رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وتسعة عشر
ثغرات الماضي تحاوطها، ظلامًا يبتلعها بين الحين والآخر، وكأن تواجدها هنا وبتلك اللحظة بمثابة بوابة العبور للماضي، الماضي الذي بذلت كل ما تستطيع للفرار منه، وباتت الآن محتجزة بقبوٍ ينعشها بكل المشاهد التي ذاقت فيه قسوة وسادية شخصًا مريضًا، جعلها تدفع ثمن حبها التقي النقي.
حالها كأي فتاة ارتبط بشكلٍ شرعي ب زوجًا صالحًا، عشقته عشقًا محلل لها، لم تكن مخطئة في شيء فعلته، حملها منه شيئًا طبيعيًا وجده ذلك اللعين ذنبًا فاضحًا، دفعت ثمنه على مدار تلك الاعوام، حتى تشوهت نفسيًا وجسديًا.
لسانها الثقيل تحرر تدريجيًا، صداه بالبداية لم يكن مسموعًا حتى إليها، ثم بدأ يعلو بهمسٍ لطالما كان ملجئها الوحيد بتلك الفترة التي قضتها رفقة هذا اللعين: يُونس.
كان يغفو جوارها على الأريكة الموضوعة، ينتظرها منذ ساعاتٍ أن تستعيد وعيها، كل طبيبٍ مر عليها كان يؤكد له أن غفوتها أمرًا طبيعيًا، لاجراءها لجراحة خطيرة مثل تلك التي أجرتها، ومع كل دقيقة تمر عليها وهي فاقدة للوعي، كان يزداد ألمًا وقلقًا عليها، حتى أفرجت عن اعتقاله بندائها الخافت.
هرع ينحني من فوقها، يضم كفها بين كفه الخشن، يؤكد لها بصوته الرخيم: أنا هنا جنبك يا ست البنات.
عادت تناديه ودموعها قد تهاوت من عينيها المغلقة: يُونس، إلحقني يا يُونس.
إنتفض قلبه بين أضلعه لسماع ما تقول، فظن أن هناك شيئًا يؤلمها، فردد بلهفة وهو يركض صوب باب الغرفة: هنادي الدكتورة تيجي.
تصلب كفه فوق مقبض الباب، حينما بكت بنداء أخير متوسل: هيضربني تاني، خليه يبعد عني، يُونس!
استدار تجاهها بحاجبي منعقدان، وقد تفهم الآن ما تمر به بالتحديد، كوابيس الماضي التي نجحت بإخفائها عنه طوال مدتها الماضية، تحاوطها بتلك اللحظة وهي في أضعف حالاتها.
أجبر ساقيه على التحرك صوبها، حتى سقط جسده على المقعد جوارها، يستمع لها بانكسارٍ وهي ترتجف باكية، مرددة: حرام عليك، إرحمني!
وتابعت وبكائها يعلو: مش هقدر أعمل كده، مش هقدر!
أحنى رأسه فوق صدره وترك عنه دموعه، شاركه البكاء، عاجزًا عن مساعدتها، لم يملك الجرأة لافاقتها، شعر بأن رجولته قد طعنت في كل مرة فعل بها هذا اللعين ما فعل.
تحرر قيدها وأفرج ماضيها عنها، أبصرت تنظر في بقعة النور الغير واضح، حتى تمكنت من استعادة وعيها ورؤيتها بوضوحٍ.
مالت برأسها تبحث عنه، فوجدته يجلس على المقعد بسكونٍ تام، تمعنت فيه حتى أمسكت بعينيه فور أن رفعهما تجاهها، علمت من إحمرارها أنها كانت تهذي وهي تخوض تلك المشاهد القاسية، تصدى لها صوت بكائها المتعالي، وكأنها تعود لتسلم رقبته على حطبة الذبح، فتحرك إليها يساندها لتستقيم بين أحضانه، وضعت رأسها على صدره وبكت هاتفة: ذلني وكسرني يا يُونس!
سحب نفسًا مسموعًا يبدد اختناق رئتيه، ليته يفتعل أي جريمة تمكنه من العودة للمعتقل الذي سيجده فيه، وحينها سيقسم بالله العظيم بأنه لن يتركه حيًا بعدها.
جبر يُونس ذاته على الاسترخاء، فأخذ يستعيد كل حديث طبيبه المعالج علي الغرباوي، طبقها بكل تركيز لحاجته الشديدة للهدوء بتلك اللحظة، ليتصرف بحكمة معها.
ثلاث دقائق كانت كافية له أن يبعدها عن صدره، ويواجهها، محاوطًا وجهها بين يديه وابتسامته تبث لها إشراقة الأمل: خديجة الماضي لو فكرتي فيه هيكسرك وهيكسرني، بصي للحاضر واللي فيه أنا وأنتي مع بعض، فترة الاختبار الصعب انتهت ومكافأة صبرك وصبري على الابتلاء بنحصدها دلوقتي.
وأضاف وهو يتعمق بحدقتيها، قاصدًا منحها الأمان: أنا قصادك ومعاكِ، مستحيل الكلب ده ولا مليون زيه يأذيكي بنظرة وأنا حي، أنا رجعت يا خديجة، رجعت ومش هبعد، مش هترفعي صوتك وانتي تناديني عشان أسمعك، لاني بقيت بمكان أقرب، ويوم ما يبعد هيكون لقبري وبس يا خديجة.
هزت رأسها مبتسمةٍ له رغم بكائها ووجعها، بل مالت تنزوي بين ذراعيه، ومازال يفرق هو ذراعيه، يخشى أن يحاوط ظهرها الممتلأ بالشاش الابيض، حتى ساقيها كانت ملتفة.
تعامل بكل حرصًا مع حالتها حتى بعد فحص الطبيبة لها، أطعمها بيديه وناولها الأدوية، ثم جذب الغطاء عليها وجلس جوارها يمرر يده على حجابها المفتوح، وبدأ يرقيها ويقرأ ما تيسير من السور القصيرة حتى لا تعود كوابيسها مجددًا، وبداخله يحسم قراره بأن تقطع متابعتها مع طبيبتها النفسية تلك، فلم تجدي بعلاجٍ متقدم بحالتها، لذا إرغم على اتخاذ قراره بأن يكون علي الغرباوي طبيبها المعالج!
نزع جاكيت بذلته، يلقيه جواره بضجرٍ، وحل أزرار قميصه العلوية، ثم مال على الحائط من خلفه يتابع أخيه الذي يتفحص الأوراق التي تقدمه له آحدى الممرضات، وعلى الأغلب كانت تشرح له الحالة بالتفصيل.
راقبهما عُمران بمللٍ، جعله يرفع يده مناديًا: علي!
أغلق علي الملف وإتجه إليه، بملامح متجهمة، استرعت انتباه الاخير، فسأله مازحًا: الخال الملزق شيع ولا أيه؟
قدم الاوراق إليه قائلًا: عنده القلب.
وزع نظراته بينه وبين الاوراق التي يحملها بدهشةٍ: عشان كده كان مصر إني أسامحه!
إكتفى بهز رأسه وهو يحتل الاريكة، ولجواره يتمتم عُمران: طيب وهنعمل أيه، هنبلغ فريدة هانم؟
هز كتفيه في حيرةٍ، سيطر الصمت عليهما لدقائقٍ، حتى قاطعتهما إحدى الممرضات تهتف: المريض فاق يا دكتور علي.
تبادلا كلاهما النظرات الحائرة، ما بين تردد ونفورًا بلقائه، وما بين هذا وذلك، نهض كلاهما يتجهان لغرفته قسرًا.
ولج علي أولًا، وإتبعه عُمران بسخطٍ مما خضعته الظروف لفعله، لانت قسوة نظراته حينما رأه يتمدد على فراشٍ يكتظم بعدد مهول من الاجهزة، صوت حشرجة أنفاسه جعلت جسده يقشعر وهو يتخيل قسوة خروج الروح من الجسد العاصي، أتبع خطى أخيه حتى جاور وقوفه أمام أعين نعمان الناعسة من شدة التعب، فإذا به يهتف غير مصدقًا لوجودهما: علي!
وتابع بصوتٍ أكثر دهشة من ذي قبل: عُمران!
اختزل علي الصمت حينما قال بصوتٍ مسالمًا: حمدلله على سلامتك يا خالي، ربنا يشفيك ويعافيك.
وتابع يبث له الاطمئان: الدكتور طمني عليك، وقال أن حالتك دلوقتي مستقرة، متقلقش احنا جنبك ومعاك لحد ما تبقى كويس وبخير.
أدمعت عينيه تأثرًا بحنانه المبالغ به، بينما يميل تجاه عُمران بلهفةٍ، ينتظر سماع أي كلمة تتردد على لسانه، ولكنه لم يجد سوى نظرة صامتة، يكبت من خلفها عاصفة لا مرسى لها.
مد نعمان ذراعه الموصول بالاجهزة، تجاه عُمران ودموعه تنهمر فوق لحيته تغرفها كالسيول، وصوته الذي يحتضر يناديه متوسلًا: سامحني!
استدار علي تجاهه وعينيه تدمعان شفقة على أخيه الذي يُوضع باختبارات أصعب من ذي قبل، فاذا بعمران يستنير بغربته بشراع أخيه، الذي هز رأسه بكل أسفًا له، سحب عُمران نفسًا مطولًا وهو يهتف بصوتٍ شبه مسموعًا: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم.
قالها وبات يستمد منها كل العون، حتى بات قادرًا على مواصلة ما قد رأه سابقًا محال، فسحب مقعدًا دائريًا، بعجلاته السوداء، يقربه للفراش، يضع كفه يكف نعمان الممدود، وقال بصلابة تعجب منها علي الذي يراقب رد فعله باهتمامٍ: سماحي ليك ولا غفران ربنا ليك، أي فيهم هيريحك أكتر؟
زعزعت ربكته قلبه الضعيف، فتابع عُمران بنبرة أكثر لينًا: طيب أنا سامحتك لوجه الله، مسامحك في حقي كده إنت مرتاح؟
هز رأسه باكيًا، فرد عُمران بصوتٍ متحشرج من كبته للبكاء: راحة بالك مش هتتحقق بسماحي ليك، الاولى والاهم في اللحظات دي توبتك ورجوعك لربنا، عمره ما هيردك ولا هيقفل بابه في وشك، يمكن دي تكون فرصتك الاخيرة، ربنا سبحانه وتعالى إدهالك عشان تستغلها صح وتتوب عن كل اللي عملته في حياتك.
رد بصوتٍ شاحب كحال وجهه: عمره ما هيغفرلي، أنا إرتكبت ذنوب متتغفرش يا عُمران.
ابتسم وقال: بتقول كده عشان كنت مسلم دماغك لشيطانك من زمان، باب التوبة عمره ما اتقفل في وش حد، لحظات الضعف اللي بتواجهك في حياتك ما هي الا اختبار عشان ترجع لربنا سبحانه وتعالى، اللحظات دي هتعدي بس وإنت علاقتك بربنا أقوى وأمتن.
واستطرد وهو يربت على اصبعيه: أنت محتاج تتقرب من ربنا وتتلهف على سماحه ليك مش عليا أنا.
ازداد بكائه لدرجة هلعت قلبهما، فانفجرت أعينهما بكاءًا، وخاصة مع نطقه المتحشرج: إزاي وأنا عمري ما ركعتها! أنا عمري ما أتوضيت ولا حتى عارف أصلي ازاي!
انهمرت دموع عُمران، ومال يتطلع لأخيه، يخبره بصمت أن يعاونه فلقد فقد طاقة صموده، فرنى على إليه يهتف بثبات: دي مشكلة مقدور عليها، أنا وعُمران هنساعد حضرتك لحد ما تتعلم.
مال تجاه محل عُمران متسائلًا بدموع فرحته: هتعلموني بجد؟!
هز علي و عُمران رأسهما، فهتف نعمان بسعادة، ودموعه تشهد على تلك اللحظة الغريبة عليه كليًا: كرمتني بكرمك ولطفك وأنا مستحقش ده، ألف حمد وشكر ليك يا رب.
سحب المقلاة بما فيها، واستدار ليضعها بالطبق الموضوع أمام زوجته الجالسة أعلى رخامة المطبخ، وقف محله يبتسم بحنانٍ، حينما وجدها تدمس زبدة الفول السوداني بشطيرة التوست، وتلتهمها بتلذذٍ كأنها لم تتناول طعامًا شهيًا من قبل.
فتحت زُرقتها، فتفاجئت به يميل قبالتها هائمًا، فوضعت ما بيدها بحرجٍ: أنا كنت جعانه وإنت بقالك ساعة بتعمل المكرونة والبانية، فقولت أسلي نفسي لحد ما تخلص.
ضحك آدهم بصوته كله، وجذب أحد الأطباق يسكب فيها المعكرونة قائلًا وهو يحني جسده الممشوق: المكرونة بالوايت سوس جاهزة شمس هانم، طباخك تحت أمر معاليكِ.
صفقت بيديها بحماسٍ، ونهضت تحمل الطبق للطاولة، ثم دست معلقتها تحمل الطعام لفمها، بينما يربع يديه أمام صدره مستندًا على الرخامة، يتابعها بكل توقٍ وعاطفة، بينما تهتف بحب: دي أحلى مكرونة دوقتها في حياتي، أنا تقريبًا عملتها 40 ألف مرة بليل في الخباثة، عمري ما ظبطتها يمكن من كتر الخوف ان فريدة هانم تقفشني، المرادي بأكلها باستمتاع رهيب.
تحرر من وقفته وأتجه يجذب مقعدًا جوارها، يخبرها بصوته الهادئ: ألف هنا على قلبك يا روح قلبي.
منحته ابتسامة صغيرة، وسحبت معلقتها تقربها إليه، رفض تناول ما قدمت مبررًا: مبأكلش بالتوقيت ده يا شمس، ما إنتِ عارفة نظام أكلي.
رددت بمحيالاة وهي تميل تجاهه برأسها، كالطفلة التي تستميل أبيها: بليز آدهم، طعمها جميل ولازم تدوقها.
تبسم هادرًا بعنجهية مازحه: مصدقك يا روحي، أنا مبعملش حاجة وحشة.
زمت شفتيها في سخطٍ، فضحك وهو يختطف الملعقة ويتناولها مبررًا لها: عشان خاطر شمسي.
فرحت بخضوعه لها، وعادت تستكمل تناول طعامها بنهمٍ، حتى أنها لم تشعر بانتهاء طبقها، فنهض آدهم يحمل الكمية المتبقية بالمقلاة، ويسكبها من أمامها، ممررًا يده على خصلاتها بحنان، فرفعت عينيها إليه تقدم له نظرة امتنان، وترقبت عودته لمقعده، ثم قالت بمكرٍ: موافق تعملي الاكلة دي كل يوم يا شيف؟
توالت ضحكاته ومن بينها قال: حاضر الصبح هتابع شغلي في الجهاز واستقبل تحيات العساكر بكل شموخ، وبليل هرجع أستلم منك مريول المطبخ بكل شموخ بردو.
تركت الملعقة بالطبق، ومالت بجسدها للجانب الاخر تلوي شفتيها بشكلٍ أضحكه، مال يسحب مقعدها بيديه حتى عادت تقابله مجددًا، وحل عقدة ذراعيها هاتفًا: في أيه بس أنا معترضتس على شيء عشان تزعلي مني، أنا موافق أكونلك شيف طول الليل، معترضتش على شيء!
رفعت وجهها للاعلى بكبرياء مضحك: الكلام مش خارج من قلبك يا كابتن.
سقط بضحكاته الرجولية بشكلٍ أضحكها، فسحب كفها يضعه فوق صدره وقال بجدية زادت من ضحكاتها: أتعهد أنا سيادة المقدم عمر مصطفى الرشيدي، بأن أكون زوجًا لطيفًا، يحترم زوجته وتقلبات هروموناتها، وأن أقدم واجبي كاملًا بما فيه العمل ليلًا ك شيف محترف، وأنا أعمل على توفير كل الاحتياجات اللازمة بما فيها المكرونة والبانيه، والله على ما أقولٌ شهيد.
وتابع ضاحكًا: ها مرضية كده؟
هزت رأسها والدلال يقطر من حركاتها الرقيقة، قرب طبقها منها مجددًا، فعادت تتناوله وهي تختطف النظرات الخجلة إليه، بينما يتعمق هو بتأملها دون أن يرف له جفنًا، من كان النظر لها محرمًا باتت تحل له بأكملها، فليقضي عمره بالكامل وهو يتفنن بالعثور على أقرب شاطئ لتلاحم مياه مُقلتيها الفاتنة!
استند على كتفي أبناء شقيقته، كلاهما لم يشهدان لحظة دافئة طمس فيها حنانه، ومع ذلك يشهد منهما حنانًا جعله يستحي مما فعله بكلاهما، لقد عاوناه على الوضوء وكأنه طفلًا بالسابعة من عمره، استبدلوا ثيابه المتسخة بآخرى نظيفة، وحملوه لسجادة الصلاة الموضوعة بالخارج.
رنى إليه عُمران بالمنشفة، يجفف قطرات المياه التي امتزجت فيها دموعه، بينما ينحني علي ليفرد بنطاله المطوي من الاسفل حتى لا تطوله المياه، عز عليه نفسه فمال على يد عُمران يوقفه عما يفعل ويبعد ساقيه عن يدي علي، بينما يبكي بانهيارٍ أسقطه عن مقعده أرضًا، هاتفًا بحشرجة ثقيلة: أنا مستهلش والله ما أستهل!
دعم على محل جلوسه حتى لا يقع، بينما يخبره بصوته الهادئ: الحالة اللي أنت فيها دي هتضرك، قلبك مش متحمل كل ده، من فضلك حاول تهدى وتأخد نفسك بانتظام، إنت بتضر نفسك صدقني.
سحب عُمران دمعة عن جفنه، وقال بخشونة صارمة: بقولك أيه يا نعمان طريقنا لسه طويل مع بعض، هتنخ من قبل أول ركعة هسيبك وأمشي، أنا خلقي أصغر من خرم الأبرة!
ابتسم من بين بكائه وقال: عارف. عارف يابن فريدة.
زم شفتيه مدعيًا سخطه، ومتابعًا بصرامته المضحكة: وفرت عليا معركة طويلة، قوم بقى إصلب طولك كده عشان صلاة العشا أربع ركعات ووقفتها طويلة، استعيد بطولة شبابك الهادر وكل ما تتعب افتكر وقفتك وإنت بتهز بالاربع ساعات جنب الراقصة! فمتجيش في فرد ربنا وتستموت يا خال!
منحه علي نظرة حملت الصدمة والصرامة بنفس الوقت، بينما ينفجر نعمان ضاحكًا، ويهز رأسه مرددًا: متقلقش هقف وهعمل زي ما هتقولي.
أومأ له بخفة وراقب أخيه الذي ابتسم رغمًا عن أنفه، لقد سهل عُمران مهمة معرفة نعمان بأن العشاء أربعة ركعات بطريقة رغم وقاحتها الا أنها كانت مرحة، فكان يخجل أن يسأل خاله عن علمه بعدد ركعات صلاة العشاء أم لا.
انتظر عُمران أن يختار أخيه محل صلاته، فلم يقبل أن يكون إمامًا في حضرته وهو الأكبر سنًا بينهما، ولكن على سبقه بالاختيار حينما ترك السجادة التي تحتل المقدمة ووقف جوار نعمان الذي طالعه باستغرابٍ تفتت عنه فور أن سمع صوت عُمران العذب!
قشعر جسده من حلاوة خشوع صوته وهو يرفع آذان الإقامة، لدرجة جعلته يتلوع من شدة البكاء، لقد اندهش حقًا من سماعه، وتفاجئ بما يمتلكه من موهبة لما كان يظنه يمتلكها يومًا، لقد ذاق كلمات الله متفننًا في معانيها لمرته الاولى، بينما من جواره يرفع على من صوته ويقرأ ببطء ليتمكن من الترديد خلفه، حتى انتهت أول صلاة له برفقة من حاربهما كعدوًا لدودًا له.
جلس على السجادة يطمس رأسه للاسفل خزيًا وحرجًا، حتى شعر بكف على يسانده وهو يخبره: لازم ترتاح في سريرك، معاد المحلول والأدوية.
أومأ له بخفة، ومنح عُمران نظرة أخيرة، بينما يتهرب منه الاخير، مازال يحمل بصدره غصة تجاه ما فعله برفيقه، ولكنه انجبر لمنحه السماح ليوقف قلبه عن لومه ومع ذلك مازال يئن وجعًا!
بقى محله على سجادة الصلاة يراقب أخيه، وهو يعاونه على اعتلاء الفراش، ويقدم له الادوية عن طيب خاطر، معاونًا الممرض الذي ولج للتو، حتى استجاب جسده للادوية وغفى على الفور.
استدار على لاخيه، يرنو جالسًا على مقعدٍ مجاور له، يخبره: روح إنت جهز شنطتك، عشان هتسافر الصبح بدري مع جمال ويوسف، أنا هقعد معاه.
سحب بصره المتعلق بالفراش وتطلع لاخيه بحزنٍ ألم قلب علي، الذي يفهم أقل تفاصيله، فسأله باهتمام: طيب سامحته ليه طالما مش قادر؟
تمعن بعيني أخيه، وبوجعٍ اقتحمه قال: الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، اختبر على قدرته على المسامحة، فمن شدة تسامحه غفر وصفح عن وحشي بن حرب الحبشي اللي قتل عمه حمزة بن عبد المطلب، وده كان من أصعب غفران وسماح لرسول الله، لإنه مش بس قتل عمه ده شق بطنه ومثل بجسمانه، وبالرغم من بشاعة كل ده سامحه بس طلب منه إنه يحاول يخبي وشه عنه أو يقلل ظهوره قدامه رأفة بمشاعره صلوات ربي وسلامه عليه.
وبدمعة شقت رماديته كبرقٍ يشق سماه، استكمل: ده النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ما بالك بعبد زيي، حاولت أكظم غيظي وسامحت في حقي، بس غصب عني مش قادر أتقبل وجودي جنبه، لإني بحس بالانانية إني اتهاونت في وجع جمال، وهو وجعه أكبر من وجعي، وبالنهاية وجعنا واحد.
وردد ودموعه تنهمر بغزارة أدهشت علي: أنا كنت فاكر إن إرتكاب الذنب شيء بشع، منحك السماح والغفران لشخص وجعك أوي أصعب بكتير، مطلعش سهل زي ما كنت متخيله يا علي.
ترك مقعده وجلس جواره أرضًا، يضمه بين ذراعيه، ويقبل رأسه قائلًا بوجوم قد يدفعه للبكاء هو الآخر: لإنك قلبك أبيض ومفيش زيه، أنا فخور بيك يا عُمران.
وأضاف وهو يبعده، ويتطلع له بقوة تسترعي إنتباه الاخير لما سيقول: أنا بقالي سنين في الطب النفسي، ياما عالجت حالات وانبهرت بتحول شخصياتهم بعد رحلة علاجهم الطويلة، بس عمري ما أثر فيا تجارب أشخاص زي ما إتأثرت بفاطمة وبيك، هي قاومت ونجحت وإنت واجهت وانتصرت.
أزاح دموعه وهو يرسم ابتسامة باهتة على وجهه، بينما يشاكسه ليغير الاجواء التعيسة من حولهما: يعني أنا حالة من حالاتك يا دكتور؟! ازاي وأنا ولا مرة قطعت تذكرة كشف!
وأضاف وهو يغمز له: لا بقولك أيه أنا مبجيش بالاجبار، وجو تثبتني على شازلونج الكهربا ده، ده أنا اللي أثبت أجدعها شنب وليا طرقي الخاصة.
ضحك على وسايره بالحديث: وأيه هي طرقك يا وقح؟
رد متفاخرًا: لا دول كتير، بس وماله عد يا دكتور.
ونهض يستقيم بوقفته مرتديًا جاكيته ونظارته بعنجهية: جاذبيتي أهم طرقي، لبق وده لوحده يدوب القلوب، صوتي سحر بيسحر اللي قدامي ويخليه بيقدملي فروض الطاعة والولاء وابتسام فوقهم كمان.
تحررت ضحكات علي، ونهض يربع يديه أمام صدره باستهزاء: وأيه كمان يا طاووس؟
رد وهو يتفحص المكان من حوله: وفي طريقة أخيرة لمواخذة مش هينفع أقولهالك هنا عشان الرقابة وعشان انت ابن ناس ومحترم يا دكتور.
زوى حاجبيه بدهشة، وقال: وإنت ابن أيه؟!
قال ضاحكًا: لا أنا أبويا مات بدري وملحقتش يشرف على تربيتي.
وجد من ينتزع قميصه ويرفعه من فوق جاكيته، فأسرع ينطق بما يحرر قميصه قبل أن ينكسر: بس أخويا الكبير رباني تربية آرستقراطية راقية، تقدر تقول إنه مبخلش عليا بحاجه.
واستطرد وهو يسحب ما بجيب سرواله الخلفي: عشان تضمن تربية بيضة على نضيف.
جحظت عيني على وهو يتفحص المطوة التي وضعها عُمران بين يده، وعاد يتطلع له فسحب ذاته وهو يهرول تجاه الباب ضاحكًا: دي نزوة شيطان وراحت لحالها، والله ما بتطلع الا للضرورة القصوى واللي بردو كنت محتفظ بيها معايا لاجلهم بما انهم هيفضلوا معايا يومين.
ردد على بتلعثم بعدما علم مقصده: بترفع على أصحابك مطوة يا أوقح خلق الله!
منحه قبلة بالهواء هاتفًا: عندي سفر بكره بدري، تصبح على خير يا دكتور.
وعاد يفتح باب الغرفة وهو يخبره: متنساش تقرى لنعمان قصة قبل النوم، بس بلاش القصص الكئيبة اللي كنت بتحكهالي يا بابا الله يكرمك.
صوب على الوسادة على الباب، فأسرع عُمران بغلقه وصوت ضحكاته تجبر علي على التبسم، فاتجه لمقعده وهو يتأمل ما بيده بصدمة آخرى، بينما يهتف باستنكارٍ: مطوة يا عُمران!
انتهى جمال من حزم بعضًا من ملابسه، فاغلق سحاب حقيبته وخرج يبحث عن زوجته، تفاجئ بها تقف بالمطبخ، تعد طعامًا بذلك الوقت المتأخر من الليل، مما دفعه لسؤالها بدهشةٍ: غريب إنك ولأول مرة بتجهزي أكل تاني يوم من دلوقتي!
فزعت لصوته ببداية الأمر، ولكنها هدأت واستمعت لباقي حديثه بتمعنٍ، فقالت تجيبه وهي تقلب اللحم: مش غريب ولا حاجة، وبعدين الأكل ده بحضره ليك ولأصحابك مش لينا.
زوى حاجبيه بدهشةٍ: لينا!
أكدت له وهي تجذب الخضار تجهزه: أيوه بدل ما تطلبوا أكل جاهز على الطريق، عملتلكم أكل بيتي.
وأضافت عابسة الحاجبين: ولا الاكل الجاهز هيكون أحسن من طبيخي؟!
رنا إليها مبتسمًا بفرحةٍ لما تطورت إليه، فضمها بين أحضانه ومال من خلفها هاتفًا: مفيش أكل يتقارن بعمايل إيدك، أنا مش مصدق بس إنك قومتي في الوقت ده عشان تجهزيلي أكل، كبيرة عندي دي أوي يا صبا.
ومال يطبع قبلة على كف يدها، ممتنًا لها: تسلم إيدك مقدمًا.
أشرقت بسمتها فرحة، بل تحمست لصنع المزيد من الاطعمة والعصائر له، سحبت كفها وعادت لتقطيع الخضروات، فتحرك هو يرتدي المريول، ويرنو منها متسائلًا: عايزاني أساعدك في أيه؟
قربت منه خضروات السلطات التي ستحضرها، فضحك قائلًا: هو أنا دايمًا بلبس في السلطات، شكلك محددة إمكانياتي كويس.
شاركته الضحك وردت بمزحٍ: الحمد لله إنك بتعرف تعمل حاجة، في رجالة مبتعرفش تمسك السكينة أصلًا.
مازحها وهو يقطع بعشوائيةٍ: لا أنا هبهرك بعون الله!
بعد وصوله للقصر تردد بالصعود لجناحه، فولج لغرفة الصالون وجلس منهمكًا على المقعد، يمسح وجهه بتعبٍ، حتى أنه لم يشعر بالوقت الذي بات يشرف على سطوع شمس اليوم التالي.
دقات خافتة على الباب، جعلته يفرج عن رماديتاه بعد احتسبهما لمدة طويلة، ويستدير ليرى من الطارق، فوقف مندهشًا يراقب ساعة يده الباهظة: فاطمة!
ولجت للداخل ووجهها يعكس توترها وارتباكها الشديد أمامه، رددت وترددها واضح: شوفت عربيتك تحت، استنيتك على السلم مطلعتش.
انعقد حاجبيه بدهشة، إنقلبت لقلق: ليه في حاجة ولا أيه؟
ضمت شفتيها بارتباكٍ، ولم تعلم بماذا ستخبره، مما دفعه للخوف، فتلهف بسؤاله: قلقتيني يا فاطمة، إتكلمي!
نزعت عنها ربكتها ورددت بقوةٍ تحلت بها: أنا رجعت الملفات للخزنة بتاعت المكتب زي ما طلبت، وبدون ما أقصد وقعت ظرف أبيض فيه تذكرة سفر!
اتسعت مُقلتيه في ذهولٍ، وخاصة حينما استطردت: استغربت إنك مسافر مكة ومايا ولادتها اتحددت بعد اسبوع!
لانت تعابيره في أسى، وبثبات تحرك يتفحص الردهة والقاعة ثم عاد يقف قبالتها، قائلًا: قولتي لعلي حاجة؟
هزت رأسها نافية، وقلبها يرتجف خوفًا من صمته وحزنه الغامض، الذي تحرر بنطقها: أنت ناوي على أيه يا عُمران؟
ابتسم رغم الآنين الذي يقطر من عينيه: ناوي أخلص نفسي من عتابها اللي مش بيخلص.
ابتلعت ريقها بصعوبة، وصوتها يتحرر متقطعًا: لا، إنت آآ، لأ، ومايا؟ أنت هتسبها تاني لوحدها!
لم تسعفها كلماتها للخروج، بينما يبتسم بمرارة: غصب عني يا فاطمة، أنا بعمل كل ده عشانها، مش عايز ابني يتولد ويلاقيني حامل ذنب كبير وبشع زي ده.
اهتز جسدها من شدة توترها، فجلست على الاريكة تهتف بعدم تصديق: عقوبة الزنا الجلد والسفر سنة، إنت مسافر سنة! وعلي! على هيستحمل إزاي!
إختار الجلوس على بعدٍ منها، وبمسافة حذرة، يخبرها بنبرة شبيهة بالتوسل: لا يا فاطمة على مينفعش يعرف حاجة، على لو عرف هيوقف كل حاجة، أرجوكِ يا فاطمة أوعي تبلغيه بحاجة.
تطلعت إليه بنظرة تعمق بها الحزن، وقد أدمعت عينيها: راجع نفسك في قرارك يا عُمران، إنت هتأذي كل اللي حوليك بيه، وأولهم مايا وعلي، إنت كده بتتخلى عنها في أكتر وقت هتكون محتاجالك فيه، أنت راجع بعد غياب وفراق وجع الكل، فبدل ما تعوضهم عن اللي عاشوه تقوم تفارقهم تاني!
أجابها بثباتٍ وقوة: أنا بعمل كده عشانهم يا فاطمة، أنا مش هلمس ابني وأنا عليا بقعة سودة بتفكرني باللي عملته، قراري ده أنسب وقت لتنفيذه، ومفيش أي قوة في الكون هتخليني أرجع عن القرار ده.
استفزها اصراره، وجل ما تراه زوجها الذي سقط في حالة دامية بفراق أخيه، تخلت عن هدوئها الفطري، ونهضت تصرخ وصوتها ممزوج بالبكاء: أنت أناني يا عُمران، أناني.
تفاجئ باندفاعها الذي يشهده المرة الاولى، فوقف قبالتها يعاتبها: أنا أناني عشان عايز أطبق شرع ربنا يا فاطمة؟!
ازاحت دموعها وأجابته بعصبية: ربنا عادل ورحيم، وطالما إنت اتغيرت للاحسن ومرجعتش لذنبك يبقى غفرلك اللي عملته، وآه أنت أناني يا عُمران، اللي عايز يتخلى عن مراته بالتوقيت ده يبقى أناني، اللي عايز يوجع أخوه من تاني يبقى قمة الأنانية، أنت متعرفش على عانى أزاي في غيابك، متعرفش الحالة اللي كان عايشها، أنا مش هستحمل أشوفه كده تاني ولسنة كاملة!
تألم قلبه لسماع ما قالت، فحاول بكل ثباتٍ أن يحجب دموعه، بينما يخبرها بهدوء مخادع: فاطمة أنا بحب على أكتر من روحي، وعمري ما أرضاله العذاب، أنا لو طولت أكونله دراع واقي عن أي أذى ممكن يطوله والله ما هتردد، بس حاولي تفهميني أنا مش مرتاح، مبعرفش أنام من كتر خوفي من الموت، أنا نفسي أوصل لمرحلة إني أحب لقاء ربنا عز وجل، مش قادر أوصل لحب لقائه من خوفي من ذنبي، عذاب الدنيا ووجعها أهون ميت ألف مرة من عذاب الأخرة، أنا عارف إن قراري ده عذاب للكل وأولهم مايا، بس غصب عني، أنا غلطت ولازم أتطهر نفسي، فأرجوكِ بلاش تخوني ثقتي فيكِ وتبلغي على بسفري.
أشفقت عليه رغم وجعها وخوفها، أخفضت رأسها أرضًا واكتفت بإيماءة صغيرة قدمتها له، وغادرت بخيبة أملها تتجه للدرج، لحق بها يناديها، فوقفت دون أن تستدير إليه، فردد بمرارةٍ: فاطمة أنا بعتبرك أختي العاقلة اللي دايمًا بثق فيها، أرجوكِ متزعليش مني، حاولي تساعديني، وتكوني الوسطة بيني وبين أقرب الناس ليا، عايزك تصبري على ومايا على غيابي، هوني عليهم لحد ما مدتي تنتهي وأرجع ليهم من تاني، متخليهمش يكرهوني أرجوكِ يا فاطمة ساعديني.
رفعت رأسها للأعلى تزيح دموعها، استدارت تقابله بنظرة غائرة بالدموع، وشحب صوتها الذي نطق: مش هقدر أعوض وجودك في الكفتين، بس أوعدك إني هحاول.
رسم بسمة صغيرة، وقال: ودي كبيرة عندي جدًا.
ردت بسمته ببسمة لم تصل لعينيها، واستدارت تعود لجناحها، بينما يزفر هو براحةٍ، لقد رتب لكل شيئًا بحرافية، ولن يسمح بأي شيء يعوق تخطيطه، لقد وفق الشيخ مهران له كل شيء، حتى السنة الكاملة التي سيقضيها في مكة الشريفة.
خرج عُمران للحديقة، متجهًا لركنه الخاص، الذي يقضي فيه قيام ليله، إرتكن على سجادته يجذب مصحفه، وبدأ بالقراءة فيه بتركيزٍ استدرجه دون وعي حتى قرآن الفجر.
تفحص ساعته بدهشة، ونهض بتجه للمسجد القريب من المنزل، قضى صلاته بتمعنٍ وخشوع، وجلس بآحدى زوايا المسجد يستكمل قراءة القرآن حتى أشرقت شمس اليوم التالي.
استلم على هاتفه رسالة من يوسف
«جمال عندي هتعدي علينا أمته عشان نتحرك؟ ».
عبس بأزرار هاتفه وهو يخرج من المسجد
«ساعة وهعدي عليكم. »
إتجه عُمران للقصر، وصعد إلى جناحه المظلم، تلصص بنظراته الحنونة لزوجته التي تغفو على فراشها في سلامٍ، ابتسم وهو يراقبها وهي تستحوذ على وسادات الفراش بأكمله، فنهض يجذب الغطاء المتدلي أسفل ساقيها، وأعاده عليها برفقٍ، إنحنى يطبع قبلة على رأسها، وبطنها المنتفخ، وهو يتمنى أن تصل قبلته لصغيره، عساه يعلم بأنه يفعل كل ذلك لأجله هو!
نهض يتجه لحمامه الخاص، إغتسل وأبدل ثيابه، لبنطال من الجينز وتيشرت أبيض، ومن فوقه قميصًا أسود بنفس لون الحذاء الرياضي، والحزام الجلد، ثم وقف يرتب خصلاته القصيرة، ويضع البرفيوم الخاص به.
جهز عُمران حقيبة كانت كبيرة عكس المتوقع لمحتويات ملابس يرتديها ليومين، بينما تقطر حدقتيه حزنًا وألمًا للفراق المحتوم أن يختبره، بينما يضع مصحفه ومسبحته، وعدد من الكتب الدينية التي بدأ بقرائتها بالآوانة الاخيرة، ليتمكن من كسب خبرة تفيده بالصلاة بالناس، فلم يعد يرغب الاعتماد على صوته العذب فقط، أراد أن يكون مهيأ بالكامل لذلك.
أغلقها وسحب ذراعها، ثم أتجه للخروج من الجناح، ولكن ساقيه وقفت على بابه تتخشب عن الخروج، لم يأتي من قلبه أن يفترق عنها بتلك الطريقة القاسية، ولكن إن أخبرها بما ينتوي فعله سيزداد الأمر سوءًا وربما حالتها الصحية تتأثر بما يود فعله.
ضم قصبتي أنفه بحيرةٍ يطمسها الوجع، واستدار يتأملها مجددًا وهو يجزم بأن صوت بكاء قلبه مسموعًا له، ترك الحقيبة وأتجه يجاور جلوسها على الفراش، يراقبها بانكسارٍ وألمًا.
مال إليها يضم بكفه جانب وجهها، يمرره برفقٍ بينما يناديها: مايا.
تحرك جفنيها بانزعاجٍ، وفتحتهما مع ندائه الثاني، فابتسمت وهي تردد بنعاسٍ: عُمران!
أعاد خصلاتها المبعثرة بفوضوية للخلف، وهو يجيبها بحبٍ: حبيب قلبه وروحه أنتِ يا مايا.
اتسعت ابتسامتها ونهضت تستقيم بجلستها، قائلة باستغراب: أيه الشياكة دي كلها، أنت متأكد أنك مش رايح تتجوز عليا وعامل حوار.
أجابها بنفس ثبات بسمته: أنا قولتلك قبل كده أني متجوزك أربع مرات، فالخامسة لا تجوز يا بيبي ولا أيه؟
غمزت بعينيها تشاكسه: بتغلبني بكلامك الساحر ده يابن أنطي فريدة!
رد مستنكرّا: ولما أحولك للتحقيق معاها هيبقى أيه وضعك بقى!
حركت كتفيها بدلال: هقولها بكل شجاعة أني جوزي حبيبي علمني مخافش من أي حد على وجه الأرض غير ربنا.
رمش لوهلة متعجبًا نبرتها، وقهقه ضاحكًا وهو يقرص خدها بمشاكسة: حبيبة قلب جوزك اللي محافظة دايمًا على كل نصايحه وتعليماته.
وأضاف مبتسمًا بفخر: تربيتي طمرت فيكِ.
نفضت كتفيها وكأنها تزيح غبار الغرور بعنجهية أضحكته وشاركته هي الضحك، وفجأة تلاشت ضحكاتها حينما لمحت الحقيبة الموضوعة جوار باب الجناح الاساسي.
أخفضت ساقيها حتى لامست الارض، لتتمكن من أتخاذ رؤية كاملة للحقيبة، ومالت برأسها تسأله: ليه واخد الشنطة دي كلها، مش أنت هتوصل يوم الحنة وهتبات ليوم الفرح، يعني يوم واحد بس!
تعمق بعينيها بشكلٍ جعلها ترتاب لأمره، وخاصة حينما تنهد ملتقطًا نفسًا طويلًا، ثم مد يديه يداعب أصابع يديها، وبدأ يمهد ذاته لما سيقول وهي تراقبه بقلبٍ يكاد يقف من شدة ارتباكها، حتى حرر صوته: مايا، أنا عايزك تكوني هادية وتسمعيني، أنا مش عايز أعمل حاجة من وراكِ، مش قادر أمشي وأسيبك موجوعة ورايا، إنتِ نقطة ضعفي إنتِ واللي في بطنك.
انتفض جسدها من شدة الرجفة التي نخرت عظامها، فتحشرج صوتها الناطق برعبٍ: في أيه يا عُمران؟!
لعق شفتيه وهو يضغط عليهما بقوة، ثم تطلع لها واضعًا كفه على وجنتيها: يوسف حددلك معاد الولادة.
ظنته سؤالًا، فهزت رأسها قائلة: أيوه حددلي، ما أنت كنت معايا!
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة، وهو يلقي ما يخفيه بابتسامة مصطنعة: مش قادر أوصفلك لهفتي وحماسي الكبير ليه عامل ازاي، نفسي أشوفه وأحضنه، أكيد هتعلق بيه من أول نظرة زي ما أتعلقت بفيروزة.
وأضاف بنبرة حزينة: أو يمكن أتعلق بيه أكتر منها، وساعتها هفضل أجل في خطوة كان لازم أعملها من زمان، عشان كده أخدت قراري أني أخدها قبل ما أشوفه وأتعلق بيه، عايز لما أشيله على ايديا أشيله وأنا نضيف وطاهر من ذنوبي كلها يا مايا.
لطمتها صدمة جعلتها تحملق فيه بأعين متسعة، ووجهها ينصاع بصعوبة لها، فأبعدت وجهها للخلف عن يديه، وبصعوبة نطقت: إنت هتعمل أيه يا عُمران؟ لأ، قولي إن اللي بفكر فيه ده مش صح!
قرب جلوسه منها، حتى تمكن من ضم وجهها مجددًا بالقوة: مايا، حبيبتي إفهميني أنا بعمل كل ده عشانك وعشان ابننا، عايز أطهر نفسي من قذارة الماضي اللي ملاحقاني لحد النهاردة.
أبعدت كفيه بغضب جعلها تصرخ بانفعالٍ: إنت عايز تموتنا بالبطيء، عايز تتخلى عني وعن ابنك وبتقولي عشانا! إنت عايز تعمل فيا أيه تاني يا عُمران، حرام عليك أنا معتش متحملة صدقني أنا تعبت!
رد بهدوء عساه يمتص غضبها: وأنا كمان تعبان ومخنوق يا مايا، عامل زي اللي محبوس في أزازة ومش قادر يخرج منها، عايز أنسى مش عارف.
وأضاف وهو يطمس أصابعه بين أصابعها المسنودة للفراش: الشيخ مهران إداني بدل الفرصة عشرة بس أنا مصر على قراري، كل ما كنت بتراجع عنه عشانك وعشان اللي في بطنك كنت بشوف الأربع مرات اللي خنتك فيهم يا مايا، كل تفصيلة ولو صغيرة مش راحة عن بالي، أنا عايز أرتاح من كل ده، عايز أبعد عني الذنب ده بأي شكل من الاشكال، مش هقبل إني ألوث بإيديا دول ابني!
سحبت كفها ونهضت تقف قبالتها وصوتها يحتد بعنفوان: وأنا راحتي هلاقيها أمته وفين؟ أنا لسه متعافتش من اللي حصل معانا بعد الحادثة فازاي عايزني أرجع تاني أختبر بعدك عني سنة، ولا هقدر أستحمل ازاي إنك تنجلد! حرام عليك يا عُمران إرحمني من اختبارات العذاب اللي دايمًا بتحطني فيها.
قالتها وسقطت على المقعد تبكي بانهيارٍ، لا لن تقبل أن تعيش هذه الظروف القاسية مجددًا، قبضت بيدها على ذراع المقعد بغضب، بينما يجلس هو محله يتطلع أرضًا برأسٍ منحني، تمر عليه الدقائق ومازال يخفي وجهه عنها، حتى إرتابت لامره، توقعت أن يعود لحديثه الذي لن ينتهي، أن يحاول إرضائها كالمعتاد، ولكن صمته وانحناءه لتلك الدرجة أربكها.
توقفت عن البكاء وتابعته بخوفٍ فشلت فشل ذريع بإخفائه، فرددت برعشة طفيفة: عُمران!
قبض قبضته يستجمع فيها كبريائه وغروره الذي حافظ عليه على الدوام، قبضه بين كفه ورفع رأسه ببطءٍ لها، إحترق قلبها وانتهى أمره حينما رأت دموعه تنهمر لمرته الاولى، تعلم بأنه لربما بكى سابقًا، ولكنه لم يجعلها تراه يومًا، كان عزيزًا، سيدًا، شامخًا، يتحلى بكل قوته رغم أوقات ضعفه!
شق قلبها صدرها، وإن مر عليها دهرًا كاملًا لا تريد أن تراه هكذا مجددًا، بل زاد من قهرها حينما تحرك لمقعدها بخطوات متهدجة، وانحنى أمامها، يميل برأسه على كفيها المسنود على ساقيها، دموعه تلامس يديها، وصوته يخترق مسمعها: أرجوكِ يا مايا ساعديني، أنا عايش في عذاب ما بين واجبي تجاهك وما بين خلاصي من الذنب ده.
وتابع ومازال يسند رأسه على ساقيها: مش سهل عليا إني أسيبك، والله العظيم بعدي عنكم هيكون أصعب من الموت، بس أنا عايز أحط دماغي على مخدتي وأنام من غير خوف، عايز أرتاح يا مايا، أرجوكي ساعديني.
أغلقت عينيها تعتصر دموعها، يريدها أن تعاونه على تحمل ما يفوق طاقتها، فعاد يجلدها حينما شعرت بدموعه فوق اصابعها مجددًا، بترت بكائها واستمدت نفسًا مطولًا تسترد فيه قوتها، تنشط عقلها بأنها لم تكن ضعيفة يومًا قط، ستكون قوية مجددًا لأجل حبها، لاجله هو، حبيبها وزوجها ووالد صغيرها يستحق أن تمنحه هذا الخلاص، حتى لو عاشت تعاني.
سحبت كفيها تضعه فوق رأسه، وبقوة لا تعلم كيف استمدتها قالت: طمني عليك من فترة للتانية، متحرمنيش من صوتك هو اللي هيديني الصبر أنا وابنك لحد رجوعك لينا من تاني.
أزاح دموعه واسترد كامل ثباته، قبل أن يرفع رأسه لها مبتسمًا، فوجدها تحذره باشارة صريحة: بس بعد رجوعك لو فكرت تسافر ولا تبعد لأي سبب من الاسباب ساعتها هقتلك بايديا يا عُمران!
قبل يديها وجذبها بقوةٍ بين ذراعيه، فخرت باكية، تتمسك به بكل قوتها، وهي تكبت شهقاتها التي فضحتها رجفة جسدها بين ذراعيه، وصوتها الذي هتف بانكسارٍ: أنا عارفة أنك عنيد وكده كده هتنفذ اللي في دماغك، فعشان خاطري متقساش على نفسك، افتكر إنك سايبني أنا وابنك وراك، افتكر حبي الكبير وتضحياتي عشان الحب ده.
ابتعد يقابلها بنظرة حملت عشقها المخلص داخله، وقال بصوته المحتقن: أنساكي إزاي وإنتِ حتة من قلبي وروحي يا مايا.
وأضاف وهو يتعمق بمُقلتيها: مش إنتِ بتحبي الواد ده عشان حتة منك، أنا كمان بعشقك عشان إنتِ مني.
وابتسم وهو يمازحها مستندًا بجبينه على جبينها: حبك مأثر على قلبي ومسيطر سيطرة الجن العاشق، فمش مضطر ألجئ لشيخ يحررني لإني قابل بسيطرتك على كل شبر مني، ولا بخاف أتلبس من جنية تانية لإن جنيتي شرسة ومتقبلش بعفريته تشاركني فيها.
ضحكت بصوتٍ مسموع وقالت رغم بحة صوتها الحزين: اللي تفكر تقربلك ولا تبصلك بصة مش تمام بس هطلع عين أمها، مهو مش بعد الصبر والمرمطة دي وهسيبك ملكية عامة للي تسوى واللي متسواش!
شاركها الضحك وقال غامزًا: حبيب قلبي شرس ومالي مركزه يا ناااس.
ضحكت والضحكة تغادرها حينما قرأت بعينيه نيته بالرحيل باستقامة وقفته، وقفت قبالته تكبت بكائها وتتمسك بيده قائلة بصوتٍ باكي رغمًا عن قوة صمودها: طيب بلاش تروح الفرح واقعد معايا.
أجابها بحنان وهو يبعد دموعها: مش هينفع يا حبيبتي، موسى وصابر ليهم دين في رقبتي لسه مردتهوش.
هزت رأسها مدعية ثباتها وتفهمها، ورددت بوجع: طيب ينفع تسافر بعد الولادة.
أغلق عينيه يتحمل مذاق الألم الطاعن، وردد بهمس يئن: هتعلق بيه يا مايا، ومش هيبقى عندي الارادة أني أسافر، كده أحسن.
هزت رأسها مجددًا، وعادت تتمتم: طيب أنا هطمن عليك إزاي؟
احترم محاولاتها للحفاظ على قوتها أمامه، فمال يقبل جبينها ويضمها: موبايلي هسيبه مفتوح على طول عشانك، كلميني في أي وقت.
وأضاف وهو يمسد عليها برجاء: متعيطيش في غيابي بالله عليكِ، قلبي مش هيتحمل، كفايا الوجع اللي هعيشه وأنا بعاتب نفسي على بعدي عنك بالتوقيت ده بالذات، عشان خاطري خليكي قوية يا مايا، إحنا اتجاوزنا محن كتير، وهنقدر نتجاوز المحنة دي كمان.
هزت رأسها وهي تتمسك به ببكاء، فتابع وهو يقربها اليه: أنا معرفتش أي حد غيرك انتي وفاطمة، أوعي تعرفي على ولا فريدة هانم بحاجة.
حركت رأسها بخفة، فقبل جبينها ويديها، وتحرك على الفور قبل أن تضعفه دموعها، سحب حقيبته وخرج بينما تمد ذراعها تجاه محل خروجه، ويدها الاخرى تكبت شهقاتها عنفًا، تتراجع لطرف الفراش، جلست وهي توزع نظراتها بين باب الرحيل وبين بطنها المنتفخ، فمسدت عليها وأزاحت دموعها قائلة: يا رب إلهمني القوة والصبر، أنا مش هقدر أتحمل، وجعه هيوجعني أنا مش هو!
قالتها ومالت على الفراش تستكين بتعبٍ، وتخمد بكائها في الوسادة، فشعرت بكف يد ممدود على ظهرها، فتحت عينيها فوجدت فاطمة تقابلها بأعين باكية، تحمل كل الشفقة والحزن عليها.
حمل علي صينية الطعام، ووضعها قبالة نعمان، ثم دعمه حتى أن جلس بشكلٍ مريح، فمنحه ابتسامة امتنان وقال: تعبتك معايا يا دكتور.
بابتسامة عملية أجابه: تعبك راحة يا خالي.
وجذب الطبق الصغير، يقدم له ما به من أقراص، ومنحه المياه مرددًا: الدوا ده قبل الأكل.
التقطه وابتسامة الامتنان تزداد على وجهه، بينما يستطرد علي: هسيب حضرتك تفطر وهروح المكتب أوقع كام ورقة مهمين وهرجعلك تاني على طول.
رد عليه بمحبة تغلغلت داخله جديدًا: روح يا حبيبي، كتر خيرك سهران معايا طول الليل.
ربت على يده المسنودة جوار طاولة الطعام، وابتسامته البشوشة تزين وجهه.
أتجه علي لمكتبه، وبدأ نعمان تناول طعامه حتى إنتهى منه، فمال للوسادة شاردًا بكل أفعاله التي لا تسحب من خلفها الا الحرج والندم، حتى تلقفه طرقات باب الغرفة، فتنحنح بخشونة: إدخل.
انفتح الباب وظهر من خلفه من جعله يعتدل على الفراش بابتسامة واسعة، ولسانه ينطق باستغرابٍ: عُمران!
لم يتمكن من أن يبادله ابتسامته، ولج بما يحمله للداخل، فسحب المقعد يضعه قبالته، وجلس يردد بصلابة: عامل أيه دلوقتي يا نعمان؟
اتسعت سعادته لاهتمامه بحالته، وسؤاله القيم، فرد بلهفة: الحمد لله أحسن بكتير.
حرك رأسه ببطءٍ، ومال يتطلع أمامه بغموضٍ اتبع سؤاله: ناوي على أيه بعد طلوعك من هنا؟
اختزلت معالمه حزنًا، فابتلع غصته وقال: والله يابني ما أنا عارف!
عاد يسلط رماديتاه إليه، وفاه: واضح من اجابتك العايمة إنك معرفتش تصلح غلطك مع مراتك.
هز رأسه بكل خيبة أمل، فابتسم عُمران ساخرًا: قايمة الغُشم عمالة تزيد!
تساءل نعمان باستغراب: بتقول حاجة؟
هز رأسه وبابتسامة واسعة ققال: بقول إنك غشيم يا خال، مخك متربس على الخواجات والرقصات!
وأضاف وهو يتمعن به: بس أنا كسبت فيك ثواب وبعت لمراتك إنك بتموت، فعايزك أول ما تخش عليك تجدد عهدك مع ماضيك القذر وتعمل إن الكفن على بعد خطوة منك، لحد ما المصلحة تقضى.
ارتسمت سعادة على وجهه، وأسرع يؤكد له: بجد! لا متخافش أنا مش هفوت الفرصة دي الا وكل شيء راجع لمجاريه.
زم شفتيه ساخطًا: طول عمرك ريحتك بتعبر عن مخططاتك القذرة يا خال!
وأضاف وهو ينتصب بوقفته، ويميل تجاه الحقيبة الصغيرة الموضوعة على الفراش، قائلًا: أنا جبتلك حاجة معايا.
تابع ما يفعله باهتمامٍ، حتى أخرج له عُمران كتابًا ملفوف، نزع عنه العلبة، ليتفاجئ بأنه يحمل مصحفًا شريفًا إليه، رفعه تجاهه عُمران، وقبل أن تتلقفه يدي نعمان، سأله: إنت على وضوء؟
هز رأسه وهو يخبره بأعين دامعة من فرط السعادة لما يفعله معه: صليت الفجر مع علي، فلسه على وضوء.
سلمه له عُمران ومنحه من بعده تاب متوسط الحجم، التقطة منه نعمان بحيرةٍ، فتعمق بالتطلع إليه وقال: كل إنسان بيمر في حياته بعقبة، بتفتح من قدامه ماضيه، وبترهبه من الموت، الإنسان الذكي هو اللي بيعدي منها وهو مطهر نفسه من الماضي ومحقق سلامه من الحاضر، ومأمن مستقبله كمان.
واستطرد بنظراته الثابتة القوية: والغبي اللي بتمر عليه بلحظات مؤقتة، أخد فيها سماح أشخاص ظلمهم، وصلى كام يوم وبعدها بعد تاني ورجع أبشع من الأول، كده هو خسر خسارة أكبر من الاولى، خسر دنيته وأخرته.
أدمعت عيني نعمان تأثرًا وصدمة من حديثه، ربما عهد أن يستمع تلك الجمل من علي، لما يتناسب مع أخلاقه وشخصيته، ولكن عمران كان أمرًا محيرًا له.
عاد يردد له بهدوء صوته الرخيم: أنا كمان سبق ومريت بظرف، وعديت منه بصعوبة، بس عديت وأنا بغير من نفسي لحد ما بقيت إنسان تاني، إنسان داق حلاوة القرب من ربنا ومستحيل في يوم يبعد، عشان كده عايزك تستغل الفترة دي وتقرب منه، إقرأ في القرآن وأتعمق بمعانيه، وهتلاقي على التاب خطب حملتهملك هتفيدك جدًا وهتعلمك حاجات كتيرة عن دينك.
وختم حديثه بقوله الاخير: انتصر على شيطانك واقتله من نص الطريق، لإنه لو كمله معاك هيتخلى عنك على باب النار، بعد ما ضمن دخولك ليها.
تهاوت دموعه كالسيل، ومازال بتعمق به، فنهض عُمران يستعد للرحيل قائلًا: أنا لازم أمشي أتاخرت.
واستدار ليغادر، فأوقفه بسؤاله المتلهف: هشوفك تاني أمته؟
أجابه مازحًا دون أن يستدير له: لما أشتاق لسحنتك هجيلك يا خال، مع إني أشك في ده!
قهقه نعمان ضاحكًا، حتى غادر عُمران صافقًا الباب من خلفه، ومتجهًا لمكتب أخيه، يريد أن يضمه قبل رحيله.
انتهى علي من توقيع الأوراق، وشملها بملف واحد، ثم مال بيده يجذب فنجان قهوته الساخن ليرتشفه، فلم تصل يده له، بل لامست الطابق الفارغ، مما دفعه ليستدير للمكتب المنجرف جانبًا، فوجد أخيه يجلس من فوقه وهو يرتشف الكوب بتلذذٍ أرغمه على الضحك، وقال: هو أنت بتتكيف من القهوة اللي بكون شارب منها ولا وضعك أيه؟
وضع الكوب الفارغ بالطبق، ووضع ساقًا فوق الاخرى وهو يجيبه: مش بالظبط.
سأله بمرحٍ: طيب ما تصارحني عشان أقدر أحللك مشاكلك يا حبيبي، أهي فرصة متتعوضش، في مكتبي ومعنديش شغل، تعالى مدد على الشازلونج ونشوف حكايتك أيه؟
عبث باللافتة التي تحمل إسم علي الغرباوي وهو يردد: الحكاية إني بالع بلطجي جوايا، لما بتعصب بيبتدي يضرب دماغي زي الكلاب السعرانة لما بتنهش في اللحم الني، وهنا بقى مفيش حل غير من الاتنين، الأول أحاربه وللاسف ده تصرف غبي لإني مستحيل هقدر عليه بتربية كوتي موتي اللي إنت وفريدة هانم ربتوني عليها، والتاني إني أمهدله سكه وأخدلي منه ساتر لحد ما يخلص مهمته ويهدي أعصابه وده الحل الأمثل، إتقاء الشر عشان هو خلقه أضيق من خرم الأبرة.
تعالت ضحكات على الرجولية، ونهض عن مقعده يتجه ليجلس قبالته: متقلقش أنا هعرف أعالجك وأختارلك واحد ابن حلال هو اللي يسيطر.
رد ضاحكًا: الحلال مبيجبش سكة مع الاشكال دي، إرجع للسماعة والبلطو يدفيك يا دكتور.
ونهض يشير لساعته: وأنا يدوب أعدي على يوسف، عشان نلحق معاد الطيارة.
تساءل بفضول: حجزت الكرفان؟
هز رأسه وقال يجيبه: هيكون جاهز قدام المطار.
وإتجه يقف قبالته بتردد، وقلقًا من أن يكشف أمره، فشعر على بما فيه، فتساءل: بتفكر في أيه؟
رد باسلوب مضحك: بفكر في برودك، بقالي ساعة بقولك أنا ماشي عشان يظهر عليك شوية تأثر وزعل فتقوم تحضني زي أي أب بيودع ابنه المسافر، بس إنت معندكش دم وواقف بارد قدامي يا علي!
رفع أحد حاجبيه بسخط: طيب ولزمتها أيه اللف والدوران، ما تقول إنك مرتبك من سفرك وعايز تتطمن! ولا مش جاية على كرامتك يا طاووس!
ولكزه ضاحكًا: قولتلك متتذكاش على بابا، عشان قفشك من ساعة ما لفيت ولاقيتك قاعد قدامي.
منحه ابتسامة ساكنة، وبجدية تامة زرعت القلق بقلب علي، قال: أنا لو معترفتش أنك طمأنينة وضماد قلبي، أبقى غبي فعلًا يا علي.
تلاشت ابتسامته، وهو يركز ببصره تجاه عُمران بشكِ، ولكن الاخير لم يترك له فرصة حينما اندفع يضمه بكل قوته، ويقول ليبدد شكوكه حول أمره المريب: هو بس فكرة السفر دي موتراتي، لإن أخر سفر ليا مرتبط بذكريات فقدان الذاكرة وكل اللي عشته.
وأضاف وهو يشدد من ضم أخيه: بس دلوقتي إطمنت يا علي.
ربت على ظهره بخوفٍ انتباه فجأة، وقال: عُمران لو عايزني أسافر معاك، هسيب كل حاجة وهاجي معاك حالًا.
نظم أنفاسه بمهارةٍ، وابتعد يرسم ابتسامة مخادعة: مش للدرجادي يا دكتور، ابنك راجل ويعتمد عليه.
وأضاف وهو يغمز له بخبث: وبعدين مش كفايا المرشدين اللي بعتهم مخصوص معايا، طيب كنت وفرت محاولاتك لاقناعهم وطلعت معايا إنت من الاول!
جلجلت ضحكات على الرجولية بشدةٍ، وردد بمكر: مهو عشان انت مشاغب وبتلعب في الطين كتير لازم أشوف حد يراقبك، وده راجع لخوفي عليك يا حبيبي، يرضيك أتعب وأشقى، وأربي وفي الآخر يتقال دكتور على معرفش يربي!
ضحك وهو يجيبه: لا ميرضنيش.
وأضاف بجدية مضحكة: على فكرة أنت راجل خبيث يا علي.
ردد بنفس سياق جملته: ما أنا قولتهالك قبل كده، أنا بابا يالا!
صفاء ابتسامته جعلت عُمران يتابعه ببسمة حزينة، وقبل أن يكشف أمره غادر على الفور، يتجه بسيارته لمنزل يوسف، ترقب لدقائق حتى إنضما إليه.
فهبط يحرر صندوق السياره، وضع يوسف حقيبته وبدأ جمال بتكديس أغراضه العديدة، حتى لم يتمكن عُمران من غلق الغطاء، فصاح بدهشة: أيه كل الشنط دي، إنت طالع رحلة بروح أمك!
ردد جمال من خلفه متأسفًا: لازم اعمل حسابي لكل ثغرة ممكن تقابلنا، المشكلة دلوقتي هنحط باقي الكراتين دي فين؟
رد يوسف بعد تفكير: بص عمران هيقعد جنب السواق، اديهاله يشيلها على رجليه واحنا نقعد ورا.
قال جمال بعد تفكير: ما ناخدها بينا انا وانت بالنص.
صاح يوسف بنفي: لا أنا كده مش هعرف أقعد واخد حريتي بالقعدة، عمران بيحب الاوزان التقيلة والحديد، يشيل هو وإحنا نرحرح ورا.
تابعهما عُمران بنظرة خطيرة، أنهاها حينما جذب الكرتونة يضعها بالمقعد الخلفي، ثم صعد جوار سائقه يغلق الابواب أتوماتيكًا، ارتدى نظارته السوداء وأدلى برأسه من النافذة مرددًا: اتوبيس الشعب بيقف في الموقف عشر دقايق، عند الحداشر دقيقة في المطار، هكون واقف حداد على روح أمك أنت وهو.
وأشار للشاب القابع جواره: إطلع يا علي!
ابتسم الشاب بخفة وقاد السيارة على الفور، تاركًا من خلفه الصدمة تحتلهما، بينما يبتسم السائق وبعد محاولات لقتل فضوله نطق: باشا!
نزع عُمران نظارته وقال ومازال يسند رأسه للمقعد باسترخاء: هنرجع تاني لوصلة الزن ورغي الحريم!
ابتسم الشاب وقال: اعذر فضولي يا باشا، أنا بقالي يومين معاك ودماغي هتتفلق من الفضول.
لوى شفتيه بتهكمٍ: يارتها تتفلق وتريحني من رغي أمك ده، قال قولي يا علي، هو أنت الحيلة ولا عندها رغايين غيرك؟
ضحك وقال بفخر: لا عندها غيري كتير، أنت نسيت ولا أيه يا باشا ما أنا حكيلك يوم العركة ياها!
تمتم باستهزاء: العركة اللي شرحتك فيها، ذكرى هتدخلك التاريخ من أوسع أبوابه.
ابتسم وقال بامتنانٍ أدهش عُمران: دي كانت أحلى عركة أدخلها في حياتي، عشان عرفتني عليك يا باشا، أنت ابن حلال وتستاهل كل خير والله، كفايا جدعنتك ورجولتك معايا.
وأضاف وهو يركز على طريقه بتركيز: أنا لما فوقت كنت فاكر اني هلاقي نفسي في الترب لامواخذة، اتصدمت لما لاقيت نفسي في مستشفي شبه الفنادق الخمس نجوم، لا وأيه سايبلي مبلغ عمري ما أحلم بيه، يعني بدل ما تبلغ عني وتسجني يا باشا أكرمتني.
واستطرد وعمران يتابعه ببسمة يرسمها بالكد وهو يحاول السيطرة على وجع رأسه الذي يهاجمه لعدم نومه: بالك يا باشا أنا مسبتش السكرتيرة بتاعت المستشفى الا لما جابتلي اسمك وعنوانك، روحتلها أربع مرات لحد ما زهقت مني وادتني العنوان، مش هكدب عليك في الاول قلقت لما لاقيتك قيمة وسيما ومركز علوي، بس اتكلت على الله وقولت لازم اشوفك وارجعلك فلوسك، بس بردو طلعت ابن اصول يا باشا ومردتش تاخدهم لا وشغلتني عندك شوفت عز أكتر من كده.
وتابع بتفاخر أضحك عُمران: حكم أنا أمي طول عمرها تقول عليا إني مرزق، شوف كان حالي فين وبقيت فين يا جدع، آآ. أقصد يا باشا.
مرر يده على جبينه، وهمس بتعب: باشا، باشا، فلقت دماغي بسفونية على بيه الكبير دي!
قهقه ضاحكًا وقال: سلمت دماغك يا باشا البشوات كلهم.
مال برأسه للاسفل بقلة حيلة، بينما بهتف الشاب بحماس: أسأل سؤالي بقى يا باشا.
اشرأب بعنقه بصدمة: هو انت كل الرغي ده ومسألتش سؤالك! على أنا تعبان وبحتضر جنبك هنا، إعتقني لوجه الله.
قال وهو يبتسم: خلاص يا باشا ريح.
أعاد رأسه واغلق عينيه بتعبٍ لدقائقٍ، ثم قال بتأففٍ: عشان غلاوة صاحب الاسم بس، أتفضل اسال يا على باشا.
ابتهج الشاب، وقال مستفهمًا: كنت عايز أسالك عن الشاب الغريب ده تعرفه منين، دكهون يبقى شريكك عرفناها دي، التاني الابيضاني ده شريكك بردو ولا صاحبك كدهون وخلاص.
عبس عُمران وهو يهتف بدهشة: دكهون! أبيضاني!
رد عليه بجدية: أيوه دكهون قمحاوي ده ابيضاني وحليوة كده.
أشار له عُمران وكأنه على وشك الاغماء: اركن على جنب، اركن.
ارتعب الشاب وصف السيارة سريعًا على طرف الطريق، ولسانه لا يتوقف عن ترديد: مالك يا باشا، قولي حاسس بأيه؟!؟
جذبه من تلباب قميصه، يقربه من عينيه المكتاظة بغضب جعله يبتلع ريقه بصعوبة، وصوته المخيف يغرد كفحيح الافعى: عارف لو سمعت صوت أمك ده هعمل فيك أيه؟
هز رأسه نافيًا، فأوضح له باستفاضة: هخليك تأخد الاسفلت بالاحضان، تسوق وتطلع على المطار بمنتهى الهدوء، متحاولش حتى تبص جنبك عشان لو عملتها هطلق عليك كلابي السعرانة كلب كلب، ولم يخلصوا عليك هأخد عضمك ده في شوال أبيضاني وحليوة لأمك!
ابتلع ريقه بصعوبة، وهدر: إنت طلعت خِطر أوي يا باشا.
رد بكل تأكيد: أخطر مما تتصور، تحب تجرب نفشة ريشي ورقصة مطوتي؟!
همس بفحيح يسمع بصعوبة: مطوة كمان!
أكد له مبتسمًا: إنت نسيت إن دشملتي ليك كانت سبب التعارف المنيل ده، هو إنت اللي كنت فاقد الذاكرة ولا أنا!
قال بعقلانية حررت ضحكات عُمران: العفو عنك يا باشا، أنا اللي دماغي ملحوسة ومفوتة، إنت دماغك توزن بلد إسم الله على مقامك!
مال على النافذة ضاحكًا بصفاء، وكأنه لم يكن ذاته الشخص الذي كان يثبته بغضب، وبهدوءٍ ردد: اطلع يا علي، الطيارة لو فاتتني مش هعتق أمك النهارده!