قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والأربعون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والأربعون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والأربعون

لم تكن صدمة بقدر ما كانت دهشة، دهشة غريبة تشبه فرحة الخائف عند شعوره بالاطمئنانِ، كونكَ غريبًا لم تنتمي لأي شيءٍ وفجأة أصبحت تملك كل شيءٍ، صوتها أرسل له غُمرة انتشاء جعلته يتنفس لأول مرّةٍ، تاه في رحلة ذكريات أعادته هي منها حينما قالت بنبرةٍ باكية تتهرب من التعرف على صوته برغم صدقها للهفته:
ألو!

انتبه لها من جديد وأخفض رأسه نحو عادل الذي احمر وجهه لدرجةٍ قاتمة وشبه توقفت حركة أنفاسه وتشتت حال سراج في الحال مابين هذا الذي أوشك على لفظ أنفاسه الأخيرة وكأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت، وتلك التي تحدثت من جديد تتوسله باكيةً بقولها:
سراج الحق بابا علشان خاطري، أبوس إيدك ألحقه أنا ماليش غيره علشان خاطري.
بكت بصوتٍ متقطعٍ أعاده لرشدهِ وجعله ينتبه لما يتوجب عليه فعله فهتف بلهفةٍ يُطمئنها بقولهِ:.

متخافيش متخافيش، أنا معاه ومستحيل اسيبه.
اعتصرت عينيها بقوةٍ تضغط عليهما تُحد من البكاء وتحاول رسم صورة هادئة وسط زحام عقلها بأفكارٍ مشوهة تفتك بها بمجرد التخيل فقط، فماذا إذا حدثت؟ أغلق سراج الهاتف ووضعه في جيب بنطاله ثم رفع ذراع عادل يطوق به رقبته ليقوم بعدها برفعه بمجهودٍ بدا شاقًا عليه، لكنه حاول فقط لأجلها هي وهو يقوم بإسناد الأخر عليه.

وصل به إلى البوابة الحديدية القصيرة ورفع صوته يُنادي على حارس بيته الذي خرج من الغرفة الصغيرة المُلحقة ببيته وركض إليه بملامحٍ ناعسة جعلت سراج يقول بأسفٍ من موقفه:
معلش يا عم شعبان بس الراجل بيروح مني.
سأله الرجل ببلاهةٍ ولا زال يقف محله:
طب والعمل إيه يا أستاذ سراج
لأ ولا حاجة، اجري وراه ألحقه، ياعم شعبان هتجلطني قبل الراجل، افتحلي الباب دا ولا أتصرف.

بدل نبرته التي كانت ساخرة إلى أخرى حينما رفع صوته بضجرٍ في وجه الأخر الذي حاول أن يفتح الباب وقد نجح في ذلك وعاون بعدها سراج حتى ذهب به إلى السيارة أخيرًا أما الآخر فرفع صوته يحذره بقوله:
خلي بالك على جودي يا عم شعبان ركز أبوس إيدك البت فوق لوحدها وأنا هحاول أتصرف.

انتبه له الأخر وأومأ موافقًا بينما هو قاد السيارة بسرعةٍ دون أن يفكر في أي شيءٍ سوى هذا الرجل الذي يجاوره وفي محاولته لإنقاذه قبل فوات الأوان وقبل أن يظهر في عينيها مُهملًا فيكفيه حاليًا أن يكون مُجرمًا فقط.

كان عُدي قد جلس وانهمك في ترجمة المحتوى الموجود أمامه وقد أنجزه ببراعةٍ كُبرى تتناسب مع شغفه الكبير لهذا المجال، حلم كثيرًا بما لم يصله كأي شابٍ في هذه المُنظمة التي تلطم الشباب بحقيقة فشلهم.
انتهى مما يفعله واقترب يحاور يوسف ثم قال بنبرةٍ هادئة يشرح له:
دي الترجمة ل 3 لغات والعربي معاهم، ترجمة مترتبة مش حرفية زي جوجل، شوف كدا وراجع.

ابتسم له يوسف وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة يبثه الثقة بالنفس ويعبر عن ثقته به:
هراجع وراك يعني؟ دلوقتي رهف هتحطهم في الورق وتروح تظبطهم في الملف قبل بكرة، كدا خلاص فيه حاجة تاني يا رهف؟

أخذته منه الأوراق تراقبها بعينيها وترى كم الإنجاز الكبير الذي تحقق في ساعاتٍ قليلة بعدما أضنت أسبوعًا كاملًا من مجهودها وسُرِقَ في نهاية الأمر، وما إن رأت هذا نصب عينيها قالت بامتنانٍ توجه حديثها لذاك الغريب الذي ساعدها في حل مشكلتها:
شكرًا يا يوسف أنا كنت مرعوبة أوي وخايفة بكرة ييجي وأنا مش محضرة حاجة، وشكرًا يا أستاذ عُدي لحضرتك معلش تعبناك معانا وأخرناك على الغدا، متأسفة.

رفع عُدي حاجبيه مذهولًا من حديثها ولم يرد عليها فضربه يوسف من جديد في قدمه حينها انتبه لها وهو يقول بنبرةٍ مكتومة وهو يتجاهل ألم الضربة:
متقوليش كدا يا آنسة أنا تحت أمركم وأمر يوسف.
حركت رأسها موافقةً وقالت بنبرةٍ هادئة:
ربنا يديمكم لبعض ويحفظكم، عن اذنكم.
همت بجمع اشيائها فسألها يوسف بتعجبٍ:
أنتِ راحة فين؟ هتمشي ازاي لوحدك هاجي أوصلك.
هتفت بلهفةٍ ترد عليه وترفض عرضه:.

لأ كتر خيرك لحد كدا، أنا كلمت حازم جوز أختي وهو بعتلي صاحبه بعربية توصلني للبيت، خليك أنتَ علشان بكرة يوم مهم ومش عاوزين حد منهم يتكلم معانا أو حتى يستقصدنا.
انتبهوا لها جميعًا فقالت قمر تقترح عليها:
طب خليكِ معانا شوية كمان، أنتِ اشتغلتي بس.
طالعتها بأسفٍ وهي تقول بقلة حيلة بعدما أشارت على ساعة يدها وكأنها تخبرها بالتوقيت:
ماهو أنا نفسي والله بس مش هينفع، عن اذنكم.

جهزت اشيائها وقامت بجمعها ثم وقفت ووقفوا هم استعدادًا لرحيلها وهي تودعهم بقولها الذي خرج ممتنًا وبشوشًا:
أنا متشكرة جدًا على الوقت الجميل اللي قضيته هنا معاكم، بجد كنت مبسوطة أوي واتمنى تتكرر على خير في ظروف أحسن إن شاء الله.
ابتسمت لها غالية وأضافت بودٍ كعادتها ترحب بها:.

البيت بيتك خلاص أنتِ مش غريبة، أي وقت اتفضلي تنورينا، وأتمنى يعني يكون اللي حصل دا مضايقيكش بس أنا أم وغصب عني انفعلت، مع أني ماكنتش والله ناوية على كدا وقولت خلاص هو معايا، بس القهرة أكبر من إني اتحكم فيها.

تبدلت نبرتها من الودِ والترحاب إلى القهر والأسف وكأنها تتأسف لها وتخبرها إنها لم تقصد فعل هذا الشيء أمامها، والأخرى تفهمت وردت عليها ترفع عنها الحرج ثم استأنفت وداعها وأخيرًا وقفت أمام عهد وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
أنا خلاص اعتمدت إنك دكتورة آشعة، فسلام يا دكتور حتى لو أنتِ مش هتكملي يعني، بس في نظري دكتورة.
ابتسمت لها عهد وأضافت بأسفٍ:.

هو للأسف أنا مكانش حلمي خالص كلية علوم، كان نفسي فنون تطبيقية وأي حاجة ليها علاقة بالهاند الميد والمشاريع اليدوية أو الفنون القديمة، بس التنسيق كان عنده رأي تاني.
ابتهجت ملامح رهف وقالت بحماسٍ شديد لا تعلم هي سببه ولا حتى الأخرين:.

علي فكرة الحاجات دي مش حِكر على الكليات بس، فيه ناس كتير صحابي في الزمالك فاتحين الجاليري بتاعهم وبيعملوا كل حاجة ويعلموا ناس كتير في ورش تبعهم، ممكن أعرف يوسف وتروحي معاه؟
نظرت عهد له نظرة عابرة لم تطلها بل حركت رأسها سريعًا وأضافت توافقها بقولها:
إن شاء الله الظروف تتحسن وكل حاجة تبقى أحسن شوية وهاجي حتى لو معاكِ أنتِ نفسك علشان متزعليش.
تدخل يوسف هُنا ينطق بنبرةٍ هادئة وهو يقول:.

قريب إن شاء الله هاخدها الزمالك تتفرج على كل حاجة هناك وتتفسح فيها كلها، هانت اللي فاضل مش كتير.
صدح صوت هاتفها في هذه اللحظة برقم السائق فاعتذرت منهم وجاوبت على المكالمة ثم أخبرتهم برحيلها الذي توجب عليها فرافقها يوسف للأسفل واطمئن عليها بداخل السيارة واخبرها أن تُطمئنه عليها بعد عودتها.
في الأعلى جلسوا مع بعضهم بعد رحيل يوسف معها فسألهم عُدي بتعجبٍ:
هي مين دي اللي كانت هنا!

ردت عليه ضُحى بضجرٍ منه بعدما رسمت اليأس على ملامحها:
تعبتني، يا بني قولنا دي النائب عن يوسف في الشركة وماسكة شغله بس بصراحة طلعت عسولة أنا قولت هلاقيها مُتكبرة ورافعة مناخيرها علينا، بس طلعت ذوق كمان بصراحة.
أومأ موافقًا لها وكاد أن يرد فصدح هاتفه برقم خطيبته السابقة حينها زفر بقوةٍ ثم ترك محله وابتعد عنهم بمسافةٍ لا بأس بها وقال بنبرةٍ جامدة:
خير يا ميار؟ فيه حاجة؟

جاوبته هي بلهفةٍ مُصطنعة ما إن وصلها الرد منه:
كنت بتطمن عليك يا عُدي وأنتَ مش عاوز ترد عليا، روحت من الشغل ولا لسه؟ يومك كان كويس؟
ابتسم بسخريةٍ وهتف بنفس الجمود:
معملتيهاش واحنا لابسين الدِبل يعني يا ميار جاية دلوقتي تطمني عليا وأنا ماليش حق حتى أعرفك؟ على العموم أنا بخير الحمد لله ويومي كان كويس جدًا، أيامي الأخيرة كلها حلوة ومش مضغوط فيها.

كان يواري خلف حديثه حديثًا يرسله بها برسالةٍ مُبطنةٍ فيما ردت عليه برقةٍ بغضها هو وبغض صاحبتها في هذه اللحظة:
طب ربنا يوفقك إن شاء الله أبقى اسأل بقى.
إن شاء الله لما أفضى.
جاوبها بفتورٍ ثم أغلق معها المكالمة فوجد يوسف الذي صعد منذ لحظاتٍ قليلة يجاوره في الوقوف وهو يسأله بسخريةٍ:
هي برضه بنت الزنانة؟ طب ما ترجع طالما باقية عليك.
نظر له عُدي بءهولٍ تام وهو يقول بنبرةٍ جامدة:.

أرجع! مستحيل طبعًا، دي واحدة بتاعة مصلحتها وبس، يعني متفكرش غير في نفسها، مشوفتهاش وقفت معايا حتى لو في مواقف عادية، وفي أكتر وقت كنا مزنوقين فيه صممت أني أخطبها رغم أني كنت متفق بعد 6 شهور بس فضلت تعمل أفلام وحوارات عليا لحد ما روحت داينت نفسي ولبستها الشبكة.
سأله يوسف باهتمامٍ من جديد بعدما أخبره أخوه بهذا الحديث وكأنه لفت نظره لتوهِ:.

هو إزاي أنتَ مترجم شاطر كدا وواضح إنك متمكن مش هاوي وفي نفس الوقت بتشتغل في مكانك دا، مؤهلاتك وامكانياتك أكبر بكتير من المكان اللي أنتَ فيه.
ابتسم عُدي بسخريةٍ وهتف بوجعٍ:.

علشان دي العيشة هنا للأسف، تفضل تحلم تحلم تحلم ومرة واحدة تاخد على دماغك أنتَ وأحلامك، مين في مصر اشتغل بشهادته ولا مين هنا عرف ينجح أصلًا من غير واسطة ومحسوبية، أنا أحلامي كانت عادية أوي أوي لحد ما اكتشفت صعوبتها فاتأكدت إنها أكبر مني.
لاحظ يوسف الأسى الذي ظهر عليه فأضاف الأخر من جديد مُتابعًا حديثه بشرودٍ:.

أنا كنت شاطر أوي وطول عمري بشتغل من ساعة ما بقيت في خامسة ابتدائي، أي حاجة كنت بشتغلها، في سوبر ماركت ولا صبي مكوجي، عند حلاق ساعات، عشان أساعد مع خالك في المصاريف حتى لو هجيب حق أكلة، ولما كبرت مطلبتش كتير، حبيت زميلتي في الشغل أو هي خلتني أحبها، وقولت زيي زي غيري يكافح وخلاص، بس للأسف بقى ولا أي حاجة نفعت أصلًا.
توقف عن الحديث لبرهةٍ ثم أضاف من جديد:.

ساعتها قولت هتجوز في إيجار لحد ما ربنا يكرم وأقدم على شقة بعد جواز ضُحى بس اتطمن على أختي الاول، اتفاجئت ساعتها بحماتي رافضة وتقولي بنتي متخشش في إيجار، بنتي مش أقل من اختها، دي أختها قاعدة في العبور، طب أنا هعملك إيه؟ أشتغل شغلانة واحدة مش عاجب، شغلانتين أنا كدا مش مهتم ومقصر، مترجم زيي شغال كول سنتر الناس بتقفل في وشه قبل ما يرمي عليهم السلام حتى، يا أخي صلي على النبي نكدت عليا.

ضحك يوسف رغمًا عنه وكذلك ضحك عُدي فوجد يوسف يرفع ذراعه يضعه على كتفه وقال بنبرةٍ هادئة يتضامن مع مشاعر أخيه:
متزعلش نفسك بكرة كل حاجة تتعدل وتاخد أكبر بكتير من اللي اتمنيته، بأي شكل هتاخد أنا خدت كتير اسألني أنا.
عقد عُدي مابين حاجبيه وهو يسأله بتعجب:
بجد! طب هاخد إيه؟
جاوبه يوسف بجديةٍ واثقة ردًا على سؤاله:
هتاخد على دماغك إن شاء الله.

ضحك عُدي وضحك معه يوسف أيضًا وكلاهما يتذكر أحلامه الصغيرة التي قبض عليها الفشل وسجنها بين جدران المُستحيل وكأن تحقيقها لم يصبح حقيقةً ذات يومٍ.

لاحظت عهد صوت ضحكاته مع أخيه فابتسمت بهدوءٍ ثم عادت بتركيزها للفتيات من جديد فيبدو أنه يحترم رغبتها الأولى في وضع حدودٍ بينهما قبل أن يُنهي هذه العلاقة، أما هو فاسترق النظرات نحوها وكأنه يطمئن عليها، يراها وسط أفراد عائلته وكأنها منهم لم تكن غريبة عنهم، ابتسم حينما تذكر موقفها مع والدته وشعر بفخرٍ كبيرٍ تجاهها.

كان إيهاب نائمًا على فراشه يضم زوجته بين ذراعيه وكأنه يؤمنها من شيءٍ مجهولٍ، أخيرًا سنحت له الفرصة يرتاح قليلًا بعد يومٍ شاق دار به على كافة أماكن العمل يتابع سيرها والشئون المالية والإدارية وها هو يهنأ بنومةٍ هادئة بجوار زوجته بعدما رحلت جودي وعاد له مكانه من جديد.

صدح صوت هاتفه يشق سكون الليل مما جعله يتململ في نومته فيما فتحت زوجته عينيها بضجرٍ وهي تسحب الهاتف وتعطيه له، استيقظ هو بضجرٍ وما إن لمح اسم سراج زفر مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ جامدة مُحشرجة:
دا ابن المجنونة سيبك منه، هتلاقيه بيرخم.
وضعت رأسها على الوسادة من جديد فصدح هاتفه للمرة الثانية حينها هتفت هي بقلقٍ ساورها وأرعب قلبها:
رد كدا ممكن تكون جودي فيها حاجة، رد.
حرك إيهاب كتفيه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:.

هي جودي طلعالي في البخت؟ تلاقيها هي وعاوزة تكلمك قبل ما تنام ساعتها أنا هقطع العلاقات المهببة بينكم.
أطاحت له الأخرى برأسها فيما أضطر هو للرد على المكالمة خصوصًا حينما وجد الساعة شارفت على إتمام الواحدة صباحًا، فرد عليه بتهكمٍ:
خير يا وش الخير، اتخطفت؟
جاوبه سراج بنبرةٍ هادئة حاول التسلح بها بعدما أخيرًا جاوب الاخر على مكالماته واتصل به:.

لأ يا غالي، أنا في مستشفى وقاعد معيش أي حاجة، و جودي في البيت لوحدها وماليش غيرك دلوقتي علشان تلحقني من اللي أنا فيه
أخبره بما حدث دون أي تفاصيلٍ تُذكر مما إيهاب ينتفض من محله يسأله بقلقٍ:
مستشفى إيه؟ و جودي لوحدها ازاي يعني مفيش عند أهلك مخ تاخدها معاك بدل ما تصحى لوحدها وتخاف؟ يا أخي تعبت من غبائك.
هتف سراج بقلة حيلة يُبريء نفسه:.

بقولك الراجل كان هيروح وهي نايمة، اسمع كلامي بس أنا هنا مش معايا حاجة غير موبايلي وهيفصل كمان و موبايل عادل فصل على حظي.
أخبره إيهاب بالموافقةِ وأغلق معه المُكالمة فوجد سمارة تترك الفراش واقتربت منه تسأله بخوفٍ حملته في قلبها بقدر ما سمعت من حديثٍ عن الصغيرة:
مالها جودي؟ هي فين يا إيهاب ومستشفى إيه دي اللي كنت بتتكلم عنها!
سحب نفسًا عميقًا داخل رئتيه ثم هتف بنبرةٍ هادئة:.

جودي في البيت هناك لوحدها و سراج راح مع عادل المُستشفى علشان جاله أزمة وأنا هروح البيت اتطمن عليها وأخد فلوسه وبطاقته وأروحله.
تحدثت بلهفةٍ وهي تمنع تحركه حينما وقفت حائلًا أمامه وهي تقول بلهفةٍ قَلِقة:
أنا عاوزة أجي معاك، أنتَ مش هتعرف تتعامل معاها وحرام تتبهدل في المستشفيات، خدني معاك بالله عليك.

بعد مرور نصف ساعة تقريبًا خرج بزوجته من الشقة ومن البناية بأكملها ثم ركب سيارته يشق بها الطريق شقًا إلى الصغيرة خوفًا من استيقاظها بمفردها في سكون الليل، بينما الأخرى بجواره كانت تجلس بقلقٍ وتساورها أفكارٌ قاتلة كلٍ منها أسوأ من الأخرى، وكلهم فقط يخصون الصغيرة.

أوقف إيهاب السيارة أخيرًا عند البناية بعدما أرسل له سراج الموقع عبارة تطبيق المُراسلات، وقد نزل من السيارة وزوجته معه بلهفةٍ أكبر حتى وقف الحارس أمامه يسأله بنبرةٍ جامدة:
أيوة يا أخ! واقف هنا ليه الساعة دي.
انتبه له إيهاب وشمله بنظرةٍ مُتفحصة من أعلى لأسفل وهو يقول بنبرةٍ بدأها ودية:
السلام عليكم يا حج، أنا إيهاب الموجي قريب سراج وجاي علشان بنت أختي جوة لوحدها.

جلس الرجل على المقعد بقصدٍ يتجاهله وقال بفتورٍ:
وإيه اللي يثبتلي؟ عبيط أنا يعني؟
ارتسم الذهول على ملامح سمارة التي فرغ فاهها، فيما رفع إيهاب حاجبيه وهو يتشدق بنزقٍ مُستفسرًا:
نعم! دا اسمه إيه إن شاء الله؟
رفع الحارس رأسه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:.

سميه زي ما تسميه، بس أنا مش ضامن إنك تعرفه أصلًا، المفروض أصدق إنك قريبه إزاي وأنتَ مش شبهه؟ ثم يعني ما يمكن تكون واحد سمعني بالغلط وقولت أهي فرصة، أنتَ فاكرني عمياني هنا! دا أداري ومفتح أوي.
نظر لزوجته التي جاهدت تكتم ضحكتها فسألها بنفاذ صبرٍ:
أنتِ بتضحكي على إيه؟

ضحكت هذه المرة بصوتٍ عالٍ بينما هو أخرج هاتفه يطلب رقم سراج الذي كان واقفًا مع الطبيب يتابع حالة الآخر لذا تأخر عليه في الرد، حاول إيهاب ثانية وثالثة حتى وصله الجواب في الرابعة فتحدث بنبرةٍ عالية:
يا أخي بقى! مبتردش ليه على الزفت؟
هتف بنبرةٍ هادئة ظهر بها التعب:
يا عم كنت واقف مع الدكتور، قولي وصلت؟

أخبره إيهاب بما حدث من حارس العقار فطلب منه أن يعطي الهاتف للحارس الذي أخذه منه وهو يرسم نظرة ثقة جعلت سراج يقول بسخريةٍ دون أن يراه لكنه تيقن من هذا:
نزل حواجبك يا عم شعبان متخليهوش ياكلك.
ذُهِل الرجل من حديث الأخر الذي أضاف من جديد:
دخلهم يا عم شعبان جاي تستنصح على دول؟ خلي بالك منهم بس وشوفهم لو محتاجين حاجة هاتها.

بعد مرور دقائق بحثت فيها سمارة عن الصغيرة حتى وجدتها في الغُرفة بعدما أرشدها الحارس حينها فقط أطلقت سراح أنفاسها المحبوسة ثم اقتربت من الصغيرة تسحبها داخل عناقها وخلفها وقف إيهاب يبتسم بعينيه مع تحفظه على جمود ملامحه، فيما قال الحارس يعتذر منه بقوله:
لامؤاخذة يا بيه، بس دي أمانة وعيلة صغيرة في رقبتي، وحصلت هنا يجي 100 عملية سرقة وخطف، متزعلش.
ابتسم له إيهاب وهتف بنبرةٍ هادئة ردًا على حديثه:.

متقولش كدا، كويس إنك مراعي ربنا في أكل عيشك واديك قولت بنفسك عيلة صغيرة في رقبتك، تسلم يا حج.
تحرك الرجل وتركهما بمفردهما، فاقترب إيهاب يجلس أمام زوجته وهو يسألها بتعجبٍ:
ارتاحتي خلاص؟ مش فاهم الحب دا كله جه إمتى؟
هتفت بلهفةٍ بعدما وضعتها بالفراش من جديد:.

والله ما أعرف بس أنا بحبها أوي، حاسة بيها وبكل حاجة هي بتحسها، فكرة إنها ملهاش حد خالص دي يا حبة عيني أنا مجرباها، بس عندها خالها ربنا يباركلها فيه ويهديه.
اقترب منها يقول بمراوغةٍ:
هي لو عندها خالهم، فأنتَ عندك عمهم يا عمنا.
ضحكت بقلة حيلة ويأسٍ وأضافت بغلبٍ على أمرها:
والله يا أخويا أنتَ فايق ورايق أوي، روح يلا شوف صاحبك دا بدل ما يسجنوه مع أنا أتمنى والله علشان أربي البت دي لوحدي.

لثم جبينها بحنوٍ ثم لثم وجنة الصغيرة ثم تحرك يأخذ أشياء سراج وأكد عليها قبل تحركه بقوله:
مش هأكد تاني، خلوا بالكم من نفسكم، وخلي بالك من نفسك بلاش روح المغامرة والاستكشاف اللي عندك دي، تخلي بالك من البت ومن نفسك تاني، تمام؟

حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم بسعادةٍ له وتراقبه وهو يتحرك نحو الخارج ثم خلعت غطاء رأسها وفردت خصلاتها الغجرية الكثيفة ثم ضمت الصغيرة من جديد في عناقها تأمن عليها من الوحدة بين ذراعيها وتؤنس وحشة أيامها تغدقها بعاطفةٍ أمومية للحق هي تحتاج إليها قبل الصغيرة.

بعد مرور بعض الوقت لم يقوى يوسف على النوم بل ظل يُفكر في يومه الموالي لهذا، لم يُصدق أن عمه و سامي تركا له هذه الفرصة الكبيرة في العمل إلا إذا كان الأمر يحمل شيئًا يتوارى خلف العمل، لذا ترك عائلته بأكملها تنزل من السطح وبقى هو بمفرده، عفوًا مع قمره التي رفضت تركه، جلس أمام الحاسوب الخاص به وبجواره دفترًا يدون به ملاحظات جانبية وكأنه يحفظ أدق التفاصيل التي يعلم هو ماهية تواجدها وكيف ستساعده.

حرك رأسه نحو قمر التي تمددت على الأريكة أمامه بعدما ظلت تتحدث معه عن كثيرٍ وكثيرٍ وهو يشرح لها تفاصيل عمله مما جعلها تشعر بالحماس لأجله ثم شاركته الأمسية حينما التقطت الصور برفقته.

ابتسم بسعادةٍ وهو يراها أمامه نائمة، القمر الغائب عاد لسمائه مُجددًا وأضاء الليل المُعتم، وآنس وحشة الدرب، لم يشعر بنفسه سوى وهو يتحرك من محله ثم سحب المقعد يجلس أمامها يمعن النظر في ملامحها التي جمعت بين رقة ملامح والدته ورسمة العين منه ومن والده، ابتسم مجددًا ثم رفع الغطاء يُدثرها به وتذكر موقفًا يشبه هذا في ماضيه، حينما كان يتحرك خلسةً من خلف والديه ويلج غرفتها يوقظها في الليل وعند فضح أمره كان يتصنع البراءة وهو يقول بنبرةٍ طفولية تلقائية:.

كنت بغطيها والله علشان متبردش.
ضحك حينما تذكر جملته في الصغر فوجد صوتًا يأتيه من خلفه يسأله بتعجبٍ:
أنتَ بتعمل إيه؟
هتف بلهفةٍ جملته التي تطابق جملته في صغره:
كنت بغطيها والله علشان متبردش.
ضحكت عهد له وهتفت بنبرةٍ هادئة ودودة وهي تسحب المقعد وتجاوره في الجلوس رغم تعجبها من لهفته:
مصدقاك والله، ربنا يديمكم لبعض، أنتَ بتحبها أوي وباين إنك مرتبط بيها، وهي محظوظة إن عندها أخ زيك بيحبها كدا.

أومأ لها موافقًا ثم نظر على شقيقته وهو يقول بنبرةٍ رخيمة وكأنه يحاول التأكيد لنفسه أنها اصبحت معه أو لربما يتناسى ماضيه الأليم بتواجدها معه:
قمري الضايع، عمري كله عيشته رابطه باسمها، حاجة أقوى مني كانت بتقولي إنها موجودة وإنها مستنياك، عارفة؟ طلعت بتدعيلي من صغرها، وأنا كنت مستغرب إزاي كل مصيبة كنت بقع فيها كنت بخرج منها كدا، بس واضح إن حبهم الكبير حياني من تاني.
ابتسمت له ثم قالت بنبرةٍ حزينة:.

أنا علطول بابا كان يقولي لو بتحبيني ادعيلي، اللي بيحب حد مش بيغفل عنه في الدعاء، بيذكره قبل نفسه، فاتعودت أدعي ليه ولماما ول وعد كمان بقيت بدعي للكل، حتى لما مات بدعيله كل يوم وكل خطوة بمشيها مفارقنيش.
رأى الحزن مُتجليًا في عينيها السوداوتين فقرر يمازحها بقوله المراوغ وهو يتوقع الجواب منها:
طب وأنا؟ مدعيتيش ليا خالص؟ ولا استني أنا هتوقع أكيد قولتي يا رب زيحه من طريقي وخلصني منه، صح؟

رفعت عينيها لتتلاحم بعينيه ورغم مزاح كلماته لكنها رأت في نظراته حديثًا يُنافي قوله ويُشبه ما بداخل قلبها، فقالت بنبرةٍ تائهة تخبره بصدقٍ:
دعيتلك، وطلبت من ربنا لو وجودك فيه خير ليا وليك إن الموضوع دا يكمل، وطلبت منه أني لو أذى ليك أخرج من حياتك، وطلبت من ربنا إننا لو مش شبه بعض ميجمعش بينا.
ابتسم بعينيه فقط ثم قال بنبرةٍ رخيمة يتهرب من حديثها الذي بعثر ثبات مشاعره:.

سيبيها على الله محدش عارف أخر الطريق إيه.
هزت رأسها توميء له ثم سألته من جديد بحديثٍ بدا وكأنها تختلق معه المواضيع حتى تتهرب مما تفوهت به:
المهم سيبك مني أنا، طنط عاملة إيه دلوقتي، بقت أحسن؟
أومأ لها ثم هتف بقلة حيلة:
هتبقى أحسن بس مين ينسيها قهرتها؟ اللي فات مكانش سهل نعديه كدا وخلاص ونتعامل كأنه عادي، وبصراحة موقفها أنا كنت متوقعه وكنت متوقع أكبر من كدا بكتير، عيلة الراوي الأذى بيجري في دمهم.

ظهرت الشفقة على ملامحها وقالت بوجعٍ حينما تذكرت أمر عائلتها وما لقته على أيديهم من مصائب أُلقيت فوق رأسها بعد موت أبيها، وكأنهم خلقوا فقط ليتفننوا في تعذيبها.
لاحظ يوسف نظراتها والأسى الظاهر على ملامحها فقال بكلماتٍ تشابه كلماتها لوالدته منذ ساعات حتى تُطيب جراحها:.

بس بصراحة مامتك ست جدعة أوي إنها مستسلمتش ليهم وخدتكم ومشيت من هناك وعرفت تربيكم التربية دي، ست جدعة وبناتها زيها وبصراحة أنا كجوز بنتها عاوز أقولها تسلم ايديكِ يا حماتي.
رفعت رأسها نحوه وما إن لاحظت نظراته ضحكت رغمًا عنها وضحك هو الأخر فوجدها تقول بصوتٍ مختنقٍ تخالطه ضحكات امتزجت ببكاءٍ وهي تمسح دموعها:.

أنتَ بتردهالي يعني؟ على فكرة هي ضحكت بجد ونسيت إنها زعلانة متتريقش عليا لو سمحت علشان أنا مبعرفش أواسي حد.
استمع لحديثها فهتف بصدقٍ بعدما نظرت له:
بس أنا مش بتريق، أنا بتكلم جد، أنتِ قدرتي تطيبي بخاطر أمي في أكتر وقت أنا وقفت عاجز فيه، مش قولتلك قبل كدا إنك مُذهلة؟ دلوقتي بقى أنتِ فعلًا شبهي، بس الفرق أني لو عاوز أعيط بعمل أي حاجة، أنتِ ليه عاوزة تعيطي يا عهد وليه مش عارفة تعيطي؟

لاحظ هو أنها تتهرب من دموعها واتضح له أنها أتت إلى هُنا هربًا من دموعها لكن سؤاله كان الضغطة المؤلمة فوق زر جراحها لتنفجر باكيةً أمامه بضعفٍ، ضعفٌ جعله لم يتردد في ترك محله ثم جلس أمامها على رُكبتيه يسألها بلهفةٍ:
بتعيطي ليه طيب؟ فيه حاجة مزعلاكي؟
حركت رأسها موافقةً ثم هتفت بنبرةٍ باكية:.

بكرة ذكرى وفاة بابا وأنا كنت ممنوعة أروح البيت هناك، بكرة هيبقى أول يوم أدخل البيت فيه من بعد موته بشهر، بكرة أنا هبقى لوحدي هناك بعدما منعوني حتى أخد ذكرياته معايا، بكرة أول هحس فيه أني بقيت من بعده لوحدي.
زفر مُطولًا ثم سحب المحارم الورقية يمسح لها عينيها من العبرات التي عَلقت في أهدابها وهتف مؤكدًا بصوتٍ رخيمٍ:.

بس أنتِ مش لوحدك أنا معاكِ هنا، ومش هسيبك تروحي لوحدك هناك عندهم، وهخليكي بكرة تقضي اليوم كله هناك في بيتك مع كل حاجة والدك الله يرحمه، تمام؟ واثقة فيا؟
أومأت برأسها له فسحب هو نفسًا عميقًا وسألها بنبرةٍ هادئة:
أنتِ محتاجة حاجة بكرة مني اعملها طيب؟ قبل ما أجي من الشغل ونروح مع بعض؟
مسحت دموعها وقالت بنبرةٍ مختنقة:.

أنا عملت فطاير وقرص هوزعهم رحمة ونور، ومجهزة كل حاجة بس غصب عني إحساس أني هكون لوحدي بكرة كان صعب عليا أوي، خوفت أنهار هناك ودي أول مرة أواجه حقيقة إن المكان بقى من غيره.
ربت على كفها واحتضنه بين كفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة يحاول طمئنتها قبل نفسه حتى:.

كل حاجة هتعدي لما تتأكدي أنه سبقك على مكان أحسن من دا، مكان مفيهوش بشر مؤذية، مليان بس وجع وتعب وناس بتاكل في بعضها، هو هناك في المكان اللي لازم كلنا نروحه.
ابتسمت له من بين دموعها وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
شكرًا، كلامك طمني وخلاني مستعدة، كويس إنك هنا.
أسرته بقولها الممتن وهي تشكره على تواجده وعلى كل شيءٍ بذله لأجلها فرد عليها هو بحديثه المعتاد دومًا منذ أن وطأت قدماه إلى هُنا:.

أنا قولتلك أنا دايمًا هنا.
كان أصدق قولًا تسمعه في حياتها فهي لم تراها فقط كلماتٍ بل تراها دومًا في أفعاله معها، في اللحظة التي تُعاني بها يكون حينها هو هُنا، هو الغريب الذي دلف الديار لوقتٍ مؤقتٍ تفاجأ بنفسه يأخذها وطنًا له، وطنٌ وجد له كل الأنس هُنا.

بعد مرور ساعات بدأ بزوغ الشمس يظهر وخيوطها الذهبية تمتد لتمسك في يدها النهار تعلنه للناسِ جميعًا بإذن ربها الواحد الأحد، حينها وبداخل المشفى الخاص الراقي الذي يدلفه علية القوم يحصلون بداخله على الرعاية التامة مقابل الأموال جلس إيهاب بجوار الغرفة التي كان عادل بداخلها بينما سراج تحرك ليقوم بتسوية الحساب ثم عاد يجاور إيهاب في جلسته، حينها انتبه له الأخر وسأله باهتمامٍ:
الفلوس كفت إنك تدفع؟

حرك كتفيه بقلة حيلة ورافق حركته هذه قوله:
لأ طبعًا دول فكة كدا علشان المواصلات، بس دفعت من الفيزا بقى هعمل إيه يعني؟ أمري لله.
عقد إيهاب مابين حاجبيه وسأله بتعجبٍ وكأنه أدرك الموقف لتوهِ ولم تسنح له الفرص لكي يتساءل وما إن اُتيحت له الفرصة هتف مُستفسرًا:
هو أنتَ دخلت بيه هنا إزاي من غير فلوس؟ دي مستشفى استثماري يعني الفلوس قبل كل حاجة، الراجل شكله شاف رعاية جامدة، عملت إيه يا صايع؟

ضحك سراج رغمًا عنه ثم أقترب منه يهتف بنبرةٍ خافتة تمتزج بضحكاتٍ شقية كطبعهِ المراوغ:
وقفوني على الباب وقالولي ممنوع، روحت مخرج الكارنيه بتاع عادل قولتلهم دا عادل أبو الحسن نائب المحافظ، في ثانية لقيتهم بيقولولي شُبيك لبيك.
ضحك إيهاب رغمًا عنه وقال بيأسٍ من الأخر:
مفيش فايدة فيك، حتى وهو بيموت استغليته برضه.
عاد سراج لجلسته معتدلًا بها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:.

مش أحسن ما أسيبه يموت؟ أديني اتصرفت أهو ياكش نعجب بس.
في هذه اللحظة دلفت زيزي شقيقة عادل واقتربت منهما بلهفةٍ تقف أمام سراج تسأله بأنفاسٍ لاهثة شبه متقطعة:
فين عادل يا سراج؟ طمني هو كويس؟
أومأ لها موافقًا ثم أشار لها بالجلوس وهو يقول باهتمامٍ:
اقعدي أنتِ بس وهو بخير الدكتور طمننا عليه، مين قالك وليه جيتي ما كنتي كلميني وخلاص كنت هطمنك.

جاوبته بنبرةٍ قلقة وهي تُحرك بؤبؤيها بعيدًا عنه حتى لا يلتقط كذبها:
الست اللي بتشتغل عنده، هي اللي قالتلي.
ابتسم بسخريةٍ وهتف بلامبالاةٍ ظاهرية:
الست! يعني مش نور اللي كلمتك؟ طب مقالتش ليكِ إنها كلمتني إمبارح كمان؟ على العموم مش وقته، أخوكِ بخير جوة كان عنده أزمة قلبية علشان ماخدش جلسة الأكسجين ولا البخاخة، أظن هو عنيد ومحتاج حد يراعيه.

وزع إيهاب نظراته بينهما وخاصةً حينما تحدث سراج عن مكالمته مع نور حينها ازداد تعجبه فوجده يجلس مقابلًا لها واتضح عليه الوجع من جديد كونه مجرمًا في نظرهم لا تُشفع له براءة قلبه الصغير.
خرج إيهاب من تمعنه على صوت هاتفه فأخرج الهاتف من جيب سترته وجاوب على المُتصل الذي لم يكن سوى نَعيم الذي قال بنبرةٍ جامدة يوبخه:.

أنا نفسي أفهم أنا مش مالي عينك ليه؟ يعني إيه تخرج من غير ما تعرفني يا بيه؟ وتسيبني وتسيب أخوك قلقان عليك ولا حتى مراتك بترد على حد؟ أنتوا فين يا أستاذ ياللي مش مالي عينك حد؟
ابتسم إيهاب رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ هادئة:
قطع رقبتي قبل ما أقلل منك، بس أنا خوفت أصحيك بليل علشان عارف إنك هتقلق، بعدين سمارة لو مكانتش جت معايا كانت فضلت اليوم كله واكلة دماغي، متقلقش شوية كدا هاجي البيت وأبقى أرجع تاني.

زفر نَعيم مُطولًا ثم قال بلهجةٍ أمرة:
طب أنا هبعت إسماعيل يجيبهم على هنا علشان مفضلش قلقان بس مش دلوقتي، واسأل سراج كدا لو عاوز فلوس ولا حاجة، قولي الراجل عامل إيه دلوقتي؟
جاوبه بحيرةٍ وكأنه لم يفهم ما يصير حوله:
والله ما عارف بس هو كويس وشوية كدا هنشوفه، أزمة قلبية للأسف لو محدش كان لحقه القلب كان وقف خالص، أنا هعدي على سمارة و جودي أجيبهم معايا متبعتش حد يا حج.

وافقه نَعيم في الحديث وقال بنبرةٍ هادئة:
خلاص ماشي، أبقى كلم أخوك علشان قلق عليك.
أغلق معه المكالمة ثم جلس جوار سراج الذي ظهر عليه أثر النوم واتضح على عينيه أنها على وشك الإغلاق لكنه يُعاند النوم ويقاوم سلطته حتى لا يغفل عن رعاية عادل وشقيقته وكأنهم أصبحوا ملزمين منه هو.

استيقظ أيوب صباحًا بعد عودته من صلاة الفجر ثم نزل من غرفته بعدما بدل ثيابه وتحمم وتوضأ وتجهز للرحيل فوجد أمامه في ردهة البيت إياد يجلس بجوار آيات ويقوم باستذكار دروسه التي أهملها منذ أيامٍ عديدة، فألقى عليهما التحية ثم سأل بسخريةٍ:
بتذاكر! استنى نوثق اللحظة دي.
هتفت آيات بنبرةٍ ضاحكة ترد عليه:.

آه، أصل ميس نهال جاية النهاردة علشان كدا تلاقي فيه حماس كدا لدرجة أنه منامش من بعد الفجر ومصحيني معاه من قبل الشروق، الواد دا بيديني دروس في الخِلفة وبقى عندي خبرة خلاص.
اقترب أيوب منه ثم أخرج من جيبه ورقة مالية يعطيها له ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
طب أمسك استفتاحة أهو، عاوز حاجة تاني؟
ترك إياد محله ثم اقترب من عمه يحتضنه فيما حمله الأخر ولثم وجنته ثم هتف بنبرةٍ هادئة يقول:.

عاوزك تذاكر ومتزعلش نفسك وتراعي ربنا في مذاكرتك ومتنساش إن العمل دا فرض عليك وواجبك تتقنه، ولازم نعمل إيه بقى؟ نقتدي بسيدنا محمد ونسمع كلامه لما وصانا بإتقان العمل في حديثه الشريف:
قال رسول الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ ‌يُتْقِنَهُ.

يعني علشان إحنا عباد الله وكل هدفنا هو رضاه عننا لازم نسعى أنه يحبنا، والسعي يبقى من خلال إتقان العمل وعزم النية تكون لله، يعني بذاكر علشان أنجح علشان أفيد نفسي والأمة، وعلشان أكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، يبقى نذاكر ونجتهد ونركز وملناش دعوة بأي حاجة غير إننا نتقن العمل ونسعى وربنا يكرمنا بالنتيجة اللي نستحقها، ومتنساش إن ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز:.

إِنَّ لَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ لصَّ لِحَ تِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَج رَ مَن أَح سَنَ عَمَلًا.

يعني إيه؟ يعني من توكل على الله عازمًا نيته في العمل ابتغاء مرضاة الله يبقى ربنا هيرزقه بالأجر، ودا وعد ربنا للعباد، تقولي إزاي هقولك ربنا قال لا نضيع أجر من أحسن عملا، بس معرفناش النتيجة إيه، النتيجة هنا مفتوحة، ممكن يكون توفيق في طريقك اللي اختارته، أو ربنا ييسرلك أمورك في طريق تاني مكنتش تعرفه عنه حاجة، أو حاجات كتير متعرفش عنها حاجة برحمة ربنا يكشفهالك فتساعدك في خطواتك، وعد ربنا نافذ لا محالة بس ابدأ أنتَ.

ابتسم له إياد وكذلك آيات فأضاف هو من جديد للصغير يحدثه بقوله الحكيم:
ربنا قال في كتابه العزيز آية عظيمة تدل على عظمة الخالق ورحمته بعباده رغم استحالة توقعك للنتائج وعدم ادراكك للأسباب وهي:
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى.

يعني عليك السعي والتوكل على الخالق وربك عليه النتيجة بس احنا منعرفش إيه النتيجة، لكن يكفي عند حلول اللحظة اللي نقف نستنى فيها النتيجة نقول يا رب إحنا عملنا اللي علينا الحمد لله، وتوكلنا على الخالق العادل، يبقى نستنى النتيجة مهما كانت بقلب راضي ومنزعلش حتى لو كانت عكس هوانا.
احتضنه إياد وهو يقول بمرحٍ:
فينك من بدري يا جدع!
ضحك أيوب بصوتٍ عالٍ وشدد مسكته للصغير وهو يرد على مزاحه بمزاحٍ هو الأخر:.

كنت نايم يا قلب الجدع.
أنزله أيوب بعد حديثه ثم وضعه بجوار شقيقته التي قالت بترددٍ لكنها حسمت أمرها:
بص، أنا هروح مع مهرائيل النهاردة نتطمن على طنط نجلاء علشان هي تعبت إمبارح هو أنا معرفش أروح إزاي بس هروح معايا مهرائيل طنط وداد بتقولي عادي هو زمان كان عيب البنت تروح بيت أهل خطيبها، معرفش هي وترتني ليه.
سألها هو بتعجبٍ بعدما نظر لها:.

إيه العيب إنك رايحة تزروي واحدة مريضة؟ أنتِ مسلمة ومرجعك كتاب القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، هل القرآن فيه آية حرمت الفعل دا؟ لأ طب هل الأحاديث والسُنة نهوا عن الفعل دا؟ برضه لأ، يبقى خلاص أنتِ رايحة نيتك خير، متنسيش إن هييجي يوم تبقي بنتها مش بس مرات ابن، المهم بس متتأخريش هناك.
حركت رأسها موافقةً فنزل في هذه اللحظة أيهم الذي قال بسخريةٍ:.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خير يا عصابة على الصبح بتتفقوا على إيه؟
سألته آيات بلهفةٍ حينما وجدته أمامها:
هروح أتطمن على طنط نجلاء النهاردة أخد معايا إيه علشان هي تعبانة؟ أخد فاكهة؟
جاوبها أيهم بسخريةٍ:
خديلها منفضة تربي بيها ابنها.
ضحكت عليه وضحك الآخران، فيما أضاف أيوب مقترحًا عليها بنبرةٍ ضاحكة:
خدي عصير وفاكهة يا ستي متحرميهمش من حاجة خلينا نكسر عينهم قبل المهر، ولا إيه رأيك يا أبو إياد.

ضحك أيهم يتضامن مع أخيه ثم هتف بقلة حيلة:
سيب أبو إياد في حاله بالله عليك، متوقعنيش في غلط تاني، كفاية أيمن المعفن هو وعيلته.
نهره أيوب بقوله:
بس خلاص ربنا يسهله منجيبش سيرة حد إحنا.
نظر أيهم في وجه صغيره يسأله بتعجبٍ:
بتذاكر! لوحدك كدا من غير إلحاح أو شحاتة مننا؟ يا راجل دا إحنا ورمنا لغاية ما هُرمنا، كمل يا حبيبي.
قال إياد بحماسٍ شديد:.

أصل ميس نهال جاية النهاردة ومش عاوزها تيجي تزعل مني، علشان كدا بذاكر.
مد أيهم يده يدفع بها رأس الصغير وهو يقول بضجرٍ:
يعني ميس نهال متزعلش منك وأبوك وعيلة أبوك يخبطوا راسهم في الحيطة؟ ياض إيه قلة الأصل دي يخربيت تربيتك المهببة.
انتشرت الضحكات عليه وعلى صغيره فيما مال أيوب عليه وهو يتجهز للرحيل وقال بنبرةٍ خافتة بعدما أخذ الفطيرة المحشوة بالجبن من على الطاولة:.

سيب الواد يزنهر براحته، متبقاش حقودي كدا، ولا أنتَ طمعان في شوية الزنهرة بتوع ابنك؟ عيب كدا عيب.
تحرك أيوب وترك أخيه خلفه مدهوشًا ثم نظر لابنه يحدثه ساخرًا بقوله الذي أعرب عن حقده:
زنهرت! عقبال أبوك يا ابن المحظوظ.
خرج أيوب من بيته متوكلًا على الله في السعي بعمله حتى وجد يوسف يمر بسيارته عليه حينها أوقف يوسف سيارته وسأله بتعجبٍ:
رايح فين كدا على الصبح؟ الناس نايمة.
جاوبه أيوب بسخريةٍ بعدما ضحك له:.

علي أساس إنك أنتَ اللي هتصحيهم يعني، هفتح محلي وأشوف شغلي، رايح فين أنتَ بقى؟
جاوبه يوسف بجديةٍ بعدما نظر أمامه:
هروح أفتح دماغ عمي وأجيب كرش جوز عمتي وأشوف شغلي، عاوز حاجة بقى؟
كان حديثه الجدي يتنافى مع سخريته ومزاح كلماته مما جعلهما يضحكا سويًا فحدثه أيوب بنبرةٍ هادئة وهو يدعو له:
روح ربنا يوفقك و ييسرلك أمورك، بأمر الله ترجع مجبور الخاطر.
ابتسم له يوسف وهتف يمازحه:.

كفاية أني شوفتك هلاقي أحلى من كدا؟
ضحك أيوب له فيما أدار يوسف سيارته وهتف بنبرةٍ هادئة على عكس مزاحه ومراوغته:
ربنا يرزقك يا أيوب ويفتحلك أبواب الرزق.
ابتسم له أيوب ثم اقترب منه يقسم الفطيرة التي سبق وأخذها من بيته قبل خروجه وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
طب أمسك دي غير بيها ريقك على الصبح ولا هتكسف أيدي بقى؟ اكسفها علشان أطلع اديها ل قمر.
ضحك الأخر وأخذها منه يقضم منها ثم قال حينما غمز له:.

خدتها بمزاجي على فكرة، أنا مبتهددش، سلام.
قاد السيارة في حين نظر أيوب في أثره مبتسم الوجه وحتى هذه اللحظة لا يعلم سبب المحبة التي نشأت بين القلوب ويتعمد كلاهما إنكارها، لم يصدق أن يأتي اليوم الذي يحب فيه شخصًا بطريقة يوسف لكنه يحب هذا الغريب عنه كثيرًا لكن يبدو أن القلوب ترى بعينيها هي، تفتح متى أرادت لمن أرادات.

وصل يوسف مقر عمله بثباتٍ كملكٍ يخطو بداخل أرضه، كل شيءٍ هنا له وهو أتى لينتصر ولم يضع أي مجالٍ في خاطره للهزيمة، هم تركوا له الفرصة وهو استغلها خير الاستغلال ليعلمهم فنون القتال كما يجب أن يكون.

دلف الغُرفة أمام الجميع الذين جلسوا يترقبون فعله وكأنهم ينتظرون وقوعه بالخطأ على أوج لحظات الصبر، بينما هو وزع نظراته بين من يلقبون بعائلتهِ وبين تلك التي من المفترض أن تكون حبيبته سابقًا وبين رهف التي هزت رأسها تدعمه بصمتٍ حتى نظم أنفاسه ثم بدأ الحديث بالدباغة المعروفة في مثل هذه المواقف يعرف نفسه ويعرف طبيعة عمله.

ثم بدأ الحديث عن خطة العمل بثقةٍ كبرى تتنافى مع مشاعر خوفه على عمل والده وسُمعته وسط رجال الأعمال الذين بدأوا بنفسهم فحتى هذه اللحظة وهو يعمل لثبات اسم والده بنفس القوة، كانت ثقته كُبرى وكأنه يتسلح بالمعلومات الدقيقة التي قام هو بجمعها والآن يقف خلفها متخذًا منها درعًا بعدما استخدم حتى أحرف الكلمات ليستدل منها على ما يُريد.

وقف يستمع للتصفيقات العالية والنظرات التي نطقت بصدقٍ تُعبر عن الفخر والثناء عليه، وعلى النقيض تمامًا من كانت نظرات عائلته ومعهم شهد التي تعجبت مما قام هو به، بدل خطته وبدل حروفه وبدل كل شيءٍ في غضون ساعات من اكتشافه أمر الملف! ظنت أنه تضربه في مقتلٍ تفاجئت بنفسها تضربه ليفيق ويعدل سير خطاه.

خرج من المكتب بنفس الخطوات الواثقة التي دلف بها تاركهم خلفه يلعنون قوته وثقته التي جعلته كعادته يمتاز عليهم جميعًا وكأنه في نجاح عمله يقتدي بوالده بنفس طريقة تفكيره.
وجد أمامه فاتن تقطع عليه الطريق وكأنها تعمدت الظهور أمامه حينها زفر بقوةٍ فوجدها تحول بينه وبين تحركه وحينها سألها بجمودٍ:
نعم! مش مكيفك اللي حصل امبارح؟

ابتلعت الغصة المريرة في حلقها من طريقته وجفائه لها ثم هتفت بنبرةٍ مختنقة وقد بدأ البكاء يُخيم على حلقها:
أنا عاوزة أتكلم معاك كنت عاوزة أقولك حاجة مهمة.
هم أن يعترض ويرفع صوته فرأى ظل شهد يظهر على زجاج المكتب المُقابل له حينها أخذ يد عمته يجرها إلى ساحته ثم دلف بها واحدة من الغرف المغلقة بالشركة ثم أغلق الباب من الداخل بعدما أحكمه جيدًا ثم التفت لها يسألها بقسوةٍ:.

عاوزة تقولي إيه؟ ها يلا يا ست الكل اشجيني.
لاحظت تبدله معها والفارق الملحوظ قبل أن يجد والدته وبين هذه اللحظة، شتان بينهما، فلم يكن أمامها سوى أن تسأله بنبرةٍ باكية:
هي كرهتك فيا صح؟ خليتك تكرهني؟
ابتسم بسخريةٍ واتضح الوجع في نظراته وهو يقول بنبرةٍ منكسرة:.

ياريتها حتى حاولت تكرهني فيكم كنت هفهم إنها تستاهل حاجة من اللي حصلتلها، دي أنضف منكم كلكم، ولما تتكلمي عنها تتكلمي كويس كفاية إنها السبب أني ساكت عليكم لحد دلوقتي.
أقتربت منه تقول ببكاءٍ خشيةً من فراقه:
أنا ماصدقت إنك تعاملني كويس شوية، ما صدقت تحسسني إنك بتحبني بعدما اتحرمت من حضن مصطفى لما زعل مني بسبب جوازي، أنا والله مأذتكش زيهم، أنا كنت بحاول علشانَك.

هنا وقد انفجر الضغط الذي يحمله بداخل قلبه فأمسك ذراعيها يوقف استرسال حديثها حينما هتف فيها بنبرةٍ عالية:.

بس! كفاية كدب شوية بقى، عاوزة تقنعيني إنك عملتي حاجة علشاني؟ كل حاجة علشان نفسك أنتِ، خليتيني عندك قصاد عينك علشان أبقى معوضك عن أخوكِ اللي مات، فضلت بتذل قصادك على اللُقمة وأنتِ شاهدة، فضلت أخد بواقي ابنك في كل حاجة وأنتِ نفسك بتديني بواقي امومتك اللي هو رفضها، كنت بسرق الأكل من وراكم في بيتي وحقي، اليتيم اللي المفروض تكرموه قهرتوه، وجاية تقولي علشانك!
بكت وهي تقول بلهفةٍ تتوسله أن يستمع لها:.

بس أنا كنت بحاول كنت بخاف عليك وهما مهدديني وأنتَ عارف كويس أوي أنهم يقدروا يعملوا أي حاجة.
ضحك بسخريةٍ وهو يقول بوجعٍ:
ما أنا عارف، أحب أقولك إن كل تهديد اتنفذ وإن كل حاجة قالوا هيعملوها عملوها فعلًا، وابقي اسألي مرات ابنك وهي تقولك، مرات ابنك دي اللي كانت هتبقى مراتي صح؟ آه هي هي اللي أنتِ وافقتي على جواز ابنك منها.
نزلت دموعها أكثر من السابق وهتفت ببكاءٍ:.

بس أنا مش زيهم، أنا معملتش فيك زي ما هما عملوا.
ضرب سطح المكتب بيده يوقفها عن الحديث ثم هتف بنبرةٍ عالية تعبر عن جَام غضبه وهو يقول منفعلًا:.

أنتِ عملتي الأفظع منهم، أنتِ سكتي وكنتي عارفة إنها عايشة مماتتش، لولا أمك قبل ما تموت قالت على كل حاجة كان زمانك لسه ساكتة، سكتي ليه؟ ها! ليه مقولتيش ليا إنها موجودة وأنا كنت هدور عليها لحد ما أوصل إن شاء الله حتى أروح فيها بعدها، ليه دا أنا كنت لما بغلب والكلمة توحشني كنت بقولك يا ماما، ليه؟

كان يسألها بصوتٍ مُنكسرٍ وكأن خذلانها له أكبر بكثير من جُرم العائلة، هي من تعشم آملًا بها ففاجئته حينما طعنته في ظهره خِفاءً وأمامه تتظاهر بالمودة.

استيقظت عهد صباحًا تقوم بتجهيز الأشياء التي ستأخذها معها لبيت والدها الفقيد، قامت بتشغيل القرآن في الشقة بصوت الشيخ محمود على البنا ليرتفع صوته بكلمات الذِكر الحكيم مع رائحة المخبوزات التي جلست تصنعها منذ الصباح وبداخلها يتواجد شعوران ينافسان بعضهما؛ حيث الحماس للذهاب إلى هذه الشقة التي حُرمت منها منذ سنواتٍ وبين الخزف من وحش الذكريات التي تفتك بكل طيرٍ ضعيف الجناحين عند عودته إلى موطنه الأول.

اندمجت فيما تفعله حتى وصلتها طرقات فوق باب شقتها فتحركت هي تفتح الباب وقد وجدت أمامها قمر تقول بأسفٍ:
بصي أنا كنت خايفة أصحيكِ بس لما سمعت صوت القرآن عرفت إنك صاحية، أنا جاية أصبح عليكِ علشان يوسف قالي إن النهاردة يوم مهم عندك، تحبي أساعدك؟ أي حاجة كدا كدا عُدي نزل و ضُحى وخالتو كمان، وماما مع خالو بيتكلموا مع بعض، لو هضايقك امشي عادي.

ابتسمت لها عهد وأدخلتها الشقة ثم أغلقت الباب وهي تقول بنبرةٍ هادئة بها القليل من المرح بعدما حاولت إضفائه على كلماتها:
يا ستي متقوليش كدا، ماما و وعد كمان معاها في المقابر عند باب، وأنا صحيت بدري اخلص اللي ورايا قبل ما أروح بيت بابا والمقابر هروحها مع ماما يوم تاني
هتفت قمر بأسى حينما تذكرت أمر وفاة والدها:.

ربنا يرحمه، أنا للأسف معرفش مقابر بابا فين بس بدعيله علطول يعني ومش بنساه خالص، أكيد بيفرح لما أدعيله.
ربتت عهد على ظهرها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة:
ربنا يرحمهم ويغفر لهم ويجمعنا بيهم في الجنة.
سحبت قمر الهواء داخل رئتيها ثم هتفت بنبرةٍ هادئة:
طب ينفع أجي معاكِ بيت والدك! يعني علشان متكونيش لوحدك خصوصًا إن يوسف ممكن يتأخر في شغله، إيه رأيك وبصراحة أنا قاعدة لوحدي همل و أيوب وراه حاجات مهمة النهاردة.

ضحكت لها عهد وهي تقول بعتابٍ زائفٍ:
آه، تسلاية أنا بقى! ماشي يا قمر بس كلمي أخوكِ علشان ميعمليش حوار وكلمي جوزك علشان برضه ميعمليش حوار، أنا عاوزة أعيش في سلام.
ضحكت قمر عليها ثم أخرجت هاتفها واتجهت نحو النافذة ثم أخرجت رقم أخيها تحاول التواصل معه لكن هاتفه أعطاها رسالة أنه ربما يكون مُغلقًا، حينها زفرت بقوةٍ ثم طلبت رقم زوجها تستأذنه هو وما إن رد عليها قالت هي على استحياءٍ:.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ينفع أقولك حاجة؟
ارهف سمعه لها وقال بتركيزٍ لها:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، معاكِ يا قمر
أخبرته بحماسٍ شديد:
بص أنا هروح مع عهد بيت أهلها علشان النهاردة السنوية بتاعة باباها، جيت أقول ل يوسف لقيت موبايله مقفول، قولت أعرفك برضه ولا أعمل إيه بقى؟
زفر مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة:.

المفروض دلوقتي إن أخوكِ هو اللي يكون عارف مش أنا لأنك في رعايته هو، بس بما إنك على ذمتي فأنا موافق ولو أخوكِ عرف يكون أحسن، أخوكِ مش هنا يبقى خالك، خالك مش هنا يبقى عُدي لو مفيش حد يبقى أنا بس بعدهم.
ابتسمت بسعادةٍ كبرى ثم هتفت بحماسٍ:
طب خالو هنا هلحقه وقبلها هقوله إن جوزي موافق على أساس أحرجه فيوافق يعني، اوعي تطلعني هطلة قصاده هنزعل مع بعض خد بالك.
ضحك رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ ساخرة ردًا عليها:.

مش مهم أنا أطلعك هطلة، المهم أنتِ متطلعيش نفسك هطلة، على العموم أنا في ضهرك وقت ما الدنيا هتميل هتلاقيني سداد بعون الله.
كان صادقًا فيما يخبره عنه واستشفت الصدق هي في كلماته فتنهدت تنهيدة مُثقلة ثم تذكرت أمر اللقب الذي أخبرها به فسألته بتعجبٍ:
أيوب هو يعني إيه مطروف العين؟ يعني عيني وجعتك طيب ولا إيه مش فاهمة؟
ضحك على حيرتها وتخمينها ثم قال مُفسرًا بنبرةٍ هادئة:.

مطروف العين هو زمان لقب العرب أطلقوه على العاشق وفسروه إن مطروف العين بفلانة يعني مبيشوفش غيرها، وأنا مثال حي لمطروف العين عند العرب، أنا مبشوفش غيرك أنتِ.
تحرك قلبها من محله وطفق الخجل يظهر على وجهها فقالت بنبرةٍ خجلة تتهرب منه أو لربما من خجلها:
طب. طب سلام بقى علشان أروح استأذن خالو.
ابتسم هو حينما تيقن من خجلها ومن هيئتها الآن ثم أغلق الهاتف وزفر بعمقٍ وهو يقول مبتسمًا:
يا صبر أيوب.

بعد مرور بعد الوقت نزلت عهد من بيتها ورافقتها قمر بعدما استأذنت من خالها وأعطاها الموافقة وحاولت من جديد التواصل مع شقيقها لكن الهاتف كما هو، وقفت عهد أمام البنابة تحمل في يديها المخبوزات و معها قمر أيضًا التي حملت حقيبتين، فاقترحت الأخرى بقلة حيلة:.

لازم نركب توكتوك يوصلنا لحد هناك، مش هنعرف نمشي كدا كل دا، معلش تعبتك معايا من الصبح بدري بس إن شاء الله يعني نخلص بدري مش هطول أو لحد ما يوسف يكلمني هو عارف أني هسبقه.
هزت الأخرى رأسها موافقةً لها وقد أتت المواصلة الشعبية التي تحدثت عنها فركبتها الاثنتان معًا نحو الحارة الخاصة ببيت والدها، وقد بدأت مشاعرها تتباين مع بعضها حتى وصلت المواصلة إلى هُناك ونزلت منها ومعها الأخرى.

حينها كان وجدي جالسًا بجوار محل الأدوات الصحية الخاص به وقد راقب نزول عهد ومن ترافقها فرفع صوته يقول بسخريةٍ:
تعيشوا وتفتكروا، ربنا يجعلها أخر الأحزان.

التفتت له عهد ترمقه بغيظٍ ثم تغاضت عن صوته وكلماته ثم التفتت تمسك كف قمر التي طالعته باشمئزازٍ ثم توجهت معها لداخل البيت بينما الأخرى ركضت نحو شقتها بسرعةٍ كُبرى وقد حاولت تفتح الباب لكن الباب كان موصدًا والمفتاح لم يعمل! حاولت من جديد وهي تهز الباب بعنفٍ فاقترحت قمر عليها بقولها:
طب أحاول أنا طيب؟ هاتي كدا؟

حاولت قمر بعدما تحركت لها عهد لكي تحاول الأخرى لكن أيضًا نفس النتيجة المحتم عليها بالفشل، مما جعل النيران تضرب بصدر عهد وقد توقعت هذا الفعل لكنها كانت تحاول الهرب منه، مما جعلها تترك الأشياء ثم ركضت من البيت نحو الأسفل وخلفها قمر أيضًا، فيما نزلت الأخرى نحو وجدي تهتف بنبرةٍ عالية في وجهه:
أنتَ غيرت الكالون! ها!

سحب الهواء من النرجيلة الفحمية ثم أخرجه في وجهها وهو يقول بتبجحٍ دون أن يراعي روابط الدم بينهما:
آه، أنا اللي غيرت الكالون وأنا اللي هبيع الشقة وأعلى ما في خيلك اركبيه يا بنت محفوظ وغوري بقى متطيريش الحجرين من نفوخي على الصبح.

شعرت بالقهر والغل يتفاقما بداخلها فاقتربت منه تمسك تلابيبه وهي تصرخ في وجهه بقهرٍ من قلبها المظلوم فتفاجئت به يدفعها بعيدًا عنه وهو يَسبها بأهلها فأسندتها قمر قبل أن تسقط الأخري بينما وجدي وجد الفرصة تأتي له على طبقٍ من فضة واقترب منها حتى يضربها وينتقم من زوجها فيها لكنه لم يضع في الحُسبان أن يجد كف أيوب يمنعه ثم يقف أمامهما درعًا وهو يقول بتهكمٍ:
ليك حظ تجرب كف أيوب.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة