قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

تظن نفسك سعيدًا وتأتي جُدران غُرفتك لتجلدك بسوْطِ الحقيقة البشعة التي تُحاول إخفاؤها، كيف تكون سعيدًا وأنت وحيد؟ ألا تتذكر تلك الليالي التي بكيت فيها قهرةً؟ ألا تعلم شيء عن الظلام الذي يملأ داخلك؟ ذلك الشعور بالقهر لا يُذكرك بمعاناتك؟ تُحاول الفرار مرارًا وتكرارًا لكن النتيجة تظل واحدة، المُطاردة!

تصنمت حبيبة محلها عندما أبصرت كابوسًا من أسوأ كوابيسها، أنس ومعه ريماس، ازدرقت ريقها برعب عندما أبصرت ريما أو إن صحَّ القول فهي ريمانا تأتي من خلف ريماس، تلك الحقودة البشعة التي جعلتها تبكي ليالي كثيرة بسبب حقدها، ابتسمت ريماس بود ثم اقتربت من حبيبة مُحتضنة إياها وهي تقول:
عاملة إيه يا حبيبة واحشاني؟

ابتلعت حبيبة ريقها تُحاول الإبتسام بصعوبة، ثم احتضنتها وعيناها مُثبتتان على زوج العيون المُتابعان لها، حاولت التحدث ليخرج صوتها مُتوترًا ظهر عليه الخوف: ال. الحمد لله يا ريماس أنا كويسة.
ارتسمت ابتسامة جانبية على ثُغر ريمانا، ثم تحدثت بسخرية وهي تقترب منها بخطوات بطيئة تُشبه الأفعى: مالك يا حبيبة خايفة كدا ليه إحنا هناكلك؟

وكالعادة لجأت حبيبة إلى الصمت في مثل تلك اللحظات، شبَّكت أصابعها ببعضهم البعض وظلت تضغط عليهم بقوة علّها تُهديء من توترها، ثم أخفضت رأسها للأسفل مُتحاشية النظر إليهم عادت خطوتين للخلف تحفزًا لأي خطوة قادمة، مما جعل نظرات الشماتة ترتسم بوضوح على وجه ريمانا التي تُطالع حالتها المزعوة بإنتشاء غريب، اقتربت منها خطوتين مُجددًا حتى باتت تقف أمامها مُباشرةً، رفعت حبيبة رأسها بسرعة عندما وجدت أقدام ريمانا تستقر أمام أنظارها، وما كادت أن تأخذ أي ردة فعل؛ حتى وجدت أصابع ريمانا تنتشل خُصلة من خصلاتها وتلفها حول إصبعها ببطئ تتلذذ برؤية مُعاناتها، كما كانت تفعل قديمًا!

صرخت حبيبة بألم عندما شدت ريمانا خصلاتها تجاهها بقوة، ثم همست جوار أذنها بفحيح: واحشاني يا حبيبة.
هرولت إليهم ريماس التي كانت مُنشغلة بالتطلع إلى أنس الذي لا يُبالي بها، ثم دفعت شقيقتها بعيدًا ناهرة إياها بعنف: إيه اللي أنتِ بتعمليه دا يا ريمانا أنتِ اتجننتي؟
طالعتها ريمانا بنظرات نارية ثم جزت على أسنانها مُتشدقة بغيظ: إطلعي منها يا بت أنتِ وملكيش دعوة.

طالعت ريماس شقيقتها بعدم تصديق من طريقتها الوقحة معها، وما كادت أن تتحدث؛ حتى وجدت أنس يتدخل في الحديث قائلًا بعتاب طفيف ل ريمانا: عيب اللي أنتِ عملتيه دا يا ريمو، مهما كان ف حبيبة بنت عمنا برضه ومن دمنا.

ارتعشت أوصال حبيبة من نظراته التي تخترقها، تشعر بأنها عارية أمامه رغم أنها لا تُظهِر شيئًا من جسدها، ابتلعت ريقها بتوتر ولم يُسعفها لسانها على التحدث، لقد تحكم بها خوفها وتأثر به جسدها، والآن هي في ذروة ضعفها! ابتعدت تلقائيًا عندما شعرت بيدِ أنس تمر بلطف على وجنتها، لا تعلم متى وصل لها ليلتصق بها بتلك الطريقة! طالعها أنس بسخرية، وبنظرات شاملة دارت في المنزل لم يجد أثرًا ل صهيب، لذلك تقدم منها بجرأة ثم احتضنها غصبًا بإشتياق شديد، هامسًا في أذنها بحب: وحشتيني يا حبيبة، وحشتيني أوي.

وأنت هتوحشنا كلنا يا حبيبي.

صعدت تلك الجُملة من فاه صهيب الذي أبعد أنس عن جسد حبيبة، مُسددًا له لكمة أطاحت بوجهه للخلف مما أدى إلى اصطدام رأسه بالباب بقوة شديدة آلمته، لم يكتفي صهيب بذلك؛ بل أوقعه على الأرض السيراميكية بلكمة أشد أطاحت بجسده بالكامل، اعتلاه صهيب حاقدًا عليه وتلك المرة لم يكتفي بلكمه في وجهه فقط، بل أيضًا حصل جسده على جُرعة كبيرة من الألم نتيجة لضرباته الشديدة، وكل هذا حدث في ثوانٍ فقط، حتى أنس لم يستطيع الدفاع عن نفسه لإستخدام صهيب عنصر المُفاجأة في هجومه العنيف، امتلأ وجه أنس بالدماء وجسده بالكدمات، استفاق على صوت ريماس التي تجذبه من فوق جسد أنس الهامد والفاقد للوعي بصراخٍ وخوفٍ عليه، كذلك ريمانا التي شحب وجهها خوفًا من رؤية صهيب لفعلتها مع حبيبة.

ابتعد صهيب عن جسده واندفع لباب شقته يفتحه على آخره، ثم عاد مُجددًا لجسد أنس المُتمدد بسكون، دافعًا ريماس التي تحتضن رأسه ببكاء مرير على حالته، ثم جذبه من قدمه كالحيوانات وأخرجه من الشقة نهائيًا، دفع جسده بعيدًا عنه ناظرًا إليه بحقد ازداد أكثر عندما تعدى حدوده مع زوجته الضعيفة واستغل غيابه، عاد بخطواته للخلف ونظراته مازالت حادة مُخيفة، فاصطدم جسده بجسد ريماس التي لحقت به لرؤية أنس، طالعها بسخرية ودلف للمنزل، ليجد ريمانا تقف كالفرخ المُبلل بوجهٍ شاحب، وبقسوة لم يعهدوها منه من قبل؛ أمسك بذراعها بقسوة ساحبًا إياها خلفه حتى دفعها هي الأخرى بعنف بعيدًا عن شقته، وبعدها صعد صوته يهدر بعنف: مش عايز أشوف خِلقة أي حد فيكم في بيتي، والكلب دا لو عتَّب هنا تاني أنا هقتله.

قال جُملته ثم أغلق الباب بوجه ثلاثتهم واستدار ل حبيبة التي كانت ترتعش برعبٍ من حالته التي تراها ولأول مرة!
اقترب منها بخطوات سريعة وبعروق تنتفض من الغضب أمسك بكتفيها يهزها بعنف: مقاومتيش ليه؟ متدافعتيش عن نفسك ليه؟ لإمتى هتفضلي ضعيفة؟ هتفضلي طول عمرك كدا! غبية وضعيفة وخوَّافة.

قال كلماته القاسية ثم دفعها بعيدًا عنه ناظرًا إليها بغضب شديد قبل أن يتركها ويدلف للغرفة التي أغلق بابها خلفه بعنف دون أن يستدير لها ويرى حالتها.
أما هي كانت في عالم أخر، لقد انتشلتها الظُلمة مرة أخرى وعادت لها وساوسها، لقد ملَّ منها وغادر! شعرت حبيبة بضربات قلبها تتعالى تدريجيًا، وبكف يدها كتمت فاهها لتمنع من إرتفاع شهقاتها خوفًا منه! سيعود إليها ويُوبخها من جديد إن استمع لبكاؤها.

جلست على الأريكة بجسد واهن ونفس مُنكسرة، ثم رفعت أقدامها تضمها لصدرها، عالمها الوردي دُمِّر بلحظة، ارتفعت شهقاتها رغمًا عنها قهرةً على حالتها المسكينة، وببكاء طفل صغير مُشرد انكمشت على ذاتها في وضع الجنين، هي خائفة وهو مصدر أمانها، لكنه أصبح تخويفًا لها، لقد خُذِلت منه كما خذلها الجميع من قبل، وهذا أكثر شيء كانت تخافه.

وبالداخل. كان يدور حول نفسه كالثور الهائج يزرع الغرفة ذهابًا وإيابًا، رؤيته لذلك المقيت يضمها لصدره وهي مُستسلمة إليه بضعف؛ جعل النيران تشتعل في صدره دون إرادةٍ منه، جذب خصلات شعره بغضب شديد حتى كاد أن يقتلعه، وبغضب جامح كانت يده تطول ما في الغرفة لتدميره، غضبه لا يهدأ، ونيرانه لا تهمد، وعشقه يُسيطر عليه، وبين كل هذا وبَّخه فؤاده على ما فعله بتلك المسكينة، ليتوقف عن تدمير الغرفة بصدرٍ يعلو ويهبط بنهيجٍ حاد.

جلس على الفِراش بيأس واستند برأسه على كِلتا يديه، وبعدة عدة دقائق من الصمت المُخيف هبَّ من مكانه مُتجهًا للخارج بهدوء، وكأنه لم يفتعل عاصفة هوجاء منذ قليل!

توقف محله مُتصنمًا عندما وجدها تدفن وجهها بين قدميها التي تضمها إلى صدرها، وكأنها تختبيء من العالم بذاتها! تألم فؤاده لرؤيتها بذلك الشكل المُهلِك لقلبه، خاصةً عندما استمع لصوت شهقاتها الواهنة، يُقسِم بأنه لم يقصد القسوة، بل غضبه هو ما أعماه وأعمى بصيرته، هو يعشقها بكل إنش به ولا يُريد حُزنها.

اقترب منها ببطئ حتى جلس جانبها مُلتصقًا بها، مدَّ يده مُمسدًا على رأسها وهو يُنادي عليها بصوتٍ واهن: حبيبة!
انكمشت حبيبة على ذاتها أكثر برعب تُحاول الإبتعاد عن مرمى يده وهي ترجوه ببكاء: أنا آسفة والله ما هعمل كدا تاني.

تخشب جسده من الصدمة، حتى أن يده قد تصنمت من هوْل ما قيل، يكادُ يُقسِم بأنه استمع لصوت إنشطار قلبه لقسوة حديثها، ابتلع ريقه بصعوبة بالغة، وبألم وصوتٍ مُتحشرج سألها بعدم تصديق: أنتِ. أنتِ خايفة مني يا حبيبة؟
لم تُجيبه بل ظلت على حالتها المُنكمشة تلك تهتز بخفة في مكانها، وتلقائيًا تسللت الدمعات لعين صهيب يسألها بوهن: حبيبة بجد أنتِ خايفة مني؟

ازدادت وتيرة بكاؤها عندما استمعت لصوته المُتحشرج الباكي، وبخوف عليه رفعت وجهها المُمتليء بالدموع لتراه، فوجدت بالفعل عيناه مليئة بدموع الأسى وعدم التصديق، شهقات مُرتفعة خرجت منها وهي تؤكد لها سؤاله برأسها، نعم هي خائفة منه وبشدة لكنها. تُحبه!

لم يجعلها تتحدث بكلمة واحدة بعد إمائتها تلك التي دمرت أعصابه، بل جذبها لأحضانه دافنًا إياها بين ضلوعه ووجهه يستقر بين حنايا عُنقها يعتذر لها بألم: أنا أسف والله، حقك عليا مقصدش إني أزعلك، عشان خاطري سامحيني أنا أسف.

كتمت حبيبة شهقاتها العنيفة بثيابه، ثم لفت يدها حول خصره تضمه بقوة وكأنها تهرب منه إليه! وهو يُشدد من ضمها وكأنها ملاذه الوحيد والأوحد، خرج صوته مُتهدجًا وهو يمسح على خصلاتها: حقك على راسي أنا أسف.
ومع مرور الكثير من الوقت وهم على حالتهم تلك، صعد صوته ساببًا ذاته لإحزانها: طيب أنا طور مبفهمش، وجاموسة، وحمار، وغبي، بس متزعليش مني يا بسكوتة.

تشكلت إبتسامة طفيفة على ثُغر حبيبة لكنه لم يراها، لذلك استكمل حديثه قائلًا: والله أنا مكنش قصدي أطلَّع عصبيتي عليكِ، أنتِ محستيش بالنار اللي كانت قايدة جوايا لما شوفته حاضنك وأنتِ واقفة بتترعشي بين إيديه.
قال كلماته ثم أبعدها عنه قليلًا ماسحًا دمعاتها بإبهامه، ثم استطرد حديثه المغلول: محستش بنفسي وقتها وكل اللي كنت بفكر فيه؛ إيه اللي كان ممكن يحصلك لو أنا مش موجود وأنتِ معاهم لوحدك؟

كانت في تلك الأثناء توقفت عن البكاء، لم تكذب عندما قالت بأنه مصدر أمانها وإحتوائها، هو الوحيد القادر على إسعادها بعد إحزانها، وبرغم عصبيته المُفرطة عليها منذ قليل؛ إلا أنها لجأت إليه! هربت منه لتختبيء به! وبعد خطأه جاء ليعتذر بقوة عما صدر منه، ألا ينبغي عليها مُسامحته؟
أنا مش زعلانة، بس أنا كنت خايفة منك.

