت من قبل، لقد أصبحت فتاة في قمة القذارة، لكن هي لم تُبالي، بل كانت تستمع لإطراءات كثيرة من زملائها الذين شجعوها على هذا، بل وأصبحت نُسخة مثالية منهم.
وعلى بُعدٍ منهم، سحبت ساندي من أرجيلتها قائلة وهي تُوجه حديثها ل منه التي كانت تأخذ إحدى جرعاتها: شايفة! بقت مننا وعلينا، وكلها اسبوعين وهتلاقيها قاعدة جنبك بتضرب زينا بالظبط.
مسحت منه أنفها بإنتشاء وهي تُرجِع رأسها للخلف، ثم أجابتها بشماتة وأنظارها السامة تُصيب بها سهيلة: أحسن خليها تتربى، بدل ما هي راسمة علينا دور صاحبة الصون والعفاف، تعبتنا شوية في الأول بس في الآخر مالت زيها زي غيرها.
ارتسمت ابتسامة جانبية على ثغر ساندي قبل أن تردف بتشفي: الخِطة اللي بعدها على أمجد، يسحبها ليه وياخد اللي عايزه، وبعد كدا تشتغل لحسابنا بقى، سواء بقى بمزاجها أو غصب عنها، كدا كدا هتخاف من الفضيحة.
أطلقت منه ضحكة عالية وبعدها أردفت بغل: ياما نفسي أشوفها مكسورة ومذلولة قدامي، عايزة أرد إهانتها ليا وأوريها إن اللي يقف قدامي نهايته سودة.
متقلقيش، قريب أوي هتشوفيها زي ما أنتِ عايزة.
شعرت سهيلة بهاتفها يهتز بين يديها، نظرت له فوجدته أباها، توترت عيناها ولا تعلم كيف ستُجيبه من بين تلك الضوضاء، لذلك أغلقت الخط دون أن تُجيبه، ثم اقتربت من أمجد تقول بصوت عالي بالكاد سمعه بسبب الموسيقى: أنا همشي أنا بقى عشان بابا بيرن عليا.
قطب أمجد جبينه بضيق مُصطنع، قبل أن يقول بحزن زائف: لسه مسهرناش سوا.
أجابته بتبرير: معلش بقى، هقابلك بكرا أكيد.
أومأ لها وكادت أن تذهب، لكنه باغتها بإحتضانها لها واضعًا قُبلة شغوفة على خدها قائلًا بوقاحة اعتبرتها هي حبًا: هتوحشيني.
اِحمر وجهها خجلًا قبل أن تُجيبه بحرج وصوت خفيض لم يسمعه، لكنه علم مغزاه من حركة شفتيها: وأنت كمان، باي.
قالت جُملتها ثم هرولت من أمامها بعد أن التطقت مِعطفها الذي خلعته عند وصولها إلى هُنا، لتظل بثياب تكشف عن ذراعيها كاملين وجزءًا صغيرًا من نصفها العُلوي.
علم جميع الشباب ما حدث ل يمنى عن طريق صهيب والذي تفاجأ بوجود أخوات كُلًا من جون وفور، لكن وللحقيقة لم يعلم بأنهم أخواتهم، بل قام بتأجيل هذا السؤال لحين عودتهم جميعًا وتجمعهم غدًا، ذهبوا جميعًا إلى المشفى بما فيهم لوسيندا والتي ذهبت مع جون، وذهب ستي ن، إيغور، ليونيد، أندريه للتسكع قليلًا، أو بمعنى أصح لعمل مُصيبة كبيرة قد تهتز لها الأرجاء.
بينما مهرائيل بقيت في غرفة فور الذي تكرم وأعطاها لها هي وشقيقتها لحين حل مشكلتها مع أبيها وبعدها تعود للمنزل، جلست على الفِراش تستذكر دروسها، فهي في السنة الأخيرة من كلية الطب كما شقيقتها تمامًا، لطالما كانت تتمنى أن تعمل في مجال الهندسة لكان أبيها منعها من الإلتحاق بالشُعبة المناسبة لها، حتى تُصبح طبيبة كشقيقتها.
