رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الثامن والخمسون
نفس المكان من جديد بنفس الذكريات لكن هذه المرة مع أشخاصٍ جُدد يتم صنع المستقبل معهم، وقف يوسف يُطالعها بغير تصديق وكأنه يقف أمام جُرأتها في سرقة كل ما يُخصه وأعطاءه لمن لا يستحقه، حتى مكانه المفضل تنسبه لنفسها وتشارك به غيره، لكن هذا الأمر الآن لا يُشكل له فارقًا بل الآن أتى مع من تستحق.
انتبهت عهد لشرودهِ في وجه هذه الفتاة وقد انتبه لهما نادر أيضًا بعد نظرات زوجته، مربعٌ من أربع أضلاعٍ أمام بعضهم، الأجساد عن الحرِاك واقفة والأعين في الكلام سوابق عن الألسنةِ، يتم توزيع النظرات المُتعجبة وقد رافقها الاستنكار الشديد، كأن العقل يبتسم بسخريةٍ للقلبِ وهو يشير على اختياره وكأنه يسأله بكل تشفٍ به: ألم يكونوا هؤلاء هم اختيارك البغيض؟
قرأ يوسف نظراتهما له ولزوجتهِ فشدد مسكته لكفها وكأنه يحتمي هو بها منهم، يذكر نفسه وقلبه أنها معه وبالتالي الألم لن يكن موجودًا، وقد ابتسم بعينيه واستعاد ثباته وهو ينطق بنبرةٍ حملت فيها الكثير من المشاعر المُبهمة:
مش معقولة! القبطان نادر بنفسه هنا؟
ابتسم الأخر بتكلفٍ وهو يجاوبه:.
آه، شوفت بقى الدنيا صغيرة إزاي؟ مُصممة تجمعنا حتى لو مفيش واحد فينا عاوز دا مع التاني، بأي شكل بتجمعنا، على العموم أنا باجي هنا من ساعة ما اتجوزت، كويس إنك اختارت المكان دا.
ما هذا! هل يسرق هويته وحُبه للمكان كما سبق وسرق منه كل ما يَخصه؟ هل يطمس هويته وينسب ما لم يملكه لنفسهِ؟ حينها ابتسم يوسف له من جديد وقال بنفس الأسلوب المتمكن في الرد:.
والله هو كويس إنك أنتَ اللي اتجوزت المدام شهد علشان لولاها مكانش زمانك عرفت المكان دا، وزي ما قولت كل الأماكن بتجمعنا سوى حتى قلوب الحبايب كمان.
كان يقصد عمته و شهد التي بدا الضيق واضحًا على معالم وجهها وهي تطالع كفه المتشبث بكف عهد التي كانت توزع نظراتها بينهم بذهولٍ حتى وجدته يحرك رأسه لها وهو يقول بنبرةٍ اهدأ من سابقتها:.
أقدم ليكم يا جماعة، مراتي، الحقيقة كان نفسي نتقابل في ظروف تانية غير دي، بس هي الدنيا حكمت علينا بكدا، قولت أجيبها مكاني المفضل علشان كل حاجة هنا تبقى مفضلة، المكان وهي وأنا بس وهي معايا.
أخجلها كثيرًا بحديثهِ وجعل وجهها يتورد بحمرة الخجل فيما وقفت شهد تشعر بالضيق، وزعت نظراتها من جديد بينه وبين الفتاة التي يطالعها بكل حبٍ، والأدهى من ذلك أن عينيه نطقت بالحبِ لها، تقف بجواره كما الطفلة الصغيرة بجوار والدها وقد قطع لحظتهم هذه صوت رجلٍ ظهر من العدم يقرب الشابين في العُمر وما يزيد عن هذا قليلًا وقد هلل فور رؤيته لضيفهِ قائلًا:
مش ممكن! يوسف الراوي هنا؟
انتبه له يوسف واقترب منه يرد له التحية حتى هتف الأخر بمعاتبةٍ يلومه على غيابهِ عنه كثيرًا:
كل دا تغيب عننا! اومال لو مش دا مكانك من صغرك يعني؟ دا أنا بعتبرك الشريك المعنوي ليا هنا في المكان، قولت هلاقيك راجع بعيالك في إيدك تعرفهم عليا.
ضحك له يوسف ثم قال بنبرةٍ لازال بها أثر ضحكاته:.
هو بصحيح أنا مجيتش بعيالي، بس جيت بمراتي، ودي أول خروجة لينا سوى من ساعة كتب الكتاب وقولت والله ما تكون في مكان تاني غير هنا، دا أنتَ حبيبي أنتَ والمكان.
ربت الشاب على كتفه وقال بنبرةٍ هادئة:
المكان وصاحبه تحت أمرك، تؤمرني بحاجة؟
حينها قام نادر بسحب زوجته ورحل بها من محل وقوفهما وقد لاحظ البقية حركته هذه وخاصةً عهد التي رأت ضيقه واضحًا فيما أقترب يوسف من صديقه يتحدث معه بنبرةٍ خافتة جعلت الأخر يوميء له موافقًا ثم تركه وتحرك من مكانه يتجه إلى مكانٍ أخر وقد وقف يوسف بجوار عهد يبتسم لها حتى سألته هي بتيهٍ من نفسها من كل شيءٍ حولها:
هو إيه اللي بيحصل! فيه إيه؟
أمسك كفها من جديد وهتف بصدقٍ يُطمئنها:.
متقلقيش أنا هنا معاكِ وهقولك على كل حاجة.
بعد مرور دقائق تم أخذهما من المُرشد إلى المكان المطلوب التوجه إليه من قِبل يوسف عند لُعبة كبيرة الحجم بعيدة عن محط الأنظارِ تسمى باللغة الدارجة لعبة الساقية وقد نظرت عهد إلى زوجها تسأله بعينيها حتى قال بنبرةٍ هادئة:
يلا يا عهد.
قال جملتها ثم وضع كفه في ظهرها يحثها على الاندفاعِ حتى توجهت للُعبةِ وأجلسها في أحد المقاعد وهي مشدودة أو لربما مجذوبة من رهبتها في المكان ومما ينتوي فعلهِ، وقد انتظرته يجلس هو الأخر لكنها تفاجئت به يبتعد عنها ثم أغلق اللُعبة وقال بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
عاوزك تصرخي وتعيطي وتخرجي كل اللي جواكي هنا يا عهد دي أنسب طريقة تخليكي تفوقي من زعلك، وأنا هنا متخافيش، معاكي مش هغيب عنك.
ازدردت لُعابها وهي تطالعه بخوفٍ فيما أشار هو للعامل في محركات اللعبة حتى بدأ الأخر التحريك بينما بدأ صوتها في الارتفاع بخوفٍ وهي تنادي عليه أن يكون معها، صرخت بملء صوتها تتوسل إليه بقولها:
نزلني يا يوسف أنا بخاف، نزلني علشان خاطري. نزلني يا يوسف، أنا عمري ما جربت حاجة زي دي، يا يوسف!
صرخت بكملتها الأخيرة حينما تحركت اللُعبة بحركةٍ عنيفة اخفضتها للأسفل وفجأةً ارتفعت للأعلى وهي تصرخ بملء صوتها، وقد وقف يوسف يراقبها بعينيه، أراد أن يشاركها هذه اللحظة لكن في نفس التوقيت أرادها تصرخ وتخرج الطاقة السلبية من داخلها بهذا الشكل، لقد سبق وفعلها هو حينما تفاقمت مشاعره السلبية، أما هي فكانت تصرخ وتبكي وتحاول تضحك فعلت كل شيءٍ في نفس اللحظة، كلما ارتفعت بها اللعبة أغمضت عينيها لتقفز أمامها صورة من صور الذكريات، ولم تنكر إنها كلما صرخت شعرت بأنها خزان يفرغ تدريجيًا من بضائعه، استغلت عدم استماع البقية لها وظلت تصرخ حتى بكت فجأةً.
لاحظ يوسف بكائها واتضح لها ذلك حينما انخفضت اللعبة والتقت نظراته بنظراتها وهي تطالعه بعينين دامعتين، لقد تكالبت عليها الذكريات السيئة منذ احتضانها لوالدها في كفنهِ الأبيض وطردها من البيت بدون ذكرياته، سمعتها التي تم الخوض فيها، و سعد الذي هددها مرارًا وتكرارًا، كل شيءٍ منذ وفاة والدها يهدم فيها وهي حتى الصراخ عجزت عنه والآن اتيحت لها الفرصة، فتوجب عليها استغلالها، لذا صرخت من جديد ببكاءٍ حاد هذه المرة، أما هو ففهم كل ما تمر به، صدق القلب حينما أخبره إنها شبيهته لذا اصطفاها ومن بين سائر البشر أطمئن لها.
