قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وواحد

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وواحد

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وواحد

تقلب على السرير الصغير، محاولًا أن يغفو قليلًا ولكنه لم يستطيع، حتى بعدما نزع عنه ثيابه العلوية من شدة إرتفاع الحرارة، استقام عُمران بجلسته على الفراش، وهو يراقب ساعة يده الباهظة، الشيء الوحيد الذي بات يمتلكه، وجدها الواحدة ليلًا، وبالرغم من تأكيد صابر بأنه يتناول أدوية من المفترض أن تجعله يغفو لساعاتٍ طويلة، الا أنه لم يستطيع أبدًا.

كان يشعر بأن هناك شيئًا ينقصه، وكأنه كان معتاد على فعل شيء بذلك الوقت، لقد تعثر عقله ونُثرت ذكرياته، بات كالهاتف الذي أعد له إعادة مصنع، ففقد كل شيءٍ يمتلكه!

نهض عن الفراش وخرج يرتدي القميص الزيتوني الذي قدمه له صابر من قبل، كانت خطواته بطيئة للغاية، ويده تدعم محل الألم المنتشر بكتفه، استند على السور الخارجي للسطح، يغلق عينيه بانتشاء حينما استقبله تيار هواء بارد، أزاح عنه انزعاجه من الطقس، وكأن الغرفة التي كان يسكنها كانت بباطن الأرض!

استدار عمران يتأمل سطح المنزل بنظرة دقيقة، فلمح المرحاض المتطرف جوار المطبخ، وجد ذاته يتجه إليه، وبتلقائية شديدة بدأ يغتسل ويتوضئ استعدادًا لصلاة القيام مثلما إعتاد أن يفعل!

قام بصلاته بركن على سطح موسى، ثم جلس يقرأ بالمصحف الذي وجده على الطاولة القريبة منه، حتى موعد الفجر.

نهض عن السجادة يطويها ويتجه لغرفة موسى، طرقها ثلاث مرات، حتى وجده قبالته يفرك عينيه بنومٍ، متسائلًا بانزعاجٍ: خير يا خواجة؟ مش عارف تنام من الحر ولا الناموس؟

تغاضى عما قال، وسأله بثباتٍ: أنا آسف لو قلقتك، بس آذان الفجر قرب يأذن، مش نازل المسجد؟

أزاح يده عن عينيه، وبات يطالعه بدهشةٍ: أنزل فين؟

زوى حاجبيه بذهولٍ منه، وكأنه يتحدث مع شخصٍ جاهل في دينه: أكيد مش هتنزل الملاهي مثلًا في وقت زي ده، المفروض إنك هتروح فين غير المسجد عشان صلاة الفجر!

وتابع بسخطٍ مضحك: شكلك لسه مفوقتش من نومك يا آآ يا اسطى!

تنحنح موسى بحرجٍ جعله يشعر بالنيران تلتهمه: لا العبارة بس إني متعود أصلي الصبح خطف كده قبل ما انزل الورشة، ومبرحش الجامع الا في يوم الجمعة عشان بتبقى اجازتي، أصلًا ده اليوم الوحيد اللي الجامع بيبقى زحمة فيه.

منحه نظرة حزينة من رماديتاه، وقال متغاضيًا عن أمره: طيب شاورلي على طريق المسجد وكمل نومك لو تحب.

طالعه بدهشةٍ امتزجت بصدمته التي تحررت بسؤاله: عايز تنزل الجامع وإنت بحالتك دي!

راقب رد فعله بتمعنٍ، وابتسم يجيبه: الصحابة رضي الله عنهم، مكنوش بيفوتوا فرد حتى لو كانوا بيموتوا أو حتى كانوا في الحرب.

وأضاف بتلقائية جعلته هو ذاته مندهشًا مما يقول: كان في واحد من الصحابة أيام رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، كان بيتناوب مع صحابي تاني لحماية الرسول ومن معه، لما لاقى الدنيا هادية قال يصلي ركعتين لله، ولما بدأ يصلي واحد من المشركين استغل الأمر، وضرب عليه سهم أصاب كتفه، فاتصدم لما الصحابي الجليل كسر السهم وكمل صلاة عادي وكأنه لم يصاب.

المشرك إتجنن واتغاظ من ثبات المسلم، فصوب سهم تاني أصاب كتفه التاني، وبردو الصحابي عمل نفس اللي عمله بالمرة الاولى وكسر السهم وكمل صلاته وهو بينازع حرفيًا، وكل ده كان بيزود حقد المشرك، فاصابه المرادي في رجله، وده خلاه ميقدرش يكمل صلاته فعلًا، فاضطر يلجئ لصاحبه اللي بيتناوب معاه على الحراسة، فلما سأله وقاله منادتنيش ليه من السهم الأول، قاله بكل بساطة وأقطع صلاتي؟ متخيل إنه بالرغم من إنه بيموت مش عايز يقطع صلاته وخشوعه اللي في الصلاة وبقراءة القرآن!

لو فضلت أحكيلك من هنا لبكره مش هنتهي من حكايات الصحابة والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، بس الخلاصة إن اللي فيا ده شيء لا يذكر في سبيل اللي اتعرضوا ليه.

وتابع وهو يتعمق بعيني موسى الذي التمعت بالحرج والتأثر لحديثه: لو إتعاملت مع الصلاة إنك بتريح نفسك منها عمرك ما هتحس بلذة الخشوع بين يدي الله عز وجل، الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام كان لما بينادي سيدنا بلال عشان يرفع الآذان كان بيقوله أرحنا بها يا بلال مش منها، لان الصلاة بتريح قلوبنا من الهم والحزن وكل شيء واجع روحنا، بمجرد ما بتقف على سجادتك وبتكبر بإيدك فإنت بترمي من وراك كل شيء، الله أكبر مش مجرد كلمتين حافظهم وبترددهم، إنت بتقر وبتعترف إن ربنا سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء في الكون، أكبر من ابتلاءاتك ومن مركزك حتى لو كنت رئيس جمهورية، ولو عقلك شرد وسهى في الصلاة بأي شيء من وساوس الشيطان، فكر نفسك إن اللي إنت واقف قدامه ده قادر يحللك كل اللي في بالك، سواء دين أو فقر أو اي شيء يخطر في بالك.

وتابع وهو يتركه ويتجه للدرج: تقدر تدخل تريح، أنا هسأل أي حد وإن شاء الله هيدلني.

عبثت يدها بين خصلاته الفحمية بانزعاجٍ، وصاح به: استنى يا خواجه، هتوضى وجايلك على طول.

وتمتم وهو يشمر عن ساعديه: وأهو بالمرة نصحي الواد صابر ونأخد أجره!

مضت عشرة دقائق، وكانوا الثلاثة يقفون بأول صفوف الصلاة خلف إمام المسجد، ومن خلفه عدد قليل لا يذكر، مما أحزن قلب عُمران كثيرًا، صلى خلف الإمام صلاة الفجر، وما أن انتهى حتى خرج برفقتهما ليعودا للمنزل.

توقف موسى أسفل المنزل، يشير لصابر قائلًا: بقولك أيه يا صابر، خد الخواجة وإطلعوا انتوا، أنا كده كده مش هيجيلي نوم طالما قومت، هفتح الورشة وأشوف شغلي أحسن.

تثاءب صابر بنعاسٍ، وقال بدون مجادلة: يلا يا خواجة.

تجاهل عُمران حديثهما ووقف يراقب الحي بنظرات متفحصة، ودقيقة، انغمست الدهشة بين طيأت رماديتاه، وكأنه يرى تلك المظاهر للمرة الاولى!

أفاق على هزة يد صابر على كتفه السليم، فاستدار تجاهه يخبره: إطلع إنت يا صابر، أنا مش جايلي نوم.

عبث بدهشة لحقت سؤاله المنطقي: هتروح فين تاني وإنت بحالتك دي؟

انتقل ببصره لموسى الذي رفع الباب المعدني بخفة تتناسب مع جسده المفتول، بينما يميل إليهما بفضولٍ لسماع إجابته على سؤال صابر، فوجده يقول: هقعد مع موسى.

ضم صابر فمه بكفه يمنع تثائبه بارهاق، وإتجه يصعد الدرج هادرًا بخفوت: زي ما تحب، بس أوعى تروح هنا ولا هنا.

وتركهما وصعد للاعلى، يينما جذب موسى أحد المقاعد البلاستيكية، وقربها من محل وقوفه: ريح رجلك يا خواجه.

إلتقطه منه وجلس من فوقه يتأمل الحي الذي لم يشغله أحدٌ بعد، بينما يرتب موسى ورشته، استعدادًا للعمل، ومن فترة للأخرى يراقبه، حتى خرج له بعد قليل، يقدم له كوبًا من الشاي الساخن بينما يجلس على المقعد المجاور له متسائلًا: سرحان في أيه؟

التقط الكوب منه بينما يتطلع إليه بحيرةٍ: بفكر هعمل أيه؟ المفروض إني مش فاكر حاجة، فمحتار أيه اللي ممكن أبدأ بيه بعد كده.

سحب موسى رشفة من كوبه، وقال: الموضوع صعب عليك وعلى أي حد ممكن يتحط في اللي إنت اتحطيت فيه، بس أنا لو مكانك هفك الدولارات اللي معايا وهعمل بيها أي مصلحة تأكلني عيش.

استدار إليه عُمران يتمعن بحديثه ليتمكن من فك شفراته، وما أن تفهم مقصده حتى قال: لا أنا أول حاجة هعملها هشتري تكيف، وبعد كده هشتري لبس لإن بصراحة ذوقك إنت وصابر local (بلدي).

قالها وهو يتطلع لما يرتديه بنفور، جعل موسى يضحك بصخبٍ وهو يشير له مشككًا: قولتلك هتطلع ابن ذوات محدش مصدقني.

وسحب رشفة طويلة أنهت كوبه، مما جعل عُمران على وشك أن يتقيأ، ونهض يتجه ليستكمل عمله، ترك عُمران الكوب من يده ولحق به يصيح بغيظٍ فشل بكبته داخله: هو إنت متعرفش تشرب بأسلوب أرقى من كده وبدون ما تعمل الأصوات المقززة دي!

نزع عنه القميص المخطط، وبقى بملابسه العلوية، يحدجه بنظرة استفزت عُمران، وخاصة حينما قال: أنا كل ما بشوف تصرفاتك بحس إني شايف عيل توتو قدامي، لكن لما ببص على هيكلك اللي شبه المقطورة ده براجع نفسي بس إنت بترجع وبتثبتلي إنك فعلًا عيل توتو!

حدجه عُمران بنظرة نارية، ختمها بقوله الوقح: ما توزن كلامك بدل ما أطلع بروح أمك هنا!

توالت ضحكات موسى دون توقف، بينما يهز رأسه في يأسٍ: إنت بني آدم مش مفهوم بالنسبالي!

وانتصب بعوده عن جلسته الأرضية، يرنو إليه قائلًا بجديةٍ تامة: عارف لو حد تاني غيرك اللي نطق الكلمتين دول أنا كنت عملت فيه ايه؟

تحداه بنظرة شرسة، وهو يجيبه ساخرًا: ده لو حد تاني، لكن دراعك الحلو ده هيتكسر قبل ما يفكر يطولني.

ضحك مجددًا وتلك المرة أدمعت عينيه من فرط الضحك: خواجة أنت الجروح اللي عندك دي مش هتأهلك لأول جولة!

وتابع، ويديه تنخصر منتصف خصره، بينما يتابعه بحيرة: أنا مش فاهمك! شوية بحس إنك ابن ناس علوي أوي، ولما بتقلب بحسك ابن حتة زينا كده، أنا محتار ومش عارف انت دنيتك أيه؟

استند عُمران على سطح السيارة من خلفه، مبتسمًا بمكر: خليك كده محتار لألف سنة قدام، وبردو مستحيل هتوصل للخلطة.

وأضاف بخبثٍ: بس ممكن أسهلك الليلة في كلمة إني للأسف ماليش كتالوج!

كاد موسى أن يناظره بنفس طريقته، ولكنه وجده يصفن قليلًا عن الحديث القتالي بينهما، فقال بريبة: مالك، سرحت في أيه؟

هز كتفه وهو يخبره بسخرية: حاسس أني قولت الكلمة دي قبل كده!

ضحك موسى وهدر ساخطًا: شكلك بتاع نوش، ومبيهمكش!

أعاد الطرق الخافت على باب المنزل، بينما يمسك بين كفيه المفتاح، تردد كثيرًا بفتح الباب، وكأنه يحاول أن يخبر ذاته أنه لا يحق له ذلك، مع أن له كامل الصلاحيات لذلك.

وبعد تفكير اضطر آيوب باستعمال مفتاحه الخاص، وما أن حرر الباب وولج للداخل، حتى وجد مصطفى يجلس على مقعده، يراقب الباب بكل لهفة، وبات أمر انتظاره لأن يستخدم آيوب المفتاح أمرًا مكشوفًا إليه.

لوهلة إرتبك آيوب، رغمًا عن أنفه أصبحت علاقته بمصطفى وآدهم أقوى مما تخيله سابقًا، وبدون تعمد منه بدأ يحطم القيود واحدًا تلو الآخر، حتى بات جزء بداخله يتقبل مصطفى بكل كيانه.

تنحنح بخشونة وهو يفيق من شروده، ثم قال: خبطت كتير ومحدش سمعني، فخوفت آدهم يتأخر على معاد الدكتور.

منحه مصطفى ابتسامة واسعة: وتخبط ليه يا حبيبي، ما انا مديك المفتاح وقايلك ده بيتك تدخل وتطلع منه وقت ما تحب.

طالعه بنظرة متوترة، اختصرها بقوله المرتبك: عارف، بس مبحبش أستخدمه عشان لو شمس تحت مش حابب أحرجها.

رد عليه وهو يدنو بمقعده المتحرك تجاهه: وحتى لو مرات أخوك كانت تحت، ده بيتك وليك فيه زي ما آدهم له بالظبط.

وأضاف في محاولة لقطع توتره: متقلقش شمس مبتنزلش من فوق غير بحجابها، إنت ناسي أني موجود هنا ولا أيه؟

حرك رأسه وقطع حديثهما الغير مرغوب فيه، متسائلًا: غريبة إن آدهم منزلش، ده لسه مكلمني وقالي إنه جاهز!

اقتحم صوت توقف المصعد اجتماعهما، وخرج منه آدهم يتحرك وكأنه يرى كل العوائق أمامه، اختباراته طوال الفترة الماضية جعلته متمكنًا من خطاه وطريقة تعامله.

رنا إليه آيوب، يردد باعجاب: أيه الشياكة دي كلها يا سيادة المقدم! قولي إنت ناوي تتجوز مرة تانية ولا حاجة؟

ابتسم آدهم وقال يحذره: إذا كنت جاي وفي نيتك تقيم عليا الحد، فأجل نيتك لإن شمس بايتة عند فريدة هانم النهاردة، فتقدر تعدي علينا بكره يا بشمهندس.

تعالت ضحكات آيوب، وعقد العزم مصرحًا: عنيا بكره هجيلك وكلي نية وعزيمة.

تشاركا الضحك ومصطفى يراقبهما بحبٍ وسعادة، كم يود أن يظل كلاهما جواره لأخر أيام حياته المتبقية، ولكن يكفيه رؤية آيوب باستمرار، وبدون أن يكون بينهما أي قيود.

صعد آدهم برفقة آيوب، الذي تناول منه مفتاح سيارته الخاصة، ليقودها آيوب مثلما إعتاد، وما أن خرج من محيط المنزل حتى استدار يخبره: ليه خبيت على مراتك وباباك إنك رايح تعمل العملية النهاردة يا آدهم؟

نزع آدهم نظارته السوداء، وأجابه بينما يميل لنافذة السيارة: هو أنت مش كنت معايا وسمعت الدكتور عمر الجارحي وهو بيأكدلنا إنها مش عملية بالمعنى، فمش مستاهلة أقلقهم عشان موضوع بسيط زي ده.

رد عليه بعدم اقتناع: بس الأحسن إنهم يعرفوا، حتى لو الموضوع بسيط زي ما بتقول الاسم إنها عملية وبالليزر!

تنهد والحزن يتعمق على ملامحه الوسيمة: شمس بعد اللي حصل مع عُمران مبقتش متحملة حاجة يا آيوب، وبابا زي ما أنت شايفه، صحته مش مستقرة، كده أحسن صدقني.

واستطرد بابتسامة جذابة: وبعدين إنت معايا وده كفايا أوي عندي.

انجرف بالسيارة للطريق الصحيح وأجابه بكل ثقة: جنبك ومعاك على طول يا حضرة الظابط.

وأضاف مازحًا: بس لما تتقفش معرفكش، خليك فاكر أني قولتلك تبلغ شمس وإنت اللي رفضت هاا؟

ضحك بصوته الرجولي وقال: عارف أنك هتبعني ومش هتحتاج لأي قلم!

خرجت من المشفى برفقة فاطمة وزينب، وعادت برفقتهما لقصر عائلة الغرباوي الذي لم يسكنه عُمران قط، صعدت مايا لجناحها باهتة، فاقدة لمذاق الحياة، كأنما تُساق لمثواها الآخير.

استقرت بفراشها كالجثة الهامدة، بينما عينيها تتعلق بالخزانة الموصودة من أمامها، تستعيد ذكرياتها الاخيرة برفقة زوجها قبل رحيله، ليتها اوقفته ومنعته من الرحيل، فإن كانت تعلم بأنه سيكون لقائهما الاخير لما كانت سمحت له بالرحيل عنها أبدًا.

بالاسفل وبالأخص بغرفة المكتب المخصصة لأحمد الغرباوي.

حملت شمس كوب المياه لوالدتها التي جلست على المقعد ترتجف برعبٍ، بينما يحاول أحمد السيطرة على غضبه الجحيمي، الاجواء توترت بأكملها منذ رحيل والد مايا.

أبعدت فريدة يد ابنتها قائلة بانهيار: مش عايزة أي حاجة يا شمس.

وتطلعت تجاه زوجها تناجيه ببكاء: هنعمل أيه يا أحمد؟ عثمان مش هيسكت، وهيجبر ميسان تمشي معاه.

أبعد يديه عن وجهه، وقال بغضب: أنا مش قادر أفهم ده أب إزاي ده؟ عايز يتأجر ببنته ويجوزها باقرب وقت، ده حتى مش مهتم بمشاعرها ولا بالحالة الصحية اللي بتمر بيها!

انهمرت دمعات شمس على وجهها، ورددت بصوتها المبحوح: طيب هو مفيش أي حل نمنعه يعمل كده يا أنكل، إحنا مبقاش لينا من عُمران غير البيبي اللي في بطنها، لو عمل كده هيحرمنا منه.

زم أحمد شفتيه بضيق، وقال: عثمان طمعه عميه يا شمس، حاسس إنه ممكن يعمل أي حاجة عشان يكون في نسب بينه وبين سلطان المُحمدي، واهي فرصته وجاتله على طبق من دهب، هيعرف يستغلها كويس حتى لو التمن خسارة مايا لابنها!

بعدت فريدة المقعد عنها وصرخت بجنون: على جثتي لو لمس شعرة واحدة من حفيدي، أنا عايشة على أمل إنه هيداوي جزء بسيط من وجعي الكبير على ابني، أنا هعرف أوقفه عند حده.

وقف أحمد قبالتها، وقال بصوته الحنون: فريدة حبيبتي ممكن تهدي شوية، لا أنا ولا على هنسمحله بكده، حتى لو اضطرينا نهرب مايا في مكان ميعرفوش الجن الازرق.

استدارت تقابله بوجهها الشاحب ووزنها الذي ضعف تأثرًا بحزنها الشديد على ابنها: ده مش حل يا أحمد، الهروب حل مؤقت.

وتابعت وهي تخرج من الغرفة بعزمٍ: وأنا مش هقبل أعيش في توتر وخوف من اللي ممكن يعمله بعد كده، مفيش غير على اللي هيقدر يمنع كل ده.

قالتها وانطلقت خارج الغرفة، تاركة شمس مندهشة من حديثها، بينما جحظت عيني احمد بصدمة من تحليله لمغزى حديثها، فاذا به يركض من خلفها وهو يناديها بعصبيةٍ: فريدة!

ولجت فاطمة لجناح مايا، رفعت الستار المحاط للشرفة الزجاجية بالريموت المتحكم بالغرفة، واتجهت للفراش تخبرها بابتسامة رائعة: أنا حضرت فطار ملوكي على التراس، وقولت أستغل فرصة إن شمس هنا وعلي، هنتجمع وهنفطر مع بعض وقبل ما تعترضي فأنا مش هقبل أي اعذار منك، هتقومي حالًا معايا.

تنهدت مايا بقلة حيلة، بينما تساعدها فاطمة بأن تخفض ساقيها، وتجذب كفيها حتى استقامت بوقفتها، فحاولت أن تستميلها قائلة بتعبٍ: ماليش نفس يا فاطيما.

تابعت المضي بها للشرفة التي تتصل بالتراس المحاط لجناح عُمران وجناح علي: قولتلك مفيش أي أعذار، وبعدين أنا عايزاكي تشيدي حيلك شوية عشان تنزلي معايا تساعديني في الشغل.

وأستكملت وهي تستكمل بطريقها لمساحة التراس حول جناحها: أنتِ عارفة أن النهاردة أول يوم هينزل فيه البشمهندس جمال معانا، يدوب هفطر معاكم وهنزل عشان أساعده، متحمسة أوي نستكمل المشاريع اللي كان عُمران الله يرحمه شغال عليها.

توقفت مايا عن المضي قدمًا وشددت من كفها المستند على كف فاطمة، ثم رفعت عينيها لها بنظرة معاتبة بينما تصحح لها: متطلبيش الرحمة لشخص حي يا فاطمة، أوعي تتكلمي عن عُمران قدامي تاني بالشكل ده!

وتابعت بقوة ونظرة ثقة: أنا جوزي عايش وراجع!

ارتبكت فاطمة قبالتها، وخاصة مع استرجاعها لتحذيرات يوسف المشددة، فعادت تتشبث بكفها هاتفه بتوتر: أنا أسفة مقصدتش يا حبيبتي!

تقبلت اعتذارها، ومضت برفقتها تحاول أن تحتمل حجم الألم القابع بداخلها، ترى الجميع يتقبل موت زوجها، حتى خالتها منذ أن رأتها اليوم بتلك الحالة الهزيلة، رؤية وجهها المنطفئ أكد لها ما تعانيه وتتقبله.

مضوا معًا حتى وصلوا للطاولة التي أعدتها فاطمة، والتي تقابل الباب الزجاجي الخاص بشرفة جناحها، فما أن وصلت كلتاهما للمكان حتى تلصص لهما صوت على الغاضي، وهو ينطق بعصبيةٍ: أنا مش مضطر أنفذ اللي بتأمريني بيه ده يا فريدة هانم، أنتِ بقرارك ده بتدمري العيلة كلها، أنا مش متخيل إنك إنتِ اللي بتطلبي مني حاجة زي دي!

تطلعت فاطمة لمايا بدهشة مما يحدث، واقتربت الاثنتان معًا للجناح، في محاولة لفهم ما يحدث بين فريدة هانم وعلى الذي اهتز القصر لصوته المنفعل لمرته الأولى.

بينما بداخل جناح على الخاص.

وقف قبالة والدته مصعوقًا مما تمليه عليه، مازال يجاهد لأن يتفهم ما قالته للتو، ألا يكفيه ما خاضه منذ فقدان أخيه حتى تلك اللحظة!

دنى أحمد منها يحاول أن يحجب عنها تلك الفكرة الزريعة، فهمس بصوت غير مسموع الا لها: كفايا لحد كده يا فريدة وإخرجي معايا بهدوء، حرام عليكِ الولد مش متحمل إنك تضغطي عليه أكتر من كده.

انتشلت ذراعها منه واتجهت تقابل على بوقفته، تخبره بصوتٍ باكي: عُمران لو كان مكانك مكنش أتردد ثانية واحدة، كان هيعمل أي شيء في سبيل إنه يحمي مراتك يا علي!

تحرر عن هدوئه الرزين وصرخ بكل طاقته: كفايا، من فضلك كفايا، إنتِ مش متخيلة بطلبك ده عملتي فيا أيه؟

ردت عليه بحزن: مفيش قدامنا أي حل تاني.

أجابها باستنكار: هو ده حل! إنتِ بتحكمي عليا وعليها بالموت، مايا عايشة على أمل واحد وهو رجوع عُمران، فبأي حق عايزاها تكونلي زوجة؟

بمجرد نطقه لتلك الكلمات التي برهنت سبب الشجار العنيف بينهما، توقف كل شيء من حولهم، الا صوت ارتطام هاتف فاطمة عن يدها، ملامسًا أرضية الجناح البيضاء، معلنًا عن تمزق قلبين من خلفهم، قلب زوجته التي كرسته لنفسها، لدرجة جعلتها لا تود تخيله برفقة امرأة غيرها، وقلب زوجة أخيه تلك العاشقة التي عشقت أخيه منذ الصغر، ولم يكن حبها مراهقًا، بل كان وسامًا حاربت لأجله ألف معركة، أثبت فيها إليه وإلى الجميع كم أنها عاشقة تصون عشق عُمران الغرباوي حتى أخر قطرة دماء تسري بدمائها!

استدار على يبعد خصلات شعره الطويل المندثر على عينيه، بينما يضم شفتيه بين أسنانه، يبث فيهما كل الغضب المكبوت بداخله، حتى كاد بأن يدمهما، وضعته والدته في أصعب تجربة قد يخوضها يومًا، لقد كان يجاهد ذاته، يبث في كل من حوله الادارة لعودة الحياة شبه طبيعية للجميع.

منذ رحيل أخيه والجميع من حوله يموتون بالبطيء، زوجته، والدته، شقيقته، أصدقائه، الجميع يتمسحون فيه حبًا بأن يكون العون والداعم لهم، وبينما يضمد جرح ذاك وهذا نسى أنه يمتلك الجرح الأكبر، تناسى ذاته لدرجة أنه بات كالورقة الهاشة بين لهيب الرياح القاسية، وأمواج المياه العاتية، وبينهما هو قتيلًا لا محالة!

لم يتركوه يئن في صمتٍ، فزادت والدته من حجر العقدة على رقبته، وبات الآن في صراعٍ بين وجع زوجته ووجع زوجة أخيه في تلك اللحظة!

علي القوي بات لا يملك الا قلة حيلته!، ينساب خلف الهدوء الذي غمر جناحه، الا من دقات حذاء مايا التي تقترب لتقف في مواجهة فريدة، تسلط عينيها الجاحظة إليها، وتساءلت وتأثير الصدمة مازال قائمًا عليها: حضرتك كنتِ بتقولي لعلي أيه؟

سقطت دموع فريدة في خزي، ولكنها لا تملك الا هذا الأمل المتبقي، ماذا عساها تفعل ووجود الجميع حولها لم يعوضها عن فقدان فلذة كبدها، ماذا ستفعل إن كان هناك ما يهددها بأن يفرق ابنه عنها؟ ماذا ينبغي لها أن تفعل وقد ارتكنت آلامها وأوجاعها على أن يخفف صغيره عنها! ماذا تخبرهم؟

هل تخبرهم أنها تترقب لحظة ولادة زوجة ابنها بصبرًا لا يطاق، ترسم كل يومًا صورة لمن تحمله، وتدعو الله أن يكون شبيه ابنها فيعوضها عنه.

صمتها جعل مايا تهز يدها وتعود لسؤالها: ممكن تجاوبيني، أنا سمعت غلط صح يا خالتو! ردي عليا من فضلك؟

رنت منها شمس الباكية، تضمها بحنان وتحاول سحبها خارج الجناح: تعالي معايا يا مايا، أنتِ سمعتي غلط، مامي مش قصدها كده.

أبعدت شمس عنها، وعينيها لا تفارق عيني فريدة الباكية، تنتظر اجابة سؤالها، فحررت لسانها الثقيل تخبرها ببكاء: مفيش حل تاني غير ده يا مايا، على الوحيد اللي هيقدر يحميكِ، إنتِ وابنك محتاجين ليه، عشان كده أخدت القرار ده، إنك تنجوزي ع.

بترت حديثها حينما صرخت فيها مايا بصوت قد بُح تأثرًا بانهيارها: متكمليش، أنا مش قادرة أصدق أنك استسلمتي بالشكل المهين ده، خلاص صدقتي أن ابنك مات ومش راجع! صدقتي وبتقكري تجوزيني لابنك التاني؟

ونقلت بصرها بصعوبة لعلي الذي مازال يوليهم ظهره بصمت: عايزة تجوزيني لأخويا الوحيد يا فريدة هانم!

وعادت تصرخ بجنون: عايزة تجوزيني وجوزي حي! إنتِ جايبة الجبروت ده منين؟

انهارت فريدة كليًا وحررت ما حُشر داخلها: ابني مات يا مايا، سامعة عُمران مات ومش راجع تاني، فوقي من الوهم اللي إنتِ فيه ده.

ضمها أحمد وسحبها للخلف عن مواجهة مايا، وهو يترجاها بدموعٍ انشطرت دون ارادة منه: كفايا يا فريدة، البنت مش متحملة.

استدارت تقابله بنظرة مستنكرة، كأنها تصرخ فيه لرؤية وجعها هي الاخرى: ولا أنا متحملة كل اللي بيحصلي ده يا أحمد، مايا لازم تفوق وتفهم إن عُمران لو عايش مستحيل يقبل يعيشنا في العذاب اللي احنا فيه ده، عمران أحن من إنه يسيبنا نموت بالبطيء كده، الحاجة الوحيدة اللي ممكن تعجزه وتخليه بعيد كل المدة دي هي الموت اللي بدأت أقتنع بيه ولازم هي كمان تقتنع بيه وتنفذ اللي أنا بقوله.

وتابعت وهي تتطلع تجاه مايا التي مازالت صامدة بوقوفها قبالتها بينما من خلفها على مسافة بعيدة تضم فاطمة بطنها المسطح وتراقب المشهد بآعين دامعة لا تستوعب ما تراه، فأخر ما تتوقعه أن يتزوج على لمرته الثانية، ومن؟ صديقتها وشقيقتها!: اسمعيني يا ميسان، أنا ربيتك زي شمس بنتي بالظبط، وطول عمري بدور على مصلحتك، زمان واجهت ابني بكل قوتي عشان أحمي حبك، ودلوقتي جوازك من على هيحميكِ إنتِ واللي في بطنك.

انتقلت مايا من محل وقوفها، بخطوات بطيئة، حتى توقفت قبالة فريدة التي يحاوطها أحمد بذراعيه ومازال يلتصق بها، خطفت نظرة ساخرة لأحمد الذي طالعها باستغراب، وعادت تتمعن بآعين فريدة التي تحاول هي الآخرى فهم ما تود فعله، حتى ترنحت كلماتها لتقسم قلب فريدة: هو إنك تعيشيني نفس اللي عيشتيه قبل كده ده بتسميه حب! زمان أنتِ اتجبرتي تتجوزي أخو الشخص اللي بتحبيه، وقبلتي بالحياة اللي عيشتها، لكن مش أنا الست اللي مخلوق يقدر يجبرها على حاجة مش عايزاها يا فريدة هانم!

اهتزت فريدة غضبًا بين ذراعي أحمد، لقد مسها خنجر مايا باجتيازٍ، بينما تستكمل قائلة: ولو كلامك صح وجوزي مات هعيش مخلصة ليه لأخر نفس خارج مني، وصدقيني لو سمعتك بتقولي كده تاني هحرمك من حفيدك العمر كله، واعتبري إنك دفنتي بنتك مايا جنب ابنك اللي شايفاه خلاص مات ومش راجع.

رفعت كفها لتهوى على خدها بكل قوة وهي تصرخ فيها: اخرسي، إنتِ ازاي تتجرأي وتكلميني بالشكل ده، إنتِ فاكرة أني هسكت على وقاحتك، قولتلك إنتي بنتي يعني لما تقللي احترامي هرفع ايدي عليكي وهعرف ازاي أربيكِ من تاني!

أمسك على كف يدها قبل أن تمس وجه مايا، وهدر بهدوءٍ يخفي تعبه الشديد من خلفه: فريدة هانم المهزلة دي لازم تقف وفورًا، كفايا بقى، اللي بتقوليه ده مش هيحصل، ولو خايفة على ابن عُمران ومراته فأنا أفديهم بروحي لو تطلب الامر، أنا عليا مسؤوليات تجاههم، هنفذها كلها بدون جواز.

تطلعت له بنظرة غاضبة، بينما تعود ببصرها تجاه مايا التي تتطلع لها بعناد وشراهة، ثم قالت: هتتجوزها غصب عنك وعنها يا علي، والا وأقسم بالله هسيبلكم البيت كله ومحدش هيقدر يوصلي، هروح زي ما راح عُمران، أنا خلاص تعبت ومش متحملة كل التهديدات دي.

وتركتهم وغادرت بينهما تنساب مايا خلف لفظ تهديدات فبماذا تقصد؟
ولكن ما حدث لها بتلك الاحداث الغير متوقعه بالمرة جعلها لا تود أن تستهلك تفكيرها بشيء، سوى الفرار من هنا، هي الأحق بالعلم بأن فريدة ستنفذ ما قالته دون أن يتمكن أي أحدٌ من إيقافها.

اقترب على منها وقال بحزنٍ: مايا أنا بعتذرلك على الكلام اللي قالته فريدة هانم وآ.

أشارت بكفها توقفه عن استكمال حديثه، ورددت بحزمٍ وكره شديد: من اللحظة دي مش عايزة أشوفك جنبي بأي شكل من الاشكال، الظاهر إن صورة فريدة هانم اكتملت بوجودك جنبي طول الفترة اللي فاتت، فأوعى تقرب من مكان أكون فيه.

وتركته وغادرت من الجناح بينما شمس تلاحقها، اختار على أقرب مقعد له، يحرر جسده باهمالٍ على سطحه، يشعر بأنه سيفقد الوعي بين لحظة والآخرى.

حانت منه نظرة جانبية تجاه زوجته التي تتطلع للفراغ ودموعها تنهمر في صمتٍ تام، تشعر وكأن جسدها قد تحجر بمحل جلوسها، وبصعوبة تحرك رأسها تجاه علي، وجدته يستند على ساقيه بجسده العلوي، رأسه مطموس أرضًا، يحاول أن يستمد كل القوة الهادرة عنه ليضمد جرح زوجته، ولكن كعادته يتناسى جرحه الغائر بين محيط صدره، وبينما ينهض من محله حتى يتجه لها، أحاطه الدوار الشديد وسقط على المقعد بعنف جعل فاطمة تهرع إليه وهي تناديه بألمٍ: علي!

انحنت قبالته تحاول رفع رأسه للاعلى عن ساقيه، مال على كتفها وهمس بضعفٍ: مش قادر يا فطيمة، كل ده كتير وخارج عن مقدرتي!

تساقطت دموعها وهي تراه يميل عليها، أزاحت دموعها وجلست على مسند المقعد الجانبي، تسمح لرأسه أن يميل على ساقيها، بينما تمرر يدها على رأسه، وبصعوبة تمكنت من الحديث: لو جوازك منها فيه حماية ليها ولابنها من شر ابوها، اتجوزها يا علي.

رفع رأسه عن ساقيها لها، يطالعها بدهشةٍ، بينما يحرر صوته المكبوت خلف أنفاسه العالية: بتقولي أيه يا فطيمة؟ مايا أختي متنفعنيش بأي شكل، عايزاني أقول أيه لعمران لما يرجع؟

تمعنت برماديتاه المتألمتان بينما تجاهد لسؤاله: على أنت لسه عندك أمل أنه يرجع؟

شرد بسؤالها قليلًا لقد مضى شهرًا كاملًا ولم يعود شقيقه، شهرًا كان أصعب عليه من الموت، عاد يتطلع لعينيها وقد سقطت دموعه الآن: لو الأمل ده اتقتل جوايا هموت يا فاطمة! أنا بوهم نفسي إنه عايش مع إن كل حاجة بتأكدلي إنه مات، أنا هنا في البيت ميت من وجعي لما بشوف ماما وشمس ومايا، وبره البيت لما بخرج عشان أتنفس شوية بموت ألف مرة وأنا شايف أصحابه بيتمسحوا فيا عشان يحسوا بوجوده! كل شيء حوليا بيطالبني برجوعه، كل شخص أتعامل معاه وشاف منه شهامة أو خير، عنيه بتسألني عنه قبل لسانه، وأنا عاجز ومش قادر أقولهم إني حتى معرفش لأخويا قبر أزوره فيه!

وعاد يتمدد على ساقيها وهي يبكي بانهيارٍ: كلهم بيزدوا من وجعي ومحدش حاسس أنا بمر بأيه، انتهت الحروب بره ودلوقتي دور حرب فريدة هانم!

ضمته فاطمة وهمست له: إرتاح يا علي، أنا جنبك ومش هسيبك، ومعاك في أي قرار هتأخده.

جذب يدها يلثم باطنها بحبٍ، وعشقًا، بينما بداخله يهتف في وعيدٍ: الظاهر إن طيبتي مش هتجيب نتيجة معاك يا عثمان ولازملك ضربة تهد حيلك، عشان تحس أني أسوء من عُمران!

استمتع عُمران بقضاء أغلب وقته برفقة موسى، اندمج معه بالحديث سريعًا، وها هو يشاركه بتناول طعام الغداء، داخل الورشة الصغيرة، تناول عُمران من طبق الكشري المصري، وسأله بايجاز: تعرف حد نستبدل منه الدولارات.

رد عليه موسى وهو يلتهم العلبة الثانية من أمامه: تقصد تفكها يعني، عمومًا آه يا سيدي أعرف، بس امسك ايدك شوية ومتفكش المبلغ ده كله على اللبس!

وتمتم وهو يراقب طريقة طعامه الراقية: أما أنت بني آدم عجيب!

منحه عُمران نظرة ساخرة وقال: وهي طريقتك المقززة دي اللي طبيعية يعني؟

أكد له وهو يقرب الطبق إليه بينما يتلقف بالملعقة كمية كبيرة: طبيعية أوي يا عم، أنت اللي ابن ذوات خد مني ومتراجعش ورايا.

وضع الملعقة من يده، وقال: طيب قوم يلا نروح نغير الفلوس، ويا ريت تشوف صابر معانا.

سحب المنشفة يجفف يده وهو يخبره: هكلمه وأحنا على الطريق يقابلنا في المحل هناك.

حرك رأسه وانتظر حتى خرج فاتبعه للخارج، فإذت بموسى يستدير وهو يتمتم بسخط: يادي النيلة، هو يوم مش باينله ملامح.

راقب عُمران ما يقصده بحديثه، فاذا بفتاة تقترب منه وتناديه بضجر: يا اسطا موسى، يا اسطا!

ابتسم عُمران وهو يراقب ما يحدث باستمتاعٍ، بينما يدعي موسى انشغاله بمسح السيارة التي تقابله، فمال إليه عمران يسأله بحاجب مرفوع: طليقتك؟

أجابه بنبرة شبه مغتاظة: لا دي عملي الاسود بعيد عنك وعن السامعين.

وما كاد بالحديث، فاذا بها تقترب إليه وتناديه بغضب: لا بقى ده أنت محتاج تكشف على ودانك، كل ما أجيلك أناديلك تعمل أنك أطرش ومش سامع!

القى موسى المنشفة واستدار يهتف بنزق: خير يا أبلة، حد من الابلوات اللي معاكي في المدرسة عربيته عطلت ومش لاقيلها بطارية، ولا شوقك هفك لعربية المرحوم؟

عبث عُمران بدهشة من طريقة حوارهما السوقي، بينما تجيبه الفتاة بحدة: مش هرد عليك، هو اللي زيك ده يترد عليه بأيه، عمومًا أنا كنت جاية أفكرك إن قمر عندها امتحان بكره عندي، فلو مجتش مذكرة كويس هاجي بعد بكره أشد في خناقك، ياريت تفوق شوية لبنتك ودروسها بدل طولة لسانك ده!

قضم شفتيه السفليه بغيظ منها، فسحب المفتاح الحديدي المجاور لعمران واتجه إليها، فاذا بقوة خشنة تسحبه للخلف، ليتفاجئ بقبضة يد عمران تعتصر كفه بقوة ألمته وجعلته يصيح بوجعٍ: ايدي يا خواجة!

سحب عمران ما بيده ببراعة، وصاح فيه بذهول: إنت مش بس بني آدم مقزز إنت طور وطايح ومفيش عندك أدنى رقي بالتعامل مع الجنس الناعم.

وتابع وهو يقف قبالته يمنعه عن صباح التي تشاهد ما يحدث عن كثب: هي المرجالة أنك تمد ايدك على البنات يا آآ يا أسطى!

ضحك مستهزءًا: وهي دي بنات! دي عقربة بسبع تلسنة.

صاحت فيه صباح بغضب: عقربة لما تنهشك حي يا بعيد.

أبعد ذراع عمران وراح يحذرها: خديلك راجع عني يا أبلة، هقل بيكِ صدقيني.

وتابع باستنكار: . وبعدين بنتي وأنا حر فيها، مش عايز أعلمها الانجليزي يا ستي أنا حر!

صاحت فيه متحدية اياه: لا مش حر، أنا مربياها معاك وليا فيها زي ما ليك، وبعدين لما أنت مش أد المسؤولية بتتجوز ليه! ويا ريتك عندك ذوق، ده أنت رافع مناخيرك لسابع سما لحد ما ربنا اداك من وسع، ووريتك النجوم في عز الدهر.

ابتسم عُمران بخبث وقد تحلل له غيرتها وحبها الصريح لذاك الأبله، الذي يود أن يبعد ذراعي عُمران عنه ليتمكن منها، بينما يصيح: وأنت مالك بيا يا أبله، أن شالله اتجوز ألف، شغاله بالك بحالي ليه؟

لكمه عمران بقوة أسقطته أرضًا داخل ورشته واتجه يقابل صباح بينما يتابعه موسى بصدمة، وهو يخبرها برزانة: انا بعتذر لحضرتك على أسلوبه الفظ ده، واوعدك إن قمر هتيجي بكره مذاكرة كل دروسها أن شاء الله.

منحته ابتسامة هادئة وقالت برقة على غير عادتها: مفيش داعي للاعتذار يا آآ، هو حضرتك اسمك أيه وتقرب للاسطا أيه؟

صاح موسى بغضب وهو ينفض ثيابه: وإنتِ مالك يا أبلة، هتطلعيله بطاقة؟

تجاهلته عن عمدٍ وقالت: أكيد لازم اعرف لان بعد كده التعامل هيكون مع الشخص المحترم ده مش معاك يا دبش.

ابتسم عُمران وقال بخفة: انا صديق الدبش ده، وإسمي حاليًا معرفوش بس تقدري تناديلي خواجة زي ما الدبش بيناديلي.

اتجه له موسى يصيح بعنفوان: دبش، دبش ما تخف من الفاظ الابلة أم لسان طويل دي!

دفعه للخلف بحركة أضحكت صباح، وقد راق لها رؤية شخص يفوقه قوة وتحكمًا به، بينما يشير لها عمران بتهذبٍ: اتفضلي حضرتك عشان متتعطليش وانا على وعدي.

أشارت له بخفة، وقبل أن تصعد للدرج عادت تناديه: خواجة.

استدار عُمران لها بتعجب، فقالت وهي تخطف نظرة لموسى الذي يكاد ينصهر من فرط الغضب: بلغه أن قمر عندي، لما يخلص ويطلع يرن الجرس وأنا هطلعها ليه.

هز رأسه بينما تغادر للاعلى بخفة، استدار عُمران يقابل ذلك الذي بتطلع له بغضب، فابتسم وهو يسأله بخبث: مرتبطة الأبلة دي يا دبش؟

احتقنت معالمه بغضب شديد، بينما يشير للفتى أن يتوالى المهام عنه، واتجه يقابله في وقوفه قائلًا بضجر: والدبلة اللي في ايدك دي وضعها أيه؟

زوى حاجبيه ببراءة خبيثة: مش أنا مسلم، يبقى مثنى وثلاث ورباع!

ربت على كتفه بقوة عنيفة: جايز لما ترجعلك الذاكرة تلاقيهم سبعة وينفجروا في وشك إن شاء الله، امشي خلينا نلحق حمص.

ضحك وهو يشير له: على حد علمي أنك مش طايقها، بس أنا ليه شامم ريحة شياط، هو إنت بتولع ولا أيه يا أسطى؟

استدار إليه يخبره بسخرية: شياط! لاااا آنت فهمت غلط، أنا توبت عن صنف الحريم كله.

استرعى عمران حديثها، فتساءل بجدية: هي ليه كانت بتقولك إنك باصص فوق؟

ابتسم بوجعٍ وهو يخطو جواره حتى يشاركه بالحديث: قصدها جوازتي من أم قمر، أصلي اتشديت للعود الأمريكاني، وقولت أجرب حظي، بس طلع فقر بعد كده.

ضيق رماديتاه بضيق: مش فاهم كلامك!

قال يوضح له: اتجوزت واحدة بنت ذوات، كانت بتعمل عندي عربيتها وعجبتها وعجبتني، زي ما تقول اتشدينا لبعض، هي أول مرة تشوف واحد من الاحياء الشعبية وأنا كذلك، اتشديت ليها وكنت فاكرها حاجة مختلفة عن بنات الحتة، كتبت عليها واتجوزتها، بس بعد كده اكتشفت إني كنت غلط لما قررت أتجوزها.

اهتم عُمران لحديثه، وراح يتساءل: ليه؟

توقف عن استكمال طريقه وواجه عمران يجيبه وهو يبتلع غصته: حنت لعيشة العز في فيلا أبوها، ومقدرتش تعيش معايا يا خواجة، اتضح إن كلام الحب والغرام اللي كانت بتقوله كان كله متفبرك، وفوق إهانتها ليا كانت بتاخد حبوب لمواخذة لمنع الجمل، بس ربك لما يريد بقى، حملت وكانت عايزة تسقط نفسها عشان خايفة ان الحمل يبوظ جسمها البلاستك، بس على مين حبستها في الشقة لحد ما ولدت غصب عنها وعن شنب ابوها، وبعد كده رميتها زي الكلبة.

واضاف وهو يطالعه بنظرة حزن تظهر لمرتها الاولى: كنت فاكر إن غريزة الامومة هتنقح عليها وهتجيلي جري تبوس رجليا عشان تشوف بنتها، معملتهاش ولا مرة، اتجوزت واد من العيال التوتو دول وسافرت معاه دبي، وزي مانت شايف انا بقيت الاب والأم لقمر بنتي.

أدمعت عيني عُمران تأثرًا به، بل صاح له باتسامة جذابة: اللي عيشته في حياتك كان مقسوم ومفروض عليك يا موسى، وبالرغم من إنه ممكن يكون جانب اسود من ذكرياتك بس هتلاقي الجانب الأبيض يتلخص في قمر بنتك، وعلى فكرة أنتأب عظيم وأنا باللي سمعته ده زدت فخر واحترام ليك، واحد غيرك كان اتجوز وعاش حياته ولا همه مشاعر بنته، لكن إنت معملتش كده وفضلتها حتى على نفسك، حاربت من وهي في بطن مامتها لحد ما اتولدت للدنيا، أنت كنت محارب وأب يا موسى فأوعى تزعل أبدًا.

رمش بعدم استيعاب لما يستمع إليه، كان يظن ما فعله أمرًا عاديًا، حتى سلط له عمران على الجانب الايجابي بشخصيته المظلمة، بينما يمسد على كتفه وقال يمازحه: بس ده مش مبرر يخليك تتدنى في معاملة الستات بالشكل ده، موسى انا قرفت من طريقتك مع المس صباح! حسيت إني شوية وهمد إيدي عليك.

احتقنت معالمه، وقال وهو يتطلع لاصابته: ودي هتعملها لوحدك ولا هتشوف حد يساعدك؟

منحه نظرة باردة واستكمل طريقه مبتسمًا بخبث: إسأل أمك!

واستدار يسأله باهتمام مضحك: قال قولي يا موسى هو إنت الحيلة ولا ماما مخلفة دبش غيرك؟

كبت ضحكاته وقال يجيبه: الله يرحمها ملحقتش تجيب غيري، جابتني واتكلت على طول.

ربت على كتفه وهو يهتف: ربنا يرحمها ويصبر قلبك، بس خد بالك من لسانك مع المس بعد كده، لتسحبك من لسان أمك ده وتتدفن جنب الحاجة بدري بدري.

توالت ضحكات موسى، وردد بعدم تصديق: أنت خواجة من العتبة يالا؟

هز كتفيه في حيرة، وخطى جواره، فقال موسى: أنت بني آدم محير، مش راسيلي معاك على بر، بس بنسبة كبيرة انت ابن ذوات، أصلي خبرة بعد معاشرة العقربة اللي اتجوزتها.

ضحك عمران على حديثه، وسأله بسخريةٍ: هو إنت كنت مقعدها على السطوح ومنتظر منها إنها تعيش معاك؟ مع إن على ما أسمع إن البيت كله بتاعك؟

هز رأسه نافيًا، وقال يوضح له: لا كنت مقعدها في الشقة اللي قاعد فيها صابر دلوقتي مع مراته الحرباية، انا اول ما عرفت هو عايز يتجوز مين اديته مفتاح الشقة وش، وطلعت انا وقمر عيشنا على السطح، حولته لمملكة وبقى احسن ميت مرة من الشقة العكرة دي، تحس إنها اتصممت للافاعي، عقبال ما يغورها هي كمان.

توقف عن الخطى وسأله باسترابة: أيه كل الكره ده! شكل الجوازة مش على هواك؟

ضحك وهو يهتف باعجاب: انت ذكي اوي على فكرة، بتلقطها وهي طايره، هنكمل كلامنا بعدين، احنا خلاص وصلنا.

راقب عُمران المكان من أمامه بدهشة، واستدار يخبره: وصلنا فين؟ دي جزارة يا موسى؟

هز رأسه بخفة، ورفع صوته عاليًا: يا حمص، واد يا حمص.

زوى حاجبيه بدهشة مما يحدث، بينهما يهسهس: حمص!

وقف يتابع العمل في اليوم الأول، بينما يميل بذكرياته لرفيقه، انسحب جمال من اجواء العمل الذي يضج بموقع المصنع، واختار الجلوس بسيارته، قبل ان يرى أحدٌ دمعاته، بينما يميل على دريكسيون السيارة وهو يهمس بانهيار: يا رب اجمعني بيه يا رب.

وسحب هاتفه يحرر الاتصال بيوسف وما ان استمع لصوته حتى قال: عملت أيه في الموضوع اللي كلمتك عنه امبارح يا يوسف؟

انغمس الحزن بصوت يوسف وهو يجيبه: كلمت السمسار وطلبت منه يدور على أرضية بالمساحة اللي إنت عايزها، بس قولي يا جمال، عايزة الارضية دي بالسرعة دي ليه؟ وليه بعت شقتك في زايد؟ انا مش قادر افهمك ولا أفهم دماغك!

رد عليه وهو يزيح دموعه: مفيش يا يوسف، انا كده كده مش مستفاد بالشقة بحاجة، صبا قاعدة في الشقة اللي اتجوزنا فيها مع أمي، ومبسوطة فيها، فقولت ملهاش لزمة يعني.

لم يتقبل اجابته، لانها غير منطقية، أو بالمعنى الحرفي أجاب عن نصف سؤاله، فعاد يكرره بشكلٍ آخر: طيب عايز الارضية بالمساحة دي كلها ليه؟ جمال خليك صريح معايا وبطل تلف وتدور عليا.

تنهد باستسلامٍ من إخفاء الأمر وقال: هعملها مسجد لعمران يا يوسف، إرتحت!

تحشر صوته بالبكاء، حتى أنه لم يستطيع الحديث، بل تحررت شهقاته واندمجت معها شهقات بكاء جمال، فاذا بيوسف يردد بصوت مكتوم ببكائه: ربنا يجعله في ميزان حسناته وحسناتك يا حبيبي، لو محتاج أي حاجة أنا معايا مبلغ في حسابي هنا في مصر، قولي وهحولك على طول يا جمال.

رد عليه وهو يجاهد الا يبكي: المهم بس تكلم السمسار ده، أنا كنت أقدر ألاقي حتة أرض بسهولة بس مشغول جدا في الشغل ومعنديش وقت لذا هعتمد عليك يا يوسف.

اجابه بود: متقلقش هزن عليه ليل نهار وقريب هجيبلك منه أخبار تسعد قلبك يا جيمي.

أغلق جمال الهاتف، وقاد سيارته للطريق السريع، حتى توقف أمام نفس الكوبري الغير مكتمل، بنفس ذات المحل الذي فقد فيه رفيق روحه، هبط عن سيارته واتجه يستند على مقدمتها، بينما تجوب عينيه المكان وتطلق دموع دون توقف، بينما يموج الألم بداخله، كالوحش المحتبس داخل قفصًا من حديد.

ترك المياه تتغلغل داخل خصلات شعره الطويل، يتمنى من داخل قلبه أن تتمكن من اطفاء النيران المشتعلة داخل صدره.

سحب علي المنشفة الطويلة، يضعها من حوله، وخرج للجناح يسرع للهاتف الخاص بالغرفة الخاصة به، يحاول أن يمنعه من الرنين حتى لا تنزعج فاطمة التي غفلت للتو من شدة إرهاقها، فلقد فجأته اليوم بعد أن أراد أن يكون داعمها ومطيب جرحها الذي تسببت به والدته، فجأته هي وطيبت جرحه بل ولم تبدي أي من حزنها وجعها الشديد لما حدث اليوم، تفهمت كل ما يعاني منه وأرادت الا تثقل من همومه.

رفع على السماعة، ليتفاجئ بالحارس يخبره: دكتور علي، مايا هانم لسه خارجة من شوية مع السواق الخاص بتاعها، وكان معاها شنطة سفر صغيرة.

ضغط على الهاتف بقوة، مال للأمام فجأة، وبصعوبة استحضر صوته: اتصل بيه حالًا إساله وصلها فين بالظبط، وابعتلي اللوكيشن.

قالها وأغلق الهاتف، بينما يركض لخزانته، جذب أقرب بنطال وقميصًا أسود، ثم طرح من فوقه جاكيته، وسحب أغراضه الشخصية بينما يركض لسيارته على الفور.

تركهما بداخل المحل، وخرج على الفور قبل أن يُصاب بذبحة صدرية من الملابس المبالغ بها، خرج صابر يبحث عنه وما ان وجده بالخارج، أشار لموسى فخرج إليه يهتف في حنق: ده سادس محل ملابس ندخله وميعجيش جنابك حاجة، لا إنت تحط هنا وتسيبك من رافعة الحاجب دي.

أشار له بضيق شديد: أيه الاذواق دي يا بني آدم! ده أغلب اللبس عليه malabis astrs (استرس ملابس) مبالغ فيه ومتنفعش للرجالة بأي شكل من الأشكال!

ضحك صابر وقال وهو يحاول أن يهدأ موسى: طيب بقولك أيه يا موسى، ما ناخده المول الفخم اللي بنجيب منه طقم العيد كل سنة لقمر، كنت لامح هناك كام محل رجالي فيهم لبس كويس.

رد عليه وهو يضع يديه بجيوب سرواله: ياض ده مش حاطط هنا هيصرف كل فلوسه على اللبس، وهناك أقل طقم معدي الألفين جنيه.

صاح فيه عُمران بغضب: وإنت مال أمك أنت هتدفعلي من جيبك! مش كفايا واخدني لواحد شبه رد السجون يغيرلي الفلوس وكمان إسمه حمص!

انهار صابر، من الضحك، وقال يشاكسه: هو فعلا رد سجون بس طيب وقلبه أبيض، ده حتى هو اللي نقلك معايا من المستشفى على الحي على طول، بس مرضاش ينزلك معايا قالي اتصرف وشوف حد ينزل معاك القتيل ده.

افرجت عينيه عن وميضٍ خطير وهمس بوعيد: وماله الجزارة بتاعته قريبة من ورشة موسى، بكره الصبح هروح بنفسي أشكره، لازم واجبه يوصله كامل.

تمتم موسى بانزعاج وهو يحاول أن يوقف سياىة أجرة مجددًا: طيب يلا يا عم منك ليه، واد يا صابر نبه عليه ميشتريش غير طقمين اتنين بس، كويس أصلًا إن الواد حمص مكنش معاه يغير الدولارات كلها، مع إني قلقان على ال12 ألف اللي معاه، ده مش شايل هم بكره نهائي.

ضحك عمران وأجابه بمكر: ما تقلقش عليا لما فلوسي تخلص هنزل أشتغل معاك في الورشة ياسطى.

استدار تجاهه ومنحه نظرة ساخرة ثم قال: هتجر علينا الحتت الناعمة بشكلك ده وأنا مبحبش الصنف الملزق ده، كفايا عليا اصطبحة الأبلة.
وعلى ذكر اسمها راح يهرول من أمامهما: انجزوا في يومكم ده، البت وراها امتحان بكره وإنت وعدتها انك هتذاكرلها، مش ناقصة طولة لسانها دي.

ضحك عُمران وصابر، ولحقوا به حتى صعدوا بإحدى سيارات الاجرة، حتى وصلوا للمول التجاري، ولجوا لاحدى المحلات، ولم يتمكن أحدٌ منهما من أن يقنعوه بطقمين من الملابس كالمتفق عليه، بل انتقى عدد من الملابس المريحة، بالرغم من إنهم لم يحوزوا على اعجابه ولكن الذوق كان مختلف عن المحلات البسيطة بالحي الشعبي، لذا لم يكن أمامه خيارًا آخرًا.

حمل عمران وصابر الأكياس البلاستيكة، وخرجوا من المحل بعد ان أجدى الموظف إعجابه بذوق عمران الراقي باختيار قطع مخالفة للطقم المعلق، فاذا لموسى يجذبه بعنفوان: مش الحمد لله اشتريت اللبس اللي كنت عايزه، لسه داخل عند لبس الحريم ليه؟

انخفضت رماديتاه ببطء ليد موسى التي تتمسك بمعصمه، فرفعها عنه بقلق من نظراته الغريبة، بينما يمضي للداخل بصمتٍ، جعل صابر يكاد ينصهر من فرط كبته للضحك، انقلبت الآية على الساحر وتلقن موسى ما يستحقه، بعدما كان يفرد سلطاته على صابر.

تفاجئوا به ينتقي فساتين وملابس بيتيه لسن لا يليق الا بقمر ابنة موسى، وخاصة حينما اشترى بعض الالعاب الخاصة بالفتيات، وما أن خرج إليهما حتى وجدهما يتطلعان له بنظرات غامضة، فقال مبتسمًا: لا دول مش ليا دول لقمر.

رد عليه موسى بحرج ملموس: مالوش داعي يا خواجة، قمر عندها كل حاجة.

رد عليه بثبات: ولو عندها الدنيا كلها، مش مسمحولي يعني اجبلها هدية؟

اجابه صابر مبتسمًا: قول هدايا مش هدية، بس أنا نفسي معنديش أي مشكلة، شوف الاسطى موسى دماغه تقيلة حبتين.

لكزه موسى بغضب: من كتر معاشرتك للحرباية مراتك لسانك بقى بينقط سم، خف شوية من قعدتك معاها، وإبقى روح عند امك شوية يا صابر.

رسالة مبطنه حملها صابر بوضوح، فامتقعت ملامحه بوضوح لعمران الذي احترم خصوصياتهما ولم يرد أن يتعمق فيما بينهما، بل أشار لهما قائلًا بصدق: أنا تعبت وحاسس بحرقان في جرح كتفي، يلا نمشي.

سحب صابر عينيه الغاضبة عن موسى بصعوبة وقال: عشان مشيت كتير بس، لما هنوصل البيت هغيرلك على الجرح وهتبقى زي الفل بإذن الله.

تفحصت قمر الألعاب والملابس بفرحةٍ، بينما تقفز بالهواء وهي تستعرض الفستان ذو النقوش الهادئة والتصميم الرائع من أمام أبيها وعُمران الذي مدحها: أيه الجمال ده كله يا صغنن، قمراية يا قمر.

ضحكت وركضت صوبه تعانق عنقه بيديها، ومالت تطبع على خده قبلة عميقة: شكرًا أوي على الهدوم الجميلة والعروسة اللي جبتهالي حلوة أوي أوي يا خواجة.

ابتسم لها وقال: فرحان إن الباربي عحبت السينوريتا قمر، ووعد مني المرة الجاية هاخدك معايا تشتري اللعبة اللي على ذوقك أنتِ.

ردت عليه بنبرتها الطفولية: لا عجبتني اللعبة اللي جبتها.

قاطعهما موسى الجالس على الاريكة المنطوية بغرفته الكبيرة، وقال: طيب ادخلي يلا غيري الفستان ليتبهدل، وتعالي بكتبك للخواجة يذاكرك الله يسترك مش ناقصين مشاكل مع أم لسانين.

هزت رأسها وهرولت للداخل بينما يتابع موسى عمران الذي صمت وشرد بخاتم الزواج الذي يحمله بين إصبعيه، ابتسم وقال: لو بتحبك بجد هتستناك.

رفع بصره عن الخاتم وتطلع إليه بنظرة غائمة: الله أعلم، جايز اختفائي طول الفترة دي خلاها تفتكر إني ميت مثلًا!

لمس اختناقه الشديد من صوته المتعب، فنطق بمحبة له: الحنان اللي لمسته منك على بنتي بياكدلي أنك إنسان حنين وقلبك أبيض، وشكلك كده كمان خبرة، ده إنت لفيت البت لدرجة إنها ممكن تتبرى مني وتمشي معاك في أي سكة، حتى الابلة ام لسانين سحبت دبشها وطلعت من سكات، فمتقلقش هتلاقيها مستنياك بصبر كبير، ولو جالها فعلا خبر وفاتك هتفضل مخلصة ليك لحد ما ربنا ينفخ في صورتك والذاكرة ترجعلك.

تلاشت ابتسامته حينما استمع لصوت شجار يأتي من الاسفل، فتساءل عمران باستغراب: أيه الأصوات دي؟

زم شفتيه ساخطًا ونهض يحمل وسادة واحدى الاغطية قائلًا: متاخدش في بالك.

وخرج من الغرفة، يضع الوسادة والغطاء على إحدى الآرائك الخارجية، فخرج له عمران يخبره: ده صوت صابر! باين بيتخانق مع حد.

هز رأسه وأكد له: متقلقش شوية وهتلقيه طالع، أنا حضرتله المُوكنة بتاعته أهي، كل مرة يتخانق مع مرتاته بيجيب بعضه ويطلع يلقف الكنبة في حضنه وينام.

رمش بعدم استيعاب لما قال، وهدر: مرتاته! ليه هو متجوز كام واحدة؟

ضحك وهو يشير له: اتنين بعد عنك، واحدة زي النسمة وواحدة حرباية اللي سكنتها في شقة العقارب أنت نسيت ولا أيه؟

وأضاف بجدية تامة: انا مكنتش باخد منه ايجار الشقة اللي فيها أمه ومراته الاولى بس لما اتجوز الحرباية دي باخد منه إيجار الشقة مضاعف، عشان يتراجع عن اللي في دماغه ويطلق العقربة دي، ولما بدبح كل عيد بطلع لأمه كيلو لحمة ومراته التانية دي مبدهاش ولا حتة، ودوس على كده إشارات عشان يفهم ويطلقها بس للاسف لسه صامد.

صعق مما استمع إليه، وما كاد بالحديث حتى وجد صابر يطل من امامه بوجه ممتعض، ويتجه للاريكة يفرد غطائها وهو يدمدم بكلماتٍ على ما بدى إنه كان يلوم ذاته لما وضع به نفسه.

ربت موسى على كتفه وقال: سيبك منه مش هيتكلم مع حد غير بكره الصبح هيكون روق ومزاجه بقى عنب، ادخل راجع للبت لغة الخواجات دي، واجتهد معاها عشان ترحمني من أم لسانين.

خرج عن صمته أخيرًا: هو إنت مش عايز تريح نفسك ليه وتصارحها أنك أمي مالكش في القراية ولا الكتابة؟

برق في حدة وصاح: على جثتي إن الابلة دي تشمت فيا، على أخر الزمن أم لسانين تمسكلي زلة!

وإذا بها تطل من أمامه، فارتعب واختبئ خلف عُمران الذي كاد أن يضحك لولا أن لمح دموعها المنهمرة على وجهها، وصراخها المستنجد به: إلحقني يا أسطى موسى، ماما تعبانه أوي ومش لاقية صابر تحت.

نهض صابر عن الاريكة وهرع إليها متسائلًا: خير يا ابلة صباح، مالها الحاجة؟

ردت ببكاء وهي تحاول أن تهدأ من روعها: معرفش تعبانه ووشها أصفر، ومش قادرة تاخد نفسها، بالله عليك تشوف حمص نوديها المستشفى.

ركض للاسفل وهو يخبرها: هناديله وانتي جهزيها بسرعة.

تحرك موسى وعمران برفقتها للاسفل، يعاونوها بحمل المرأة للسيارة، التي قادها بهم حمص للمستشفى، والتي اقرت بأنها من الضروري السفر بها لمشفى بالقاهرة متخصص بالغسيل الكلوي، فلم يكن أمامهم أي خيارات أخرى الا بالسفر، ومع رفض حمص بالذهاب للقاهرة لانشغاله بالعمل، سلم مفتاح السيارة لموسى، فقادها ولجواره عمران الذي أصر بالذهاب رفقة موسى، وكانت قمر تجلس بالخلف جوار صباح ووالدتها، بينما بقى صابر لعمله الحكومي الصباحي.

بحثت عينيه عنها من بين زحام المسافرين بالمطار، وبعد معاناة وجدها تجلس على احدى المقاعد المعدنية، تضم بطنها المنتفخ بيدها، وعينيها يملأها البكاء والحسرة، كان يعلم بأن حالتها ستزداد سوءًا بعدما استمعت لحديث والدته، ولكنه لم يتخيل أنها ستفر هاربة وهي بتلك الحالة.

تمهل بخطاه إليها، حتى جاورها بجلستها، لثانِ مرة يبدو عاجزًا عن إيجاد الكلمات المناسبة، استدار يطالعها بنظرةٍ مشفقة، وقال بنبرة سكنها الألم كسهم يمزق وريده: قدرتي تعمليها يا مايا!

استدارت إليه ولم تبدو أنها متفاجئة بوجوده، بل سددت أكثر من شرارة كادت بأن تحرقه بمحله، قبل أن تصيح بصوتها المبحوح: إنت إزاي تديها الفرصة إنها تقولك كده؟ أنا ولأول مرة بستحقرك يا علي!

أغلق عينيه يعتصرهما وجعًا، وبصعوبة ازدرد حديثه: مايا أنا مش هدافع عن نفسي، أنا أكتر واحد موجوع وعايش معاكم جسم من غير روح، روحي دفنوها مع عُمران.

وتابع وهو يتطلع لها بعينين غائرة بالدموع: انا موفقتهاش ولا عمري هوافق فريدة هانم بقرارها ده، مش لانك بنت خالتي وأختي، لإنك كنتِ ومازالتِ مرات أخويا اللي مقدرش في يوم أرفع عيني ليها، إنتِ محرمة عليا من اللحظة اللي أتكتب فيها اسمك جنب اسم عُمران، وكلامي مش هيفرق سواء كان حي أو ميت!

مجرد سماعها لتلك الكلمة صرخت بوجهه كالبركان: عُمران ممتش عُمران عايش، وهيرجع.

وتابعت ببكاءٍ جعل الجميع يلتفون من حولهما للاستكشاف عن أمرهما المشكوك به: وأول ما هيرجع هقوله على قرار فريدة هانم بجوازي منك يا علي، هيأخدلي حقي منها ومنك إنت كمان.

نهض عن المقعد يدنو إليه بقلقٍ من أن تسوء حالتها: طيب ممكن تهدي ونخرج نشرب حاجه، أنا موفقتهاش ومستحيل أوافق على قرارها ده يا مايا انا بحاول أهديها حالتها صعبة ولو عرفت بهروبك هتتعب أكتر، أرجوكِ ترجعي معايا وأنا أوعدك إنك مش هتسمعي منها الكلام ده تاني أبدًا.

تراجعت خطوتين للخلف وهدرت بعنف: مش هرجع معاك يا علي، أنا هسافر تركيا عند بابا، ومفيش حاجه هترجعني عن قراري.

كان يود أن يخبرها بما فعله والدها، ود لو أن يخبرها ان ما وصلوا إليه الآن كان بسببه هو، اقترب منها على بحذر، وقال يكسب عاطفتها: مايا قرارك ده حكم بالموت على فريدة هانم، اللي في بطنك اللي مصبرها على فقدان عُمران، أرجوكِ متعمليش فيها كده، هي متستحقش منك ده.

وأضاف برجاءٍ طفيف: متقسيش عليها بالشكل ده، دي مهما كان هي اللي ربيتك.

صاحت بعنفوانٍ: هي اللي ابتدت بالقسوة لما طلبت منك تعمل ده، مستكترة عليا الانتظار، مستكترة عليا أستناه! عُمران هيرجع سامع يا علي، عُمران راجعلي ومش هيتخلى عني ولا عن ابنه!

تهاوت دموعه الآن وباتت واضحة، ذاك القوي فقد حصون ثباته واحدًا تلو الاخر، وبحزنه العميق همس: دي دعوتي الوحيدة كل صلاة، إنه يكون حي ويرجع، الايام بتعدي عليا زي السكينه التالمة اللي بتنازع في قطع رقبتي، لا منها بتديني الخلاص ولا الرأفة بحالي، مفيش حاجة بالكون كله ممكن تهون عليا بعده، ده ابني اللي مخلفتهوش يا مايا.

قال كلماته الاخيرة وتحرك كالصنم المختزل، يلقي جسده المشلول على المقعد المعدني من جديد، يخفي وجهه خلف كفيه، ويترك العنان لدموعه، ومن بعد المسافات تطالعه مايا بصدمة وألمًا، وببطءٍ تحركت إليه، تجاور محل جلوسه، وتوزع نظراته إليه وإلى موضع قلبها النابض.

رفعت مايا يدها على ذراعه، ورددت برعشة صوتها المذبوح: عُمران عايش يا علي، والله العظيم عايش!

وتابعت بشهقات اختزلت دموعها: بس أنا خايفة يتأخر وميلحقش ولادة إبنه! تفتكر ممكن يتخلى عني في وقت زي ده؟

وبنظرة رجاءًا قالت: ممكن تكون إنت وفاطيما جانبي لحد ما يرجع؟

استدار لها وقال بصوته المبحوح: قولتلك قبل كده أن أخوكِ وجنبك في كل وقت هتحتاجيني بيه.

سقطت دمعاتها بالرغم من أنها تبتسم له الإن، ورددت: طيب ليه فريدة هانم عايزة تسحب الحق ده مني يا علي، انا اترعبت من كلامها وخوفت من علاقتي بيك، أنا مش شايفاك غير أخويا الكبير، والملجأ ليا ولعمران ولكل فرد في العيلة لأي مشكلة تقابلنا، ليه فريدة هانم عايزة تعمل فيا كده؟

تنهد وهو يسحب أكبر قدر متمكن من الهواء، بينما يميل لها وهو يخبرها: غصب عنها، انجبرت تعمل كده عشان توقف باباكِ عن اللي في دماغه.

رمشت بعدم استيعاب وقد عاد لها كلمة التهديدات التي نطقتها فريدة مسبقًا، فسألته بفضول: توقفه عن أيه بالظبط يا علي؟

راقب انفعالاتها جيدًا بعيني طبيب، وحينما درس حالتها قال: مايا عثمان باشا مش في تركيا، موجود في مصر، من وقت حادث عمران، ومصمم إنه بعد ولادتك يجوزك في اقرب وقت، عشان كده فريدة هانم فكرت في جوازنا بعد ولادتك على طول، عشان تحميكي منه.

انقبض قلبها في هلعٍ، بل وتحلت بالصمت لدقائق تستعيد تفكيرها بحديثه، ثم عادت تتطلع له ببسمة ألم: موجود هنا في مصر! ده أنا مشوفتوش ولا مرة، مفكرش يجيني ويكون جنبي في الظروف اللي بمر بيها، وكمان عايز يجوزني مرة واحدة! ويا ترى هيبعني المرادي لمين؟ رجل أعمال ولا مهندس بيشتغل في المعمار وهيخدم مصالحه زي ما كان بيستغل عمران؟

وهزت رأسها في سخط: لا وأنا اللي كنت هسافر ليه؟

خشي على عليها، فردد بصوته الرخيم: مش هيقدر يعمل كده، أنا حذرته قبل كده وهو تجاهل تحذيراتي، دلوقتي هيشوف بعينه نتيجة استهتاره بيا وباللي أقدر أعمله.

رفعت عينيها إليه ومازالت يدها تضم بطنها بخوفٍ: أنا خايفة يأذي اللي في بطني عشان يجبرني على اللي عايزه يا علي.

احتبس غضبه الجحيمي، وقال بحنان يحاول سحبها خارج دائرتها السوداء: ده على جثتي، مش هيلحق يفكر أساسًا، الله يعينه على اللي مستانيه مني.

وأشار لها وهو يستقيم بوقفته: يلا قومي نرجع قبل ما حد من القصر يحس بحاجة.

رفعت حقيبة يدها على كتفها واتبعته للخارج، وقفت تراقبه وهو يضع حقائبها بسيارته، وفتح لها الباب، وزعت نظراتها بينه وبين السيارة ثم قالت برجاء: على أنا مش عايزة أرجع القصر، لو ممكن توديني الكمبوند بتاع أنكل أحمد، انا هرتاح هناك أكتر، أنا مش حابة الجناح، عمران مقضاش فيه ولا ليلة واحدة، أنا هناك هكون مرتاحة، وخصوصًا بعد مشكلتي مع فريدة هانم...

كاد بأن يتحدث، ولكنها استوقفته قائلة: عشان خاطري يا علي، ومتقلقش مش ههرب تاني، أنا مبقاش ليا حد غيركم أساسًا.

رد عليها مبتسمًا: لا مش هتعرفي تهربي، لإني انا وفاطمة هنعيش معاكي هناك، ولو عايزة فاطمة بس أنا معنديش مشكلة أتأقلم مع معاناتي ضد فريدة هانم وقرارها المفاجئ ده.

ردت عليه في حبور: لا طبعًا هفرح لو كلكم جيتوا معايا.

زوى حاجبيه بسخرية: مش من شوية كنتِ بتستحقريني ومن شوية قبلها كنتِ بتقوليلي إبعد عني ومتظهرش قدامي تاني! إمشيها هرمونات ولا شمس أختي الصغيرة لما بتغلط؟

أخفضت عينيها أرضًا في حرج وقالت: لا هرمونات أيه بقى أنا على وش ولادة، مشيها اختك وغلطت يا دكتور.

ابتسم في محبة وقال: مشيتها خلاص يا بشمهندسة.

ضحكت وصعدت برفقته، بينما يخطو لمقعده وهو يبتسم في راحة من أنه قد تمكن الآن من حل تلك العقبة التي واجهته ببراعته كطبيب، لا ينكر بأن خبرته بالتعامل لطالما كانت ومازالت تجدي نفعًا وتحرز نجاحًا باهرًا.

مرت الساعات واشرقت شمس يومًا جديدًا، ربما سيحمل ذرة أمل بأن اللقاء بين الأحبة قد اقترب، أما على فقد اصطحب زوجته وزوجه أخيه بسيارته بعد ان تجهزت فاطمة وعلى بالحقائب الخاصة بهما ليتجه على بهما للكمبوند وفي طريقها أصر عليهما أن يتجهان لإحد المطاعم بالطريق.

جلس الثلاثة يتناولون الطعام على الطاولة الداخلية للمطعم، حيث كان التوقيت لا يتخطى التاسعة صباحًا، أشار لهما على بتحذير: على فكرة مش هنتنقل من هنا غير لما الأكل ده كله يخلص سمعتم!

تطلعت كلتهما للاخرى بيأس، فابتسم بانتصار حينما بدأوا بتناول الطعام.

انتشلت مايا منديلًا ورقيًا تجفف به يدها، وقالت وهي تنهض عن المقعد: هروح اغسل وأعدل الحجاب قبل ما نتحرك.

واستدارت لفاطمة تسألها: هتيجي معايا يا فاطمة؟

قالت وهي ترتشف كوب القهوة: هشربها وهحصلك على طول.

أومأت لها واتجهت للحمامات المنحازة على طرفي المطعم الكبير، وحينما كانت تمر للداخل فإذا بها تتوقف عن خطاها، كالصنم المتحجر، لم يترك أي طرفًا منها الا عينيها التي تلصصت لذلك الغريب، على بعد مسافة ليست بقليلة ولا كبيرة عنها، كان يرتدي كاب أسود ولكن ملامح وجهه محفورة داخل أعماقها، رأته يحمل أكياس الطعام، وبرفقته امرأة تساعده على حمل ما بيديه، وجوارها فتاة صغيرة تحمل أكياس الحلوى، وتترقب ما يقدمه لها.

ظنت أنها تتوهم، عساه رجلًا وزوجته وابنته، طمست مايا عينيها عدة مرات وتمعنت فيه مجددًا، فاذا بدموعها تنهمر كالشلال، وكل الرجاء كان لعقلها ان يمنحها الاشارة ليتحرك جسدها المشلول، ولكنه كان متخشب محله.

لسانه بات ثقيلًا، ولكن حروفه بارزة: عُ مران!

وجدته يغادر من المطعم ويتجه بالصغيرة والمرأة الشابة التي برفقته لاحدى السيارات، أطلقت لساقيها العنان، وركضت وهي تصرخ ببكاء: عُمرااااان!

كادت أن ترطمها سيارة أتية بسرعة الرياح، فإذا بيد تنتشلها عنها، وتحذرها بصرامة: مينفعش كده يا مدام بصي قدامك وإنتي معدية الطريق، خافي على اللي في بطنك على الاقل!

ولم يكن سوى موسى الذي عنفها، بينما هي تتطلع لذلك الذي يوليها ظهره، على مسافة كبيرة منها، تركها موسى واتجه للسيارة يصفق كفًا بالآخر وهو يردد: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم!

بينما يصعد للسيارة جوار من صعد إليها بمقعد السائق، ليتمكن موسى من ان يستريح قليلًا بعد سفرهم الليلي حتى المشفى والإن وبعد أن تلقت والدة صباح الرعاية الكاملة، يستعدون للرحيل.

دنت مايا من السيارة ولم يقابلها الا ظهر السيارة، ركضت لتتمكن من الوصول للمقدمة، لتتمكن من التأكد من شكوكها، وقبل أن تصل لها تحركت السيارة وغادرت من أمامها بينما تصرخ مايا بجنون: عمران!

هرع على إليها بعد أن أخبره النادل بما يحدث بالخارج، عاونها على الوقوف وهو يصرخ بها: مايا أيه اللي بتعمليه ده؟

أشارت باصبها المرتعش على السيارة، ورددت بحروف متقطعة قبل أن تسقط فاقدة للوعي بين ذراعيه: عمران يا علي!

الفصل التالي
بعد 19 ساعة و 56 دقيقة.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة