رواية حورية وشيطان للكاتبة رحاب إبراهيم الفصل الثلاثون
اتفقنا...
كان اتفاق مخبًا بين حنايا الأمل، والحب، والأحلام المحلقة على القلب بدفء، راقب تورد وجهها، راقب اضطراب عيناها بخجل، راقب تهربها من نظرته المتحدثة بحديث القلوب، تخيلها للحظات وهي بذات الرداء الأسود، ماذا لو كانت تُحل له بهذا الوقت؟
وعد القلب بشيء وانتظر موافقتها...
حاولت أن تجد الكلمات المناسبة، لتكسر هذا الهدوء المتعمد منه، يتلذذ بإرتباكها!، يجد متسعا من المرح في توترها بحياء، يقبل العاشق الصمت طالما كان ابلغ من الحديث، العاشق دائمًا عاصي في ميزان العدل في البُعد، فرفعت عيناها إليه وتبينت طوله الفارع وبين قامتها المتوسطة، اردت أن تبتسم وهي تراه يحجب بعض الهواء عنها بسبب قامته اليافعة، لماذا تشعر المرأة بالرضا في ذلك؟
قالت بتطرقها لآمرًا آخر: -.
التليفون بتاعك معايا، ثواني هجيبهولك
تركته واستدارت وظاهريا كي تأتِ بالهاتف ولكن سرا لكي تأخذ شقا من الهواء لرئتيها، كي تلتقط انفاسها المضطربة، اخذت الهاتف من جانب وسادتها البيضاء ثم توقفت للحظة واخيرا انتبهت لحديثه: -
خليه معاكي
ابتسمت بخفاء وهي تنظر للهاتف ثم استدارت له ببطء تمنت لو تأنت قليلا لتأخذ مزيدا من الهواء، ولكن بحضرته تنفعل دقاتها لتركض عبثا ومرحا...
بس ده تليفونك أنت، يمكن حد يتصل بيك ولا حاجة
اجابها بابتسامة بسيطة: -
الخط ده البرايفت، محدش يعرفه غير اختي بس، ما تقلقيش
اطرفت عيناها بتعجب وتساءلت: -
اختك، أول مرة تتكلم عنها
تابع ابتسامته وقطع المسافة بينهم ليصبح قريب منها، قال عن قصد: -
كل حاجة هتعرفيها في وقتها يا حورية، كل حاجة
تفهمت الأمر رغم ارتباكها من قربه فأشارت له بالهاتف حتى هز رأسه رافضا: -
خليه معاكي...
وضعت الهاتف بمكانه مرة أخرى، عاد ارتباكها من الصمت المتعمد، بات الحديث والصمت وجهان لعملة واحدة، يبتاع بها لحظات حنونة معها
صلِ على النبي
تكررت احلامها به، تكررت الدموع على وجنتيها من الألم، إلى أين تصل بهذه المشاعر التي كلما مر الوقت تجن شوقا له؟!
قالت ببكاء وهي تنظر للسماء خارج الغرفة القديمة: -
يارب، أنا عايزة انساه وانسى اللي حصل، ساعدني يارب.
اتى الصغير راكضا اليها مرة أخرى، التفتت قمر له حتى قال: -
ستي عايزاكي يا قمر
اجابت وحمدت تلك السيدة العجوز الذي تأنس بعض وحدتها بهذه الأيام المظلمة، قالت: -
حاضر، دقايق واكون عندكم
ابتعد الصغير مرة أخرى هابطًا الدرجات الخرسانية للأسفل، احكمت قمر الشال الصوفي الثقيل على كتفيها وتوجهت للأسفل...
ببيت بسيط تتمدد تلك السيدة العجوز على فراشها لتظهر قمر بداخل غرفتها فابتسمت السيدة ورحبت بها ثم قالت: -.
عايزة منك خدمة
قمر بلطف: -
اطلبي إلى انتي عايزاه
قالت السيدة وهي تسعل: -
بنتي بثينة اتأخرت في الشغل أوي وانا هموت من القلق عليها، وانتي عارفة يابنتي الناس ما بترحمش وبنتي مطلقة، انا قلقانة عليها أوي وتليفونها كمان مقفول
قالت قمر بقلق: -
طب قوليلي بتشتغل فين وهروح اشوفها
اخرجت السيدة ورقة صغيرة بها العنوان وقالت: -
تسلمي يابنتي انا ناديتلك عشان كدا، ربنا يسلم طريقك ويريح بالك ويرجعلك اختك قادر يا كريم.
ربتت قمر على يدها وتنهدت براحة لهذه الدعوة التي احتاجتها بشدة، لولا أنها تحدثت مع هذه السيدة مرارا واطمأنت لها لما كانت وافقت على الذهاب، أخذت العنوان ناظرة للورقة بتمعن وقالت: -
هروح حالا وهدور على المحل ده لحد ما الاقيه
خرجت من المنزل وتوجهت للغرفة التي تسكن بها حتى تحمل حقيبة يدها الصغيرة ثم خرجت مرة أخرى...
لا حول ولا قوة إلا بالله
استمر محمود على ضحكاته طوال الطريق وهو يقود سيارته لمنزله، قال: -.
يا سااااتر على دي بنت!، دي من كتر غيظها ما طلعتش من الشقة حتى تسلم علينا!، أن شاء الله تولع في نفسها ونخلص
ظل سامح شاردا بالطريق حتى هتف محمود بقوة: -
اااااانت فين؟!
اجاب سامح بوجوم: -
مش عارف آخر اللي أنا فيه ده إيه؟ لا عارف اشوف قمر واكلمها بعد اللي قولته ليها آخر مرة، ولا عارف اجيب آخر الزفته اللي اسمها داليا، وكل ما اهرب منها في شيء تطلعلي بغيره...
محمود بسخرية: -.
ما انت اللي ورطت نفسك وهي ما صدقت، بص انا بدأت اتأكدت انها السبب بشيء أو بآخر بسبب تصرفاتها لكن المشكلة أن مافيش أي دليل ضدها تقدر تثبت بيه حاجة...
سامح بزفرة غاضبة: -
بقيت بحتقرها
محمود بخبث: -
افرض قمر هي اللي بتعمل كدا مش داليا، كان هيبقى ايه موقفك؟ كنت هتحتقرها بردو ههههههههه
اخفي سامح ابتسامة ظهرت على ثغره رغما وتخيل بالفعل هذا الأمر، قال بمرح: -
ماكنتش هبقى جانبك دلوقتي اصلا يا ذكي.
هز محمود رأسه بضحكة: -
عارفك ندل من يومك، تبيع صاحبك عشان ضحكة
تبدل ضيق سامح بعد هذه المزحة ليقف محمود بسيارته امام بوابة المبنى السكني...
جلس سامح على مقعد بالشرفة بمنزل صديقه حتى وضع محمود الحقيبة الخاصة بسامح في غرفة الضيوف ليعود اليه قائلا: -
بقولك ايه بما أن انت دلوقتي حر، ايه رأيك نتمشى برا شوية
فكر سامح للحظات ليجذبه محمود من يده بتصميم: -
يلااا انا بقالي يومين ما خرجتش...
وافق سامح على مضض ولم يروقه الامر كثيرا ليقل محمود: -
يلا يمكن الاقي حاجة تعجبني واشتريها من المحلات، عايز ابقى شيك قدام العيانيين يا سموحة ههههههههه
رمقه سامح بمكر: -
قدام العيانيين كلهم، ولا عين واحدة بس؟
وكزه محمود بكتفه بمشاكسه: -
يلاااا يا سامح ولا هتصل بداليا تيجي تاخدك
سامح: -
لاااااااااااااااا
سبحان الله وبحمده.
وقفت قمر تتطلع باليُفت المدون عليها أسماء الأماكن، لم تجد مبتغاها منهم فواصلت الطريق بحثاً...
وقفت بثينة تنظم الاثواب بزفرة غاضبة لتقل لها الفتاة التي تعاونها في العمل: -
معلش النهاردة بس على ما يجي من السفر، ساعة بالكتير ونمشي
التفتت لها بثينة وهي تقف بزاوية خاصة بالملابس الرجالية وقالت: -.
انا ما بحبش اتأخر كدا على امي وابني وكمان تليفوني فاصل من ساعتها ومش عارفة اشحنه وهي كمان ما عندها تليفون، ده غير اني مابحبش اتعامل مع رجالة، اتعقدت
قالت الفتاة الأخرى وهي منشغلة بتدوين بعض الارقام على اجندة ورقية: -
كلها ساعة واليوم يخلص يا بثينة، لما يجي حسين بكرا هضبطه عشان يحرم يغيب تاني من غير ما يقولنا
تأففت بثينة بعصبية وقالت: -
أنا هروح اغير هدوم الشغل دي والبس هدومي واستعد...
عادت الفتاة لتدوين الارقام بتركيز تام ولم تنتبه لذلك الشابان الذين دلفوا بالاتجاه الرجالي وتفاجئت بثينة بهم...
توجه محمود لبعض صفوف الملابس للرؤية بينما سامح كان يلقي نظرات عشوائية غير مكترثة، انتظرتهم بثينة بغيظ حتى اقترب محمود وهو يحمل قطعتين قائلا: -
يلا قيس ده وانا هقيس التاني
اعترض سامح: -
مش عايز حاجة يابني، من كتر الخروج يعني!
وكزه محمود قائلا: -
قيسه بس ما تبقاش كئيب، اومال هشتري لوحدي!
اخذه سامح بلا مبالاة واشارت لهم بثينة على البروفا ليذهب اليها الشباب ودلف كلا منهم لبروفا خاصة به...
قالت بثينة بحرج وعصبية: -
شغلانة سوداااا
زفرت بعصبية حتى صعدت درحات ضيقة موصلة للأعلى وقالت: -
علي ما يخلصوا هكون جبت قفلت المكان فوق...
وقفت قمر وتنفست الصعداء حينما لمحت العنوان المحدد واقتربت له وهي تترقب ما بداخله بحذر، نظرت للمكان ذو المساحة الكبيرة المقسم الى وجهتين، واحدة تخص الملابس النسائية وأخرى للرجال، اقتربت من الفتاة المنحنية على احد الأوراق بتركيز تام، قالت: -
السلام عليكم
مرت دقيقة ولم تنتبه لها الفتاة الا عندما كررت قمر التحية فالتفتت الفتاة بابتسامة لطيفة: -
وعليكم السلام، اتفضلي
قالت قمر مباشرة: -.
لو سمحتي، في واحدة هنا بتشتغل اسمها بثينة
اجابت الفتاة بالايجاب: -
اه هنا، هتلاقيها الناحية التانية، في البروفا روحيلها
قمر بشكر: -
شكرا...
التفتت متوجهة للقسم الرجالي بتعجب حتى رمقت المكان بتمعن ولم تجد احد به فذهبت للفتاة مرة أخرى: -
مافيش حد
اجابت الفتاة ببعض الانفعال: -
قلتلك في البروفا، بصي خبطي عليها عشان تسمعك.
توجهت قمر مرة أخرى واقتربت من أول باب قابلها من زوايا البروفا حتى دقت عليه ولم تعتقد أن الباب يفتح بهذه البساطة...
رفع سامح القميص لكي يرتديه وهو متعصبا من عدم وجود قفلا بالباب!، انعكس على المرآة صدره العاري بقلادة سوداء رفيعة بها ذات الاحرف التي كانت بالقلادة التي اعطاها من قبل...
فتح الباب لتتسع عيناها بفزع من رؤية رجل عاري الصدر ليتفت سامح عندما انتبه لصوت فتح الباب لتتسع عيناه بذهول من رؤيتها...
قمر بصريخ: -
عاااااااااااااااا
ركضت للخارج بأسرع ما لديها ليستعب الأمر بعد دقيقة وبعد أن فاق من صدمته ركض دون أن يرتدي قميصه مرة أخرى...
خرج محمود بابتسامة راضية عن اختياره حتى تفاجئ بسامح وهو هكذا فأوقفه قبل أن يخرج للطريق هكذا: -بقلم رحاب إبراهيم
انت اتجننت يابني!، خارج كدا!
اشار سامح للطريق: -
قمر
ضيق محمود عيناه بتعجب: -
مالها
سامح بنظرة بها شوق مجنون: - كانت هنا
كاد سامح ان يفلت يده ولكن محمود تمسك به قائلا بحدة: -
طب روح كمل هدومك ونخرج، هتخرج كدا!
ضم سامح فمه بغضب وعاد مرتديا قميصه بوقتٍ قياسي وركض للخارج وهو يغلق احد ازرا قميصه والمعطف الجلدي بيده لم يحتمل الانتظار ليرتديه، قال: -
شوف انت اللي اشتريته وانا هروح اشوفها
ركض للخارج وهو يلتفت على جانبي الطريق بحثا عنها...
هبطت بثينة عندما سمعت صوت صريخ بالأسفل وقابلت زميلتها التي اتت عقب الصرخة بدقيقتين: -
في ايه؟
كررت بثينة السؤال لمحمود: -
مين اللي صرخ؟
اوضح محمود قائلا: -
دي واحدة صرخت اول ما شافت صاحبي ومشيت، اصله مشهور شوية
تقابلت نظرات بثينة مع زميلتها ببعض الشك حتى عادت الفتاة لعملها وقالت بثينة بسخرية: -
والله!، معلش!
اراد محمود أن يبتسم ليتابع مشيرا للقميص بيده: -
هشتري ده، سعره كام؟
الله اكبر.
كادت أن تتعثر مرارًا وهي تسير ويداها على فمها من الذهول والصدمة التي لم تخرج منها حتى بعد أن ابتعدت عن المكان...
شعرت بعدة أشياء، شعرت باللهفة والشوق، الحنين والابتسامة، الألم والعتاب...
اتى وقت مرورها للطريق. لم تتأكد من عمق وعيها لتمر ولكنها مرت واعقب ذلك وقوع خطرا من سيارة اتية بسرعة عالية...
بدلا أن يضمها جسد السيارة بوقوع حادث مريع ضمتها يداه بذعر عندما لمحها وهي تمر الطريق، لم يدرك مدى سرعته الا وهو يسرع اليها...
لم تفق من صدمة اخرى وآخر ما تذكرته في خلال الثوان الفائتة هي سيارة تصدر اصوات مزعجة حتى تنتبه ولكنها كانت بعالمٍ آخر ولم تنتبه لشيء، انتبهت الآن
رفعت عيناها التي كانت قريبة من قلبه ونظرت له بدموع غارت من عيناها رغما، ورغم ما حدث فأنها تحبه واشتاقت لرؤيته كثيرا...
نظرته كانت مزيجا من الخوف والشوق والغضب والحنان، اصر على اسنانه بقوة حتى لا يسير خلف شغفه ويضمها بقوة ساكنا اياها خلف الضلوع...
وربنا ما هكمل.