وزع نظراته بينها وهي تبكي وتصرخ وحينها نظر للشاب الذي فهم عليه وأخفض اللعبة حتى أصبحت هي في مستوى وقوفه وقد أقترب هو منها يجاورها وهي تطالعه بعينين دامعتين، الخوف الذي لاقته بمفردها في الأعلى أظهر ضعفها وقلة حيلتها، بينما هو أخرج المحارم الورقية ثم مسح على عينيها برقةٍ وهتف بصدقٍ:
أنا آسف بس لازم الوجع اللي جواكِ يخرج.
حركت رأسها موافقةً فيما أضاف هو بعدما ابتسم لها يحاول بث الطمأنينة لداخل قلبها:.
أنا معاكِ أهو، المرة دي هتفرحي.
أشار للشاب بعد إنتهاء جملته ليفهم الأخر مقصد الإشارة ثم قام بتحريك اللُعبة من جديد بهما سويًا لكن هذه المرة بحركةٍ أهدأ من السابق، هذه المرة أراد يوسف إضفاء الاستمتاع لها وقد تمسكت هي بكفهِ تلقائيًا حتى هتف لها في أذنها بنبرةٍ هادئة قائلًا:.
أنا معاكِ أهو وهي ماشية بهدوء، افتحي عيونك كدا وبصي على المكان حواليكِ، بص الدنيا من فوق عاملة إزاي، زحمة ومكركبة ومليانة حاجات مش مفهومة، بس افتحي عيونك شوفي اللي أنا شايفه كدا.
فتحت عينيها بتروٍ شديد وقد ازدادت الأضواء عن السابق بعدما قام العامل بإضاءة مصابيح اللُعبة، وجدت المدينة التي لم تحوي الصغير بين ازرعها مُضاءة وكل شيءٍ حولها بدا صغيرًا، تلك المرة لم تصرخ بل نظرت حولها بتعجبٍ وهي ترى نسب الأحجام الحقيقية حولها، أما هو فابتسم تلقائيًا لهدوئها وهي تراقب ما حولها بعينين لامعتين فأضاف هو من جديد عند ارتفاعهما للأعلى:.
بصي المكان رغم كل اللي فيه بس لسه منور، ولسه قادر يخطف أي عيون، كل الكركبة والزحمة اللي فيه مش مُبرر إن سحره يختفي، حاسة بإيه؟ خايفة؟
حركت رأسها نفيًا ثم نظرت له تقول بنبرةٍ تائهة بعدما وقعت تحت تأثير الخدر الذي استطاع هو أن يضعها فيه بسبب كلماته:
أنا أنا ضايعة، حاسة أني فرحانة وزعلانة في وقت واحد، حاسة أني مسروقة من نفسي، أنا مين؟
ابتسم لها ثم هتف يمازحها بقولهِ:
أنتِ حبيب عيوني.
حركت رأسها للجهةِ الأخرى بعينين لامعتين بسبب هذا اللقب، لقد أصبحت واحدة من كلماتها المفضلة التي تحب الاستماع لها، بينما هو أخرج هاتفها وقال بحديثٍ مراوغًا أصابها بالصدمة:
يلا بقى نتصور مع بعض علشان تبقى ذكرى لعيالنا لما تفتري عليا في يوم أقولهم أنا كنت بفسحها وأوديها الملاهي.
حدقت فيه بصدمةٍ مقروءة على تعابير وجهها فيما حرك شفتيها المُقتضبتين بإصبعيهِ حتى انفرجا ببسمةٍ زائفة ثم التقط هو الصورة لهما سويًا حتى ضحكت بصوتٍ عالٍ هي حينما تحركت اللعبة من جديد فجأةً بحركةٍ أسرع، ليصبحا معًا في عالمٍ خاص مثل الطيور التي خرجت من قفصها لتوها تختبر معنى الحُرية، صدقت حينما قالت إنه جناحيها، فلولاها لما كانت طارت من السماء مجازًا وفعلًا.
قد يجتمع ماضيك مع حاضرك وأنتَ ترى السعادة متجسدة أمامكم فيهما معًا، ربما كل الأماكن التي أتيتُ إليها بمفردك وكنت فيها بدون ونيسًا تشهد لك اليوم على حُبكَ لرفيقك، لا يوجد ما يُعرف بالمستحيل بل يوجد ما يأتي باليقين، اليقين الذي يتعامل به المرء مع خالقه سبحانه جل وعلا، كان أيوب يسير بجوار قمر في شارع المُعز لدين الله الفاطمي، هذا المكان الذي جمع بين الماضي الذي اختصره في هيئة المكان بحضارته وبين الحاضر على هيئة الأشخاص، بين الحين والآخر كانت التحية تُرسل له من الجالسين وهي تسير بجواره تبتسم له بفرحةٍ حتى وصلا إلى المَحلِ الخاص بهِ لتسأله هي بنبرةٍ هادئة من وجهها المبتسم:.
هما كلهم هنا عارفينك يا أيوب؟
حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ أقرب للتخمين في قولهِ:
مش كلهم، بس أنا لما بكون هنا يوم الجمعة بيخلوني أصلي بيهم، غير كدا إني في رمضان غالبًا بقضي الشهر كله هنا، فالأغلب منهم يا يعرفني كويس يا يسمع عني يا بيشوفني من بعيد، في النهاية الحمد لله دي محبة من ربنا بيحطها في قلوب العِباد للعباد.
توسعت بسمتها أكثر وهي تقول بنبرةٍ ظهر بها الخجل أو لربما الفخر به وبشخصهِ:.
هو بصراحة يعني أي حد يشوفك يحبك، يعني كل الناس دايمًا تدعي لوالدك وليك معاه، وبصراحة يعني عمري ما كنت أتخيل إنك كدا، وإنك تكون معايا في يوم من الأيام على طبيعتك، لأ وكمان بتقول كلام حلو، عارف! أنا قبل ما أعرفك كنت علطول زعلانة وعلطول متضايقة وساكتة، حاسة أني مش في مكاني، كل حاجة ضايعة مني، عيلتي اللي معرفش دمروا حياتنا ليه؟ وأخويا اللي غاب عننا، وأنا اللي عايشة من غير أي سبب، وأكبر سبب لما كنت فاكرة إن حتى أنتَ بعيد عني برضه، أنتَ جميل أوي علشان أنا بقيت مرتاحة من ساعة ظهورك.
نظر حوله يراقب المكان ثم أقترب منها يهمس بقولهِ ردًا على حديثها الذي غمره بالسعادةِ الكاملة:.
يعني هو إحنا كنا نطول؟ طب أقولك أنا على سر؟ أنا بحبك من سنتين، من ساعة الزير اللي كسرتيه، ساعتها أنا انشغلت بيكِ، وكانت أول مرة افتكر ملامح بنت، صورتك ساعتها مفارقتش خيالي، ودلوقتي مش بتفارقيني، عاوزك علطول معايا وعاوزك قصاد عيني، عاوز ييجي يوم تكوني معايا في بيتي واشاركك كل حاجة عني اللي فات واللي بعيشه واللي جاي كمان، وأنا واثق إن الأيام دي هتيجي علينا مع بعض بأمر الله، علشان كلي يقين إن ربنا مش هيعلق قلبي بيكِ من غير ما أحقق اللي عاوزه معاكِ يا قمر.
ابتسمت هي بخجلٍ حتى ظهرت نواغز خديها ثم هتفت بحماسٍ يشبه حماسها حينما تتحدث بتلقائيةٍ:
أنا كدا كدا معاك في أي حاجة، وكدا كدا مسلمالك قلبي علشان عارفة إنه في أيد أمينة عمرها ما هتخون القلب دا، أوعى تتغير عليا يا أيوب خليني دايمًا شايفاك مكاني اللي مش هينفع أعيش غير فيه، طمن خوفي إن حياتنا مش هتتدمر زي ما حياتي اتدمرت قبل كدا.
رفع كفه يحتضن صفحة وجهها ماسحًا عليها برفقٍ ببنانة أصابعه وهتف بنبرةٍ رخيمة يزيل من قلبها أي خوفٍ كما يراه هو بعينيها:.
ثقي في ربك وأدعي بكل ثقة أنه هيحقق أملك، وخلي حب ربنا في قلبك قبل حُبي أنا، وخلي أمنيتك لطريق ربنا قبل الطريق معايا، ونيتك الجواز مني بغرض العِفة وإنجاب أولاد مسلمين نتباهى بيهم قدام ربنا ثم سيدنا محمد، وأنا والله لحد أخر ذرة فيا هفضل معاكِ وأحاول علشانك، زي ما هحاول أخدك معايا للجنة، ودلوقتي هاخدك معايا.
سحبها من كفها ثم خلفه بُغتةً مما جعلها تشهق بحركةٍ تلقائية من فعلهِ فيما دلف هو بها للداخل بعدما استأذن مساعده وفتح الباب الصغير في محلهِ، وما إن دلف بها لهذا الجزء رفعت عينيها بدهشةٍ تتابعه، كان المكان عبارة عن مكانٍ صغيرٍ أسفل الأرض نزلته بثلاثة دراجات لتقف في مكانٍ من صُمم من قوالب الطوب الحجرية باللون البُني في أول درجاته وقد توسطتته أدوات صناعة الفخار، وصممت نوافذه على الطراز المصري الإسلامي في أول عصوره.