شعرت بالصداع يُداهما لذلك هبت من على الفِراش وخرجت بكل أريحية من الغرفة لعلمها بعدم وجود شخص واحد في الشقة، اتجهت نحو المطبخ لعمل كوب من النسكافيه ليُساعدها على التركيز أكثر، لكنها استمعت إلى صوت يأتي من الداخل، ابتلعت ريقها بقلق وهي تقترب ببطئ، لتجد آلبرت يقف ويتجرع المياه ببرود، وكأنه لا يتعامل بآلية! هكذا همست لذاتها ولم تعلم بأن همسها وصل إليه.
نظر لها بطرف عينه بسخرية ثم أكمل شرابه دون أن يُعيرها أي إهتمام، اقتربت منه قليلًا حتى وقفت جواره ونظرت له بنفس النظرة التي طالعها بها، ليرفع حاجبيه بتعجب وكأنه يقول لها حقًا؟ ، تجاهلته رافعة رأسها للأعلى فوجدت موضع الأكواب عالي عن طولها الطبيعي، نظرًا لأن جميع الشباب أطوالهم عالية كالأبراج كما سمتهم، نظرت له بترفع قبل أن تُشير له تجاه الأكواب قائلة بغرور: هاتلي كوباية عايزة أشرب.
طالعها بعبث قبل أن يأخذ الكوب الذي بيده ويتجه به للناحية الأخرى من المطبخ تجاه الطعام، قائلًا بتلاعب: اجلبيها بنفسك أيها الجرو الصغير.
استدارت له بعنف قبل أن تتشدق بحدة: أنت تكلمن...
قاطعها هو بتحذير وهو يقترب منها: أُقسِم إن ارتفع صوتك سأقطع لكِ لسانك يا معتوهة.
ابتسمت بتوتر وهي تعود للخلف: يسطا ما أنت اللي بتعصبني، يعني حد يكلم بنت بريئة وعسولة زيي كدا بالطريقة دي؟
نظر حوله بتعجب، ثم أردف وهو مُقطب الجبين: فتاة! لا يوجد فتيات هُنا.
وببرود أكبر أجابته مهرائيل في نية لإغاظته لرد كرامتها: ولا رجالة وحياتك.
صوت تحطم كبير بجوار قدمها جعلها تنتفض من مكانها برعب نتيجة لإصطدام الكوب الزجاجي بالأرض التي أسفلها حتى كادت أن تُصيبها، ازداد هلعها عندما رأته يقترب منها بخطوات شرسة ظنت بعدها أنها ستُكتب في عداد الموتى، لكنها لم تقف هكذا، بل هرولت من أمامه للخارج بسرعة كبيرة للهروب من براثنه، لكنه لم يصمت وهرول خلفها صائحًا بصوت هز أرجاء المنزل:.
توقفي إن أردتي رؤية الرَجُل يا حمقاء، أُقسِم إن رأيتك أمامي مُجددًا سأُفرغ رصاصاتي في عقلك الصغير الأرعن، هذا إن وُجِد من الأصل.
وضعت مهرائيل يدها موضع قلبها أثناء وقوفها خلف الأريكة التي تفصل بينهما، ثم صاحت به بصوت خافت لكنه حانق حتى لا تُزيد من غضبه: ما هو أنت اللي سخيف ومفكرني هسكتلك! دا عند أمك.
توقف جسده عن الحركة وطالعها بنظرات أشعرتها بأنه سيحرقها حيَّة بأي وقت من الأوقات بسبب بلاهتها وتلقائيتها في الحديث، وبثوانٍ صححت حديثها سريعًا وهي تكاد تبكي: قصدي يعني عند مامت حضرتك يا آلبرت ياخويا.