ولو ظنت بأن حديثها ذلك أراح قلبه فهي مُخطئة، لقد تألم فؤاده أضعافًا مما كان عليه، اعترافها بالخوف منه كان صادمًا، يعلم بأنها ضعيفة وهشة وهو قاسي أحيانًا، لكنه معها غير الجميع، اقترب منها مُقبلًا جبينها بقُبلة مُطولة ثم أردف بعدها معتذرًا:
حقك عليا أنا مش قصدي أخوفك، أنتِ روحي يا حبيبة ومحدش بيعرف يقسى على روحه.

وكأنه ببضعة كلمات أخرجها من فمه أعاد الحيوية لجسدها، اتسعت ابتسامتها تدريجيًا ثم أردفت بكلماتٍ جعلته يقع في عشقها أكثر مما هو عليه: وأنا واثقة فيك يا صهيب، وعارفة إنك مش هتخذلني زي ما ناس كتير خذلتني واتخلت عني، عشان أنتَ غيرهم وهما مش أنتَ.
جذبها لأحضانه بعنف مُقبلًا جانب وجهها أثناء قوله العاشق: يا روح قلب صهيب وحياته كلها.

تلك الأجراس التي تدق طربًا بين الأضلعِ كان سببها بضعة كلماتٍ قليلة مِمَن نُحب، نحن نعشق والعشق خالٍ، شوائبه تُمحى بنارٍ، ونُحلق في السماءِ كطائرٍ، نال حُريته المُطلقةِ.

بت يا يمنى. أنتِ يا هبابة! اصحي يامّا احنا مش في دريم بارك.
هتف يحيى تلك الكلمات يُناديها بحنق، وللحقيقة هو لم يُناديها للبحث عن خطة للهروب، بل فقط لأنه شعر بالحنق من جلوسه وحيدًا!
نفخ يحيى بسخط عند عدم استجابتها له، لتتشكل ابتسامة خبيثة على فمه قبل أن تمتد أصابعه لجانبها يقرصها بقوة صرخت على أثرها بألم بعد أن استيقظت هاتفة بفزع: اقتلوه هو وسيبوني عايشة.

آه يا بنت الغدارين، بتسلميني حتى وأنتِ نايمة؟
تأوهت يمنى بضيق بسبب ألم جانبها، ثم نكزته بغضب بذراعها تصرخ به بقوة: يابني أنت غبي! فيه بني آدم طبيعي يصحي حد كدا؟
ابتسم ابتسامة مُستفزة لم تراها، ثم تشدق بمكر لإغاظتها: آه أنا، ولو سمحتِ متتكلميش معايا تاني عشان أنا مخاصمك ومبكلمكيش.

أغمضت عيناها تُحاول الثبات أمام أفعاله الطفولية التي تُثير غضبها أحيانًا، وحنقها أحيانًا أخرى، وتُحرِك من حبها له بكثرة! تشكلت ابتسامة طفيفة على ثغر يمنى ولحُسن حظها لم يراها، وعكس ما توقع تحدثت يمنى بهدوء تسأله بلُطف: أنت عايز إيه مني يا يحيى؟

لم يتوقع أن تسأله ذلك السؤال بتلك الطريقة المُباشرة وفي تلك الأثناء تحديدًا، استمعت لزفرته التي تدل على ضيقه الشديد، وبالفعل كان هكذا، لقد ضاق صدره وهو يتذكر كل ما قالته ليلة أمس على الشاطيء، لقد تألم قلبه بقوة وشعر حينها باليُتم، أراد عناقًا من والدته وقتها، لكنه وللأسف الشديد لم يجدها!

صعد صوت يحيى مُتألمًا سائلًا إياها بصوتٍ يشوبه الحزنِ: الكلام اللي قولتيه إمبارح كنتِ تقصديه؟ كان من قلبك فعلًا وأنتِ مش طيقاني ووجودي تقيل عليكِ؟

ابتسمت يمنى بحنان خاصةً بعد أن استمعت إلى صوته الخائف عند سؤاله، أرجعت رأسها للخلف تستند على ظهره قائلة بود: لأ مكنتش أقصد أي حاجة من اللي قولتها، أنا كنت خايفة إن إعجابك بيا يتحول لحب، وأنا كنت مقررة اليوم دا إني آجي شركة مهران لوحدي ومكنتش عارفة هعيش ولا هموت ولا أنا إيه نظامي، قولتلك الكلام دا عشان أكرهك فيا وقلبي كان بيوجعني قبلك.

تسللت الدمعات لعيناها قبل أن تُكمل بصوت مُرتعش باكٍ ممزوج بالحب: أنتَ وجودَك أخف عليا من قلبي يا يحيى.

وما أن أنهت حديثها؛ وجدت العُقدة المربوطة بيد كليهما تُفَك بعد أن استغل يحيى حديثها وقام بإخراج قطعة معدنية حادة من ثيابه وظل يحُكها مع الحبال الملفوفة حول جسديهما، لم تكد يمنى أن تستوعب ابتعاده عنها وفك العُقدة من حولها؛ حتى وجدت جسدها يُجذب بقوة بواسطته وهو يحتضنها مُشددًا من جذبه إليها، هامسًا في أذنها بعشق وقد قرر الإعتراف لها أخيرًا: أنا بحبك يا يمنى، بحبك أوي حقيقي.

تصنم جسدها محله حتى أنها لم تتنفس! هل اعترف بحبه للتو! هل قالها حقًا وهو يَكِن لها حبًا ليس إعجابًا؟ ارتعش جسدها عِند شعورها بمياه دافئة تهبط على عُنقها، وهُنا وصلها الشعور بأنه يبكي؟ وتلقائيًا تسللت الدموع لعيناها تأثرًا بحالته، بل ورفعت ذراعها لتلفها حول عنقه تجذبه تجاهها، دفن وجهه في عنقها وعقله يُخبره بأن ما يفعله صحيحًا، لقد عانى كثيرًا وحده في ظُلمة الأيام، وتغير كل هذا بعد أن رآها وشعر بالإنجذاب لها، لا يستطيع أن يُضيعها من بين يديه، لا يستطيع إبعادها عنه.