نظرت حولها ترى الأرفف الذي قام هو بوضع أدواته الفخارية فوقها ثم التفتت له تسأله بعينين لامعتا ببريقٍ خاصٍ لأجل ضحكته فقط:
المكان هنا أحلى من برة، كأني في العصر القديم، دا تحفة فنية، إزاي بتسيب المكان هنا! احبسني هنا علشان خاطري.
أشار على عينيهِ وهتف مُصدقًا على حديثها:.
من عيوني الاتنين، كدا كدا أصلًا عاوز أحبسك بجد مش هزار، تلقائيتك مخلياني عاوز أقفل عليكِ في برطمان ازاز، بس مفارقتش كتير هقفل عليكِ هنا في برطمان حجري، علشان تكوني ليا أنا بس، قولتي إيه؟
قلبت عينيها بتفكيرٍ ثم أقتربت منه تمسك كفيها وهي ترد عليه بنبرةٍ ضاحكة تنصاع خلف حديثه مهما كان:
موافقة، كفاية أني هبقى معاك أنتَ بس.
ابتسم بعينيه لها ثم اقترب بها من العجلة الخشبية الموضوعة في المنتصف وحولها أدوات الفخار ثم خلع سترته ألقاها خلفه وقام بطي أكمام قميصه وسحب مقعده يقربه منها وقال بنبرةٍ هادئة:
طب يلا يا طارفة عين الأسطى أيوب علشان هعلمك.
اتسعت عيناها بدهشةٍ من جملته فيما رفع هو قدمه يضعها على العجلة يختبر دورانها ثم قام بأخذ كومة من الطين وسحب كفيها يحاوطهما بكفيهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.
سيبي إيدك تمشي مع خطوات أيدي بالظبط، اللي هعمله تعمليه، وأهم حاجة متشديش أعصابك علشان الطين بيحس بالشدة، سيبي إيدك خالص ومتخافيش.
توترت من اقترابهِ بهذا الشكل وصوته الرخيم الذي عبر أذنها كما أن رائحته الطيبة التي عبارة عن رائحة المِسك تفوح منه، بينما هو ركز بصره على العجلة وصب كامل تركيزه على ما يفعله يتجاهل خوفها حتى أمرها بنبرةٍ قوية:
ركزي معايا يا قمر.
هتفت هي بتلقائيةٍ وبدون وعيٍ لما تنطقه:.
والله العظيم ما مركزة مع حد غيرك أنتَ.
ضحك رغمًا عنه وانتبهت هي لما تحدثت به فاصطبغ وجهها بحمرة الخجل، فيما بدأ هو تدوير العجلة والبدء في تشكيل الطين الفخاري وقد تجاهل عن قصد جملتها حتى لا يتسبب في إحراجها حتى هتفت هي بخوفٍ من تخريب هذا الشيء:
يا أيوب هبوظه، والله حرام هيبوظ مني.
هتف بنبرةٍ هادئة يُطمئنها بقولهِ ردًا عليها لكي يبعد خوفها:.
فداكِ، حتى لو باظت هتبقى ذكرى حلوة لينا علشان عملناها مع بعض إحنا الاتنين، كملي بس معايا وبصي كدا وأفرحي باللي بتعمليه دا.
ضحكت له ثم نظرت أمامها فيما وضع استمر هو في تحريك كفيها أسفل كفيه على الشكل الفُخاري الذي بدأ يأخذ الطور الأخير في تشكيلهِ حتى أوقف هو العجلة الفخارية ثم سحب السكين يقطع به الشكل من جذورهِ وهي تتابعه بعينيها حتى وجدته يُضيف بسعادةٍ من نبرته الضاحكة:.
أول مرة أعمل حاجة بالفخار تبوظ مني وأكون متكيف كدا، تصدقي والله هييجي منها في الأخر.
تذمرت من سخريته عليها وهتفت بضجرٍ ردًا عليهِ:
علي فكرة قولتلك هتبوظ مني، أهيه ملهاش لازمة في الأخر، إيه دي بقى؟
قام بسحب الإبرة الكبيرة ثم أمسك كف زوجته وحفر عليها من الخارج بكفيهما معًا لكي يكون الشيء المصنوع بأكملهِ منهما معًا:
قمر أيوب.
كتبها على الفخار بالخط العربي حتى ابتسمت هي له بسعادةٍ جلت تذمرها بعيدًا فور رؤيتها للاسمين مع بعضهما حتى أضاف وهو يطالع عمق عينيها البريئة بصفاءٍ:
كدا بقت ليها لازمة حطيها في أوضتك علشان كل ما عينك تقع عليها تفتكري إننا عاملنا حاجة زي دي مع بعض ولبعض، والمرة الجاية هتعملي حاجة أحلى بس لما تركزي في الفخار، مش في حاجة تانية.
أخفت عينيها عنهِ بخجلٍ من حديثها وتلقائيتها حتى ضحك هو عليها ثم لثم جبينها بقبلةٍ حنونة وقد صدح صوت الطرقات على الباب من الخارج وحينها تركها هو ثم فتح الباب لمساعده الذي مد يده له بمظروفٍ أبيض أُرسِلَ لها وقال بنبرةٍ حائرة:
الظرف دا جالك يا أستاذ أيوب، حد سابه ومشي.
أخذه منه أيوب بحيرةٍ ثم فتحه بأطراف بنانهِ بالرغم إنه اتسخ بسبب أصابعه التي عَلُقَ بها الطين الفخاري، كانت ملامحه عادية ولم يهتم كثيرًا ظنًا أنها ربما تكون طلب مساعدة من أحد أفراد المنطقة وهو يتوجب عليه أن يُلبيها حتى وجد بداخل المظروف ورقة سوداء كُتِبَ بداخلها:
خلي بالك على القمر على معاك، مش قمر برضه؟
صُعِقَ مما رأه وتبدلت ملامحه على الفورِ للصدمة والذهول يُرافقهما الخوف عليها، وجدها تقترب منه من الخلف فقام باخفاء الورقة وقال بنبرةٍ ضائعة يحاول برمجة الحديث على لسانه:
دا حد عاوز مني حاجة برة، خليكِ هنا راجعلك تاني.
هزت رأسها موافقةً فيما خرج هو بلهفةٍ ينادي على مساعده بقوله الذي خرج منه ملهوفًا:
محمد! يا محمد.
انتبه له الشاب وأقترب منه ليسأله حينها هو بلهفةٍ أزدادت عن السابق:.
مين اللي ساب الورقة دي؟ وقالك إيه؟
حرك كتفيه بحيرةٍ وهو يقول:
شاب كدا لابس نضارة وكاب وقف يبص على الحاجات أفتكرته زي السُياح اللي هنا بس دا ابتسم وقالي سلمها للشيخ أيوب وبس سابني ومشي.
ازداد الخوف أكثر من السابق وتأكد أن الأمر لن يمر مرور الكرام، في المرة السابقة محاولة خطفه وقد نجا منها بكرم الله عليهِ، أما هي! فلن تبقى الأمور بنفس مقدور هدوئها، لذا سحب نفسًا عميقًا يستغفر ربه وقرر أن يعود لها يستأنف يومه معه كما خطط حتى لا يُثير قلقها، فيكفيه من الأساس أنها لازالت تخشى كل الناس عداه هو آمنت له، فيتوجب عليه أن يكون هو الآمان لها.
اجتمعت كل الخصال التي يُحبها المرء فيها هي،.
كانت هي الإختصار الوحيد لكل شيءٍ حولهِ أراده هو، القوة والدهاء والحنان والتلقائية، لقد حُرِمَ من العيش في بيتٍ تملئه العواطف أو حتى كما يعيش سائر الناسِ، كان بيتًا مؤلمًا وللمرء كان قاتلًا، حتى خشى أن تمر الأيام عليه ويكون كما المزعوم والده، لكن هي؟ تفننت أن تكون مثل والدته، تفننت أن تملأ البيت بالحنانِ والحيوية والنشاط، يراها دومًا كما كان يرى أمه في صغرهِ.
هكذا فكر إيهاب الذي وقف على أعتاب المطبخ يتابعها وهي تقوم بتنظيفهِ كعادتها بنهاية كل أسبوع، ارتدى ثيابه وتجهز للخروج من البيت وقد مر عليها يسألها باهتمامٍ:
أنا هروح عند عزيز أشوف الكافيه بتاع الواد سراج وبالمرة أفوت على إسماعيل علشان مُحي بيه في عيد ميلاد، عاوزة حاجة مني؟
التفتت له ترد عليه بنفيٍ:
تروح وترجع بالسلامة يا سي إيهاب، متعوقش بس في الليل علشان مترجعش متأخر، ربنا يستر طريقك.
ابتسم لها وهز رأسه مومئًا حتى اقتربت منه تسأله بلهفةٍ بعدما تذكرت لتوها ما حدث في وضح النهار:
يوه نسيت يا أخويا أقولك، بس هات إيدك على الحلاوة الأول، مش هتاكلها علينا يعني.
رفع ذراعيه يضعهما في خصرها ثم قربها منه وهو يقول بمراوغةٍ كطبعهِ الوقح دومًا:
هو في أحلى من كدا يعني؟ هات اللي عندك يا عمنا.
تغاضت هي عن فعلهِ ثم تنهدت بضجرٍ وقالت بقلة حيلة بنفس طريقة حديثها العشوائية المُحببة لقلبهِ:.
دا أنتَ! والله ماحد يعرف ياخد منك حق أو باطل، المهم أنا كلمت أخوك، صحيح فضل يتلاوع عليا أكنه حرامي مقفوش في كمين بسريقة، بس على مين، دا أنا سمارة يا أخويا، أخوك حب يصدرلي المستعبطة روحت واكلاه هو وهي.
ضحك بصوتٍ عالٍ على طريقتها وهي تتحدث فيما تلوت هي بين كفيه حتى تتحرك وتتركه بسبب سخريته وضحكه عليها، فقال هو بعدما أوقف الضحكات التي أرتفعت في أخرها:.
خلاص بقى، أنتِ اللي بتقولي على أخويا كلام مش مظبوط، لو حد غيرك كان زماني واكلك كف محترم، لكن أنتِ خط أخضر وبشوقك، ها قالك إيه؟
بدأت تخبره بما حدث في جلستها مع شقيقه وتخبره بمدى حزنه وكيف يتهرب مما يشعر به تجاه نفسه حتى قبل مشاعره تجاه الفتاة، وبعدما أنهت تفاصيل الحوار الذي دار بينهما أضافت من جديد بلهفةٍ تعبر عن مدى دهائها:.
هو بقى حب يتهرب ويقولي مفيش حاجة ومفيش حد، أنا قبلها كنت قافلة النت وروحت أنا فاتحاه وجاتلي رسالة ساعتها فهمته إنها من ضُحى وبعتالي صورنا مع بعض في كتب الكتاب، وخليته خد التليفون يبص فيه ألاقي الواد يا أخويا عينيه بتطلع قلوب وأنا بيني وبينك كنت مكبرة التليفون على صورتها، شكله واقع لشوشته.
ضحك إيهاب لها وظهرت الراحة على مُحياهِ، الفكرة نفسها جعلته يشعر بالرضا التام لأجل شقيقه الذي يغفل عن حبه وعن مشاعره لذا سحب نفسًا عميقًا ثم لثم وجنة زوجته وقال بنبرةٍ رخيمة:
هجيبلك أنا الحاجة الحلوة وأنا جاي، سلام يا عمنا.
تركها ورحل من الشقة وهي تنظر في أثره بهيامٍ ثم قالت لنفسها بعدما أغلق الباب ورحل تمامًا:
أقسم بالله ما عمهم غيرك أنتَ، إيه ياختي دا؟ حماتي اتوحمت على صينية بقلاوة؟
عادت لسيرتها الاولى تستأنف عملها بعد رحيله، فيما توجه زوجها إلى البيت من الأسفل يخبر نَعيم برحيلهِ ثم بعد ذلك يتجه إلى مكان العمل الذي ذهب إليه شقيقه من وسط النهار.
أراد أن يطمئن على شئون الكافيهات التي يقوم هو بإدارتها يهرب من نفسهِ في العمل هنا، وقد جلس في غرفة مكتبه يتابع الفواتير التي تم جمعها بعد دفع ثمن البضائع والفواكه، كان يوازن بين التكاليف والدخل بكل تركيزه وفي يده حمل السيجارة يُشغل نفسه فيها في إنتظار كشف الحساب الجديد الخاص بمصاريف الأسبوع الماضي، أعاد ظهره للخلف وحرك رأسه نحو الشاشة يتابع المكان من خلالها وقد تأهبت حواسه فجأةً عند رؤيته لها!
نعم هي، عيناه لن تكذب عليه في رؤيتها، هو يعلمها ويعرفها جيدًا، لكن كيف أتت إلى هُنا ولما أتت لهُنا؟ رفرف بأهدابه عدة مرات حتى تأكد أنها هي؛ لذا أغلق الدفتر ووقف يُهندم ثيابه ثم خرج من مكتبهِ بثباتٍ، أراد أن تثير استفزازه كما تفعل، أراد أن يرد عليها بنفس المعاملة التي عاملته بها في بيتها، كان يرتدي قميصًا باللون الزيتي والبنطال باللون البُني والحذاء الرياضي باللون الأبيض.
كان وسيمًا في ملابسه العصرية وقصد المرور من جوار طاولتها حتى شهقت هي بدهشةٍ وانتبهت صديقاتها إلى فعلها، أما هو فرغمًا عنه ضحك على ملامحها خاصةً حينما خطفت قائمة المشروبات تخفي بها وجهها حتى لا يتعرف عليها، فرفع حينها حاجبيه بغير تصديق ولازالت ملامحه منبسطة وكأنها تضحك بسعادةٍ لم يفهمها هو، وحينما رفعت عينيها من فوق القائمة تراقبه ووجدته كما هو يقف محله حينها شهقت وأخفضت رأسها من جديد فسألتها واحدة من إحدى الفتيات بتعجبٍ:.
أنتِ عبيطة يا ضُحى؟ مستخبية من مين؟ مش قولتي المكان هنا حلو والصور فيه حلوة علشان عيد ميلاد مُنى؟ مكسوفة أنتِ ولا إيه حكايتك؟
أشارت عليه وهي تقول بنبرةٍ خافتة:
الواد اللي واقف هناك دا، متبصوش.
في ثانية حركت الفتيات رأسهن نحوه حتى ضربت هي فوق رأسه من غبائهن، فلاحظ هو حركة الفتيات لذا سحب مقعدًا يجلس عليه بالقرب منهن حتى قالت هي بهمسٍ حانقٍ توبخهن:.
انتوا اغبيا ليه؟ دا صاحب يوسف ابن خالي، ولقيته هنا متصور مع يوسف والصور كلها حلوة أوي، والهانم عاوزة تغيظ الاكس، محدش بقى ينطق شكله مقيم هنا.
أشار هو لأحد العمال بالمكانِ وما إن أقترب منه أشار له على طاولتهن حتى أقترب الشاب وهو يقول بأدبٍ:
مساء الخير يا آنسات تؤمروا بإيه؟
نظرت الفتيات لبعضهن بحيرةٍ جعلت إسماعيل يقترب منهن يقول بنبرةٍ هادئة من وجهه المبتسم:.
مساء الخير، مع حضراتكم إسماعيل الموجي مدير المكان هنا اللي هو في الأصل بتاع أخويا و يوسف مع بعض، والآنسة ضُحى صاحبة المكان هنا، يعني أي حاجة عاوزينها على حسابها هي.
حركت رأسها نحوه بعينين ضيقت هي جفونهما تنذره بتوعدٍ له بخلاف دهشتها من امتلاك أخيها للمكانِ فيما عَدل هو حديثه بقولهِ:.
اقصد يعني الحساب على المكان، تحت أمركم نورتوا، عندنا هنا مشاريب مطرقعة ومشاريب مجنونة وهتلاقوا كمان مشروبات سَمجة أوي، عن إذنكم.
عاد لمكتبهِ من جديد فيما زفرت هي بقوةٍ وضحكت الفتيات عليها حتى قالت هي بضجرٍ بعد رحيله:
طب والله لو كنت أعرف أنه المدير كنت خليت يوسف رماه من هنا، بلا وكسة عليا مش لما أعرف إن يوسف صاحب المكان الأول؟
عدلت حديثها بسخطٍ على الوضع حتى ضحكت عليها الفتيات فيما دلف مكتبه يشعر بغمرة الانتشاء والانتصار معًا، لا يدري السبب ولا يهمه من الأساس أن يعلمه، يكفيه أن وجدها هُنا دون أن يعلم السبب لذا عاد لمقعده وفتح الشاشة من جديد فوجدها مع الفتيات تقوم بالتقاط الصور لهن حتى وصلت أطباق الحلويات الفاخرة أمامهن فقامت هي بإخراج الأرقام من حقيبتها تضعهما في قالب الحلوى الخاص برفيقتها.
يبدو أنها تعشق الصور والنزهات وتحب الحلويات كثيرًا وكذلك تفضل ارتداء الأحذية الرياضية كثيرًا، تعشق التجارب والمغامرات، تحب دومًا وجود الصديقات معها، ممتازة في عملها، كل هذه التفاصيل أصبح يعرفها من تتبعه لها، برعت في إثارة فضوله تجاهها ثم تعود وتتصنع البراءة وكأنها لم تفعل شيئًا، إحساسه تجاهه لم يخطر ببالهِ قط، أراد أن تمد كفها له تسحبه داخل عالمها، أراد أن يكون شريكًا في هذه الحياة، فتح هاتفه يكتب عبر الفيسبوك واصفًا حاله معها:.
قد يسير الطير بدون مقصدٍ،
لكن كل الطُرقات ترشده في نهاية الأمر إلى موطنه.
كتبها وهو لا يعلم حتى من منهما يأتي للأخر، هل ستستمر علاقته بها عبر شاشة هاتفه فقط يسير مُنصاعًا خلف فضوله لها أم سيأتي اليوم الذي تكون معه؟ أو لربما ستختفي من عالمه حينما تعلم حقيقته وحقيقة أسراره التي لم يملك هو الجرأة لكي يخبرها عنه أو بما يحدث له، حينها تبددت راحته واتضح عليه الخوف، حتى وإن كان متعطشًا للمياه فلن يقدر على أخذ المياه منها، يبدو كخيلٍ تركوه في ميدان الركض لكي يسبق البقية وما إن ركض وكاد أن يصل وجد قدمه مُكبلة بلجامٍ من حديدٍ يمنعه من أخذ باقي الخطوات، لذا أغلق هاتفه ووضعه في جيبه ونظر للشاشةِ مرةٍ أخرى يتابعها بعينيه ثم أغلقها تمامًا.
هذا الذي يخشى نفسه كيف سيأمن لها؟
كيف يخبرها بحقيقته دون أن يشعر بالخوف؟ من المؤكد مثلها لن تحتاج لمثلهِ، قد يكون عبئًا عليها في بعض الليالي، وقد تتعرض معه لخطوراتٍ كثيرة، لذا يتوجب على كلٍ منهما أن يبقى بداخل أرضه ولا يعبر للأخر.
ذهب النهار بعيدًا وبدأ الليل في الإعلان عن نفسهِ، لحينها لم يفرغ البيت من الزائرين، لازال البيت يستقبل النساء المقربين والرجال والشباب لتقديم المباركة للعروسين، حينها كانت نِهال ترحب بهم بقدر ما حاولت أن تندمج وسطهم، كانت تراقب نظراتهم نحوها لتفهم طريقة التفكير التي يفكرون بها تجاهها، كانت تخشى النظرة القاتلة التي يُلقيها المجتمع على إمرأةٍ مثلها، تخشى نظرتهم لها كونها مُطلقة تزوجت للمرةِ الثانية والد طالبها المفضل، بالطبع ستكون النظرة مُزدرية إذا كانت هذه هي نقطة الأصل في نظرة المجتمع العقيم.
كان أيهم يفهم طريقة تفكيرها وهي تجلس أمام الضيوف تفرك كفيها معًا وقد تحدثت تريز والدة رفيقه بقولها بنبرةٍ ضاحكة:
ياختي أضحكي كدا وفرفشي أنتِ مكسوفة يا عروسة؟ بكرة تاخدي علينا كلنا كدا ونقعد شلة واحدة مع بعض محدش يقدر يقف قصادنا غير الواد أيوب، بصراحة علشان دا مربينا كلنا.
ابتسمت لها نهال وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول بها إخفاء توترها:.
لأ عادي أنا بس علشان لسه بتعرف على حضراتكم، بس إن شاء الله يعني أكون خفيفة وسطكم ومحدش يتضايق مني.
دلف لها إياد ركضًا من الخارج يجلس بجوارها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
محدش بيتضايق منك خالص، عارفة كمان؟ هما لو مش بيحبوكي مش هييجوا يقعدوا هنا، بس متمشيش خالص وهما هيحبوكي كلهم وبابا كمان، وجدو وكلنا.
رفعت كفها تمسح على رأسهِ وهي تقول بنبرةٍ متأثرة بحديث الصغير:.
مش هامشي خالص طالما كلهم هيحبوني، بس أنتَ كمان حبني أوي أوي وأنا مش هتحرك غير بيك، بس لسه فيه مذاكرة ودروس سيبك من الدلع دا، واخد بالك.
نظر لوالده بعينيه المُبتسمتين ثم أعاد بصره يستقر على وجهها من جديد وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
موافق، طالما أنتِ اللي هتذاكريلي.
تعلق الصغير بها بدا ملحوظًا لهم جميعًا، يود أن تبقى هنا كما لم تفعل والدته ويود أن يعيش معها كل اللحظات كما حرمته والدته، تلك الغبية التي تخلت عنه وعن احتضانهِ، حتى أنه كان يتعمد الظهور أمامها في بعض الأحيانِ لكي يرى رد فعلها لكنها كانت دومًا تتجاهله عن قصدٍ خشيةً على الأموالِ.
لاحظ أيهم شروده بعينين لامعتين فسأله بتعجبٍ من صمته المفاجيء وشروده في وادٍ غير واديهم:
سرحت في إيه؟ في حاجة مزعلاك؟
هز رأسه نفيًا وابتسم رغمًا عنه ثم حرك جسده يجلس بين والده و نِهال لتكتمل الصورة الناقصة بعقلهِ دومًا، وما إن جاورهما رفع رأسه للأعلى يبتسم من جديد وهو يمتن للخالق بقلبهِ، هذا الصغير الذي لازال في التاسعة من عمرهِ دومًا يفهم ضرورة امتنانه لربهِ على لطفهِ به حتى تدوم النِعم طويلًا.
في مكانٍ أخر بحارة العطار كانت أماني تجلس في شرفة الشقة تضع كفها أسفل ذقنها وهي تهز جسدها بتشنجٍ واضحٍ بعد حديث أخيها الذي أخبره به بيشوي وعن ضرورة ابتعادها عن حياة الصغير، الآن فقط أدركت معنى أن يذهب كل شيءٍ من يدها، كيف استطاع أن يتزوج أخرى غيرها بعدما كان يخبرها دومًا بحبهِ؟ ظنت أن رحيلها سيكون الضربة القاسية له حتى ينفذ لها كل أوامرها، لكنها تفاجئت به يفلت كفيه من الإمساك بها.
لاحظت والدتها حالتها فاقتربت منها تنطق بتهكمٍ وهي تقوم بسرد حبات الخضروات من الصحن المعدني الكبير الذي تمسكه في يديها:
قولتلك متروحيش، هتركبي نفسك الغلط واحنا مش قدهم، أهو حطوكي في وش المدفع، معرفش أنتِ وش فقر ليه؟ حد كان طايل عيشتك؟ دا إحنا في كل مكان لو حد كان سأل وعرف إننا تبعهم كان بيتضرب لينا تعظيم سلام، الناس كانت بتقوم لينا حتى ولو على رجل واحدة تقف علشاننا، منك لله يا بنت بطني.
صرخت أماني فيها بنبرةٍ عالية وهي تقول:.
ياما كفاية بالله عليكِ بقى، وهو يعني عيشتي هناك دي كانت عيشة؟ دول كانوا مطلعين عين أهلي كلهم، صاحبتك دي متجيش هنا علشان معرفش إيه، متروحيش بيت فلانة علشان مش شبهنا، داري شعرك علشان سي زفت بيضايق، وسعي لبسك في الجنينة علشان محدش يتكلم، آيات هتتخطب اعملي وسوي، وفي الأخر اسمي برضه ساكنة في الحارة، كل اللي عندهم دا واستخسر فيا شقة في حتة نضيفة زي بقية الخلق اللي عايشين وبنشوفهم، اومال لو مش معاه بقى؟ دول عندهم بيوت في كل حتة، وأخوه اللي عاملي فيها الشعراوي دا، يفضل يسخنه عليا، خنقوني ياما.
خرج شقيقها من المرحاض يمسح رأسهِ بالمنشفة وهتف بنبرةٍ عالية ردًا عليها:
أهو أنتِ زي اللي رمى ابنه في الطوفان، ياختي اتوكسي، هو حد كان مهتم بيكِ جوة؟ دي وداد كلمتها هناك مسموعة عنك، أهو الواد ابنك رزعك نفس الكف، دلوقتي بقى دورك تشوفي حالك أختي، آه الفلوس هتطير، روحي شوفيلك محل كدا وابدأي مشروعك، وسيبك من سيرتهم بقى، خلاص مالكيش محتوى غيرهم؟
نظرت له بقهرٍ وهي تقول بنبرةٍ أعربت عن غِلها المدفون أسفل رُكام قلبها الأسود الذي نشأ على الطمع والكذب والحيل وكأنه لم يرْ أي صفاءٍ قط:
قاهرني، يرميلي أنا كام ملطوش ويجيب الهانم الجديدة دي يهننها في البيت وتاخد ابني على الجاهز، بس على مين؟ والله ما هسكت ولا هسيبها ترتاح هي ولا هو، يتجوز بعدي أنا! دا كلم طوب الأرض علشان يتجوزني.
ابتسم شقيقها بسخريةٍ على حديثها ثم خطف من أمام والدته ثمرة طماطم وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة بها توارى التهكم على حال شقيقته:
علي رأي المثل، يوم ما قفاه شبع ضرب وخلاص استوى، راح واخد اللي معلمين عليه محتوى.
ضحكت والدته رغمًا عنها فيما أمسكت أماني حقيبة المشابك البلاستيكية ثم ألقتها عليه بسبب غيظها منه وتشفيه بيها، ألم يكن هذا الغبي معاونًا لها؟ ألم يكن هو من أول الأسباب التي دفعتها لترك بيت العطار والقدوم إلى هنا حتى تعلم هذه العائلة قيمتها؟ مهلًا ستخرج كيد النساء وتستعيد ابنها والأموال، لن تقبل بخسارة أي شيءٍ كان لها مملوكًا.
توقفت سيارة سراج أمام بيت عادل بعدما عاد من موعدهم مع الطبيب، جلست نور في الخلف بجوار جودي وبجواره جلس عادل الذي قال بنبرةٍ هادئة يعبر عن الإمتنان له بقولهِ:
ألف شكر يا سراج معلش تعبتك معايا، بس نور مكانتش هتقدر لوحدها، أهو الدكتور طمننا خلاص الحمد لله، أظن كدا تشوف حالك بقى وسامحنا على التعطيل.
تحدث سراج بودٍ له يرفع عنه الحرج:.
متقولش كدا يا عمي، أنا زي ابنك برضه، على العموم أنا موجود والآشعة بتاعة الأسبوع الجاي أنا هاجي معاك نشوفها ونعملها، تحت أمرك في أي وقت.
بعد مرور دقائق نزل من السيارة بمفردهِ وجاورته نور التي تعمدت الهرب من النظر إلى سراج الذي تجاهلها هو الأخر منذ علمه بضرورة سفرها من جديد، أي قساوة هذه؟ ألن ترفق به وترأف بحالهِ؟ هل سيظل في نظرها مُجرمًا هكذا؟ الجميع أقسموا بصلاح حالهِ وهي لازالت تغضب منه؟
جلس عادل على مقعده في الحديقة بيتهِ وقد جاورته نور تحاول البدء معه في التحدث وما إن قامت ببرمجة الحديث في طرف لسانها سحبت نفسًا عميقًا وهتفت بترددٍ:
بابا أنا هسافر بعد أسبوع أو 10 أيام كدا.
صُعِقَ هو من حديثها وبُهِتَتْ ملامحهُ نتيجةً لخيبة الأمل التي تلحقها هي بهِ، بعدما فرح بعودتها إلى هنا وبعدما رأى الخير في ابتلاءه بالمرض وهو رؤية فلذة كبده، الآن يفيق على صفعة أقوى من ألم مرضه، فوجدها تضيف بلهفةٍ:
بس صدقني مش هغيب زي المرة اللي فاتت، المرة دي شوية وهرجع والله بابا أنتَ مش هترد عليا؟ طب قولي أي حاجة.
ابتسم بوجعٍ ولمعت العبرات في مُقلتيهِ حينما تثبتت أنظاره عليها، رأى الوجع في عينيها هي الأخرى لذا سألها بنبرةٍ مبحوحة:
ليه يا نور؟ ليه مصممة تتعبيني؟ يا بنتي دا أنا ما صدقت الدنيا ضحكتلي شوية برجوعك تاني ليا، قولت الخير اللي في تعبي هو إنك تكوني معايا، دا أنا بقيت عاوز أخف وبقيت بعاند تعبي علشانك، ليه يا نور؟
مسحت دموعها بأطراف بنانها وقالت بنبرةٍ مُحشرجة بعدما خيم البكاء على حنجرتها واستوطنت الغِصة في حلقها:
يا بابا والله هاجي تاني، أنا أتطمنت عليك أهو.
ابتسم بوجعٍ وهتف يسخر منها لكن بسخريةٍ لاذعة:
هتيجي؟ إمتى يا نور؟ المرة اللي فاتت جيتي بعدما لحقوني وأنا بيني وبين الموت شعرة واحدة، المرة الجاية هتيجي تلحقي الخشبة وهي خارجة من البيت؟ ولا هتيجي وأنا بدخل قبري؟ ولا قصدك على الذِكرى السنوية يعني؟
بكت من قسوة سخريته عليها ومن عدم قدرته على فهم هروبها من المكان، كيف غفل عن وجعها الذي يحيا كلما ذُكِر اسمه أمامها من جديد؟ سألها والدها بتعجبٍ من نحيبها وهي تبكي بقهرٍ مؤلم له قبلها هي نفسها:
يا بنتي بتعيطي ليه؟ لو مش عاوزة خليكِ، ولو عاوزة امشي يا نور محدش هيجبرك على حاجة، المهم تكوني مرتاحة.
ردت عليه بنبرةٍ مبحوحة من البكاء لكن حديثها كان موجعًا وهي تخبره بألمها الذي لم ينفك عنها:.
علشان تعبت وهو قدامي، مش عارفة أعيش وهو هنا ومحاوطني في كل مكان، لا أنا قادرة اتخطتاه وأعيش ولا هاين عليا أنساه وأكمل، ولا قادرة أنسى عملته وإني هونت عليه، إزاي أتقبل أنه راح يضحي بصاحبه وإزاي أقبل أنه ضرب باللي بينا عرض الحيطة وراح يطلع آثار، أنا تعبت وهو مش فاهم حاجة زي دي، وجوده قصادي بيأذيني، بيفكرني بأحلامي اللي ملحقتش أحققها، بيفكرني بالبيت والفستان الأبيض وبحياتي اللي كنت بعد ليها بالساعة، وجوده تاعبني والله.
ضمها عادل بين ذراعيه يسألها بنبرةٍ حزينة لأجل حزنها هي الأخرى:
طب ولما هو أنتِ مش قادرة تنسي اللي عمله وخلاص قافلة نفسك من ناحيته، زعلانة ليه؟ إيه اللي مخليه فارق معاكي؟
هتفت ببكاءٍ تُشفق على حال قلبها:.
علشان لسه بحبه يا بابا، لسه معشمة نفسي أني أقدر، مش قادرة أنساه ولا هقدر أنساه، بحبه وحبه وجعني أوي، حتى الوعد اللي كان بينا مقدرش يصونه، قولتله أنا راضية بيك بس وعد إنك تتغير علشاني، وحتة دي ضحك عليا فيها.
ربت والدها على ظهرها يقوم بتهدئة تشنجاتها وهي تتشبث به باكيةً، فيما وقف سراج بأرض حديقته مدهوشًا من حديثها الذي استمع إليه بالكامل، لم يصدق ما عبر لسمعهِ، أراد أن يدخل لها ويخبرها بكل شيءٍ، أراد أن يخبرها أنه فعل ما فعله فقط لأجل حمايتها، أراد أن يُلقي نفسه بالنيران فقط حتى لا تمسها هذه النيران، لكنه لم يتخيل أن النيران التي ألقى نفسه بها حتى تقوم بتدفئتها انطفأت فقط بكومة من الرمال، ليصبح هو كما رُكام الحريق، والآن فقط عليه أن يتركها ترحل، لذا التفت عائدًا إلى بيتهِ تاركًا إياها للأبد، هو صنع هذا بيديه وعليه أن يرى تبعيات فعله.
قيل في السابق نصف المحبة آمان والنصف الأخر ونس، وبما إنك وجدت الونس فعليك بتوفير الأمان لونيسك، وهذا ما فعله أيوب قرر أن يستمر اليوم بأكملهِ معها بعدما تغاضى عن الرسالة التي تسببت في تغيير حاله، لكنه تيقن أن الأمر بأكملهِ بيد الخالق فعليه أن يتوكل عليه، لذا استمر في نزهته بزوجته في شارع المُعز لدين الله الفاطمي وخاصةً مع قدوم الليل، اتضحت الإضاءات المختلفة وزاد عدد البشر، كانت هي تشعر بالسعادة وخاصةً حينما يلتقط هو لها الصور بنفسهِ، وكلما مرت على شيءٍ لم تفهمه يخبرها هو بتاريخه كاملًا.
رأت المكان للمرةِ الأولى بعينيه هو، كل التفاصيل التي كانت تغفل هي عنها، أخذها وتوجه بها إلى واحدٍ من المطاعم المصرية الشهيرة واجلسها بداخل المكان بعدما رأت بنفسها الترحيب به من أصحاب المكان، وحينها سألته بتعجبٍ:
حتى دول عارفينك هما كمان؟
أشار لها حتى أقتربت منه وما إن امتثلت هي لحركته وجدته يحدثها بنبرةٍ خافتة قائلًا:.
بيني وبينك، كل مرة باجي هنا فيها بتصل ب أيهم وهو بييجي هنا ناكل مع بعض ونظبط حالنا ونرجع تاني لا من شاف ولا من دِري، بس بناخد ليهم معانا في البيت، محدش يعرف بقى، خليه في سرك.
هزت رأسها موافقةً عدة مرات بينما أقترب منهما العامل بالمكانِ يضع الطعام المشوي لهما سويًا حتى طالعته هي بخجلٍ وقبل أن تتحدث أوقفها هو حينما قال بسخريةٍ:.
متقوليش مش جعانة، كدابة، أنا حاسس بيكِ والله، كلي يلا وهاجيب ليهم وأنا مروح متقلقيش، يلا دي أول مرة ناكل مع بعض فيها ويا رب يوسف ميخليهاش الأخيرة.
بدأت تشاركه تناول الطعام بسعادةٍ طفقت تُعلن عن نفسها في ملامح وجهها وكذلك هو أيضًا ابتسم لها ثم أطعمها بيده، للحق نسى ما يقلقه وما يحزنه وكأنه حينما أرسل الأمان لها، قامت هي برد السعادة له من جديد من خلال ضحكتها ومشاركتها له في يومه، ناهيك عن المشتريات التي قام بجلبها لها كذكرى من كل مكانٍ هناك.
في مكانٍ أخرٍ كانت عهد تركب السيارات المتصادمة بعدما خرج الكلام منها تلقائيًا أنها تحب هذه اللُعبة كثيرًا، وكان يوسف يقف في خارج الإطار المعدني يراقبها وهي بداخل السيارة تستعد لقيادتها بعدما تركها بمفردها تخوض هذه التجربة، بدأت اللعبة من خلال شرارات الكهرباء التي ظهرت بينما هي يبدو أنها نست كيف تتعامل معها، حاولت عدة مرات قيادتها لكنها فشلت حتى أقترب العامل يجلس على طرف سيارتها يقودها لها مما جعلها تشعر بالقلق من جلوسه بهذه الطريقة بدون خجلٍ وقد اتضح عليها الخجل والتوتر معًا، رأى يوسف حركة الشاب فاندفع بغيرةٍ واضحة ثم هتف بنبرةٍ جامدة يوقف الشاب بقوله:.
شكرًا يا ريس، اتفضل أنا هسوق.
نظر له الشاب بتعجبٍ وسأله بسخريةٍ:
أنتَ إيه اللي دخلك هنا؟ فين تذكرتك؟
رفع يوسف حاجبيه ثم أمسك ذراع الشاب يبعده عن زوجتهِ وقال بنبرةٍ هادئة تشبه هدوء ما قبل العاصفة:
روح بس كدا قول لصاحب المكان يوسف صاحبك دخل من غير تذكرة، وأبقى وريني بقى هتدخل المكان هنا تاني إزاي؟ رَيح بقى بدل ما أريحك أنا.
دفع الشاب الذي سكت حينما اتضح له أنه فهم مقصد حركته بينما يوسف جلس بجوارها ثم بدأ في قيادة السيارة حتى سألته هي بنبرةٍ ضاحكة:
أنا قولت أنتَ هتاكله، خضتني أنا ذات نفسي.
رد عليها بنبرةٍ جامدة بعدما انتبه لنظرة الشاب:
لو بيشوف شغله عادي أنا معنديش مشكلة، لكن دا قليل الأدب وبيتلكك وأنا راجل زيه وفهمته، علشان كدا لو كان كتر كنت موته بجد، يلا كله علشان خاطرك.
زاحمت البسمة الخجولة بسمتها الأخرى وهي تجلس بجواره يقود السيارة بها بمهارةٍ كبرى وكأنه قضى حياته في هذه اللعبة وهو يفلت من كل الصدمات التي كادت أن تصيب سيارته، وبعد مرور دقائق خرجت من السيارة وهو معها يسيرا مع بعضهما حتى سألته هي بنبرةٍ ضاحكة:
كل الكاريزما دي والغموض والسكوت تطلع في الأخر بتحب الملاهي؟ بصراحة متوقعتهاش دي منك، كدا كدا أنا عمري ما توقعت منك أي حاجة أصلًا، كل شيء معاك مُتاح.
انتبه له وحرك رأسه نحوها يسألها بنبرةٍ رخيمة يستفسر منها عن حالها بعد هذه التجارب:
المهم حالتك دلوقتي إيه؟ أحسن صح؟
سحبت نفسًا عميقًا وقالت بصوتٍ سكنته السعادة بعدما أخرجت الطاقة السلبية منها على هيئة صراخات وضحكات:
بصراحة أوي، ومبسوطة أوي، اليوم كله رغم أنه غريب بس حلو مش هنكر يعني، شكلي هصرف الفلوس اللي معايا بتاعتك دي على الملاهي، مالكش حاجة عندي بقى.
ضحك بخفةٍ ثم استاذن منها بقولهِ:.
خليكِ هنا ثواني هجيلك.
انسحب من أمامها فجأةً مما جعلها تقف بحيرةٍ تضم ذراعيها معًا وهي تنظر للمكانِ حولها بوجهِ مبتسمٍ حتى وقع بصرها من جديد على شهد التي جلست على أحد المقاعد بجوار زوجها، التقت نظرات الاثنتين معًا واتضح الحزن على ملامح شهد وهي تطالع عهد التي لم تفهم حتى الآن من هؤلاء، ومع شرودها فيها ظهر يوسف يقدم لها غزل البنات كبيرة الحجم على هيئة زهرة كبيرة الحجم امتزجت بعدة ألوانٍ مع بعضها.
حركت عينيها نحوه ثم أخفضتها للأسفل تطالع الحلوى حتى ابتسمت من جديد وأخذتها منه وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما شكرته بنظراتها:
علي فكرة أنا بحبها أوي، تسلم إيدك.
حرك رأسه موافقًا وأشار لها نحو المقاعد حتى تقترب منها تجلس عليها، لكنها لاحظت جلوس بعض الأشخاص على الأرض الخضراء، فسألته بترددٍ:
ينفع نقعد هناك أحسن؟ وسط الزرع، إيه رأيك؟
وافق على مطلبها فورًا بدون جدالٍ أو حتى مناقشة بدل وجهته لكي تجلس محل ما تشعر هي بالراحةِ، وما إن وصلا إلى الأرض الخضراء جلست هي أولًا وجلس هو بجوارها ثم قال ردًا على حديثها قبل أن يتركها لشراء الحلوى:
علي فكرة الفلوس اللي معاكِ دي أنا مش هاخدها تاني، دي فلوسك أنتِ وأختك وحقك وحق مامتك، أنا قولتلك كدا بس علشان ساعتها أكيد كنتي تايهة، بس فكرة أني اخدهم تاني مش هتحصل.
تبدلت ملامحها وسألته باستنكارٍ لما يتحدث به:
إزاي يعني؟ طب والشقة ماهي كدا بتاعتنا؟
حرك رأسه موافقًا وأضاف مؤكدًا صدق حديثها:
أيوة، الشقة بتاعتك والفلوس بتاعتك، وأنا عارف كدا، إيه الجديد اللي بتقوليه بقى يا عهد؟ ليه محسساني أني غريب عنكم ومعرفش اللي فيها!
زفرت بقوةٍ ثم هتفت بنبرةٍ أتضح بها الضيق:
فيه إن كدا أنتَ خسرت فلوسك، يعني الشقة رجعتلي بس الفلوس دي دين في رقبتي، وهردها لما ننف.
قبل أن تكمل حديثها بتره هو بقولهِ بنبرةٍ قوية وكأنه فهم ما ستخبره عنه:
مش هيحصل، أي حاجة من دي مش هتحصل، لو على الشقة فهي بيت والدك ورجعلك محدش ضامن الأيام، ولو على الفلوس شيليها لأختك في بنك علشان تكبر تلاقي حاجة ليها باسمها، أما بقى نصيبك، جهزي نفسك بيه، علشان مش هقبل بتلاجة أقل من تلاجة بيت الحج نَعيم.
ضحكت رغمًا عنها من سخريته ومزاحه وضحك هو الأخر بيأسٍ من هذه الغريبة التي تصر دومًا على إخراج الكثيرين منه حتى أنه أصبح أمام نفسه عن نفسه غريبًا، فيما لم تقو على إحجام فضولها، لذا باغتته بسؤالها الغير متوقع أو لربما توقعه في باديء الأمر:
هما مين اللي إحنا قابلناهم دول؟ البنت دي تعرفك؟
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بصراحةٍ تعهدها هي منه منذ أن اجتمعت طرقاتهما سويًا:.
آه، ومش بس كدا، كنت المفروض هتجوزها كمان، وروحت اتقدمت ليها بس هي اختارت اللي معاه، واللي معاه كان نادر بس، أما اللي معاها دا فدا نادر ابن عمتي، وأنا يوسف الغريب اللي عمره ما كان ليه حد وسطهم، وعلى فكرة أنا محبيتهاش، أنا زيي زي أي واحد اتشديت ليها، كانت حاجة جديدة لواحد زيي بظروفه ملهوش حد، وعلى فكرة جت معايا هنا قبل كدا.
زاغ بصرها وشعرت بالضيق من حديثه، فلكل شيءٍ حد يجب أن يتوقف عنده، أما هو فصدمها بقدر صراحته، صدمة جديدة يُصيبها بها لكنها لم تنكر صدقه المرئي في نظراتهِ، أرادت أن تسمعه من جديد فوجدته يقول بقلة حيلة:
دا مكاني المفضل وبصراحة أنا كنت بحبه أوي وكنت فاكر إنها هتكون شريكة في الذكريات دي، بس بعد اللي حصل أنا قولت والله ما هاجي تاني ولا حتى هفكر اشارك حد في حاجة تخصني، بس كل دا طلع بلح، طلعت كداب.
حركت رأسها باستفسارٍ تسأله عن مقصد حديثه فوجدته يضيف مُفسرًا بعدما حرك رأسه يطالع عينيها:.
علشان لما قولتلك شكله وقع فيكِ، أنا كنت متأكد أنه وقع فيكِ بجد يا عهد كنت واثق إنك زي ما كنتي سبب أخون علشانه العهد، هتكوني سبب يخليني أرجع في كل قرار كنت واخده على نفسي، أولهم أني أجي هنا تاني، أنا جيت هنا علشانك أنتِ، وعندي استعداد أعمل أي حاجة تانية علشانك أنتِ، بس قدام دا عاوز منك جملة واحدة، أنتِ حتى من غير ما تعرفي عني أي حاجة تقبلي تكملي معايا؟ ولا لسه مصممة إن أول ما الدنيا تتعدل بينا تمشي؟
أغمضت جفونها لبرهةٍ ثم فتحتهم بتروٍ وقالت بنبرةٍ رغم تيهها إلا أنها كانت صادقة وهي تجاوبه بقولها:
صحيح أنا معرفش عنك حاجة، بس متأكدة إنها كانت حاجات صعبة، بدليل بعدك عن مامتك وأختك، أخاف ألومك على ماضيك أبقى قلبي وحش، وأخاف أقولك ماشي تطلع لسه متعلق بحاجة فيه وأنا بس محطة وقفت ترتاح فيها.
كانت تشير خلف كلماتها على شهد تحديدًا بينما هو فهم مقصدها وهتف بنبرةٍ أظهرت لهفته في تصحيح صورته وهو يقول:.
بس أنتِ مش محطة هقف فيها أرتاح من اللي فات عليا، طالما وقفت عندك يبقى ناوي أكمل الطريق بيكِ، بصي؟ فيه حاجات لسه كتير جوايا أنا ممكن أجاوبك على كل سؤال، بس الأول أنتِ هتكملي معايا الطريق؟
توترت وتخبطت أمامه لكنها لم تنكر مشاعرها نحوه، فمجرد غيابه عنها لعدة أيام جعلتها تتوتر وسارت الخيالات برأسها وساءت ظنونها لذا حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ خافتة:
هكمل يا يوسف بس تقولي كنت فين من كام يوم.
ابتسم لها ثم مد كفه لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ظهرت الطمأنينة على ملامحهِ:
دي بقى تيجي تشوفيها بنفسك، تعالي يا عسولة.
أمسكت كفه بعدما انفرجت شفتاها عن بعضهما بضحكةٍ خافتة ثم وقفت بجوارهِ بينما هو قبض على كفها وهي تسير معه مرةٍ أخرى يستأنفا اكتشافهما للمكانِ من جديد، وغالبًا دار بها المكان بأكملهِ دون أن يشعر بالمللِ أو حتى بالضيق أما هي فلم تفهم سبب صمتها عن حديثه وانصياعها خلف قلبها بالرغم أن العقل طلب منها التريث حتى لو قليلًا، لكنها الآن تحيا من جديد معه، وتسرق من الزمان الفرح الذي كادت أن تنساه.
الموعد أُرسِلَ له وتم الوصول إليهِ بقيادةٍ متهورة، كان هو ينتظر الرسالة على أحر من الجَمرِ، وما إن وصلت له بالموعد حينها خرج من البيتِ مهرولًا مثل المجنون الذي فقد عقله فقط لأجل ابنه والخوف عليه، كان الموعد مع حلول الليل قبل قدوم منتصفه في أرضٍ فضاءٍ بمنقطةٍ قرب الأهرامات تحديدًا قبل منطقة نزلة السمان.
أوقف سامي سيارته بها ينتظر مُراسله الذي تعمد أن يتركه في الانتظار كعادتهِ، أراد أن يختبر مدى صبرهِ وقدرته على التحمل، بينما الأخر جلس في سيارتهِ ينتظر قدوم الأخر.
في مكانٍ أخرٍ بالقرب من المكان الذي وقف به سامي كان مُنذر في الشقة التي استأجرها للجلوس فيها عند حاجته إليها وقد حضر ماكسيم إليهِ يتمم معه ما يتوجب عليهما فعلهِ، وقد سأله باهتمامٍ:
المهم عملت اللي قولت عليه بخصوص أيوب؟
حرك رأسه موافقًا وسأله بتعجبٍ:
قولي دا أنتَ عاوز منه إيه؟ مش شايف أنه ليه لازمة أصلًا، يعني لاهو ليه علاقة بأهل السمان زي الشباب، ولا هو زي إسماعيل ولا هو بنفس طريقتهم، يعني واحد خام أوي ومفيش منه مصلحة.
ابتسم ماكسيم له بسخريةٍ وقال مُعلقًا بنبرةٍ ضاحكة:.
دا كلام الناس اللي مش دارسة الموضوع كويس، أيوب دا كنز كبير أوي، عارف أنتَ الفرخة اللي بتجيب دهب؟ هو دا، اللي جاي كله ممكن يكون واقف على واحد زي أيوب لا هو طماع ولا هو كداب ومش بس كدا، دايمًا نيته خير، يعني شخص فيه كل الشروط، شروط إيه بقى؟ هقولك اقرأ التاريخ كويس علشان تعرف، المهم أنا نازل دلوقتي، ركز على سراج و إسماعيل أنا محتاج دول حاليًا.
حرك رأسه موافقًا فيما تركه ماكسيم ورحل من الشقة لكي يتجه إلى أول رفيقٍ في سوق الآثار المُهربة، ذلك الذي عاونهم كثيرًا من خلال عمله وسكنه، اليوم يكتب لهما الموعد من جديد لكي تعود أبواب الماضي فتحها في أوجه الجميع كما لو أنها أبواب الجحيم، وصل ماكسيم إلى هناك في وقتٍ قياسيٍ وما إن ظهر في الأرض الفارغة نزل سامي من سيارته وقال بتهكمٍ:.
أنا قولت برضه شغل السقا وإنتاج السبكي دا ييجي منك أنتَ، لسه عايش؟ دا أنا قولت زمانك ولى خلاص.
ابتسم ماكسيم له ووضع كفيه في كلا جيبي بنطالهِ وهو يرد ببرودٍ وكأن الحديث لم يؤثر بهِ:
لأ خلاص إيه، دا أنا جاي أقوم الدنيا على بعضها، وأنتَ أولهم بصراحة، عملت كتير أوي أوي، قولي كدا يا سامي فين الواد ابن نَعيم؟ أكيد متقتلش صح؟
ضحك سامي له وهو يقول بسخريةٍ:.
يعيني على عشم ابليس في الجنة، الواد الله يصبر أبوه راح يعيني، عمه الواطي خاف يرجعه لأبوه وفكر يروح يرميه في ملجأ بس للأسف ملحقش، أصحاب البيت حضروا ودبحوه، هكدب عليك يعني؟
حرك رأسه نفيًا بطريقةٍ درامية تمثيلية بوضوحٍ ثم هتف يسأله بسخريةٍ:.
لولا إني عارف إن نادر ابنك كان زماني قولت إن هو، بس الغريب بقى الواد راح فين رغم إني عارف إن عيلة أصحاب البيت راحوا ملقوش الواد هناك، فقولي كدا بصراحة الواد فين يا سامي.
فهم سامي أنهم يعلمون كل شيءٍ عن ماضيه لذا قرر أن يتعامل بنفس الطريقة التي كللتها الصراحة حين هتف بنبرةٍ هادئة نجحت في توتر الأخر وهو يستفسر منه بقولهِ:.
لو على الواد يا سيدي اعتبره في الحفظ والصون، بس متنساش إنهم كانوا اتنين مش واحد، يعني ابن نَعيم وابن شَوقي أخو نَعيم، فأنتَ قولي فين ابن شَوقي وأنا هقولك فين ابن نَعيم؟ إيه رأيك يا صاحبي؟
العديد والعديد لم يُكشف بعد، والأبواب حتى الآن لم تُفتح على مصراعيها، هي فقط تواربت ليظهر من خلفها فقط إطار الصورة التي لم تظهر بأكملها، لذا نحن فقط في الانتظار لحين تُفتح الأبواب على مصرعيها أو ينفجر الجحيم في وجوهنا.