لم تعي ما حدث حينما وجدته قد قفز من فوق الأريكة في وقت لم يتعدى الثانية واحدة حتى بات أمامها مُباشرةً ويده اِلتفت حول رقبتها يسألها بشر: ماذا قُولتي للتو؟
انحبست أنفاسها بصدمة من تلك السرعة التي وصل بها إليها، فتركت كل هذا ثم صاحت بإنبهار وهي تفتح فمها بدهشة جلية: واو يخربيتك؟ عملتها إزاي دي!
ما هي!
سألها بتعجب، لتشير له من حيث قفز قائلة: نطيت المسافة دي كلها إزاي؟
دفعها بعيدًا عنه بحنق كأنها حشرة، ثم هتف بسخط صارخًا بها: اللعنة عليكِ وعلى معرفتكِ السوداء تلك، من أي مُصيبة قد أتيتي أنت؟
شهقت وهي تضع يدها على خصرها مُشيحة بيدها أمام وجهها: مصيبة! مصيبة دي إيه يا أخويا! أنت تلاقي مُصيبة بالطعامة والحلاوة دي!
اللعنة على كل النساء إن كانوا مِثلك.
قالها بإشمئزاز وهو يُحدجها من أعلى إلى أسفل، قبل أن يتركها ويذهب وهو يلعن حظه الذي أوقع تلك المُزعجة في طريقه.
إن ظننت أنك ستنجو من ماضٍ مليء بالغُبار بعدما لُوِثَ بدماء الأبرياء فأنت مُخطيء، ذنب الجميع مُتعلق في رقبتك حتى تنقبض روحك وتذهب لعدالة السماء، هذا إن لم تجد العذاب في الدنيا أولًا.
تحرك هذا القابع أسفل قدمه بهستيريا وهو يعود بجسده للخلف، يرجو ذلك الواقف أمامه يُطالعه بشر تمكن من خلاياه، اشتدت يد القناص حول ماديته بحقد مُقتربًا من أكثر، حتى بات على مسافة قريبة منه للغاية، لذلك هبط على مُستوى أُذنه هامسًا بحقد: أهلًا بيك يا ياسر.
ابتلع المدعو ياسر ريقه برعب وهو يسأله بتلجلج مُرتعب: أنت. أنت مين؟
عدَّل القناص من قناعه الذي يُخفي وجهه بعناية، ثم همس له بفحيح أرعبه: أنا القناص.
ارتعش جسد ياسر بهلع واضع وهو يعود بجسده للخلف صارخًا: أنا، أنا معملتش حاجة، معملتش حاجة ارحمني.
رد عليه القناص بهمس خطير وعيناه تشتد قسوة: وانتوا ليه مرحمتوش حَد! ليه حرمتوني من كل حاجة كانت من حقي ها؟
وضع ياسر يده موضع قلبه وهو يكاد يشعر بأنه على مشارف الموت، خرج صوته مُتذبذبًا خافت طالبًا منه برجاء: أرجوك متقتلنيش، أنا. أنا كنت بنفذ الأوامر مش أكتر.
أخرج القناص سلاحه من بنطاله الخلفي وبسمته تزداد اتساعًا بلا روح: وأنا كمان بنفذ الأوامر، بس مش أوامر حد، أوامر نفسي.
قال الأخيرة تزامنًا مع إطلاقه للرصاصات على قدمه دون شفقة، ليصرخ ياسر بألم جبار أثناء رجاؤه: أبوس رجلك ارحمني أنا عندي عيال.
استفزت جملته أعصاب قاسم الذي اقترب منه كالأسد الجريح يُمسكه من تلابيبه يهزه بعنف وصوتٍ ظهر به الألم أثناء صراخه به: وأمي كان عندها عيال وأخدتوها مني، وأبويا مات بحسرته، وأخويا خطفتوه وقولولنا إنه مات، وأنا اتربيت في الشارع يتيم، قولي أرحمك ليه!
هز ياسر رأسه بتيهة وهو يُجيبه: أنا. أنا مليش دعوة.
عاد قاسم لبروده مُجددًا قبل أن يستغل ضعفه وقلة حيلته قائلًا: وأنا كمان مليش دعوة.
قال جملته مُمسكًا بعنقه مُثبتًا إياها ثم شقها بجمود دون أن يرف له جِفن، لتتناثر الدماء من حوله ويسقط الآخر صريعًا دون روح، فقط جُثة هامدة لا حياة بها.
نظر القناص لجثته بإشمئزاز، قبل أن يبصق عليه وكأنه حيوان سام لا قيمة له، وبعدما رمى بجانبه الكارت المنقوش عليه وشم القناص، لتُصبح تلك القضية الثالثة التي يقوم بها القناص بقتل أحد العاملين بمشفى الأرماني، ومازالت هويته مجهولة للمعظم حتى الآن.
مرَّ أسبوع كامل لم يحدث به أي جديد، سوى أن قاسم يأتي للمنزل لتبديل ثيابه ثم يطمئن على والدته قبل أن يتجه للمشفى مرة أخرى، وحالة يمنى تتحسن تدريجيًا التي بدأت باستعادة صحتها لكن تنام مُعظم الوقت تقريبًا، جلست أَهِلَّة على المقعد بإنهاك تستند برأسها على ذراعها الذي اسندته على كِلتا ركبتيها، تشعر بالتيهة والقلق على شقيقتها رغم طمأنة قاسم لها على صحتها والذي أخبرها أنها من الممكن أن تستيقظ بأي وقت.
جلس قاسم جانبها والذي انتهى لتوه من العمليات التي وُضِعت على عاتقه وأنهاها ببراعة دون وجود خسائر، مد يده لها بحقيبة قائلًا بهدوء: خُدي كُلي.
اعتدلت في جلستها قبل أن ترتسم ابتسامة صغيرة على محياها وهي تقول: ماما معملتش كدا معايا والله.
ابتسم بخفة على حديثها ثم أعاد الشطيرة له مرة أخرى وبدأ في إبعاد الورق الذي يُغطيها عنها حتى تأكلها سريعًا، وبعدها أعطاها لها وهو يقول مُمازحًا: متتعوديش على الدلع بس عشان أنا خُلقي ضيق.
انتشلت الشطيرة من بين يده تُجيبه بضحك: بصراحة أنا بتعود وممكن أبقى حِمل تقيل عليك.
نظر لها مُبتسمًا وهو يقول بود: ارمي حمولك عليا وأنا مش هشتكي يا ستي.
ورغم أن حديثه كان ودودًا بعض الشيء؛ إلا أنها أجابته بخفوت وهي تأخذ أو قضمة من شطيرتها: الله يسترك دنيا وأخرة والله.
هزَّ رأسه بيأس منها وضحكة صغيرة مُتشكلة على ثغره، بينما هي مازالت تأكل بنهم، تشعر بأن شهيتها مفتوحة اليوم ولا تعلم السبب، كل ما تعلمه بأنها سعيدة لسببًا مجهولًا، بينما هو كان يُراقبها بإهتمام، يشعر بها ولا يعلم لماذا، يبدو بأنها عانت مثلما كان في طفولته عند خسارته لكل شيء، وحتى الآن لا يعلم سبب عنائها، إذًا ليكون حنونًا عليها لتعويضها عن جزءً من طفولتها المُشردة.
وجدها قد أنهت طعامها، لذلك أخرج من الحقيبة التي جواره عُلبة من العصير فأعطاها لها غامزًا إياها بمزاح: عصير فراولة باللبن من اللي قلبك يحبه.
اتسعت ابتسامتها حتى باتت تحتل مُعظم وجهها، ثم انتشلتها منه بسعادة قائلة: الله شكرًا أوي بجد.
رد عليها قاسم بهدوء قائلًا: مفيش شكر بينا احنا أخوات.
وللحقيقة هي لم تهتم بذلك، ولا هو بالأساس، استمعا لصوت شجار قادم من آخر الُطرقة فوجودهم كالعادة رائد وملك، قلب قاسم عيناه بملل من أفعالهم وبدأ الغضب ينتشر في أوردته بسببهم، فهما طيلة الأسبوع لم يفعلا شيئًا سوى الشجار، وكأنهم مولودون فوق رؤوس بعضهم البعض، جز قاسم على أسنانه بغيظ ثم استدار ل أَهِلَّة سائلًا إياها بإهتمام: عايزة أختك في حاجة؟
ابتلعت ما في جوفها ثم أجابته بلامبالاة: تؤ، الجثة جثتك.
طقطق قاسم رقبته ثم شمَّر عن ساعديه مُتجهًا إليهما بشر.
بينما على الجانب الآخر، رفعت ملك يدها أمام وجه رائد الذي يُطالعها بغضب مُتحدثة بسخط: بقولك إيه أنت ملكش دعوة بيا تاني، فاهم ولا لأ!
أجابه هو بغضب مُماثل وهو يُشيح بيده أمام وجهها وكأنه يُريد الهجوم عليها: لأ مش فاهم، وبعدين مين جابر اللي أنتِ بتكلميه دا؟ وبعده بشوية رَن عليكِ واحد اسمه حسين، وبعدها أنس، إيه عاملالي جمعية حضرتك! ولا مفكرة نفسك قاعدة في الشؤون الإجتماعية؟
فتحت ملك عيناها بعدم تصديق عندما تفوه بكل تلك التفاصيل التي حدثت، هل يُراقبها؟ سؤالٌ تردد صداه داخل عقلها ولم تجد له إجابة، لذلك أجابته بحدة: وأنت مالك أنت أكلم مين ومكلمش مين، كنت ولي أمري ولا جوز خالتي! بقولك إيه ابعد عن خلقتي خلي يومك يعدي.
اغتاظ من برودها في الإجابة وصراخها عليه في الحديث، لذلك أمسك بخصلة كانت تهبط على وجهها جاذبًا إياها بقوة آلامتها وهو يُحذرها: لأ مش هبعد وهتدخل في كل حاجة تخصك من هنا وجاي، هتقوليلي ليه! هقولك ملكيش فيه.
تأوهت بقوة عندما جذب خصلاتها، فأردفت وهي تُشير لذاتها بخفوت شديد: أنت شدتني من شعري صح؟
هز رأسه بالإيجاب مُعاندًا إياها ولا يعلم ما الذي حدث بعد ذلك، كل الذي شعر به هو إمساكها بخصلات شعره تجذبه منها بقوة، فلم يكن لديه سوى الإمساك بخصلاتها هي الأخرى، ليُصبح المشهد كالتالي:
ملك مُمسكة بخصلات رائد مُنزلة رأسه للأسفل حتى تتحكم به، و رائد مُمسكًا إياها من خصلاتها الطويلة وبثيابها من الجانب يتأوه من عُنفها في جذبه، لذلك صرخ ساببًا إياها: يا بقرة يا غبية شعري.
ولول بالأخيرة كالنساء، لتقول ملك بعناد وألم هي الأخرى: سيب شعري الأول.
هز رأسه نافيًا وهو يصرخ بها: سيبي أنتِ الأول يا بنت الغدارة أنتِ ملكيش أمان.
نفت برأسها وهي تصرخ بألم عندما اشتدت يده حول خصلاتها: لأ والله ما أنا سايبة غير ما تسيب، متخلنيش أتغابى عليك بقى على المِسا.
قاطع شجارهم شعورهم بيدٍ تُمسِك بكليهما من ياقة ملابسهم لتُبعدهم عن بعضهما البعض، ابتعدا بأجسادهم لكن أيديهم مازالت مُستقرة على خصلات الآخر، ليسمعا بعدها إلى صوت قاسم الهامس بفحيح:
هعد تلاتة، قسمًا باللي خلقني وخلقك أنت وهي لو لقيت حد فيكم قدامي؛ هحلق ليكم زلبطة والراجل فيكم اللي يتكلم.
نظرا لبعضهما بفزع بخصلات مُشعثة ووجه يرتسم عليه الفزع من قاسم، ليتركهما بعدها وبالفعل بدأ في العد بجمود خطير: واحد...
لم يكد أن يقول اثنان حتى وجدهما يُهرولا من أمامه بسرعة كبيرة ليتجنبا غضبه، نظر قاسم لأثرهما بتشفي ونظرات مُستهزأة قبل أن يعود لمكانه بجانب أَهِلَّة التي كانت تُراقب الوضع بهدوء شديد أثناء ارتشافها للعصير المُفضل إليها.
عاد للجلوس بجانبها مُجددًا فنظر إليها مُتسائلًا بحنان: شبعتي ولا أجيبلك تاكلي تاني؟
ردت عليه مُبتسمة قائلة بإمتنان: لأ الحمد لله شِبعت.
بالهنا والشِفا.
قالها بهدوء قبل أن يقوم بإرجاع رأسه للخلف مُستندًا على الحائط بإنهاك، لقد قضى اليوم في عمليات كثيرة قام بفعلها، بالإضافة لمروره على غُرف المرضى للإطمئنان عليهم، ومنذُ السادسة صباحًا وهو يعمل، وها قد أصبحت الساعة السادسة مساءً، لقد قضى 12 ساعة يعمل دون أن يرتاح قليلًا وذلك ليُريح المرضى.
انتبهت أَهلة لحالته فسألته بقلق: أنت كويس!
همهم بهدوء دون أن يعتدل أو ينظر لها لكنها لم تقتنع، بل سألته مُجددًا بإهتمام: أومال مالك! أنت تعبان!
هز رأسه بالنفي مُجيبًا إياها بخفوت: لأ بس مُرهق شوية.
طيب ارتاح.
أجابها بهدوء: أنا مرتاح كدا متشغليش بالك.
أومأت له بدون إقتناع خوفًا عليه، يظهر عليه الإنهاك لكن يبدو أنه يُعاند، جلست صامتة بجانبه لا تتحدث، تُفكر في حالة والدتها الغريبة والتي يجلبها قاسم بنفسه، ويقوم بإعادتها مرة أخرى وكأنه يخشى عليها من شيء لكنها تجهل ما هو، لن تُعير للأمر إهتمامًا طالما الجميع بخير وعلى ما يُرام، والأكثر هو اطمئنانها على يُمنى واستقرار حالتها.
لم يغيب عنها حالة يحيى الأسبوع الماضي، كان الحزن والتعب يظهر على محياه ولم يتركها ولو للحظة واحدة، حتى إنه لم يعود لمنزله، بل يُفضل المبيت بالمسجد المُجاور للمشفى، وعند حلول الصباح يعود مُجددًا قبل أن يعود لشركة الأرماني لتنفيذ أوامر مختار الأرماني ويقوم بنقلها ل قاسم الذي ينقلها للعميد مُغازي ليضع خطة مُحبكة للقضاء عليه وعلى عائلته وكل مَن يعمل معه.
انتفضت من مكانها عندما شعرت برأس قاسم تميل على كتفها، طالعته بدهشة فوجدته قد ذهب في ثباتٍ عميق، يبدو أن الإنهاك قد أتعبه، ابتلعت ريقها بحرج من أن يراهما أي شخص في حالتهما تلك، أغمضت عينيها بثبات وشعرت برأسه كادت أن تقع من على كتفها فأسندتها مُسرعة قبل أن يستيقظ.
شعرت بالشفقة تجاهه خاصةً وأنه لم يشعر بمن حوله من التعب، ورغم ذلك ظل يعتني بها هي وشقيقتها طوال النهار دون تعب أو ملل، بل ويطمئن على والدتها أيضًا ويُهاتفها من الحين للأخر، ابتسمت بخفة عندما تذكرت مُشاجراتهم الحمقاء كل يوم بسبب عِنادها هي وتصميمه هو، وبالنهاية الفوز يكون من نصيبه بالطبع، ورغم هذا فهو حنونًا لدرجة لم تتوقعها، طالما بعيدًا عن شخصية القناص التي تجعلها تشعر كما لو أنها تقف أمام رجلًا آخر.
يُقال أن أسمى درجات الحب هو الطمأنينة، إن شعرت بها فأعلم أنك بالمكان الصحيح.
ارتدت حبيبة ثيابها والتي اختارها صهيب بعناية مُنتبهًا بألا تكشف جزءً واحدًا من جسدها، دخل عليها صهيب الغرفة مُتأففًا وهو يقول بصوت حانق: أنا مش فاهم ما إيه يعني عمي جِه من السفر! ما يولع ولا يروح في داهية هو ولاده احنا ناقصين!
قالها صهيب بحنق بالغ عندما هاتفه مختار اليوم ليأتي ويستقبل عمه الذي أتى منذ خمسة أيام وهو لم يُكلف نفسه للذهاب، ولو عليه لقام بتجميعهم في مكان واحد وحرقهم أحياء ليُطفيء تلك النيران التي تشتعل بصدره.
استدارت له حبيبة بعد أن أحكمت غلق سترتها وترتيب خصلاتها بعناية، ثم أردفت برقة: مش مشكلة بقى يا صهيب، هنروح نسلم عليهم ونقعد شوية ونمشي على طول.
بضعة كلمات قليلة منها جعلت وجهه يتحول من العبوس إلى الهيام، ليقترب منها بشدة حتى بات أمامها مُباشرةً، ثم أحاط بخصرها مُقربًا إياها منه: والله ما حد مصبرني على العيلة ال دي غير يا بسكوتة.
شهقت حبيبة بعدم تصديق من سبته، ثم عاتبته بعبوث: عيب يا صهيب مينفعش تقول كدا، دول مهما كان قرايبنا.
احتضنها صهيب دافنًا وجهه بعنقها بهيام، ثم هتف بصوت مليء بالمشاعر أنهكه العشق: أنا لو عليا مش عايز أخرج من هنا وأنتِ تفضلي في حضني.
عضت حبيبة على شفتيها بخجل واِحمر وجهها حرجًا من فعلته، لذلك حاولت إبعاده وهي تقول بتلعثم ظهر واضحًا: ه. هنتأخر يا صهيب.
خرج صهيب من أحضانه غامزًا لها بمشاكسة وهو يحني له ذراعه يحثها على وضع يدها بينه: يلا يا عيون صهيب.
قالها ثم خرجا من المنزل مُتجهين إلى قصر الجحيم، حيث توجد تلك العائلة المليئة بالأفاعي والعقارب السامة، لقد ذهبوا إلى مصيرهم!
مرَّ وقتٍ قليل قبل أن تخرج المُمرضة من غرفة يمنى مسرعة للخارج، فوجدت قاسم نائمًا على كتف أَهِلَّة، وهي شاردة تستند بخدها على خصلاته، ذهبت إليهم سريعًا قبل أن تُوجه حديثها ل أَهِلَّة بلهفة: لو سمحتِ يا مدام صحي دكتور قاسم ضروري.
قطبت أَهِلَّة جبينها بتعجب ثم سألتها أثناء إسنادها لرأس قاسم المائلة على كتفها: ليه!
أجابتها المُمرضة بسرعة: المريضة اللي هو مُشرف على حالتها فاقت.