أنا أسفة يا يحيى، أسفة والله بس أنا مش هقدر أحبك دلوقتي، مش هقدر صدقني.
شعرت بتصنم جسده، ابتعد عنها قليلًا وقد رأت وجهه المليء بالدموع، ولكم آلمها رؤيته بتلك الطريقة! وسؤالٌ واحد خرج من فمه: ليه؟

أجابته بيأس قبل أن تقف على قدماها وهو يقف مُوازيًا لها: عشان أنا حياتي مش بإيدي، أنا لسه رحلتي طويلة وإنتقامي لسه في بدايته، ولو إديتك الحُب اللي أنت عايزه مش بعيد أخسرك أنت كمان، وأنا مش عايزة أخسرك يا يحيى، مش عايزة أخسرك بعد ما بقيت غالي عليا.

اقترب منها خطوتان مُمسكًا بها من ذراعيها ليُقربها منه، ثم تشدق لها بحنان: وأنا مش عايزك تحبيني غصب عنك يا يمنى، كفاية إني غالي عندك زي ما بتقولي، كل اللي عايزه منك تقوليلي إنك عايزاني معاكِ في حياتك، بعدها أُقسِملك بالله هحارب معاكِ لآخر نَفَس، حتى لو هموت فأنا هفديكِ بروحي.

وعند ذكره للموت ثارت ثائرتها وهاجت فيه ببكاء أثناء ضربها لصدره بعنف: وأنت لما تموت هعيش أنا لمين؟ رُد عليا؟ ليه مكتوب عليا أخسر كل اللي بحبهم؟ ليه مُصِّرين تخلوني أعيش لوحدي؟ ليه؟

طالعها بحزن واقترب منها لإحتضانها، لكنها نفضت يده بعيدًا صارخة بإهتياج: كلكم بتقولوا عليا أنانية وغبية ومش بحب غير نفسي، كل دا عشان برفض كل الحب اللي بيجيلي، بحاول أخلي نفسي قاسية وأنا من جوايا ضعيفة، كلكم مفكرني مبحسش ومحدش حاسس بيا، كلكم عايشين في خانة المظلومين ومفيش حد مظلوم غيري، أنا أبويا مات واتقتل قدام عيني، عايزة أجيبله حقه من غير ما حد يتدخل عشان محدش يتأذي، عندي إستعداد أنا اللي أموت في سبيل إنكم تعيشوا مبسوطين، مفيش غير أهلة هي اللي بتحتويني، و ملك بتخفف عني، ورغم برودي معاهم محدش مَلّ مني أو زِهق، محدش شاف اللي أنا شوفته، أنا فيه جوايا نار يا يحيى، نار الخوف من خسارة اللي بحبهم، أنا مش وحشة والله العظيم، مش وحشة يا يحيى.

يبدو بأن هُناك أحدهم يعيش نفس مُعاناته! هكذا همس يحيى لذاته، لكنه لم يكن مجرد أحدهم، بل كان الأقرب إلى فؤاده، ارتفع صوت بكاء يمنى بأسى وخبأت وجهها بين كفيها، لم تعتاد أن تظهر ضعيفة، هي دائمًا ما كانت قوية وستظل كذلك حتى ولو بالكذب! شعرت بيد تجذب كفها عن وجهها، وبضعفٍ شديد أبعدت أنظارها عنه حتى لا تجد نظرات الشفقة ترتسم على عيناه، أمسك يحيى وجهها بقوة جاعلًا إياها تنظر إليه رغمًا عنها، ثم تحدث بصرامة:.

أنتِ مش وحشة يا يمنى، مش وحشة وعمرك ما هتكوني ضعيفة، أنا عِرفتك يمنى الشجاعة القوية اللي بتدافع عن نفسها وعن إخواتها بكل قوتها، عمري في حياتي ما شوفتك أنانية، أنا شوفتك بقلبي عشان كدا حبيتك وبقيت حافظك، قولتهالك وهقولهالك تاني، قوليلي بس إنك عايزة تكوني معايا وأنا هحارب الدنيا كلها معاكِ وهبقى في ضهرك.

شهقت بعنف وعقلها يُجبرها بأن توافق، هو طوق النجاة الوحيد في بحرٍ مليء بالأسماك المُفترسة، لا تستطيع إضاعته بعد أن وجدته، لذلك أومأت بوجهها قائلة بصوتٍ باكٍ: موافقة أبقى معاك يا يحيى.
اتسعت ابتسامته بعدم تصديق قائلًا بسعادة بالغة: وحياة أمك؟ إحلفي بالله كدا! يا بركة دُعاكِ يامّا، يا بركة دُعاكِ يا غالية، زغرطي يا بت عشان مش بعرف.

قهقت يمنى عاليًا وهي تمسح دمعاتها الكثيفة التي تهبط على وجنتها، ثم تحدثت بصوت مُتحشرج ضاحك: إحنا مخطوفين والمفروض نهرب لو مش واخد بالك.
شهق بعنف بعد أن انتفض بعيدًا عنها: يخربيتك صحيح، روحي منك لله يا بعيدة، جرجرتيني لحد هنا بسبب الجذمة اللي موجودة في دماغك، ما كنتِ قولتيلي الكلمتين دول على الشط إمبارح بدل ما أتخطف معاكِ واتبهدل!

فتحت يمنى فاهها ببلاهة من انفصامه، كان منذ قليل يُخبرها بأنه سيفديها بروحه إن أرادت، والآن يحقد عليها لأنها تسببت في خطفه معها؟ وبحنق دفعته بعيدًا بعنف متشدقة بحنق: تصدق إنك غدار؟ وأنا اللي غلطانة إني صدقتك يا خاين.
أشاح بيده بلامبالاة مُتجاهلًا إياها ناظرًا حوله في الأرجاء للبحث عن مخرج: يا شيخة اتنيلي بقى دا أنتِ قنبلة نكد موقوتة، وأنا بصراحة راجل فرفوش مليش غير في الضحك والفرفشة.

تخصرت مكانها ناظرة لأثره بغضب، وكادت أن تتحدث لولا سماعهم لصوت الطلقات والصرخات الآتية من الخارج.

يميل الإنسان إلى شخصٍ حنونٍ بارعٍ في الإعطاء دون مُقابل.
استيقظت أَهِلَّة من نومتها بكسل، فتحت عيناها ببطئ لتعتاد على إضاءة الغرفة، ثم وبهدوء اعتدلت في مكانها مُتمطعة في مكانها بكسل، نظرت بجانبها وانتقلت بأنظارها في أنحاء الغُرفة ولم تجد ل قاسم أي أثر، قطبت جبينها بتعجب من عدم وجوده، خاصةً وأن الوقت مازال مُبكرًا ولم يتعدى حتى الآن الثامنة صباحًا!

اعتدلت في مضجعها ثم هبطت من على الفِراش مُتجهة للخارج للبحث عنه، وللعجب لم تجده أيضًا، لكن لفت انتباهها باب الغُرفة المُنفتح والتي كانت مُغلقة بالمُفتاح ليلة أمس، تعجبت من ذلك، وبتروٍ وحذر اقتربت من الغُرفة حتى وقفت على أعتابها.

في تلك الأثناء كان قاسم يُعطي لوالدته المُستيقظة دوائها، ثم اعتدل مُمسكًا بالإبرة (حُقنة) دافعًا إياها في المحلول المُعلق في يدها أثناء غنائه الرائع لوالدته، بل، الأكثر من رائع بصوته الشجن العميق:
أنا العاشق لعينيكَ، بربِ العشقِ فارحمني،
وخُذ بي بينَ يديكَ، نَبضُ القلبِ أسْمِعني،
وضَمِّد جُرحيَ الدامي. مني إليكَ فأخُذني،
وشافي مُرَّ علقمِكَ، حيثُ الشؤمُ يحمُلني،.

ورغم عدم معرفة أهلة لهوية تلك النائمة؛ إلا أنها انبهرت بصوته الذي سرق لُبَّها من الوهلة الأولى، صوته يجمع بين مشاعر الحب والعشق والعتاب والرجاء والخيبة!

طالعت قاسم الذي يعود بظهره للخلف تجاهها، لذلك قررت الذهاب وتركهم وحدهم وبعدها ستسأله عن هوية تلك المرأة دون أن تقطع لحظتهم، وما كادت أن تفعل؛ حتى شهقت بفزع عندما وجدته يُمسك بيدها يمنعها من الذهاب! وبعدها جذبها للداخل ثم أحاط بخصرها راقصًا معها ببطئ على كلمات أُغنيته التي يُرددها بلسانه أثناء نظره لعيناها:
أنا العاشق لعينيكَ، بربِ العشقِ فارحمني،
وخُذ بي بينَ يديكَ، نَبضُ القلبِ أسْمِعني،.

وضَمِّد جُرحيَ الدامي. مني إليكَ فأخُذني،
وشافي مُرَّ علقمِكَ، حيثُ الشؤمُ يحمُلني،
وداويني ببعضِ الحبِ، طمئني وصبرني،
وخُذ مني يا روحَ القلبِ. صَدِّق ليسَ يشغُلُني،
أو حتى فَخُذ بالروحِ، حطِّمني وأخبِرني،
بأن القلبَ منكَ مِلكٌ، لغيرِ عنكَ أبعدَني.

قال غناؤه الأخير وهو يلُفها حول ذاتها عِدة مراتٍ، وكل هذا وهي كانت مُنصدمة، قلبها يطرق بشدة، وجسدها يعمل بعنفوان، عقلها لا يستوعب، وعيناها تُطالعه بدهشة، وبين هذا وذاك فإن نبض القلب يفوز.

توقف قاسم عن الغناء وتمتع بالنظر إلى عيناها، ورغم أنها كان عينان بُنيتان عاديتان للغاية؛ إلا أن هُناك شيئًا يُجذبه تجاهها، استمع كلاهما إلى صوت ضحكة خافتة تأتي من جهة الفِراش، لتخرج أهلة من شرودها على صوت تلك الدخيلة، ابتعدت عنه بخجل واضح، خاصةً عندما استمعت إلى صوت المرأة تقول بضحك: يابني مش كدا خضيتها.

استدار قاسم لوالدته مُبتسمًا لها، ثم اقترب منها مُجددًا حتى جلس جانبها مُقبلًا جبينها، قبل أن يتشدق بعبث: هي اللي قلبها رُهيف يا ماما.
طالعته أهلة بتعجب، فتحدث هو بحنان قائلًا: تعالي قربي واقفة عندك ليه؟
اقتربت أهلة ببطئ وعيناها لا تُرفع من على وجه تلك المرأة، تشعر بأنها قد رأتها من قبل لكن لا تتذكر، وقف قاسم أمامها ثم أردف وهو يُشير لوالدته: دي بقى يا ستي تبقى أمي.
أمك؟

ضحك قاسم بخفة، ثم أكد لها مُومئًا لها بالإيجاب، قبل أن يقول: آيوا، بس مجتش فرصة قبل كدا عشان أعرفك عليها.
هزت أهلة رأسها ولم تعلم بما تُجيبه، رفعت أنظارها تُطالع حياة والدة قاسم بهدوء، فاستمعت لصوتها يحثها بهدوء: تعالي اقعدي جنبي يا حبيبتي.

اقتربت منها أهلة واستدارت لتجلس على الجهة الأخرى من الفراش، ثم جلست جانبها كما طلبت، طالعتها حياة بلين قبل أن تردف بحنان: قاسم حكالي عنك كذا مرة، بس أنا متخيلتش إنك تكوني جميلة أوي كدا.
تسللت الإبتسامة لثُغر أهلة تلقائيًا، فردت عليها قائلة بإمتنان: تسلميلي يا طنط أنتِ اللي زي القمر.
ضحكت حياة بخفة وهي تُجيبها بمزاح: يا بكاشة، شكلك زيه بالظبط.

قهقه قاسم بخفة هابطًا على جبين والدته ليُقبله بحنان، قبل أن يقول بضحك: والله ما كِدبت، أنتِ فعلًا زي القمر يا ماما.
بس يا ولا اسكت بقى خليني أتكلم مع العسلية دي.
قالتها حياة ببعضٍ من الحِزم، ليصمت قاسم على الفور مُتصنعًا الخوف وهو يُجيبها: حاضر يا ست الكل أديني هسكت أهو.

كانت أهلة تُتابعهم بإبتسامة شغوفة، فلأول مرة ترى علاقة قاسم بوالدته، وللحقيقة فعلاقتهم مليئة بالحب والمودة والدفيء، ذلك الدفيء الذي توغل لقلبها عند رؤيتهم معًا.

استفاقت من شرودها بعد أن أعدل قاسم وضعية والدته فجعلها تستند على ظهرها وخلفها وسادة ناعمة حتى لا تشعر بالتعب، مدت حياة يدها ببطئ لتُمسك بيدِ أهلة الموضوعة على قدمها، نظرت أهلة ليدها المُمسكة بخاصتها، ورغم أنها شعرت بالإشمئزاز؛ إلا إنها تحاملت على ذاتها حتى لا تتسبب في إحراجها وإحزان قاسم الذي لا يتهاون في إسعادها.

كان قاسم يُراقب ردات فعلها بعدما أمسكت والدته بيدها، ورغم علمه بشعورها بالإشمئزاز الآن؛ إلا أنه سعد كثيرًا بفعلتها وعدم سحبها لكفها من يد والدته، وكم زادت مقامًا في نظره!

بدأت حياة الحديث مُوجهة حديثها ل أهلة قائلة: أنا مبسوطة إن إبني إختارك وفرحانة إنك بقيتي مرات إبني، يمكن دي أول مرة أتعامل معاكِ فيها بس أنا ارتحتلك من كلام قاسم عنك، وارتحت أكتر لما شوفتك، وشك فيه قبول ودخلتي قلبي بسرعة، ودي صِفة نادرة ربنا بيحطها في عباده اللي بيحبهم، أنا زي ما أنتِ شايفة كدا تعبانة ومريضة ومش عارفة قدري هينتهي إمتى...

قاطعها قاسم بضيق قائلًا وهو يُحاول إخفاء تلك الغصة المؤلمة التي تشكلت بفؤاده: أنتِ بتقولي إيه بس يا ماما بعد الشر عليكِ.
استدارت له حياة قائلة بحدة مصطنعة: متقاطعنيش يا ولد واسمع وأنت ساكت.
خضع قاسم لها وصمتَ، لكن معالم الضيق مازالت واضحة على وجهه بسبب حديثها الذي أشعل صدره، عادت حياة بأنظارها ل أهلة مُجددًا ثم استكملت حديثها قائلة:.

قاسم ابني أوقات بيكون عصبي، وأوقات بيكون عنيد، وأوقات كتير جدًا مش هتفهميه ولا هتفهمي دماغه، لكن صدقيني مفيش في حنانه ولا في طيبة قلبه، بيرضى بأقل حاجة وعقله عقل طفل صغير، ممكن في يوم من الأيام يزعلك بس هيجي بعدها ويراضيكِ، عمره ما هينيمك وأنتِ زعلانة منه، اعتبريه أول وآخر طلب أطلبه منك، بس خلي قاسم في عينيكِ.

كانت أَهِلَّة تستمع إليها بإهتمام، ذلك الإهتمام والحب والخوف النابع من خوفها وقلقها على فلذة كبدها؛ أحيا بها الكثير من المشاعر التي دُفِنت قديمًا، ابتسمت أهلة إبتسامة طفيفة قبل أن تعدها قائلة: عيوني ليكِ هعمل اللي حضرتك عايزاه، وبكرا هتقومي بالسلامة وهتبقي وسطنا ومعانا.

ربتت حياة على كفها بخفة رامية إياها بإبتسامة طفيفة، بينما قاسم اقترب من والدته يحتضنها بحب، بعد أن إنزاح الضيق من على معالمه عندما استمع لحديث والدته، شدد من احتضانها قائلًا بحب: ربنا يديمك ليا يا ماما، أنا بجد مش عارف من غيرك كنت هعمل إيه؟
ربتت حياة على ظهره أثناء تقبيلها لجانب وجهه، ثم تحدثت بوهن: ويديمك ليا يا نور عيني، خلي بالك منها ومتزعلهاش يا قاسم.

رفع قاسم أنظاره يُطالع أهلة التي تُراقبهم بأعين مُلتمعة، ثم أردف بوعدٍ قاطع: في عيوني.

تلاشت أهلة النظر لعيناه التي تُربكها، بينما ابتعد قاسم عن والدته وإبتسامة عابثة تُزين ثُغره، لكنها انمحت بحزن عندما أدرك أن والدته ذهبت في غيبوبتها المؤقتة مُجددًا على غفلة، قبَّل جبينها بحنان وداخله يدعو المولى عز وجل أن يُشفيها له، هو لا يستطيع العيش دونها ولو للحظة واحدة، يعيش لأجلها ولا يستطيع أن يتخيل فكرة فُراقها.
هي. هي نامت بسرعة ليه؟

أعدل قاسم من وضعية نوم والدته ببطئ شديد، ثم أجابها وهو يُغطي جسدها: هي تعبانة، ومش بتصحى في اليوم أكتر من ساعة بس.
طالعتها أهلة بحزن ثم تمتمت بصوتٍ خافت: ربنا يشفيها يارب، متقلقش هتكون كويسة.

رفع أنظاره إليها راسمًا على ثغره إبتسامة ساخرة: بقالي 15 سنة مش بتمنى غير إنها تكون كويسة، أملي في ربنا كبير وواثق إنه مش هيحرمني منها، بس في نفس الوقت خايف، وخصوصًا إن السبب الرئيسي اللي مخليني أسافر روسيا هو علاجها.
وقفت أهلة من مكانها ثم استدارت له لتقف بجانبه، ثم وضعت يدها على كتفه قائلة بتشجيع: صدقني هتكون بخير أنا واثقة من دا.

نظر قاسم لكفها المُستقر فوق كتفه، ثم انتقل ببصره نحوها ليجدها ترسم على شفتيها ابتسامة طفيفة أطفأت من لهيب فؤاده، وتلقائيًا ابتسم مثلها تمامًا، وكأن ابتسامتها عدوى أصابته!
حمحمت أهلة بخجل فابتعدت عنه قائلة باندفاع: أنا هروح الحمام ثواني وهاجي.

أومأ لها وداخله يعلم لما تريد الذهاب لكنه لم يُعقِّب بل تركها تذهب، لكن قبل أن تخرج من الغرفة تمامًا أردف بصوتٍ عالٍ حتى يصل إليها: ومتنسيش تتوضي أنتِ مصلتيش الصُبح.
أومأت له ثم هرولت للمرحاض لتختفي عن عيناه، وما إن رحلت واطمئن على والدته؛ حتى أخرج هاتفه وظل يعبث به قليلًا ثم انتفض من مكانه ناظرًا لشاشته بصدمة، قبل أن يهمس بغضب: الله يخربيتك يا يحيى على بيت يمنى على بيت صادق على بيت أبوكوا كلكوا.

مسح على وجهه بغيظ، قبل أن يعبث بالهاتف قليلًا ووضعه على أذنه حتى أتاه الرد من الجهة الأخرى، ليتشدق قاسم مُسرعًا: معلش يا آلبرت كنت عايزك في خدمة كدا، هبعتلك لوكيشن مكان دلوقتي أي حد يقابلك فيه اقتله عشان أنا قرفت، آه أي حد أي حد، ماشي تسلم يا آلبرت.
أغلق قاسم الهاتف نافخًا بغيظ، قبل أن يهمس بصوتٍ حانق: واحد مُتخلف رايح يحب واحدة غبية وأنا اللي بلبس في الآخر من ورا مصايبهم.

ارتدت سهيلة ثيابها على عجالة ثم انطلقت مُهرولة للخارج بعد أن ألقت التحية على عائلتها لتأخرها على مُحاضرتها، وبالطبع لم تجلس لواحظ معهم لغضبها واستيائها الشديد منهم.

وصلت سهيلة إلى الجامعة ثم دلفت إلى محاضراتها، لكن ولسوء حظها لم تأتي مُعلمة المادة، نفخت بضجر وسخط، لكن ليس لغياب المُعلمة، بل لأنها ستضطر إلى الجلوس وحيدة، حيث قطعت جميع علاقاتها مع أصدقائها القُدامى ووضعتهم في القائمة السوداء كما يجب أن يكونوا.
جال بعقلها فكرة سارعت بتنفيذها، حيث قامت بإخراج هاتفها وقامت بمُهاتفة شخصٍ ما، ثوانٍ وأتاها الرد فأجابت سهيلة بحماس: عائشة إزيك وحشتيني؟

أتاها الرد من عائشة على الناحية الأخرى وهي تُجيبها بود: حبيبة قلبي يا سهيلة وحشاني أكتر يا جميلتي.
تحدثت سهيلة بعتاب: وحشتك برضه؟ مش أنتِ قولتيلي هتكلميني كتير؟ أديكِ من ساعة ما اتقابلنا آخر وأنتِ معبرتنيش.
أجابتها عائشة بإعتذار: حقك عليا والله متزعليش مني، أنا بس كنت خايفة أبقى تقيلة عليكِ ومش حابة وجودي.

ردت عليها سهيلة بعتاب: إخس عليكِ يا عائشة ليه بتقولي كدا؟ لأ بجد أنا حبيتك أوي واعتبرتك أكتر من أخت، أنتِ كنتِ سبب من الأسباب إني أرجع لربنا تاني.
ابتسمت عائشة بسعادة وهي تُجيبها: والله إنك فرحتيني أوي يا سهيلة بكلامك الجميل دا، مكنتش متوقعة إني أكون سبب في هداية حد.
أجابتها سهيلة مُبتسمة: حقيقي اللي زيك بقوا قليلين أوي يا عائشة، ربنا يجازيكِ كل خير ويجعله في ميزان حسناتك.

آمنت عائشة على دعائها قائلة: اللهم آمين يا حبيبتي وإياكِ.
تسائلت سهيلة بلهفة بعد أن هبطت من مبني الجامعة: أنتِ فين دلوقتي؟
أجابتها عائشة وهي تتحدث بمرح: حذري فذري أنا فين؟ أنا في نفس المكان اللي اتقابلنا فيه المرة اللي فاتت.
قفزت سهيلة محلها بحماس قائلة: بجد؟ طيب أنا جايالك دلوقتي حالًا.
تمام هتلاقيني وصلت للمسجد تعالي على هناك بقى.
حاضر، يلا سلام.

أغلقت سهيلة معها الهاتف ثم تحركت نحو المسجد المُلحق بالجامعة، وبعد خمس دقائق وصلت، لتجد عائشة تقف بالخارج مُنتظرة إياها، ركضت سهيلة نحوها ثم عانقتها بقوة أثناء هتافها السعيد: بجد بجد وحشاني أوي، هل مرة واحدة اللي اتقابلنا فيها بس حبيتك جدًا.
بادلتها عائشة العناق مُجيبة إياها بضحك: حبيبتي والله يا سهيلة وأنتِ وحشاني أكتر.

ابتعدا عن بعضهما فنظرت عائشة لثيابها فوجدتها ثيابًا واسعة بكثير عن المرة المُقبلة، ولكم سعدت من التطور الواضح على شخصيتها، جذبتها عائشة خلفها وهي تردف قائلة: يلا ندخل عشان الأبلة مريم كلها شوية وهتبدأ الدرس.

وافقتها سهيلة تلك المرة بصدرٍ رحب وإشتياقٍ للحديث الذي يدفعها للراحة والطمأنينة، أعطتها عائشة ثيابًا واسعة (إسدال) لترديها فوق ثيابها التي لا تنفع في المكان التي تقف به، واتجهتا معًا صوب جميع الفتيات اللواتي ينتظرن مُعلمتهم الجليلة مريم.
جلستا على مقربة كن تجمهر الفتيات حتى تأتي مريم، فبدأت سهيلة حديثها بتوتر وهي تضغط على كفيها بتوتر: عائشة أنا كنت عايزة أسألك على حاجة كدا.

انتبهت لها حواس عائشة بإنتباه، ثم أردفت مُتعجبة: إسألي براحتك وأنا سمعاكِ.
ضغطت سهيلة على شفتيها بتوتر ولا تعلم كيف تبدأ حديثها، لكنها رضخت بالأخير أن تُعبر عن مكنوناتها وتتسائل من أجل أن تهدأ ولو قليلًا:.

بُصي أنا الحمد لله إلى حدٍ ما بقيت مُلتزمة في الصلاة شوية، بس بصراحة بقطَّع فيها، بس المشكلة إني لما آجي أصلي عقلي بيفضل يصورلي حاجات وحشة ومش حلوة، تخيلات فعلًا أنا أنكسف أفتكرها وأنا بصلي، وبجد والله مش بكون قصدي، بحس إني مش خاشعة في صلاتي وإنها مش مقبولة مني، هل كدا ربنا مش راضي عني؟

كانت عائشة تستمع إليها بإنتباه، وعند سؤالها الأخير ابتسمت بخفة وامتدت يدها لتُمسِك بيدِ سهيلة وهي تسألها: أنتِ بتكوني عايزة تخشعي في صلاتك؟
أجابتها سهيلة مؤكدة: أيوا أكيد.

فأكملت عائشة حديثها وهي تقول مُبتسمة: يبقى صلاتك مقبولة منك، خليكِ عارفة ومتأكدة إن الشيطان مش هيسيبك في حالك، وسوسته هتفضل معاكِ حتى وأنتِ بتصلي، هتحسي إن قلبك مش خاشع وإن صلاتك مش مقبولة بس دي في الحقيقة مجرد هلوسة ووسوسة من الشيطان، الأفكار الوِحشة اللي بتجيلك وأنتِ بتصلي مش بتتخيليها بمزاجك، بل شيطانك بيوزك ليها عشان مرة ورا التانية تزهقي وتقولي خلاص أنا ربنا مش راضي عني، لكن ربنا بيكون مبسوط وفرحان بيكِ عشان بتجاهدي وبتحاربي نفسك الضعيفة، هقولهالك تاني وتالت وعاشر ومش هزهق، مهما عملتي من ذنوب أوعي تسيبي صلاتك، إحنا من غير الصلاة منسواش، إحنا من غير ربنا ولا حاجة، وأكيد إحنا مش هنخسر دُنيتنا وأخرتنا بسبب شيطان ضعيف.

ضعيف؟

رددتها سهيلة بتعجب، لتؤكد لها عائشة بقوة قائلة: آه ضعيف، الشيطان طول عمره ضعيف طول ما أنتِ قريبة من ربنا، هيحاول معاكِ من جميع النواحي بس أنتِ محصنة نفسك، هل كدا هيعرف يوصل لعقلك؟ لأ طبعًا، أنتِ عارفة عاملة زي إيه؟ زي مجموعة من الناس راحة تهاجم قصر كبير وضخم مليان بحُراس وأسلحة وجنود وأسوار وحديد وهما ماسكين عُصيان خشب، مين اللي هيكسب؟ اللي ماسكين عُصيان خشب ولا القصر اللي متحصن من جميع النواحي؟

أجابتها سهيلة مؤكدة: أكيد القصر اللي متحصن من جميع النواحي.
أهو الشيطان كدا بالظبط، ضعيف زي الناس دي، والإنسان قوي بصلاته، وزكاته، وأذكاره، ودعائه، طول ما أنتِ محافظة على الحاجات دي فالشيطان ما هو إلا حشرة صغيرة قدامك مش هتتأثري بيها.
فكرت سهيلة في حديثها بعُمق، وبالطبع هي معها كل الحق، نظرت لها بتوتر أكبر فعلمت عائشة بأنها تُريد سؤالها مرة أخرى، لذلك أردفت بضحك: عايزة تسألي إيه تاني؟

حمحمت سهيلة بخجل قائلة بإبتسامة بلهاء وهي تلتمس بشرة وجهها التي اِحمرت بشدة: هو باين عليا أوي كدا؟
ضحكت عائشة بخفة وهي تهز رأسها بالإيجاب، ثم أردفت: بصراحة باين جدًا، ها قولي عايزة تسأليني في إيه؟
سحبت سهيلة نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل قبل أن تتحدث بسرعة وكأنها ترمي عن كاهلها حِملًا ثقيلًا: بصراحة بقى أنا بحب واحد مسيحي.
ضربت عائشة على صدرها مُرددة بحسرة: يا مراري؟

اختبأت يمنى خلف يحيى وهي تتسائل بخوف: إيه صوت الصويت اللي جاي من برا دا؟ هما بيحتلونا ولا إيه؟
ابتلع يحيى ريقه بفزع قائلًا: مش عارف، وبعدين أنتِ مستخبية ورايا ليه أنا عايز اللي يخبيني.
ضربته يمنى على ظهره بعنف وهي تُقلده ساخرة: مالك يا راجلي وتاج راسي كشيت على نفسك ليه؟
ابتلع لعابه مُحاولًا التحلي بالقوة، قبل أن يقول بصوت قوي: كشيت؟ لأ طبعًا، دا أنا بقيس مهاراتك وقوتك النفسية.

عقب حديثه؛ صرخ بفزع عندما كُسِر الباب الخشبي ووقع أمامهم مُتكسرًا إلا أشلاء، أغمض عيناه بهلع وعاد للخلف تلقائيًا قبل أن يصرخ عاليًا: اقتلوها هي أنا مليش دعوة.
تشنج وجه يمنى بإستنكار، وحقًا ودت لو تقفز فوقه لتُلقنه درسًا لن ينساه لغدره، هذا إن خرجا أحياء من هُنا.
الأوامر تقول بأننا سنقتل الجميع بلا إستثناء يا مُغفل.

صعدت تلك الكلمات من فمِ آلبرت الذي طالع يحيى بسخرية، بينما شعر يحيى بأن هذا الصوت مألوفًا إليه لحدٍ كبير، لذلك فتح عين واحدة ليتأكد من شكه، وبالفعل كان ظنه صحيحًا عندما أبصر آلبرت يقف ومعه أخواته الأربعة الآخرون، تشكلت إبتسامة بلهاء على ثغر يحيى قبل أن يُهرول له ويحتضنه قائلًا بسعادة:
ياه على الحظ يا جدعان، كنت عارف إننا هنخرج من هنا عايشين.

وما إن أنهى حديثه؛ حتى وجد رجال صادق الذين ظهروا من اللامكان يلتفون حولهم بطريقة مُثيرة للرعب وأسلحتهم تُوَجه نحو رؤوسهم.
استدار آلبرت تجاه يحيى قائلًا بوجهٍ جامد مُتخشب: إن استمعت إليكَ تتحدث مرة أخرى سأقطع لكَ لسانك أيها اللعين.
مطَّ يحيى شفتيه بحنق وهو يتسائل: دا نصيب ربنا، إيه هتعترض؟

خلع آلبرت جاكيت بذلته الجديد استعدادًا للمعركة التي على وشك البدء، ثم أعطاه إليه مُحذرًا إياه بسبابته: إن أصابه خدش أو لمسه التُراب سأقطع عُنقك.

وعلى الجانب الآخر، أمسك قاسم بالهاتف قائلًا: أيوا بعمل كل حاجة تأهل نفسيتها إنها تتحسن عشان تتقبل العلاج.
أتاه صوت الطبيب مُتسائلًا: طيب دا كويس أوي، وأنت بتعمل إيه بقى عشان تحسَّن نفسيتها؟
أجابه قاسم ببلاهة شديدة: بغنيلها.
يا وكستي عليا.
كان رد فعل طبيعي من مايكل الطبيب المصري الذي يعيش بروسيا، ليتسائل قاسم بتعجب: هو فيه أكتر من كدا؟

جاءه صوت مايكل الحانق والذي أردف بسخرية: لأ طبعًا يا جدع تف من بوقك أنت كدا ماشي في السليم.
وبإقتناع شديد أجابه قاسم قبل أن يُغلق الهاتف: طب كويس، سلام بقى مش فاضيلك يا مايكل يخربيت رَغيك.
وبنفس الوقت. صدح هاتف أهلة يَعلو في الأرجاء، لتمسكه أهلة وتنظر لإسم المتصل والذي لم يكن سوى شقيقتها ملك، ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيها وهي تُجيبها بسعادة: وحشتيني يا ملوكة.

جائها صوت ملك المُفزع وهي تصرخ بها: اسكتِ دلوقتي مش وقته سلامات، فيه مُصيبة.
هبَّت أهلة من على مقعدها متسائلة بقلق: مُصيبة؟ في إيه يا ملك قلقتيني؟
أجابتها ملك بسرعة وقلبها يعلو ويهبط من هول ما سمعته: أروى سكرتيرة ضياء رئيس الجريدة اللي أنتِ شغالة فيها اتقتلت.

الفصل التالي
بعد 24 دقيقة.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة