رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الثاني والثمانون
سيبي شعري، طلعتي مجنونة أنتِ كمان وسعي.
صرخت بها شهد وهي تحاول أن تبتعد عنها بينما عهد ازدادت قوة قبضتها أكثر على خصلات الأخرى وهتفت بغيظٍ منها بعدما تفاقم بداخلها أكثر من هذه الساقطة التي لم تعرف الأدب طوال حياتها:.
استني أخلص كلامي الأول، ثانيًا بقى لو جيبتي سيرته على لسانك دا تاني أقسم بالله هقطعه، أوعي تكوني فاكرة إني ساكتة أدبًا مني، لأ خالص أنا برقدلك، خافي مني بقى علشان شغل الجنان لو طلع من واحدة ست لست زيها، ههبلك بيه، سمعتي يا حلوة؟ يلا بقى.
دفعتها من يدها بعنفٍ جعلها تصرخ متأوهة على باب المكتب بنفس اللحظة التي حضر فيها عاصم ومعه سامي الذي أمسك زوجة ابنه فورًا قبل أن ترتطم بالأرض وكأن الغرفة أصبحت ساحة قتالٍ تضم كل أطراف الحرب ونحن في إنتظار دق الطبول وقرع الأجراس حتى تقوم الحرب.
نظرات مُتباينة دارت في المكان بأكملهِ ما بين الاستنكار والحيرة والدهشة والنفور أو ربما البُغض وقد خرج صوت عاصم جامدًا يقطع هذه اللحظات بقولهِ جامدًا بعدما لاحظ بكاء شهد الذي أخذ يزداد:
إيه اللي بيحصل هنا؟ وفيه إيه يا يوسف؟
في هذه اللحظة أدركت عهد فداحة موقفها وما فعلته باندفاعٍ غير محسوب وبتهورٍ بالغٍ تصرفت اندفاعًا خلف غيرتها على زوجها الذي لاحظ خوفها وترددها لذا قطع عليهم رؤيتها وحصنها بوقوفهِ أمامها يَردع اختراقهم لها بالنظر وهتف بنبرةٍ جامدة هو الأخر ردًا على عمهِ:
محصلش حاجة، مالك أنتَ واللي معاك؟
اعتدلت شهد التي وقفت تستند على ذراع حماها وهتفت بنبرةٍ باكية بعدما لاحظت كذبه عليهم أو ربما أنه يخفي عنهم الحقيقة دفاعًا عن زوجته فهتفت بنبرةٍ باكية تعمدت إظهارها:
فيه يا أنكل، مراته ضربتني ومسكتني من شعري قدامهم، لو إحنا بقى في شركة محترمة زي ما هو بيقول يبقى أكيد تصرفات الهمج دي متحصلش هنا.
أمسكت عهد في قميصه تلقائيًا بخوفٍ منهم أو ربما تستمد منه العون حتى يُغيثها من هذا الموقف وكعادته رفع ذراعه يمده للخلف يدعمها فعلًا ثم تبعها قولًا حينما هتف بثباتٍ:
أحترمي نفسك وأنتِ بتتكلمي عن مراتي، أنتِ اللي غلطتي الأول فيها ومش دلوقتي بس، لأ قبل كدا كمان لما جيتي بيتي ووقفتي قليتي أدبك قدام الكل، متحلليش لنفسك الغلط وتحرميه على غيرك، ودلوقتي برة بقى علشان دي لحظة عائلية.
تدخل سامي يهتف بتهكمٍ وهو يسخر منه:
والله! يعني علشان شهد اتكلمت ولا قالت حاجة يبقى مراتك تضربها؟ دي فعل ناس محترمة؟ وفي الشركة كمان؟ لم مراتك يا يوسف وخف شوية على نفسك.
هُنا انفجر يوسف فيه بغضبٍ تفاقم عن السابق وهو يصرخ بإنفعالٍ قائلًا:.
أحترم نفسك وأنتَ بتتكلم عن مراتي، ولأخر مرة تجيب سيرتها على لسانك الوسخ دا، وإذا كنت عاوز تعرف رد فعلي فأنا قولتلها اللي يبصلك بعين أفقعيله الاتنين، ها! تحب تسمع كلامي تاني؟ برة بقى وخد مرات ابنك في إيدك.
تحركت شهد حينها تفتح الباب بعنفٍ وهي تزفر الهواء خارج رئتيها إحتجاجًا على موقفه وتبعها سامي بينما عاصم وقف يطالعه بنظراتٍ جامدة أخترقته مثل السهام وطالع كفيها المُتشبثين بقميص زوجها الذي لفت نظره بقولهِ:
برة وخُد الباب في إيدك يا عاصم.
تحرك حينها عاصم نحو الخارج وأغلق الباب خلفه بصفعة قوية جعلت عُدي يهتف بتعجبٍ من هذه العائلة:.
أنا مش فاهم فيه إيه، عيلة جاحدة والله وجبابرة، بس عاش يا عهد تستاهل كل خير، من ساعة ما شوفتها وأنا مشوفتش حد بيطيقها أصلًا.
التفت لها يوسف يطالعها فوجدها على مشارف البكاء وكأنها لتوها أدركت الخطأ لذا تحدث هو بنبرةٍ خَشِنة بعض الشيء:
معلش يا رهف أنتِ و عُدي عن إذنكم شوية.
فهمت الأخرى مقصده لذلك أشارت لزميلها وتركا المكتب سويًا بينما يوسف أنتظر خروجهما ثم رفع كفه نحو وجنتها يتلمسها وهو يسألها باهتمامٍ جعل نبرته عميقة ودافئة:
أنتِ كويسة؟ مالك يا عهد.
ألقت نفسها عليه وبكت وهي تقول بأسفٍ بعدما حاولت الهرب منه ومن نظراتهِ وفشلت في ذلك:.
أنا ماكنش قصدي والله، بس بصراحة هي بتعصبني فوق الطاقة المعقولة، كل ما بشوفها وأفتكر إنك كنت بتحبها أو حتى في يوم من الأيام بتعاملها زي ما بتعاملني بتضايق وببقى عاوزة أموتها في أيدي وبعدها أقتلها في قلبك كأنك عمرك ما قابلتها قبل كدا يا يوسف.
أبتسم رغمًا عنه ورفع ذراعيه يحاوطها بهما وهو يقول بنبرةٍ هادئة تخللها ضحكاته المرحة بسخريةٍ عليها:.
طب ماهي ماتت فعلًا، من ساعة ما شوفتك وقلبي انشغل بيكِ وعيوني حبوا عيونك وهي ماتت جوايا ومفيش غيرك يا عهد لا بقى فيه حد قابلك ولا نافع يكون فيه بعدك، بس سيبك أنتِ، طلعتي مُذهلة.
زاحمت الضحكة ملامحها وأبتعدت عنه تطالع وجهه فوجدته حرك كفيه بعيدًا عنها ثم مررهما على وجها وهو يقول بنبرةٍ هادئة جعلتها تغمض جفونها بعدما أغدقها بالسلام:.
مش عاوزك تزعلي نفسك علشان اللي عملتيه رد فعل، ومش عاوزك تحسي بالذنب وأنتِ بتاخدي حقك يا عهد، اتعودي يا إنك تتجاهلي يا تكوني قد الرد اللي هترديه، مينفعش تضعفي بعد ردك، فاهمة؟ دلوقتي روحي اسبقيني أنتِ على الكافتيريا وأنا هجيلك، بس صحيح جاية ليه؟
توترت أمامه وهتفت بنبرةٍ مختنقة لازال بها أثر البكاء رغم محاولتها في صبغها بالمرح تمازحه:
طب ممكن أقولك برة؟ ينفع؟
ابتسم لها وأومأ موافقًا فيما ابتعدت عنه وخرجت من المكتب نحو الخارج وهو يقف يتابع أثرها بعينيهِ ثم عاد لحاسوبه أغلقه بعدما قام بحفظ ما يفعله أولًا وقد تعمد تركها بمفردها تتحرك نحو الخارج ثم تبعها نحو المكان الذي أخبرها عنه فوجدها تقف أمام النيل تتابع المكان بتعجبٍ حتى شعرت به يجاورها فابتسمت له وهتفت بنبرةٍ هادئة:.
بصراحة أنا كنت طالعة هنا أعيط، لقتني واقفة مش جايلي قلب أزعل حتى يا يوسف المنظر حلو أوي، ياريت متبخلش عليا بيه لو سمحت.
حرك رأسه يسألها بصمتٍ عن مقصدها فوجدها تلتفت له وواجهته حينما رفعت ذراعيها تُهندم سترة حلته وهتفت بنبرةٍ رقيقة تمامًا كأنها تستغله أو ربما تلعب به بهذه الطريقة:.
جاية أشتغل هنا، ومن غير مرتب عادي، بس مش عاوزة أقعد، أنا مش بتاعة قعدة يا يوسف بقالي 6 سنين وأكتر كمان بشتغل وبفرك وفكرة أني أقعد مرة واحدة مرعبة، علشان خاطري خليني أشتغل، لو المكان هنا مش على مزاجك خليني أرجع العيادة هما لسه مجبوش حد غيري.
أرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه بمللٍ ثم أعادها لها من جديد يسألها بنبرةٍ جامدة بعدما شعر بالضيق من حديثها:.
ولو قولت لأ؟ والأهم بقى إيه السبب؟ قولتلك خدي الفلوس اللي عاوزاها وأي حاجة تطلبيها تحضر عندك، تشتغلي ليه إذا كنتي مش في حاجة للشغل يا عهد؟
لم تيأس ولم تُبال بطريقتهِ بل ابتسمت له ومازحته بقولها بعدما استقرت بكفيها على كتفيهِ في حركةٍ جعلته يشك في أمرها:.
كل الحكاية إني عاوزة أرجع أشتغل علشان مش متقبلة قعدتي كدا، وفي نفس الوقت أنتَ رافض من خوفك عليا، فأنا قولت أجي هنا وأكون تحت عينك وبالمرة أفطرك بدل ما تيجي واحدة بجيبة قصيرة تفطرك هي، غلطت أنا يعني؟ بعدين حرام يعني تكون بتيجي هنا تشوف المنظر دا لوحدك.
ابتسم رغمًا عنه ومال على أذنها يهتف بسخريةٍ:.
مش محتاج حد يفطرني، أمي ربنا يباركلها بتقوم بالدور دا وزيادة كمان، وفري خدماتك يا عسولة، ويلا على بيتكوا.
تلاشت بسمتها وكادت أن تصرخ في وجههِ لكنه قطع عليها السبيل حينما لثم جبينها وأسكتها تمامًا ثم عاود النظر إليها داخل عينيها وهتف بنبرةٍ هادئة:.
أوعدك هفكر ولو لقيت الموضوع مناسب مش هزعلك، والأول هسأل رهف بس متحطيش أمل أوي يعني، أنا مش عاوز أزعلك وفي نفس الوقت مش عاوز أضحي وأخليكِ هنا، أنا لحد دلوقتي مبثقش في طرفة عين منهم.
ابتسمت له وهي تقول بإصرارٍ جعل عينيها تلمع ببريقٍ حاد وكأن الحماس سكنها أو ربما يكون ألهب حواسها:
متقلقش، طالما هتفكر واثقة إنك مش هتزعلني، ويلا بقى نفطر مع بعض، ولا هي حماتي مزغطاك!
ضحك رغمًا عنه ثم أجلسها على الأرجوحة وتحرك نحو المطعم الصغير يطلب منه الطعام لها وله معها بالرغم من عدم حاجته لتناول الطعام لكن يكفيه مشاركتها في شيءٍ هكذا بكل تأكيدٍ سيقوم بفتح شهيته على وسعها وهو يشاركها طعامه وجلسته وربما عمله أيضًا.
في منطقة نزلة السمان
كان العمل بخصوص تجارة الخيول قائمًا بإشراف إيهاب الذي وقف مع المتاجرين يتابع عملية الاستيراد النهائية للخيول الصغيرة التي يعمل هو في ترويضها وتدريبها بنفسهِ وما إن تمم المقايضة ودفع النقود وأدخل الخيول مكانها، حينها وقف يراقب المكان بعينيهِ ثم عاد لداخل البيت مُجددًا فوجد نَعيم في انتظاره وما إن مر أمامه سأله باهتمامٍ:
ها! طلعوا تمام؟
حرك رأسه موافقًا ثم جلس مقابلًا له في ردهة البيت وهتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء يوضح له أمر الخيول بقولهِ:
متقلقش تمام أوي كمان، وهريح شوية وأنزل بنفسي أشوفهم، بعدين قولتلك الحج عبود عمره ما جاب حاجة وحشة، حاجته أصيلة متربية على الغالي، تعالى شوفهم بنفسك لو حابب كمان.
حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم له فيما خرجت سمارة تحمل الشاي بكفيها ثم وضعته أمامهما وهي تقول بنبرةٍ هادئة ووجهٍ مبتسمٍ ببشاشةٍ:.
الشاي أهو، ومعاه بسكوت حاجة كدا لحد الغدا ما يخلص حد فيكم عاوز حاجة تاني يا حج؟ تؤمر بحاجة يا سي إيهاب؟
انتبه لها نَعيم لوجهها المُشرق ولهدوء إيهاب وهو يطالعها مُبتسمًا بعينيه وحينها هتف ساخرًا:
يا سلام! دا إيه الرضا دا كله؟ ربنا يسعدكم ويهديكم شوية وتبطلوا دوشة، وشك منور يعني يا سمارة.
خجلت هي من حديثه وهتفت بنبرةٍ مكتومة كأنها تُخرج الحديث رغمًا عنها من بين شفتيها:.
أصل النهاردة عيد ميلادي وأنا معرفش، بس سي إيهاب مش ناسيه وطلع فاكره، علشان كدا تحسني منورة شوية.
حرك نَعيم رأسه للأخر الذي أبتسم له وكأنه يُطمئنه وحينها أعاد التحدث يوجهه كلماته لها بنبرةٍ هادئة:
ربنا يسعدكم وعقبال ما أشيل عيالكم كمان، كل سنة وأنتِ طيبة يا سمارة شوفي عاوزة هدية إيه وأطلبيها من أم جنى عليا أنا يلا، شوفي عاوزة إيه بس ليكِ مش للبيت، البيت جوزك يجيب هو، ألا هو جابلك إيه بصحيح؟
ضحكت له وهتفت بنبرةٍ ودودة وصادقة ردًا عليه:
جابلي الدنيا كلها لحد عندي وهو آويني ومضلل عليا في حضنه وبيته، بس الصراحة عزمني برة ولقيته جايبلي حاجة حلوة وجابلي خاتم دهب بس شيلته علشان ميضعش منه، هلبسه في المناسبات علشان شكله حلو.
حرك الأخر رأسه موافقًا ودعا لهما من جديد فيما ترك إيهاب موضعه ثم جاور زوجته ووضع ذراعه على كتفها يقربها منه وهو يقول للأخر بمراوغةٍ قاصدًا بها مشاكسته:.
بقولك إيه؟ إمبارح الإحتفال كان على الضيق، عن إذنك ساعتين أحتفل وراجع تاني، لو طولت عن ساعتين أنساني النهاردة خالص يا عمنا، سلام عليكم يا كبير.
رحل بزوجتهِ التي ضحكت رغمًا عنها من المكان فيما تحدث نَعيم بسخريةٍ بعدما ضرب كفيه ببعضهما:
أنتَ مخلي فيها كبير؟ عيل عديم الرباية.
أنهى جملته وأبتسم مجددًا حينما تذكر زوجته وشرد رغمًا عنه في ذكرياته معها فهو أيضًا كان يحب ذات يومٍ وكان يتودد لزوجته كي يقترب منها ويظل معها وبعد شروده تقريبًا لمدة نصف ساعة خرج على صوت ضيفه العزيز الذي لم يكن سوى مُنذر الذي هتف بشوقٍ له:
وحشتني يا عمي.
رفع نَعيم عينيه نحو مصدر الصوت وما إن رآه أمامه ترك محله فورًا وأقترب منه يضمه بين ذراعيه وهو يقول بنبرةٍ متلهفة حماسية فور رؤيته أمامه عينيه من جديد:
وحشتني أنتَ أوي، قولتلك خليك معايا هنا، ليه تتغرب بعيد عني تاني؟ تيجي زيك زي الغريب كدا؟
ابتسم له مُنذر وهاتفه بنبرةٍ هادئة:.
صدقني مش دلوقتي بس هانت، هاجي لما ينفع أكون هنا معاك ومعايا اللي يخصك، علشان أصلح الغلط اللي حصل، أظن يعني لو أنا زي ما بتقول شبهك يبقى أكيد هتعرف إن نفسي عزيزة فوق ما تتخيل ومقبلش أبدًا إني أكون مجرد ضيف بياخد واجب مش من حقه، صح ولا إيه؟
أبتسم له الأخر وربت على ذراعهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة لم ينفك عنها الفخر أو الزهو بابن شقيقه الذي أخذ كل صفاته الكريمة وكأنه خيلٌ تربى على أيدي خيالهِ الأصيل:.
عارف، ويمكن اللي مخليني أتعلق بيك أكتر كل مرة إنك شبهي أوي، أكتر من الواد مُحي اللي مخليني ألف حوالين نفسي، بس أرجع أقول ربنا يهديه ولسه عند وعدي هو معرفش إنك ابن عمه ولا إسماعيل كمان، سايبك براحتك وبسمع كلامك أهو، عقبالك تسمع كلامي أنتَ كمان.
مال مُنذر على كف عمه يُلثمه ثم هتف بصدقٍ وكأنه يتوسله أو ربما يرجوه:.
أنا مش عاوز منك غير الدعا بس، خصوصًا الأيام الجاية، وعاوزك تطمن إني مش هقصر في اللي يريحك ويفرحك، وجيت أقولك إني مسافر بورسعيد يومين وراجع تاني، مش عاوزك تقلق عليا، بس لسه هأكد معاد السفر.
تفرس نَعيم ملامحه يقرأها وقد وجدها مُبرهنة له على تفكيره فسأله بثباتٍ يُقرر أكثر من كونه يستفسر:
المشوار دا بخصوص ابني صح؟
حرك رأسه موافقًا دون أن يكذب عليه وحينها تنهد نَعيم وهو يقول بنبرةٍ محبطة كُليًا وكأنه تقبل الأمر الواقع:
بلاش يابني تعب قلب على الفاضي، خلاص أنا والله رضيت وسلمت أمري لله، هيطلع عايش يعني بعد العمر دا كله؟ متتعبش نفسك خلاص، ربنا يجعل صبري على فراق الحبايب في ميزان حسناتي، بس خليك أنتَ معايا مش هبقى محروم من كله.
حرك رأسه نفيًا وهتف بإصرارٍ ردًا عليه:.
مش هتتحرم، صدقني كل دا هيتسني لما تضمه تاني في حضنك وأنا واثق إنه قريب أوي، وساعتها هقدر أرفع عيني في عينك إني حتى لو ابنه فأنا مش زيه، وحتى لو غلطت وكنت برة معاهم، فأنا مش شبههم، أنا شبهك أنتَ.
ابتسم نَعيم له بعينين ترقرق بهما الدمع ثم ضمه مُجددًا يمسح على رأسه بحنوٍ جعل الأخر يشعر بالخوف لكونه مُجبرًا على فراق هذا العناق وعلى الشعور بالقسوة مُجددًا بعيدًا عنه، حسنًا لا عليك الأمر فقط عدة دقائق تمتع بها بين ذراعي عمك ثم عُد غريبًا في أرجاء مدينتك كما تُحب أنتَ أو ربما كما اعتدت على الأمر.
وصل مقر الشركة متأخرًا عن المعتاد.
بسبب سهره في الخارج طوال الليل مع أصدقائه القُدامى وما إن دلف غرفة والده وجد زوجته بها وحينها هتفت شهد بسخريةٍ عليه تقصد التهكم والتقليل منه أمام والده:
أهو لسه مشرف، الساعة داخلة على اتنين وهو جاي ولا حاسس بأي حاجة حواليه، كنت فين يا نادر؟
قَلب عينيه بمللٍ وهتف بفتورٍ دون اكتراثٍ بها:.
كنت في داهية يا شهد خير؟ عمالة تتصلي من الصبح، عاوزة إيه أنا مش فاهم بصراحة، بعدين أنا مالي ومال الشغل هنا؟ اسيبلكوا الدنيا كلها وأروح فين تاني؟
تدخل سامي يهتف بتهكمٍ ردًا عليه بنبرةٍ جامدة أو ربما صبغتها القسوة كعادة طباعه الحادة:.
أنتَ بارد يا نادر وبرودك هيضيع الكُل، طب سيادتك تعرف إن مرات البيه مدت أيدها على مراتك ومسكتها من شعرها؟ أهي دي البداية أهيه، بكرة هيمد أيده علينا كلنا وأبقى أقف ساكت برضه ساعتها ولا روح أسهر، ولا أقولك خد مركبك ولف العالم ونولع إحنا، طالما حاطط على قلبك مراوح.
رغم قسوة طريقته ورغم أن الحديث برمتهِ أثار حفيظته بسبب ضرب زوجته لكنه تجاهل والده تمامًا وحرك رأسه نحو زوجته يسألها بنبرةٍ جامدة كمن يُلقي الأمر وينتظر الطاعة:.
ضربتك ليه؟ أكيد حصل حاجة ماهي مش عبيطة تدخل تمد إيدها عليكِ كدا قدام الكل في الشركة، وبعدين أنا مش فاهم شاغلين بالكم ليه؟ هو وهدي خالص وكفاية وجوده مع عيلته، وشغله هنا تيتة اللي سابته ليه بعد موتها يعني لو كان عاوز يعمل حاجة كان عملها، لكن أنتوا اللي بتجروا ورا المشاكل، وأنا بصراحة مبقاش ليا خُلق للصداع دا كله، عاوز أعيش في هدوء شوية، تقدروا ولا صعب عليكم؟
احتقن وجه زوجته والتفتت له بكامل جسدها لكي تواجدها أثناء جلستها مما أدى إلى وقوع الملف من جوارها نتيجة تحركها وهي تهتف فيه بصراخٍ أو هكذا بدا صوتها:
يعني انا اللي طلعت مجنونة كمان في الأخر؟ أنتَ مفيش عندك أي حاجة غير إنك عاوز تعيش اليوم بيومه وخلاص؟ وترجع تقولي بتتعصبي، بس مش شايف نفسك وبرودك يا نادر وأنتَ مستهتر بكل حاجة، مش دا شغلكم؟ مش دي حياتك برضه؟ هتفوق إمتى؟
حرك عينيه نحوها يطالعها بجمودٍ ثم التفت يوليهما ظهره ولازال يتجاهل والده وهو يقول بنبرةٍ جامدة يرمي بحديثه في الهدف البعيد ولا يعلم إن كان المقصد وصلها أم لا:.
بلاش أفوق علشان أنتِ أول واحدة هتزعلي، وتاني مرة اتكلمي عِدل بدل ما أعلمك تتكلمي إزاي يا شهد وحاجة أخيرة كمان، بلاش تدخلي نفسك في حاجة متخصكيش، علشان مترجعيش تزعلي أنتِ، إذا كان دا شغل العيلة أو فلوسها حتى، أكيد مالكيش دخل بأي حاجة، مش هقول تاني.
فتح الباب بعد حديثه وخرج من المكتب بعدما صفع الباب بقوةٍ خلفهِ جعلت زوجته تنظر في أثره بذهولٍ، أما والده فعلم أنه على مشارف خسارة ابنه الوحيد وبالطبع المستفيد هو يوسف فإذا كان عليه فعل أي شيءٍ فيتوجب عليه أن يعود لغرس الكراهية من جديد بينهما، هذا هو الحل الأمثل لكي يسترد ابنه من جديد قبل أن تنبت زهرة حبه للأخر.
كعادتها التي أصبحت تلتزم بها مؤخرًا مرت على المدرسة الخاصة بالصغير أخذته منها لكن تلك المرة عكس السابق، لم تضحك ولم تمازحه بل تحججت بألم رأسها وتعبها طوال اليوم منذ الصباح، هكذا بررت ظاهريًا لكن باطنيًا وما خفى كان مثل البركان، حتى أنها أصبحت تُشكك في نفسها وأفعالها تجاه الصغير لتشعر بالذنب يُغدقها كأنها أجرمت في حقهِ وحق أمه، من الأساس تكره الظلم والتعدي والقسوة وكل المشاعر التي تجردت منها الرحمة وتجلى عنها لين القلب، وقد لاحظ إياد حالتها وسكونها لذلك توقف عن السير معها يسألها بنبرةٍ حزينة لأجلها:.
هو أنتِ زعلانة ليه؟ حد زعلك؟
التفتت له تطالعه بعينين دامعتين ثم حركت رأسها موافقةً رغمًا عنها فوجدته يُضيق جفونه وهو يسألها بشكِ:
بابا! هو اللي زعلك؟
مسحت عينيها وسألته بصوتٍ مختنقٍ بسبب دموعها لكن التعجب صبغه حائرةً وهي تسأله عن سبب حديثه:
ليه بتقول كدا؟ بابا ماله بزعلي؟
حرك كتفيه بحيرةٍ جعلتها تستأنف السير معه وعاودت التحدث مُجددًا وهي تقول بنبرةٍ هادئة حتى لا تحزنه:.
لأ مش بابا وبابا مبيزعلش حد منه، بابا طيب أوي بس ناس زمايلي كل شوية يزعلوني في الشغل، وأنا مش بحب المشاكل ومش بحب كل شوية أفضل أتخانق مع حد، أنتَ لو عندك زميلك كل شوية يزعلك ويضايقك بكلامه هتعمل إيه؟
فكر قليلًا ورفع عينيهِ للأعلى يطالعها هي وهتف بنبرةٍ هادئة صبغها بضحكة مرحة يمازحها بها:.
هقول ل أيوب هو علطول بيعرف يهديني، بس ممكن تقولي لمديرة المدرسة وهي تزعقلهم أو تعاقبهم، مش هما بيزعلوكي في الشغل؟ ولا أجي أنا أزعلهم طيب علشانك؟
ضحكت رغمًا عنها ثم قالت بنبرةٍ هادئة بعدما تلبسها المرح:
فكرة حلوة أبقى أعملها بس بعدما أضربهم الأول، المهم متزعلش نفسك أنتَ وكله هيكون كويس، وبعدين يعني عادي القافلة تسير والكلاب تنبح، هنوقف القافلة يعني وننزل في البرد دا؟
برغم عدم فهمه لكلماتها إلا أنه هتف بنبرةٍ ضاحكة ردًا على حديثها المرح الذي مازحته به:
طب يعني أنتِ بتقولي كلام حلو أهو، آه أنا مش فاهمه بصحيح بس حلو، بعدين البتاعة اللي بتسير دي لو وقفت مين هيدفع فلوس وقفتها؟ كملي يا ست الكل.
ضحكت نِهال من جديد له وعادت معه إلى البيت مُجددًا لكن تلك المرة بمشاعر هدأت من ثورتها واستقرت من شتاتها فيكفيها تواجد هذا الصغير، فمهما كان الأمر نظرة المجتمع كما هي لن تتبدل، ستظل عقيمة ومُجحفة لكل إنسانٍ يخرج عن القيود، لطالما هي لم ترتكب أي خطأٍ في حق الآخرين ولم تُخالف أمور دينها فهي حقًا لم ترتكب أي شيءٍ يجعلها مُجرمة في أعين الأخرين.
في مقر شركة الراوي.
بدأت الشمس في الرحيل وظهر حينها اللون البُرتقالي في قرصها المُستدير وقد أسدلت بعض الخيوط اللامعة لتتعامد على مياه النيل لتظهر رائحة طيبة بالمكان عبارة عن مزيجٍ من دفء الشمس وبرودة المياه مع نسمات ليل دافيء بالرغم من برودة الطقس
وقفت عهد تراقب المكان بعينيها وهي تستنشق الهواء من حولها تدخله عبر رئتيها وقد أتت رهف تجاورها تزامنًا مع قولها بنبرةٍ مرحة:.
أقنعته إنك ليكِ مكان هنا، أي خدمة.
التفتت لها عهد تواجهها بغير تصديق وفضولٍ نطقته عيناها المتلألئة بحماسٍ فيما أضافت رهف بنبرةٍ ضاحكة تثني عليها بقولها:.
والله لو مش مصدقة هو هيقولك، بس هو عنده شروط يقولها ليكِ بمعرفته أحسن، ثانيًا عاوزة أقولك إنك جامدة أوي أوي علشان اللي عملتيه الصبح، مش قادرة أقولك فرحانة إزاي باللي عملتيه وإزاي تصرفك دا ريحني وريح الكل وأولنا يوسف طول عمري كان نفسي أجيبها من شعرها بس مجاتش مناسبة خالص.
ضحكت لها عهد وهتفت بتواضعٍ لم يكن في محلهِ مقارنةً بما فعلت من عملٍ بطولي أمامهم صباحًا:.
أنا معملتش حاجة يعني، دا كان مجرد رد فعل للي هي عملته، وعلشان تبطل تجيب سيرته أو تفكر تغلط فيه، بعدين أنا مش فهماها بجد، إزاي تقدر تجرحه كدا وتتعبه وتكون سبب في كل الظلم دا؟ ولسه برضه عندها طاقة إنها تغلط في حقه؟ إيه اللي كان في قلبها ليه يخليها متعملش حتى علشان العِشرة اللي كانت بينهم، إنسانة مستفزة بس الغلط مش عليها، الغلط على الكبار اللي ساكتين ليها لغاية ما بقى غلطها حق مُكتسب فاكرة نفسها تقدر تتعامل بيه عادي.
ابتسمت لها رهف وحركت كتفيها بقلة حيلة كأنها تخبرها بهذه الطريقة عن عدم معرفتها بالأمر فيما أتى عُدي ووقف بجوارهما قائلًا بثباتٍ:
مساء الخير، يوسف بيعرفكم إننا هنتحرك دلوقتي، رهف لو حابة نوصلك خليكِ وأمشي معانا بدل ما تمشي لوحدك بقى دلوقتي، قولتي إيه؟
ردت عليه بلباقةٍ أقرب للدبلوماسية في حروفها:
لأ متشكرة جدًا، خليكوا عيلة مع بعض عن إذنكوا ورايا حاجات مهمة هخلصها قبل ما أمشي، باي يا عهد.
رحلت من أمامها فيما نظر الأخر في أثر رحيلها مبتسمًا حتى قالت عهد تلفت نظره بسخريةٍ مرحة:
جرى إيه؟ أنا واقفة هنا يا أستاذ.
عاد لها بعينيهِ وأبتسم رغمًا عنه وهو يقول بنبرةٍ عادية يواري خلفها توتؤه مما فعل ولاحظته الأخرى:
لأ عادي يعني، هي علطول باعدة نفسها كدا عن الكل وعملية أوي فأنا بصراحة بستغربها مش أكتر، يلا بس علشان يوسف بيخلص وهنروح كلنا علشان بابا مستنيني، و قمر كمان مستنية تشوف يوسف.
بعد مرور ساعة تقريبًا.
أوقف يوسف سيارته أمام البناية وترجل منها بالتزامن مع نزول عهد و عُدي وحينها صعدت هي أولًا حتى تُطمئن والدتها فيما مر أيوب من جوراهما أثناء توجهه إلى المسجد لرفع الآذان وحينها ألقى عليهما التحية وهتف بنبرةٍ هادئة:
يلا علشان تصلوا ولا مش ناويين؟
انتبه له عُدي وهتف بنبرةٍ ضاحكة يمازحه:
يا عم لأ جايين أهو، وراك علطول.
دقائق أخرى مرت بعدما أنهى أيوب إقامة الصلاة وقد تعمد أن يأت ب يوسف معه لكي يوطد علاقته بالمكان قبل أن يبدأ معه الطريق الذي أراد أن يسلكه حتى ينقذه من نفسه وقد ودعه يوسف بعد الصلاة وعاد للبيت مُجددًا وحينها وجد قمر في إنتظاره وما إن دلف لها ألقت نفسها بين ذراعيهِ وكأنها فقدته لمدة عامين وليس فقط مجرد يومين، أما هو فضمها بين ذراعيه وهتف بنبرةٍ هادئة:.
طب تصدقي إنك وحشتيني أوي؟ أوعى تكوني زعلانة مني لسه ولا متضايقة مني علشان زعقت يومها، أنا والله ماكنت بزعق ليكوا أنتوا، كنت بزعق في دماغي تسكت شوية.
أبتعدت عنه للخلف وهي تقول بوجهٍ مبتسمٍ:.
خالص، أنا أصلًا مش زعلانة منك أنتَ، أنا بحبك ولو زعلانة فأنا زعلانة علشانك وعلشان قولتلك إنك بتستغل حد ضعيف، صدقني أنا مش بحب المشاكل ونفسي حياتنا تكون هادية وأفرح بيك وأعوض اللي فاتني معاك يا يوسف لو أنتَ زعلان مني عرفني علشان أراضيك، ها؟ أراضيك؟
سألته بمرحٍ جعله يُعانقها ثم لثم جبينها وهتف بصدقٍ:.
أنا مقدرش أزعل منك أنتِ، بعدين أنا اللي ناوي أراضيكِ، ناكل وأغير هدومي وبعدها نقعد نتعلم السُنبلة بتاعتك دي لحد ما نعملها، إيه رأيك؟
صرخت من فرحتها وصفقت بكفيها معًا بطريقةٍ جعلته يضحك عليها ثم عاود ضمها من جديد وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة بعدما استشعر مدى براءة هذه الفتاة ونقاء قلبها:
ياريت الدنيا كلها طيبة زي قلبك، يا بخته الواد أيوب نشل عليكِ صح، بس مش خسارة فيه هو برضه طيب ويستاهل إن حد زيك يفرحه.
أبتعدت عنه تسأله بغير تصديق بعدما رفرفت بأهدابها مستنكرة حديثه:
إيه؟ هو أنتَ خلاص بقيت بتحبه؟
ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يمحي بها ظنونها:
وهو أنا عمري كرهته؟ أنا بس ماكنتش أعرفه وبحكم ظروفي كان زي النِد ليا علشان هيشاركني فيكِ، بس بعد اللي بشوفه منه دا، أنا أكيد مش هقدر أكرهه، وحتى لو بكرهه حبه ليكِ وطريقته معاكِ تخليني أحبه غصب عني.
من جديد يتسبب في فرحتها في نفس اللحظة وحينها تعلقت بذراعيها في عنقه تخبره بحبها له فيما أنهت غالية فرضها ثم خرجت ترحب بابنها الذي جلس على الأريكة و قمر تتوسد صدره برأسها وتضم جسده بكلا ذراعيها بعدما رأت حاله تبدل عن آخر مرة صرخ فيهم وكأنه يقف أمام غُرباء المدينة يعلن عداوته لهم.
بعد مرور عدة ساعات.
وصله الخبر الذي أطلق الحُرية لفؤاده السجين أن يتحرر من قيوده التي فرضها عليه الخوف من شيءٍ مجهولٍ ربما يحرمه من سعادتهِ وحينها خرج من غرفتهِ بهدوء متوجهًا إلى مكان نَعيم في الخارج وما إن وصل إليه جلس مقابلًا له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
ينفع أكلمك دلوقتي ولا عاوز تنام؟
ابتسم نَعيم له ومازحه بقولهِ:.
قال يعني الواد مش عارف مواعيد نومي، قول يا إسماعيل عاوز إيه، أنا لو عاوز أنام أفوقلك مخصوص.
بنفس البسمة حرك مقعده قليلًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
طب دلوقتي عُدي كلمني وقالي إنه فاتح والده في موضوعي أنا وأخته ووالده قال يوم الجمعة نقدر نروح نتقدم ليها رسمي، بس أنا قولت ميصحش أنتَ متعرفش حاجة زي دي، فأعمل حسابك يوم الجمعة الساعة 6 هنكون هناك كلنا هنروح مع بعض، تمام؟
ضحك له نَعيم وأومأ موافقًا مما جعل إسماعيل يقترب منه ثم لثم جبينه بامتنانٍ له كتقديرٍ له على حمايته لهم ووقوفه في ظهرهم، بينما الأخر أبتسم له وقال بنبرةٍ هادئة كما هو دومًا:
روح يلا نام وأرتاح شوية ويوم الخميس أجازة روق نفسك وجهز حالك ولبسك، وشوف المقاطيع الباقيين عرفهم علشان يجهزوا نفسهم وييجوا، تمام كدا؟ يلا تصبح على خير يا حوكشة.
ضحك له إسماعيل ثم تركه وعاد لغرفتهِ فيما تنهد نَعيم بقوةٍ ثم أخرج الهواء خارج رئتيهِ وهو يفكر في الشباب ومواقفه معهم ومواقفهم معه وكيف حظى بالحب في قلوبهم جميعًا حتى تَيام الغريب عنه الذي أعتبره كبيرًا له وسط الجميع، يبدو أنه حُرِمَ من ابنه وعاش طوال عمره في عذابٍ بسبب فقده لكن المولى عوضه بحب العباد كبارًا كانوا أو صغارًا، لذا حمد ربه كثيرًا ثم استند على عصاه يتوجه نحو الداخل ليخلد إلى النوم.
كانت هذه الطبيبة المهووسة تجلس أمام حاسوبها تعمل عليه بكل اهتمامها وشغفعا حتى جاورها شقيقها قائلًا بنبرةٍ هادئة بعدما استند على سور الشُرفة وفي يده كوب الشاي الخاصة به:
برضه؟ فضولك دا هيرميكي في 60 داهية، وأنا والله ما أعرفك خلي التطفل ينفعك يا دكتورة.
زفرت بقوةٍ وتوقفت عن العمل لبرهةٍ ثم أجبرت شفتيها على التبسم وهي تقول من بين أسنانها بغيظٍ منه:.
أنا مش هرد عليك، بس لما أديك الحل أنتَ ساعتها هتقف تضربلي تعظيم سلام وتعرف إني مش بمشي عبثًا، بعدين أنا دلوقتي عندي أهم حاجة بدور فيها هي المصحة النفسية اللي يوسف بيعاني منها، هساعدك تتوصل للمرض الغالب عنده وبناءً عليه هتقدر تعالجه، بس برضه لما عهد تيجي هنا الأول وأخليها هي الدافع ليه، وإذا كان رافض أنه يتعالج علشان شايف العلاج ضعف أنا هخليه يعرف إن القوة كلها في علاجه يا جواد.
حرك كتفيه وقلب شفتيه للأسفل بيأسٍ ثم بدل الحديث بقولهِ:
المهم سيبك من كل دا، يوسف كلمني وقالي إن فيه دكتور نفسي صاحبه وواخد شهادة الدكتوراه من الجامعة البريطانية، وممكن ينزل المستشفى معانا وبصراحة لو لقيته زي ما يوسف قال أنا هسلمه حاجات كتير هناك، وأركز مع العيادة هنا شوية، قولت أعرفك بما إنك أقترحتي حاجة زي دي عليا قبل كدا، قولتي إيه يا فُلة؟
تنهدت مطولًا وخلعت نظاراتها الطبية الخاصة بالقراءة وهتفت بهدوءٍ تؤيد حديثه:.
أنا شايفة إن دا حل مناسب يا جواد الدكاترة هناك كلهم بيشتغلوا علشان الفلوس والماديات ودي رقم واحد عندهم، عمك منه لله كان منقي طقم كامل عبارة عن ناس استغلالية ودكاترة معندهمش ضمير، محدش فيهم مدرك حجم المسئولية عليه ومحدش عاوز يبذل شوية جُهد وطاقة عن الطبيعي، خليه ييجي يكون معانا وأظن برة موضوع الطب النفسي أوسع من هنا، الموضوع طبيعي وطرق علاجه أقوى وأوضح من هنا برضه، أنا تحمست أوي إني أشوفه.
أبتسم لها جواد ثم سحب المقعد وجلس عليه مقابلًا لها وهو يراقبها مستمتعًا بما تفعل، فيبدو أن أثر حبه لهذا المجال أنعكست عليها حتى أصبحت تهوى كل في هذا المجال بأصغر تفاصيله الجُزئية والكُلية، يعلم أن كل معضلات العمل ستنتهي عندها هي، ويعلم أن المعاون الأكبر له لن يكون غيرها هي.
بعد مرور عدة أيام.
كان العمل في شقة فضل على قدمٍ وساق تحضيرًا للزيارة القادمة بعد عدة ساعات، وقد شاركت عهد في تزيين الشقة بطلبٍ من ضُحى وحينها عاونها يوسف فيما تفعل ومعهما قمر أيضًا وبعد مرور نصف ساعة تقريبًا جلسوا معًا و أسماء وقفت أمامهم وهي تقوم بمراجعة التحضيرات ومعها غالية تُتمم على ما تُتليه وقد هتف يوسف بسخريةٍ يقطع حديثها:.
ما خلاص بقى أنا صدعت! دا لسه فتح كلام، وبعدين حضرنا الغدا وحضرنا البيت وفاكهة وعصاير، وتسالي، في الخطوبة هتعملي إيه مش فاهم؟ من الصبح مرمطانا أنتِ والبت اللي عاملة فيها عروسة دي، خلصوا.
كان حديثه ساخرًا جامدًا وأعرب عن نفاذ صبره فيما هتفت أسماء توجه حديثها إلى أمهِ قائلةً بحنقٍ:.
غالية! حوشي إبنك بعيد عني شكله نسي العُلَق بتاعة زمان، بعدين استنى يالا! فين الجاتوه الحلويات اللي طلبت منك تجيبهم؟ أوعى تكون مروحتش تجيبهم؟ أقسم بالله أفضحك قدامهم وأقولهم على حوار رمضان، فاكر؟
اتسعت عيناه بدهشةٍ فيما ضحكت أمهُ رغمًا عنها لتلفت الأنظار نحوها وحينها سألها يوسف بغير تصديق غمرته الفرحة البالغة:
أنتِ لسه فاكرة يا ماما؟
حركت رأسها وهتفت بنبرةٍ صادقة محمومة بعاطفتها:.
وهو أنا عمري أنسى حاجة خاصة بيك؟ لسه فاكرة طبعًا وحظك الهباب إن أسماء فاكرة و عهد قاعدة هنا.
رفعت عهد عينيها لهم تسأل عن سبب الحديث فقالت غَالية بنبرةٍ ضاحكة بعدما لاحظت فرحة ابنها بتذكرها هذه التفاصيل:.
يوسف كان بيحب شيريهان أوي، كنا معزومين عند فضل في رمضان مرة والتلفزيون كان شغال عادي على الفوازير بتاعة شيريهان وساعتها فضل يعاكس فيها وماكلش غير لما الفوازير خلصت، ومن دا كتير بقى طول الشهر شيريهان معزومة معانا على الفطار وخلى مصطفى الله يرحمه جابله صورتها وعلقها في أوضته.
انتشرت الضحكات عليه فيما قالت عهد تمازحه أمام الجميع بنبرةٍ ضاحكة:
طب ومشاعري طيب؟ مفكرتش فيا ساعتها؟
ضحك رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ متقطعة من ضحكاته:
ماهو أنا كنت عامل حسابي أتجوز شيريهان.
من جديد عادت الضحكات بينهم وهتفت قمر تشاكسه بقولها وهي توزع نظراتها بينه وبين عهد التي ظلت مبتسمة بعينيها:
بس شوفت؟ ربنا رزقك بيها عيونها سود، ووشها قمر، وعسولة ومذهلة وبيرفيكت، وإيه تاني؟ كنت بتقولي عنها إنها إيه؟ أصلي نسيت معلش أنتَ بتقول عنها حاجات كتير؟
انتبه لها وضيق جفونه فوجدها تراقص حاجبيها له وحينها صدح صوت جرس الباب فقال بسخريةٍ وهو يتحرك موجهًا الحديث لشقيقتهِ:
أسألي أمك وهي تقولك.
من جديد علا صوت الضحكات عليه وعلى حديثهِ فيما تحرك صوب الباب يفتحه فوجده أمامه يحمل الأشياء وهو يرمقه بغيظٍ جعله يقول بلامبالاةٍ من هذه النظرة:
إيه يا أيوب؟ بتبصلي كدا ليه؟
رفع حينها الأخر صوته يَزجره بقولهِ حينما وجده يسد عنه الطريق:.
يا بني آدم وسع شوية خليني أدخل ولا خد الحاجة، دا أنتَ غريب أوي، وسع يا عم من وشي.
استمعت قمر لصوتهِ فتركت محلها وركضت نحو الباب تبتسم له فيما تعلقت عيناه بها وهي تجاور شقيقها الذي وقف يراقبهما سويًا وحينها هتف أيوب بتهكمٍ يوجه الحديث للأخر:
طب أنا رحمتك من مشوار صعب، البيه هيخلي عنده دم إمتى ويشيل عني خليني أخلص؟ الجاتوه هيسيح.
خطف يوسف العلبتين من بين كفيه فيما زفر الأخر مُطولًا ثم عاود رسم البسمة على وجههِ أمام قمر التي هتفت بنبرةٍ هادئة تُثني عليه بسبب فعله:
معلش تعبناك معانا، عقبال ما نتعبلك في الفرح.
أبتسم لها وقبل أن يرد عليها وجد يوسف أمامه يمسك زجاجة مياه وناولها له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
أشرب مياه تلاقي الطريق عطشك، شوفت أنا حنين إزاي؟ علشان تبطل سوء ظن فيا أكني جوز أمك كدا.
خطفها أيوب من كفهِ وكاد أن يدفعه بها لكن الأخر أخفض جسده حتى لا تصيبه إذا فعلها الأخر وهو يعلم استحالة حدوث هذا الشيء ثم دلف من جديد فيما أمسكت قمر كف زوجها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
تعالى كدا شوف المكان جوة، تعالى.
كاد أن يعترض بسبب تواجد النساء بالداخل لكنها فهمت عليه فقالت بوجهٍ مبتسمٍ له:.
مفيش حد جوة متقلقش، ماما وخالتو و ضُحى في أوضتها و عهد هنا ولابسة إسدالها، تعالى بس وأمشي تاني، يلا يا أيوب تعالى.
حمحم بخشونةٍ قبل أن يدلف معها ثم دلف يلقي التحية بعدما أخفض رأسه كعادتهِ وقد هتفت غَالية بنبرةٍ هادئة تشكره على معاونته لهم بكل تفاني وحب:.
أنا عاوزة أقولك شكرًا إنك من الصبح طالع نازل وعمال تجيب في الكراسي والحاجة، عقبال فرحك كدا وكلنا نخدم فيه بكل حب، وربنا يسعدك وييسر أمورك زي ما يسرتها علينا.
ابتسم لها وهو يقول بمعاتبةٍ طفيفة ودية في مشاعرها:
برضه مصممة تخليني غريب؟ هو يعني أنتِ شكرتي يوسف ولا عُدي؟ ربنا يتمم بخير ويبارك في البيت وأهله ويجعل المودة والرحمة والسكن رفقاء لقلوبهم.
ابتسمت له الأخرى بحبٍ كأنه صغيرها حقًا فيما وقف يوسف يبحث عن ضيقهِ أو لما لم يشعر بالغيرة من مشاعر أمه نحو الأخر؟ لما من الأساس أعتمد عليه وطلب منه المساعدة؟ حينها توقف عن الاستماع لضجيج رأسه ثم زفر بقوةٍ وحينها سألت أسماء بحيرةٍ:
هو مين اللي هييجي مع العريس؟
انتبه لها يوسف فجاوبها بنبرةٍ هادئة:.
الحج والشباب خمسة ومعاهم سمارة و جودي كدا من هناك جاي 7 وإحنا هنا كلنا ومعانا الحج عبدالقادر و أيوب متقلقيش الحاجة هتكفي إن شاء الله وزيادة.
سأله أيوب بتعجبٍ من حديثه وإضافة اسمه:
هو أنا هحضر؟ مقولتليش ليه إني أنا هحضر؟
التفت له يوسف يهتف بتلقائيةٍ لم يعلم كيف أمتلكها:
علشان أنتَ أخويا مش غريب محت.
بتر حديثه حينما وجد أيوب يطالعه بدهشةٍ يخالطها الفرح وحينها حمحم يوسف وأكمل حديثه قائلًا بثباتٍ أمام الجميع رغم حيرته من الجملة:
مش غريب محتاج عزومة يعني يا أيوب، بعدين كلهم بيحبوك وأكيد يهمهم إنك تحضر وتكون معانا هنا، خلي ربنا يبارك ليهم، عن إذنكم هروح أشوفهم كدا وأكلم خالي و عُدي أشوفهم فين.
هرب من المكان فورًا قبل أن تظل النظرات تتبعه وتتعجب من قولهِ وهو من الأساس يتعجب من نفسهِ تجاه أيوب يتعجب كيف تغدقه الطمأنية وكيف يتمكن منه السلام وكيف يشعر أنه مُأمن لأنه يعلم بتواجدهِ، تتملكه الحيرة مؤخرًا بسبب إنشغاله ب أيوب حتى أنه مؤخرًا أضحى يفكر زواجه من شقيقته إن كان هذا يضمن له راحته.
أما أيوب فابتسم رغمًا عنه بعينيهِ بعدما استمع لحديثه وتيقن حقًا أن يوسف وإن لم ينطقها صراحةً فهو يعلم أنه في أشد الحاجة إليه لذا عليه أن يكون معه ويرافقه لعله يغيثه من نفسه التي تفتك به دون أن يقف هو مثل الرداع لها.
لا تعلم كيف أقنع والدها وأخوتها وخصوصًا أيوب حتى تركت بيتها وذهبت معه إلى بيتهِ كما طلب هو وألح عليهم، يبدو الأمر غريبًا عليها وهي تجلس بجوار أمه تتناول معها الغداء وهو يجلس معهما بكل سعادةٍ وكأنه ملك الدنيا بما فيها له، تشاركه آيات الطعام ووالدته ترحب بها وتُثني عليها وهي بالرغم من خجلها إلا أنها حاولت الإنخراط معهما وكأنها ابنة هذا البيت.
وضع أمامها تَيام الصحن الأخر وهو يأمرها بقولهِ:.
يلا، كُلي دا، يلا دا أنا حاربت علشان تيجي هنا، بالذات السوسة الكبير اللي اسمه أيهم دا خلاني لفيت حوالين نفسي وفي الأخر مأقنعوش غير بيشوي، كلي يلا دا أنتِ فاتحة نفسي ونفس أمي والله.
ابتسمت له آيات وأخذت منه الصحن دون أن ترد كفيه خائبين وقد صدح صوت هاتفه عاليًا برقم بيشوي وحينها ضغط على زر الإيجاب وهو يقول بضجرٍ منه:
جاي في وقت مش وقتك؟ خير؟
رد عليه الأخر بنبرةٍ ضاحكة:.
كدا؟ دي أخرتها يا ابن نجلاء؟ المهم قولت أعرفك إن الليلة دي يلزمني منها، أخر الليل أمك تعبي طبق حلو كدا ليا ولأمي، إحنا معملناش أكل، مستني اللي ييجي منكم.
ضحك تَيام ووافقه في الحديث فيما أخبره الأخر أنه يمزح معه ثم أغلق الهاتف بعدما حول نبرته من المزاح إلى المحبة والود فيما بينهما، وبعد مرور دقائق أخرى انتهى وقت الطعام وقد عانت آيات مع حماتها في رفع الطعام وتنظيف الطاولة وبعد مرور دقائق أخرى تركت الشقة توجهت مع تَيام إلى الأعلى حيث سطح البيت بجوار بيت الحمام الذي صنعه هو بنفسهِ.
صعدت معه آيات بحماسٍ وهي تقوم بتجربة هذه الأشياء معه لمرتها الأولى حتى وصل بها إلى الأعلى وأشار على المكان قائلًا بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
دا أكتر مكان بحبه وبحب أكون فيه، عارفة كمان؟ كل الحمام اللي بيطير من هنا بيرجع تاني مش بيغيب عني، وعلى فكرة دا كان السبب أني أصبر لحد ما تكوني ليا من تاني، بعدما اتخطبتي أول مرة، علشان أنتِ طير يا آيات.
ابتسمت بعينيها الخجولتين له وهي تُخفض رأسها للأسفل فيما أقترب هو منها وأمسك كفيها ثم هتف بنبرةٍ هادئة:.
عارفة؟ أنا طول عمري كنت بحس نفسي غريب أو يمكن لوحدي زيادة عن اللزوم وكنت بحارب علشان أسافر وأمشي من هنا، كان نفسي أروح أي مكان تاني بس حاجة كانت بتشدني لهنا أوي تخليني أفضل وأنا مش فاهم سببها، أنا لو فيه حاجة مخلياني فرحان أخيرًا أو حاسس إن ليا مكان مش بطولي هو إني معاكِ هنا وأنتِ أخيرًا بقيتي ليا ومعايا لحد أخر يوم في عمري، وعلشان كدا أنت هقرفك بكل حاجة أنا بحبها.
رفعت رأسها له ثم هتفت بنبرةٍ هادئة وهي تحاول إخفاء خجلها عنه أو ربما تحاول مجاراته فيما يقول:
مسمهوش قرف، اسمها مشاركة للحاجة اللي بتحبها، وأنا هكون مبسوطة أوي لما تشاركني يا تَيام، كفاية إنك كنت قد وعدك وراعيت ربنا فيا طول شهور الخطوبة، ودوري إني أساعدك زي ما أنتَ وفيت بوعدك معايا، بس أنا عاوزة أطلب منك طلب، ينفع تعلمني إزاي أخليهم يطيروا ويرجعوا تاني؟
حرك رأسه موافقًا ثم شبك كفه بكفها وتحرك بها نحو المكان بعدما صعد عدة دراجات من السُلم المعدني الذي صنعه هو ثم أمسك الراية البيضاء يلوح بها عاليًا ثم أطلق صفيرًا عاليًا ينادي به على الطيور البيضاء التي أنصاعت لصوتهِ وأتت تباعًا خلف بعضها لُعشها بعدما هاجرته، أما هي فَذُهِلتَ تمامًا مما حدث أمام عينيها وضحكت له بصوتٍ عالٍ وهو يطالعها بزهوٍ حينما عادت له الطيور مُجددًا وقد هتف حينها بنبرةٍ ضاحكة:.
متفتكريش دي نصاحة منهم، دي شطارة مني أنا.
من جديد ضحكت له وفهمت أنه يقصدها هي بهذا الحديث بعد عودتها له وقد مد كفه لها لتجاوره بعدما كانت بعيدة عنه بعدة خطوات وقد جاورته فعلًا ورفع كلاهما رأسه عاليًا يتابعا الطيور التي حاوطتهما معًا وكأن مظهرهم يشبه فرحة الأسير بخروجهِ إلى أرض وطنهِ مُجددًا يرفرف فيه بكل حريته.
وقفت ضُحى في غرفتها تواري نفسها خلف الستار حتى لا تظهر منه وهي تراقب قدومه، وحينها كانت سعيدة للغاية وهي ترى السيارات تصف أمام البناية الخاصة بها ليترجل منها إسماعيل وأسرته كاملةً وحينها شعرت بسعادةٍ أكبر فخرًا به أمام عائلتها، كانت ترتدي فستانًا باللون الأزرق والحجاب باللون الأبيض، كانت مميزة كما هي دومًا لكنها وقفت تراقبه حتى نزل هو من السيارة يجاور شقيقه بعدما أمسك باقة الزهور الزرقاء في يده وقد فهمت لتوها لماذا أصر أن يعلم اللون الذي سترتديه.
كان هو يرتدي الحلة كاملةً باللون الأسود وكذلك القميص أيضًا وحينها أجزمت أنها أكثر المرات التي رأته فيها وسامةً، وقد وقف يجاور شقيقه الذي أبتسم له ثم دلفا البناية خلف نَعيم الذي تقدمهم نحو الأعلى.
في شقة فضل وقف يوسف بجوار عُدي ومعهما أيوب أيضًا استقبالًا للشاب بأسرتهِ وحينما وصل المصعد لهم صدح صوت أسماء عاليًا تطلق الزغاريد ترحيبًا بهم في لحظة انتشرت بها الترحيبات والأصوات المُبهجة وتحيات الرجال لبعضهم وبعد مرور دقائق دلف الجميع وأغلقوا الأبواب ليبدأ الكلام الرسمي.
جلس نَعيم مقابلًا ل عبدالقادر و فَضل وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لهما وهو يقول الدباغة المُعتادة في مثل هذه المواقف:.
طبعًا أكيد عارفين إحنا هنا ليه النهاردة، بس قبل أي حاجة إسماعيل مش ابني من دمي بس يمين أتحاسب عليه قدام ربنا إنه عندي في نفس غلاوة محمد و مُحي عيالي ومش هو بس، هو وأخوه وأي واحد من الشباب، صحيح مش من صلبي بس كلهم ولادي، وأتربوا على أيدي، وأنا مش هنا علشان أذكي عن حد، أنا بقول الحقيقة، فيشرفني أطلب أيد بنتكم الكريمة ضُحى لابني الصغير إسماعيل ودا بعد إذنكوا.
ابتسم له فضل وهتف بنبرةٍ هادئة ودودة:.
يا حج دا شرف لينا، وكفاية إنهم تربيتك راجل ونعم الأخلاق من أيام مصطفى وأنا بسمع عنك، وسبحان الله تطلع أنتَ اللي معاك الغايب عننا، راعيت ربنا فيه وحافظت على الأمانة، وأنا واثق إن بنتي معاكوا في أمان، لينا الشرف.
كانت ضُحى تقف خلف العامود الرخامي تتنصص على الحديث وقد أعجبها حديث والدها وهو يعبر عن حبه وفخره بهذا الرجل وتربيته للرجال، وتيقنت لما أصرت على عدم إخبار والديها بماضيه، أما الآخر فأعجبه الحديث لكن شعور الذنب لم يتركه ولم ينفك عنه، وما طمئنه هو أن يوسف يعلم حقيقته ويدرك ماضيه وكذلك عُدي أيضًا فبالتالي هو لم يكن خائنًا، بل هو يحافظ على ما يُمكن إنقاذه.
دارت عدة أحاديث أخرى عن عرض الزواج عقبها خروج ضُحى لهم تمسك الصينية ترحيبًا بهم وقد تعلقت عيناه بها حينما خطفت نظرة خاطفة له لم ولن ينساها وكأنها تشكره في هذه اللحظة، وحينها سألها فضل بنبرةٍ ضاحكة:
المفروض نسألك دلوقتي، بس أنا عارف إنك مش هتقدري تتكلمي، إسماعيل طالب إيدك على سُنة الله ورسوله يا ضُحى، موافقة؟
حركت رأسها موافقةً بحركةٍ سيطر عليها الخجل المفرط وهي تعلم أن الجميع في إنتظار ردها فيما قال إيهاب بنبرةٍ ضاحكة:
علي خيرة الله نقرا الفاتحة؟
تدخل أيوب يهتف بأسفٍ قبل أن يستمعوا للأخر:.
أنا آسف بس قبل لحظة الحماس دي قراءة الفاتحة في الخطبة مش مستحبة، لأن هي لم تحدث على عهد النبي وبالتالي هي لم تكن عادة قائمة نقدر نلتزم بيها، غير كدا لا يجوز إننا نخصص سور من القرآن للحظات معينة، وبرضه مقدرش أجزم إنها بدعة أو ضلالة، لكن الأولى تركها مالم ترد في كتاب الله وسنة رسوله الكريم والله تعالى جل جلاله أعلى وأعلم.
نظروا له بصمتٍ حائرين فهتف هو بنبرةٍ ضاحكة رغمًا:.
مبارك يا جماعة، بس مش هنقرأ الفاتحة.
من جديد ضحكوا وارتفع صوت الزغاريد عاليًا من النساء والفتيات معًا فيما ضحك يوسف وهو يعانق إسماعيل قائلًا بيأسٍ من بين ضحكاته:
تعالى يا وش الفقر، الفاتحة طلعت بدعة.
انتشرت الضحكات عليهما وساد المرح في الأجواء بينما إسماعيل لاحظ وقوفها على بعدٍ منهم وهي تراقبه بعينيها وكأنها تخبره عن فرحتها بالوفاء بعهدهِ فيما ابتسم هو لها على هذه اللحظة يشكرها أنه استطاع رؤية الفرح بعينيه جلية في ملامح وجهها هي، هي وفقط.
لازالت أصوات الزغاريد في البيت تملئه وسط السعادة من أهل البيت وخاصةً إسماعيل الذي حتى لحظته هذه لم يتوقع أن يكون الأمر بهذه السهولة، وخاصةً حينما وقفت عهد تلتقط لهما الصور سويًا بعدما طلبت منها ضُحى في الخفاء بعيدًا عن الجميع وقد وافق يوسف أن تقوم زوجته بهذا الدور، وضعت عهد لمساتها في كل الصور التي أخذتها لهما لتكون الصور أقرب إلى اللوحات الفنية خاصةً حينما وضعت بينهما باقة الزهور وكأن طُرقهما تجمعها باقة زهور.
وقف يوسف يراقب الجميع بعينيهِ مبتسمًا ولازال يتعجب ممن حولهِ، فمنذ عامٍ فقط كان يتمنى أن يجد الدفء وسط عالمٍ كمن رأه عند أحد أصدقائه، لم يتوقع أن تهديه الحياة عائلة كاملة يكون لها فيها دورًا رئيسيًا بهذا الشكل، والأهم من كل ذلك أن هذا العالم أركانه مكتملة، أمٌ تعشقه، شقيقة تراه بقدر العالم في عينيها، خاله الذي يعتبره الابن الكبير له، أبناء خاله الذي يقوم معهم بدورهِ كشقيقٍ لهما، زوجة أصبح يُحب أصغر تفاصيلها، فتاة أصيلة لم تهتم في عالمها بأحدٍ سواه، فتاة يُحق لها الدلال بقدر ما تشاء.
لاحظته عهد ولاحظت عينيه المُبتسمتين فاقتربت منه تجاوره وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت له:
سرحان في مين؟ أوعى تكون شيريهان؟
ابتسم هو الأخر لها ثم طالع وجهها وهو يقول بصراحةٍ تعهدها منه في كل لحظاته معها:
لأ، والله في الأحلى منها كمان.
حركت رأسها وهي تتتوق لسماع التكملة فأضاف هو حينما حرك رأسه للجهةِ الأخرى:
في أمي، بصي مُزة إزاي؟
تلاشت بمستها ولكزته في كتفه بغيظٍ منه وهو يعاندها حتى ضحك هو عليها ثم مال على أذنها يهتف بنبرةٍ هادئة وعميقة ورخيمة حملت معها من الدفء أطنانًا يدخله في قلبها:
بس دا ميمنعش إنك حلوة أوي،
وأحلى من كل حاجة حلوة كمان يا عهد.
ابتسمت له وهتفت بنبرةٍ مكتومة بسبب خجلها:
شكرًا، أنتَ كمان شكلك حلو.
ابتسم بهدوء وهو يتعجب لنفسه كيف تكف كل الأصوات من حولهِ عداها هي؟ تُرى كأن العالم أصبح شاغرًا من الجميع وهي البشرية الوحيدة التي تعيش بهذا العالم، منذ متى وهو ينتظر رد فعل من إحداهن وكيف أصبحت مجرد الحروف منها تكون عالمًا له؟ هذه هي المكافأة في نهاية المطاف؟ إذًا هي حقًا تستحق أن تمر بكل ما مررت بهِ.
أقتربت منهما وعد شقيقة زوجته، وحينها حملها هو على أحد ذراعيه ثم لثم وجنتها وهتف بنبرةٍ هادئة يمازح بها زوجته:
أنا بقول أفكني من أختك وأخدك ونهرب، تيجي؟
حركت رأسها نفيًا وهتفت بنبرةٍ ضاحكة:
لأ علشان لو مشيت عهد هتزعل وأنا سمعتها بتقول لماما إن هي مش عاوزاك تمشي خالص، علشان بابا لما مشي هي زعلت، يرضيك عهد تزعل؟ ولو زعلت هتعملها إيه؟
خجلت عهد من حديث شقيقتها الصُغرى التي لم يتخطى عمرها الثمانِ سنوات بينما يوسف لثم وجنتها من جديد ثم نظر لزوجته يهتف بنبرةٍ هادئة وصادقة حينما أحتواها بعينيهِ:
أنا مقدرش على زعل عهد، ولو زعلت ليها العيون كلها وصاحب العيون كمان تحت أمرها بس هي تشاور.
تعلقت عيناها بعينيهِ تبتسم له بعينين مذهولتين ودامعتين وقد قطع تواصلهما عُدي الذي رفع صوتهِ باحثًا عن أخيه لكي يشرف معه على تناول الطعام وتجهيز الطاولة الكبرى للرجال.
في المطبخ كانت قمر تقف بجوار زوجها الذي عاونها بنفسهِ فيما تفعل بعدما أنشغل الجميع في الخارج ولم يخفى عنه حبها للإهتمام بالتفاصيل الصغيرة كما لاحظ مدى تفانيها في تولي الدور وتحمل المسؤولية لذا قرر أن يكون هو المرافق لها فيما تفعل، قام هو بترتيب الصحون ثم بدأ في إخراجها على الطاولة بالخارج وأصر أن يقوم هو بهذا الفعل دون أن يُتعب نساء البيت وكانت جملته للجميع هي:.
أنتوا من الصبح بتعملوا الأكل، هاتوا قمر بس وهي تساعدني، الباقي يقعدوا ممكن؟
حاولت قمر أن تمد جسدها للأعلى حتى تحصل لمصفاة الأطباق كي تلتقط أحد الأطباق وحينها أقترب منها أيوب وأخذه بدلًا عنها ثم وقف مقابلًا لها وهي تطالعه بتوترٍ من هذا القرب فيما هتف هو بنبرةٍ رخيمة لها:
ما تقولي إنك عاوزة الطبق، بتحاولي وأنتِ قصيرة؟
ابتسمت له بخجلٍ وكادت أن تبتعد عنه فوجدته يميل نحو أذنها وهو يُعاتبها بقوله الهاديء الرخيم:
علي فكرة أنتِ وحشتيني أوي، بقالك كام يوم مشغولة وسايباني، يرضيكِ أنا أتساب يعني؟ مكانش العشم.
رفعت عينيها نحوه تهتف بلهفةٍ تُبرر انشغالها عنه:
والله العظيم ضُحى سحلتني في الترويق والتجهيز والتحضير معاها وهي كانت بتروح شغلها، بعدين ما أنا شوفتك من 3 أيام، صحيح من البلكونة بس شوفتك.
ابتسم هو لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
طب خلصي ليلتك هنا علشان محضرلك مفاجأة.
تأهبت حواسها له وهي تسأله بعينيها فيما أقترب هو منها يُلثم وجنتها قُبلة مطولة جعلتها تبتسم بسعادةٍ وحينها أبتعد عنها وأعتدل في وقفتهِ وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
لأ مش هقولك ويلا يا سُكر، شوفي بتعملي إيه.
عادت لما تفعل وهو يعاونها أو ربما يتعلم منها كيف تقوم بتزيين الأطباق وهي تقوم بتفريغ الطعام في الصحون بهذه الطريقة الفنية وحينما علمته أتى عليه الدور ليفعل هو نفس الشيء وزين أطباق السلطة وأطباق الأرز أيضًا، وعاونها في وضع اللحوم والدجاج، ولم ينكر هو سعادته بما يفعل معها، أما هي فهذه المشاركة معه جعلتها تحلق مثل الفراشات فوق الزهزر تشتم رحيقها، كانت لحظة مميزة لها وهي تراه يعاونها ويهتم بما تفعل وتحب ويتحدث معها وكأنه صغيرٌ عاد من مدرستهِ وجلس يعطي أمه تقريره اليومي.
أنهى هو إخراج الطعام وقاما يوسف و عُدي بترتيب الطاولة ثم أشاروا للرجال بالاقتراب من الطاولة لتناول الطعام فيما دلف أيوب لها مُجددًا يسألها باهتمامٍ:
هو أنتِ مش هتاكلي؟ هتفضلي هنا؟
حركت رأسها نفيًا وهتفت توضح له:.
هفضل هنا علشان لو حد أحتاج حاجة وعلشان الستات بتاكل برضه والمكان ضيق في الأوضة جوة، وأقولك على سر مبعرفش آكل في المناسبات والزحمة، بحس كدا إني لازم كل شوية أقوم، بس مش مهم هاكل بعد ما كله يخلص.
وقف أمامها لوهلةٍ يُمعن النظر في وجهها ورغمًا عنه تذكر موقفًا يُشبه ذلك الموقف وقد صدر الأخر من والدتهِ في مناسبة قام بها والده بعزيمة أصدقائه ببيتهم وحينها عاونها أيوب وما إن لاحظ بقائها بداخل المطبخ سألها بتعجبٍ:
مش هتيجي تاكلي يا ماما؟
التفت له تقول بنبرةٍ مُنهكة بسبب وقوفها طوال النهار:.
مش هعرف يا حبيبي، ممكن حد منهم يحتاج حاجة أو بابا يطلب حاجة، روح أنتَ يلا كُل مع أخوك وأنا لما أخلص هاكل، متقلقش عليا، يلا علشان مينفعش تسيب الناس لوحدها كدا.
حينها زفر بقوةٍ وقد أخرجه من شروده صوت قمر وهي تُناديه بتعجبٍ من شرودهِ هكذا انتبه لها بعينيهِ ولم يجاوب عليها بل تحرك بخطواتٍ مسرعة يسحب الأطباق ثم وضع لها الطعام حتى تتناوله وقد راقبته هي مبتسمة بقلة حيلة فيما أقترب منها يضع الطعام أمامها وهتف بإصرارٍ تغلفه المودة ويغدقه الحنو:.
كُلي يا قمر مش هستنى لما تقعي من طولك، أنتِ من الصبح واقفة على رجلك، يلا ولا تحبي أطلع أقولهم هاكل مع مراتي جوة؟ أنا عادي أعملها على فكرة مش هتكسف.
رفضت مسرعة قبل أن يفعلها فيما أنتظر هو حتى تأكد من تناولها الطعام ثم خرج من المطبخ وحينها تقابل مع غالية التي كادت تسأل عن ابنتها فقال هو بلباقةٍ دبلوماسية يخبرها بما يُطمئنها:
متقلقيش عليها، بتاكل جوة.
ابتسمت له الأخرى وفهمت أنه من تسبب في ذلك بينما هو أنتبه للأصوات العالية التي نادته حتى يحضر معهم لتناول الطعام فذهب لهم وهو يعتذر منه ليجلس بجوار يوسف الذي مال عليه يسأله بتعجبٍ من تأخيره:
أنتَ خدت نصيبك جوة وكَلته؟ كنت فين؟
أمسك أيوب الملعقة وأخبره صراحةً وهو يطالع الصحون أمامه دون أن ينظر للأخر:
كنت بتطمن إن مراتي هتاكل زي ما أنا هاكل.
ابتسم يوسف له ثم بدأ في تناول الطعام هو الأخر بينما فضل ظل ينطق مُرحبًا بالجميع في بيتهِ وبتشريف عبدالقادر له وحضوره هذه المناسبة بأعتباره الأخ الكبير له ومن رائحة حبيبه كما أخبر الجميع، بينما نَعيم كان يجلس وسط الشباب ويقابله عبدالقادر وكلاهما يبتسم للأخر مُرحبًا به والكل هنا في ضيافة الفرح حتى إيهاب الذي ظل يراقب شقيقه بسعادةٍ وكأنه يشهد فرحه لمرته الأولى.
كانت السعادة هي رفيقته بهذا اليوم وهو يفعل كُل ما أراد، قضى اليوم برفقة زوجته وسرد لها معظم تفاصيل حياته، أخبرها عن مشاكساته لأهل الحارة جميعًا وكيف أطلقوا عليه لقب علاء الدين، أخبرها كيف تسلق الأسوار وكيف يقفز فوق الأشجار وهي تسمعه وضحكاتها المرحة كانت ردًا عليه وعلى قصصه المُمتعة بالرغم من شبه تأكدها من كل هذه التفاصيل، لكن الاستماع له كان شيئًا من نوعٍ أخرٍ.
سارا معًا في الحارة بعدما انتهت العزيمة ببيت والدته وقد سألها هو بإهتمامٍ حينما ابتعدا عن البيت:
قوليلي بصحيح اليوم عجبك؟
رفعت رأسها له وهي تقول بحماسٍ شديد:
جدًا، كل حاجة فيه كانت حلوة وحسيت بمشاعر حلوة أوي، وبعدين يعني اليوم لازم يكون حلو بكل الحكاوي دي، وفرحت أوي إني محسيتش نفسي غريبة عنكم، حسيت إني في بيتي بجد، شكرًا ليك على اليوم دا يا تَيام.
استمر سيرهما سويًا حتى أوصلها لباب البيت وطرق الجرس وحينها فتح لهما أيهم الذي هتف بسخريةٍ ما إن رأهما سويًا:
ما بدري يا بيه؟
رد عليه الأخر بلهفةٍ يدافع عن نفسهِ من إتهامٍ يُوجه له:
أقسم بالله ما اتأخرت ثواني كمان، جايبها بالظبط بعدين دا أنا حبيبك يا أبو نسب، يعني المفروض تقدرني وتقولي روح يا تَيام ربنا يكتبلك في كل خطوة رحرحة.
ابتسمت لهما آيات وهتفت بنبرةٍ هادئة:
طب ممكن بقى نشرب الشاي مع بعض؟
سحبه أيهم من قميصه وكز على أسنانه غيظًا منهما وقد وافق على مشاركة الأخر لهم وحينها ركض لهم إياد الذي جلس في الحديقة يلعب مع والدهِ بينما نِهال كانت تقوم بتحضير الطعام لأسرتها الصغيرة.
جلسوا معًا وخرجت نِهال أيضًا بالشاي لهم وقد رأت السعادة على وجه آيات وفهمت أن اليوم مر عليها كما تمنت، وحينها استمرت الجلسة بمزاحٍ وضحكاتٍ وسخريات من أيهم ومشاكسات من تَيام والصغير معًا ثم استأذنهم بالرحيل حتى لا يترك والدته بمفردها وحينها ودع زوجته حينما لثم قمة رأسها أمام شقيقها.
خرج تَيام من البيت سعيدًا وفَرِحًا بما آل إليه، ماذا ينتظر أكثر من ذلك؟ حقق أحلامه وأصبحت أكبر الأحلام معه لكن فقط عليه الكثير من العمل لكي يستحق أن تكون معه، في بعض الأحيان يتعجب من إصرارهِ وعزة نفسه في كونهِ لا يقبل الشفقة أو نظرة التقليل بل يحب عزة النفس وشموخها، يحب أن يكون عزيزًا شامخًا في كل الأعين ويرفض نظرات التقليل، قرر أن يذهب إلى بيشوي في المقهى التي يجلس عليها لكنه لاحظ وقوف مُحي بجوار سيارته أسفل بناية يوسف فاقترب منه يقول بنبرةٍ ضاحكة:.
شوفت إنك ندل؟ جيت هنا ومقولتش.
أقترب منه الأخر يرحب به ثم عانقه بقوةٍ وهتف بعدها بنبرةٍ هادئة يوضح له الأمر:
مش بيقولك الغريب في البلد أعمى؟ أنا معرفش مكانك والله ودلوقتي الشباب نازلين علشان نروح بس وعد هجيلك، أو تعالى أنتَ علشان تركب خيل، إيه مش ناوي؟ ياعم تعالى إحتفالًا بخطوبة إسماعيل وكتب كتابك.
ضحك له تَيام وربت على كتفهِ وهو يقول بصدقٍ:.
لو هاجي هاجي علشانك أنتَ، بس الحارة كلها نورت والله، أومال الحج فين؟ مشي ولا إيه؟
أنهى جملته ولا يعلم سبب السؤال لكن في هذه اللحظة خرج نَعيم برفقة عبدالقادر معًا فابتسم هو لهما وهتف بمزاحٍ:
أقسم بالله صينية حلويات قدامي، حمايا وكبيري مع بعض؟ دا أنا أمي دعيالي علشان أشوفكم هنا سوا.
أنتبه له نَعيم وتحرك نحوه يبتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة يحاول بها إخفاء فرحته برؤيته:.
والله أنا اللي مبسوط أني شوفتك، طمني عليك عامل إيه؟
ضحك له تَيام وأقترب منه يمد كفه له مُرحبًا تزامنًا مع قولهِ العاقل الذي أصطبغ بالحكمة:
والله زي الفل الحمدلله، والنهاردة حمايا دلعني وخلاني عزمت مراتي وقضينا اليوم دا مع بعض، شكلك واسطة جامدة أول ما جيبت سيرتك أقتنعوا كلهم.
ضحك له نَعيم ثم هتف بصدقٍ يخبره به وهو يجول بعينيه في ملامحهِ:.
وأنا تحت أمرك، أنتَ كبرتني قدام الكل وخليتني كبيرك، وأنا لو عليا عيني ليك مبخلش عنك أبدًا، وعقبال الليلة الكبيرة بقى تكون قريب وساعتها يتحايلوا عليك هما علشان يشوفوها.
في هذه اللحظة نزلوا الشباب ورحبوا به هم أيضًا وكذلك هو ثم جاور عبدالقادر وراقب تحركهم وهو يبتسم لهم بينما نَعيم قبل أن يلج سيارته عاد يودع عبدالقادر ويوعده بمقابلة أخرى عن قريب تكون زيارة له هو ثم ودع تَيام وضمه بين ذراعيهِ وهتف له في أذنه بقولهِ الهاديء:
هستناك تجيلي لو كبيرك زي ما بتقول متبخلش عليا بزيارة منك، هستناك يا تَيام أوعى ماتجيش.
أبتعد عنه تَيام يهتف بنبرةٍ صادقة يقطع بها وعدًا جعله إلزاميًا عليهِ أمام كلا الرجلين:
وعد قدام الحج أهو هاجيلك، أستناني قريب.
ابتسم له ثم ودعه وركب سيارته بجوار ابنه وفي الخلف كان يركب سراج الذي تعجب من حديث نَعيم مع هذا الشاب لكنه لم يهتم كثيرًا فهو يعلم أن الأخر يحب الجميع وخاصةً الشباب يحب يكون عونًا لهم، أما نَعيم فكان هناك شيئٌ بداخلهِ يَلح عليه أن يقوم بفرد جناحيه لهذا الشاب كما فعل مع البقية، لا يعلم لما لكن نظراته دومًا تتطلع إليه كأنها تنطق أنها في أشد الحاجة إليه، عيناه اللاتي تتجولا في ملامحهِ وتشبها عينيه كثيرًا في نظرتها تبدو كأنه يخبره أنه يشتاق لعزيزٍ عليه، هذه مرته الثالثة التي يراه بها ومرته الثانية التي تحدث معه خلالها لكن قلبه يشعر كأنه يعرفه أو ربما كان يسكنه وكأنه عبارة عن بيتٍ قديمٍ رحل عنه ساكنه ليصبح من بعدها مهجورًا.
إن كُتِبَ علينا السجن فالحرية هي منفسنا.
هكذا فكر مُنذر إبان عودته إلى الفندق الذي قام بحجز غرفة به لكي يقضي يومه، كان سيتهور ويعود إلى القاهرة بنفس اليوم لكنه تريث بفكرهِ مُجددًا وقرر أن يقضي ليله هنا خاصةً أنه استمر في النزهة بمفردهِ وتناول الطعام أيضًا، الآن دلف غرفته ثم أرتمى على الفراش يفرد ذراعيه وعضلاته المُتشنجة وقد أدرك حاجته لحمامٍ دافيء يقوم ببسط عضلاته المُتيبسة، وحينها فتح حقيبة الظهر الخاصة بهِ ثم أخرج ثيابًا مُريحة وخلع سترته الجلدية وبقية ثيابه.
مرت دقائق أخرى شارفت على ساعة تقريبًا قضاها أسفل المياه الدافئة ثم أرتدى ثيابه وخرج وحينها فتح هاتفه الذي أغلقه حتى لا يتهور ويخبر الجميع بما حدث وكأنه تيقن من طريقة تفكير عمه، وقد ابتسم حينما لمح اسمه يُزين الشاشة فضغط على زر الإيجاب قائلًا:.
أول حاجة قبل ما تزعق كنت قافله علشان مش هعرف أرد على حد خالص، ثانيًا أنا بخير متقلقش ووصلت الفندق، ثالثًا بقى أنا حلفت إني مش هقولك حاجة غير وأنا قدامك وش لوش، تقدر تنام وترتاح شوية.
زفر نَعيم بقوةٍ ثم هتف بقلة حيلة مستسلمًا أمام عناد هذا الشاب الذي أخذ صفاته كلها حتى المُعاندة:.
ماشي، وأنا وعدتك أستنى، فجر ربنا يأذن تخرج من عندك وتيجي على هنا، مش علشان حاجة، بس علشان موضوع الراجل اللي أتهجم عليك وخبيته عني وعرفته صدفة من إيهاب لسه حسابك معايا مش هسكتلك.
ضحك مُنذر ثم رد بأدبٍ يعتذر له ووعده أن يقوم بتفسير كل شيءٍ له عند عودته من جديد إليه وقد أغلق معه الهاتف ثم بحث عن صفحة تَيام عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وقد وصل إليه بسهولةٍ حينما وجده في قائمة أصدقاء أيوب، لم يعلم لما أبتسم ولما شعر بالألفة من مجرد النظر في ملامحهِ، الآن وفقط لاحظ التشابه بينه وبين مُحي حتى لون الأعين الرُمادية هو نفسهُ! تقريبًا نفسها وسامة نَعيم في شبابهِ وإقترابها من ملامح مُحي.
لكن كيف لم ينتبه هو لذلك؟ كيف لم يلحظ التقارب بينهما ونظرة عمه له يوم عقد القران؟ كيف يكون من وسط كل أفراد العالم وصل هذا الطفل إلى هذا المكان عجت رأسه بالعديد والعديد الذي جعله يتهرب من ألم رأسه وقبل أن يخلد للنوم صدح صوت هاتفه برقمٍ مجهولٍ جعله يبتسم بزاوية فمهِ وفتح المكالمة ليصله أكثر الأصوات كُرهًا له وهو يقول بنبرةٍ صبغها بطبعه البارد:
ها! نقول مبروك ولا لسه؟
ضحك مُنذر وهتف بسخريةٍ يتهكم عليه:
ليه فرح أمك؟ برة عنك بقى اللي جاي.
أجاد استفزاز الأخر الذي هتف بنفس البرود كأنه لم يكترث:
وصلت لابن عمك ولا لسه؟ على العموم محتاجين نتكلم بقى جد شوية ونفوق لشغلنا، فيه بيت في مقبرة عند.
قبل أن يُكمل حديثه أوقفه مُنذر بقولهِ الصارم:.
أنسى، خِلصنا خلاص والكلام دا تنساه ودا لأني بكل بساطة مش هشتغل تاني في الوساخة دي، بنضف نفسي بنفسي، تعالى شوف حاجتك بنفسك علشان أنا مش هشوف حاجة حد وياريت لو حد عليه القيمة.
أشتعل غيظ ماكسيم منه وحينها هتف من بين أسنانه وهو يحاول التحكم في غضبهِ قبل أن يصرخ فيه:.
متنساش نفسك، كان زمانك لولايا ميت يا مُنذر مالكش أصل ولا حتى كان زمانك عايش، أنا خليتك إنسان وصرفت عليك وبقى ليك اسم وشهادة كمان، أنتَ كنت لولايا حاجة من اتنين، يا ميت يا مرمي في السجن زي أخوك الكبير اللي مات في السجن من الهباب اللي بيشربه، أخرتها دا رد الجميل.
أعتدل مُنذر على الفراش وأنزل قدميه ليكون في وضع الجلوس وهو يقول منفعلًا بنبرةٍ أقرب للصراخ بعدما تفاقم الغضب بداخلهِ:.
وهو أنتَ جاي في الأخر تقولي إنك بتتفضل عليا؟ مين السبب في كل دا؟ مش أنتَ؟ مين السبب إن حياتي تبوظ وأبقى عايش من غير أصل أو عيلة رغم إني ليا عيلة وعم، مين السبب إني أكون عبد؟ مش أنتَ علشان تخليني قدام عيلتك برواز وتبقى اللي مفيش منه اتنين بيتصرف صح، أسمع! الأحسن تخليك بعيد علشان مأظنش الرجوع في صالحك.
بنفس البرود ضحك ماكسيم بملء صوته ثم تشدق بنزقٍ هاتفًا بما يثير استفزاز الأخر:.
طب وحاجتك اللي معايا؟ نسيت شغلك ولا إيه؟ طب فكر كدا معايا عمو هيقول عليك إيه لما يعرف؟ شكلك من ساعة ما رجعت مصر بقيت غبي زيادة عن اللزوم، أسمع! في متحف قريب بيتعمل وفيه آثار مطلوبة لازم تكون حاضرة، ودي تحديدًا اللي هتجيبها يا مُنذر.
أخرج مُنذر زفيرًا قويًا وهتف بنبرةٍ أقتبس البرود من الأخر ليتحدث بنفس الطريقة قائلًا باستمتاعٍ جليٍ في نبرته:.
آه، قولتلي على العموم مش فاهم مين فينا اللي غبي بصراحة، الحاجة اللي عندك دي أو كانت عندك تدينك زي ما تدينني بالظبط، أنتَ مش ابن المدينة الفاضلة، فوق أنتَ ابن حرام زيك زيي، بعدين هتروح يا غبي تثبت حاجات تضرك قبلي؟ على العموم الحاجات دي بَح، ودا درس صغير علشان تبطل جري ورا النسوان، أما بقى المتاحف اللي عمالة تتحشي بأثار البلد، أبقى غطيها وصَوت جنبها عليها وعلى خيبتك يا يا خايب.
بتر حديثه ثم أضاف كلمته الأخيرة وأغلق الهاتف ثم تسطح الفراش مُجددًا بعدما تنفس بعمقٍ، لقد حان دوره أن ينتقم من كل ظالمٍ أجحفه، الحياة لم ترحمه وفرضت عليه كل الخيارات بالإجبار، لقد لاقى العذاب بأشكالهِ المتنوعة ولازال يحمل صفة إنسانًا لكنه برغم ذلك لازال مقتولًا بداخلهِ مجرد جُثة هامدة فارقتها الروح حتى زهدت الحياة.
جلس هذا الصغير الذي لم يكبر بعد.
كان ولازال كما هو صغيرًا لم يكبر أو الأصدق أن قلبه هو الذي لم يكبر، لازال دافئًا وناعمًا كما هو وكأن قسوة الحياة لم تَطُله، اليوم هو حظى بجزءٍ من السعادة ومن المؤكد سَتُكتَب له كاملةً لتصبح السعادة جزءًا لا يتجزأ من حياتهِ.
سهر إسماعيل يراقب ضوء القمر المكتمل بطورهِ الدائري وهو يبتسم أثناء استرجاعه ذكريات اليوم، كان يجلس على الرمال بهدوء لكن البسمة لم تَغُب عن مُحياه بل زينته وهو يطالع الصور الخاصة بهما سويًا، كانت ضحكتها واسعة وبانت في ملامحها سعادتها وهي تجاوره ماسكةً بين كفيها باقة الزهور وقد شرد أكثر وأكثر حتى شعر بكف أحدهم يوضع على كتفهِ فالتفت خلفه مسرعًا ليجد شقيقه مُبتسمًا وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.
إيه اللي مسهرك إحنا بقينا وش الفجر.
حرك كتفيه ثم هتف بنبرةٍ بدت غير مكترثة رغم عدم حدوث ذلك الشيء نهائيًا:
عادي يعني مجاليش نوم، قولت أسهر.
جاوره إيهاب وهتف بنبرةٍ هادئة وهو يُخرج علبة سجائره يُشعل منها واحدة وما إن فعل ذلك رد عليه بتكهنٍ:
علي بابا برضه؟ يعني مش سهران تفتكر اليوم واللي حصل وتشوف صوركم مع بعض؟ على العموم الخطوبة بعد أسبوعين زي ما حددوا وساعتها أبقى مَلي عينك من الدِبلة براحتك يا رايق.
ضحك إسماعيل بملء شدقهِ على قول شقيقه وكيف يقرأه مثل الكتاب المفتوح وقد شاركه إيهاب أيضًا الضحكات وفي هذه اللحظة أتى سراج وجلس بجانبهما ودن أن يتحدث خطف السيجار من يد إيهاب الذي رمقه بسخطٍ فهتف الأخر بنبرةٍ خشنة مُحشرجة نتيجة نومه:
ولع غيرها يا إيهاب سجايري جوه.
أخر الأخر سيجارًا من علبته وقام بإشعالها فخطفها منه إسماعيل وهتف مُقلدًا طريقة الأخر بنفس الجملة قائلًا:
ولع غيرها يا إيهاب سجايري جوه.
ضحك سراج ضحكة مكتومة على عكس إسماعيل الذي أدخل هواء السيجار داخل رئتيه ثم رفع رأسه من جديد يطالع ضوء القمر وقد رفع ذراعه نحوه وهو يشير لأخيه بقولهِ الذي خرج حماسيًا:
بص يا إيهاب القمر حلو إزاي؟
بكل تلقائية جاوبه الأخر وهو يقوم بإشعال السيجار الثالث:
فُكك، عيون سمارة أحلى منه.
هتف الجملة دون وعيٍ منه حتى تجمد وقد رفع رأسه على صوت ضحكات الأخريْن وحينها ابتسم رغمًا عنه وهتف بقلة حيلة كأنه غُلِبَ على أمرهِ في الإعتراف:
هي فعلًا عيونها أحلى، وربنا المعبود أنا لما كنت مرمي في السجن ما كان شاغلني غير إني اتحرمت من قربها في نفس الليلة اللي بقى مسموحلي أقرب منها فيها، بس نرجع نقول مفيش حال بيدوم، ربك كريم والحمدلله، يلا بقى علشان الحج نازل أهو وهنروح نصلي معاه.
ابتسم سراج حينما وجد نَعيم يقترب منهم وحينها أطمئن دون أي سببٍ يعلمه لكن وحدها هيئة نَعيم تُطمئنه وكأنه طوق النجاة له، من الغباء والتهور أن يفقده مُجددًا
لقد بكى وتألم سابقًا، أما الآن فأصبح منتصرًا على نفسهِ بعدما عاش مهزومًا في حربٍ أعلنها عليه العالم ولم يجد بها مُنصفًا حتى نفسه.
الليل رحل وأتى الدور لشمسٍ مُشرقة تُنير الكون بأكملهِ، بدأت نسمات الليل الباردة ليلًا قُبيل الفجر بلحظاتٍ قليلة وسط سكونٍ بدأ يشقه صوت طائر الديك مع نباح بعض الكلاب ليلًا وسط الظلام وإحتماء القطط بجوار أبواب المباني باحثةً عن الدفء والأمان، بدأ الصوت يشق الليل بسكونهِ في حارة العطار ليظهر الصوت المُحبب للقلوب الهائمة قائلًا:
إذاعة القُرآن الكريم من القاهرة، المُبتهل الشيخ
نصر الدين طوبار.
هذه هي الدباغة المُعتادة من محطة الإذاعة والتليفزيون عبر الراديو حيث صدح الصوت من المسجد بينما أيوب قام بترتيب المصاحف فوق بعضها ثم تنظيف أرضية المسجد وفتح المرحاض تجهيزًا للوضوء، والصوت خلفه يصدح من المُبتهل وسط الليل بقولهِ:
حين يُهدي الصُبح إشراق سناه.
حين يُهدي الصبح إشراق سناه.
يَسكب الطَّل رحيقًا من نداه.
الضُحى
الضحى من نور مَن؟
الله
والندى من فيض مَن؟
الله.
في هذه الأثناء جلس أيوب مستندًا على العامود الرخامي بالمسجد بعدما أنهى تنظيفه وجهز كل شيءٍ لأجل الصلاة، لم يعلم لما يود البكاء هذه الليلة تحديدًا، ولم يعلم لما يود الصراخ من داخلهِ، لكن ذكريات والدته لم تتركه وكأنها أتت تحاربه، نعم هي لم تتركه بل يحملها في قلبهِ لكن اليوم هي لم تبرح خياله، وقد أغمض عينيه وسحب نفسًا عميقًا ثم سمح لدموعه أن تنزل، يبكي وكأنه الوحيد في هذا العالم المسموح له أن يبكي، لا يعلم لما تعود هذه الحالة التي يشعر فيها بالضعف لكنه ما إن تتسنى له الفرصة يبكي على كل شيءٍ.
كانت في هذه الأثناء قمر تجلس في غرفتها تستمع لصوت الإبتهال وقد تيقنت أن أيوب ذهب إلى المسجد، لم تعلم لما اليوم حينما قامت غالية بإحتضان يوسف وقامت أسماء باحتضان عُدي شعرت بوجعهِ حينما كاد أن يغادر الشقة لكنه التفت يودعها وحينها شاهد هذه اللحظة بعينيهِ ووقف للحظةٍ يراقب كليهما بين ذراعي أمه، حينها أعتذرت له قمر بنظراتها بينما هو رحل خلف والده ومن حينها لم تعرف عنه أي شيءٍ.
في الخارج كان يوسف في غرفته ساهرًا وهو يدخن سيجاره ليلًا متسطح الفراش بنصف جلسةٍ وقد صدح صوت جرس باب الشقة في هذه اللحظة وقد ظن أن والدته نامت وكذلك شقيقته فخرج هو يفتح الباب بعدما ترك الفراش وأنتعل نعاله البيتي وما إن فتح الباب وجد حينها عهد في وجههِ تمط شفتيها بأسفٍ ثم سألته بإحراجٍ:
أنا آسفة أولًا يعني، عندكوا لبن؟
تبدلت ملامحه للإستنكار الشديد فيما رفعت هي كفيها تشرح له عمليًا وضع سكب اللبن بالكوب تزامنًا مع قولها:
لبن، اللبن بتاع الشُرب دا، عندكوا شوية؟
عادت السخرية لملامحه وضم كفيه على بعضهما يهتف بسخريةٍ وهو يجاهد لكتم ضحكته:
والله يا عسل أتفطمنا من زمان.
أصدرت صوتًا من حنجرتها يَنُم عن الاستياء فيما ضحك هو عليها ثم تركها محلها ودلف للداخل ثم عاد إليها مُجددًا في يده زجاجة حليب وقد رفع كفه بها نصب عينيها وهتف بنبرةٍ ضاحكة يمازحها:
إزازة مبرشمة أهيه، أي خدمة.
ابتسمت له ثم هتفت بنبرةٍ حماسية:.
والله أنتَ سكر وأنا مغلطتش إني أجيلك وقبل ما تسأل وترخم، بصراحة جوعت أوي وكنت قايمة أعمل كوباية شاي بلبن مع ساندويتش جبنة بس ملقيتش لبن، معرفش ليه طلبت معايا لبن دلوقتي، قولت أجي أسأل.
ابتسم لها بحنوٍ ثم مد يده بالزجاجة هاتفًا بنبرةٍ هادئة:.
ألف وهنا وشفا على قلبك يا عهد، لو عاوزة حاجة تانية قولي التلاجة مليانة ولو عاوزة حاجة للشقة عندك عرفيني هجيبلك اللي تعوزيه، بس قولي أنتِ متخافيش مش هتتقلي عليا يعني.
أخذت منه الزجاجة وهتفت بنبرةٍ هادئة وصادقة:
قد القول وأكتر يا يوسف عن إذنك.
التفت بعدما أبتعدت عنه خطوة أو أقل فيما أوقفها هو بقولهِ:
عهد بكرة هنروح سوا المشوار اللي قولتلك عليه، جاهزة؟ ولا نأجلها لوقت تاني تكوني حابة فيه؟
التفتت بنصف جسدها وهتفت بوجهٍ مبتسمٍ:
لأ جاهزة، بكرة إن شاء الله هكون جاهزة في ميعادنا، تصبح على خير يا قمور.
ابتسم بعينيهِ قبل شفتيه وهتف بنبرةٍ هادئة ردًا عليها:
وأنتِ من أهل الخير يا عسولة.
تركته وتوجهت نحو شقتها بعدما لاحظت نظرته الهادئة نحوها وكأنه يخشى عليها هو من هذه الخطوة، تراها في عينيه وكأنه يخبرها أنه يودها تأخذ هذه الخطوة وبالعين الأخرى يودها أن تتراجع وكأنه يخشى عليها من شيءٍ لم يعرفه، فربما يخشى أن يرى نفسه بها في أوج لحظات ضعفها كما رأى نفسه ضعيفًا عند مواجهة نفسه.
في صباح اليوم التالي
تحديدًا قُبيل صلاة الظُهر أوقف يوسف سيارته في منطقة وسط البلد وترجل منها وترجلت عهد هي الأخرى وحينها رفعت رأسها نحو البناية ثم هتفت بنبرةٍ ضاحكة تشاكسه بقولها:
بقى دا مكان ماكنتش عاوز تجيبني فيه؟
كانت تشير في قولها إلى البناية القديمة التي توسطت الشارع الجانبي في هذه المنطقة بينما هو هتف بنبرةٍ هادئة ينفي ظنونها بقولهِ:.
خالص، بس الفكرة إني خايف تفتكريني بضغط عليكِ، فيه حاجات مينفعش فيها ضغط يا عهد بس أكيد يهمني إنك تاخدي الخطوة دي علشان نفسك قبل أي حد، خصوصًا إنك منمتيش إمبارح صح؟ باين عليكِ إنك عاوزة تنامي.
زفرت بقوةٍ وهتفت بنبرةٍ مختنقة أقرب للبكاء:.
بخاف، كل ما أجي أنام بخاف، المفروض غاروا في داهية خلاص بس حساهم جوايا وساكنيني علشان بس ينكدوا عليا، مش هو بس، دول كلهم يا يوسف صدقني أنا محتاجة لدا أوي، محتاجة آخد خطوة زي دي، يمكن تساعدني في اللي بهرب منه وهو جوايا.
ابتسم لها هو بحزنٍ ثم أقترب منها ورفع كفه يُزيل عنها عبراتها العالقة بأهدابها ثم أمسك كفها وتحرك بها نحو مدخل البناية يحثها على الدخول ثم هتف بنبرةٍ هادئة:.
نخلص هنا وهنتغدا برة مع بعض، يلا.
دلفت مع البناية بعدما تنفست الصعداء لعلها بذلك تسيطر على دموعها وضيق صدرها بسبب التوتر الذي هجم عليها وللأسف لم يُسعفها عقلها في هذه الحالة بل رسم لها اسوأ الخيالات عن فكرة عيادة الطبيب النفسي، وحينها كتمت ضحكتها وقد انتبه لها يوسف حينما ولج بها المصعد القديم الذي يظهر في الأفلام السينمائية القديمة، لم تنتبه هي للمصعد بل ظل المشهد يُعاد في رأسها وبسمتها تتسع أكثر حتى سألها هو بتعجبٍ من بسمتها هذه:.
أنتِ بتضحكي على إيه يا عهد؟ مش رايحين الملاهي يا ست، دي عيادة دكتور نفسي ياما.
جاوبته بنبرةٍ ضاحكة عن مخيلات رأسها:
بصراحة بقالي ساعة متخيلة مشعد عبثي وهو إني هلاقي العيادة مليانة ناس كتير تعبانة نفسيًا ومحدش قادر يسيطر عليهم وناس بتجري وناس بتطير ورق مهم، أكيد مفيش كدا صح؟
حرك عينيه يطالعها بدهشةٍ جعلته يرفرف بأهدابه وقد ضحك هو الأخر حينما وجدها تكتم ضحكتها وضحكت هي مُجددًا وحينها توقف المصعد وخرج كلاهما بعدما أنهيا الضحكات فيما طرق هو باب العيادة وقد فتحه له جواد الذي ابتسم له ببراءةٍ جعلت يوسف يسأله بتعجبٍ:
أومال فين أختك؟
أشار نحو الداخل ثم عاتبه بقولهِ:
طب سلم حتى ولا عرفني أنا مين، بس هقول مذبذب طول عمرك، بس نورت والله، أتفضل.
دلف يوسف وخلفه عهد ثم تولى مهمة التعريف بينهما قائلًا بجمودٍ حاد:
دا الدكتور جواد ودي عهد مراتي، بس مش هو اللي هيتولى المهمة، أخته الدكتورة مش فاكر باين اسمها إيه، ودا أحسنله قبل ما يفكر يستغفلني يعني.
رفع جواد حاجبيه بسخريةٍ وعدل نظارته الطبية فيما خرجت فُلة من غرفة الجلسات النفسية ثم أقتربت من عهد وهي تقول بنبرةٍ مرحة:
أنتِ عهد؟
حركت رأسها لها موافقةً بتوترٍ فيما هتف يوسف بتهكمٍ يسخر منها بقولهِ:.
يا سلام على النباهة والذكاء، هتكون مين يعني؟
زفرت فُلة بقوةٍ ثم مدت كفها لها تُرحب بها بينما عهد تعجبت من هيئتها، تبدو فتاة صغيرة في أول أعوامها الجامعية، جسدها الرفيع وهيئتها تدل على صِغر عمرها وبذلك ملامحها الضاحكة، عيناها العسليتان الواسعتان تبنعث منهما الطاقة، خصلاتها السوداء الناعمة بلمعةٍ خاطفة، فتاة حيوية بدت عليها كل علامات الطاقة وكذلك بسمتها الحماسية التي ترتسم على شفتيها.
استمرت مهمة التعريف لدقائق قليلة تبعها دخول عهد للغرفة مع فُلة وبالطبع هذه الخطوة أخذتها بعدما شعرت نحوها بالإرتياح الشديد وكأن الأُلفة حلت محلها بينهما فور اللقاء الأول فقط.
أما يوسف فما إن دلفت الغرفة زفر بقوةٍ ثم حرك رأسه نحو جواد يخبره من خلال عينيه بخوفهِ عليها فلم يكن أمام الأخر سوى أن يقترب منه ثم ربت على كتفهِ وطمئنه بقولهِ:.
متقلقش، مشكلتها مش كبيرة علشان تخاف كدا، بعدين فُلة حماسية أوي مش هتخلي الجلسة مأساوية، بعدين اللي يشوفك كدا يقول فارق معاك أوي، ما أنتَ قبل كدا قولت عليه هبل وملهوش لازمة ورفضته يا يوسف، صح ولا أنا غلط وبكدب؟
زفر يوسف بقوةٍ حينما شعر بضغط الأخر عليه ثم هتف بنبرةٍ جامدة غلفتها القسوة:.
علشان جربنا مرة وسمعت كلامك بس تعبت، تعبت وكان الموضوع فوق طاقتي وأنا بفتح الجروح وأضرب عليها من جديد، مش فارق معايا غيرها، لكن أنا لأ، فُكك مني ومن علاجي، لما تلاقيني بشد في شعري وخلاص ماشي في الشارع حافي، أبقى تعالى خُدني من أيدي أرميني في المصحة تاني.
وقف أمامه الأخر مُتيقنًا من حديث شقيقته أن الحل يكمن في عهد، هي الوحيدة التي تملك السُلطة على هذا القلب العنيد، وهي الوحيدة التي تملك القوة التي تستطع أن تُنازع بها ضعفه، وهي الوحيدة التي لأجلها يفعل أي شيءٍ حتى وإن كانت أكثر الأشياء كراهيةً لقلبهِ.
بداخل الغرفة.
جلست عهد أمام فُلة على مقعدها المدولب أو ما يُطلق عليه باللغةِ الدارجة شيزلونج والأخرى جلست مقابلةً لها وقد ألبست نفسها وشاح الدبلوماسية وهتفت بنبرةٍ عملية:
بصي يا ستي حاليًا مهم إنك تعرفي أنا مين، علشان تثقي فيا وتقدري تتكلمي معايا بكل أريحية، النهاردة نعتبر اليوم زي أول يوم دراسة، تعريف وبس وكلام عادي جدًا ومحادثة هادية من غير أي ضغوطات نفسية أو إشارات كلامية، هبدأ بنفسي.
أوقفت حديثها ثم أرتدت نظارة طبية كبيرة باللون الأسود دائرية الشكل وهتفت بنفس الدبلوماسية قائلة:
أنا يا ستي فُلة عندي 27 سنة، دكتورة نفسية لسه ببدأ الطريق من أوله، البنت الصغيرة ومعنديش أي أخوات غير أخويا الدكتور جواد اللي كان برة دا، حاليًا دي الأساسيات اللي تخلي عقلك يبرمجني عنده، تقدري بقى تعرفيني عن نفسك؟
ابتسمت لها عهد وحركت رأسها موافقةً ثم هتفت بنبرةٍ هادئة تخبرها عن الموافقة بقولها:.
آه طبعًا، أنا عهد محفوظ عندي 25 سنة، البنت الكبيرة وعندي أخت صغيرة عندها 8 سنين، خريجة كلية العلوم شعبة فيزيا، واشتغلت فترة طويلة بس قعدت من فترة صغيرة بسبب ظروف حصلت.
أطمنت فُلة أنها لم تشعرها بالخوف أو التوتر حينما وجدتها تسترسل معها، لكن ما أذهلها حقًا هي قوة عهد البائنة عليها أثناء التحدث والتعريف عن نفسها وكأنها مجرد محادثة دبلوماسية بين طرفين عمليين وليست مقابلة في عيادة نفسية، يبدو أنها هنا لكي تخالف ظنون الجميع حتى نفسها، أو ربما حماسها في حياةٍ هادئة ونومٍ عميق هي السبب في حالتها هذه.
في شركة الراوي
كانت تجلس أمام نهر النيل من داخل الشركة وفي يدها عُلبة الطعام الخاصة بها تتناوله بمفردها بعدما تولى عُدي مهمة الإشراف على الطُلاب الجُدد في مجال الترجمة، وجدت نفسها تشعر بفقدان شهيتها بسبب تناولها الطعام بمفردها وبعد مرور دقائق أقترب منها يجلس مجاورًا لها وهو يقول بنبرةٍ مُنهكة أثناء حله لرابطة عنقهِ السوداء:
أنا عاوز أقدم استقالتي، خلاص.
ضحكت رهف له وضحك هو الأخر ثم هتف بنبرةٍ لازال بها أثر ضحكاته:
جوعت وصدعت ودماغي ورمت وأنا أصلًا أروق من الحوارات دي كلها، بس يلا كله علشان خاطر يوسف عن إذنك هروح أجيب حاجة آكلها، تحبي أجيبلك حاجة؟
حركت رأسها نفيًا وقبل أن يتحرك أوقفته بقولها الخَجل:
أنا معايا أكل كتير على أساس حد ياكل معايا وأنا مبعرفش آكل لوحدي، ممكن تاكل معايا عادي؟ لو مش حابب مش هزعجك، بس حرام الأكل دا يبوظ بصراحة.
استقر بجلستهِ من جديد ثم هتف بنبرةٍ هادئة لكن ساورته الحيرة بسبب خجلها:
لو مش هضايقك أنا هاكل عادي، بس القهوة كدا عليا أنا ولا نخليها شاي؟
ابتسمت رهف بزرقاوتيها وهتفت بنبرةٍ ضاحكة دون أن تعلم سبب إنبساط ملامحها بهذه الدرجة أو سبب فرحتها لمشاركته لها في تناول الطعام:
ياريت قهوة فعلًا، بس بعد الأكل.
قالت جملتها ثم عاودت وضع العلبة بينهما وفتحتها وحينها وجد بداخلها فطائر معجنات محشوة باللحم وأخرى محشوة بأنواعٍ مُختلفة من الجُبن بشتى أنواعه وقد لاحظ حقًا كثرة الكمية وكأنها قامت بإحضار الطعام لأجلهِ؟ لم يعلم لما خشى أن يتهور بفكرهِ أكثر من ذلك، أما هي فتعجبت من حالها والأغرب من إطمئنانها في حضورهِ، تبدو وكأنها في مدرسة تعليمية والجميع عنها هنا غرباء وهو وحده الصديق المُفضل لها.
أقترب منهما سامي يقطع عليهما اللحظة الهادئة مُخرجًا كليهما من شرودهِ وحديث رأسه وهتف ساخرًا بقوله:
نورت يا عُدي والله وبقى ليك مكان هنا.
أنتبه له عُدي فترك طعامه ووقف أمامه يهتف بنبرةٍ هادئة على عكس غيظهِ والغضب المتفاقم بداخلهِ:
كان بودي أقولك بنورك، بس دا مش حقيقي.
انفرجت شفتا سامي عن بعضهما بذهولٍ من جرأة الأخر الذي تحداه بنظراتهِ بينما رهف وقفت بينهما تحرك عينيها بتساويٍ بينهما لتجد سامي تحدث بسخريةٍ:
من يومك رخم زي أبوك، سبحان الله نفس تُقل الدم بالظبط، قولي بصحيح لسه رخم زي ماهو؟ مع إن من شكلك باين إنه زاد رخامة فوق رخامته.
اصطكت أسنان عُدي ببعضها من الغيظ والغضب لكنه تذكر وصية يوسف له أن يحافظ على توازنه بقدر المستطاع أمام هذه العائلة حتى لا يفعل ما يريدونه هم، لذا سحب نفسًا عميقًا وهتف ببرودٍ ظاهري على عكس نيرانه:
والله مهما زاد رخامة دا لو كان رخم يعني، فأكيد مش هيفوق رخامتك، وأظن يعني أنتَ عارف موقفي ناحيتك من صغري، فالأحسن ليك تتجنب التعامل معايا لأني محوشلك من بدري وأكيد مش طايقك، فياريت نبطل تعامل مع بعض أحسن.
وزع سامي نظراته بينه وبين رهف وقد لاحظ الطعام الموضوع بينهما فربت على كتف عُدي وهتف بنبرةٍ باردة بعدما أبتسم له:
طب كمل أكلك بألف هنا وشفا.
التفت عائدًا من جديد إلى مكتبهِ بعدما نجح في إثارة غيظ الأخر عن طريق إشعال فتيل مشاعره المغتاظة منه، هو الآن يسير في الطريق الذي يريده وقد تحرك من الممر الأسود الرُخامي وتقابل في وجهه مع نزيه الزاهي والد شهد وحينها أبتسم له ورحب به قائلًا بحبورٍ مصطنع:.
أهلًا نزيه بيه نورت الشركة، بس إيه الزيارة المفاجأة دي؟ خير فيه حاجة ولا زيارة عادية؟ مع إن في كلا الحالتين الشركة نورت بسيادتك.
تحدث نزيه بجمودٍ دون أن يرد تحيته:
ابنك فين يا سامي؟ أنا مش هنا أتضايف، أنا جاي أشوف ابنك اللي مقدرش يجيب حق بنتي اللي مراته، دا أنا عمري دا كله مقدرتش أمد أيدي عليها، تيجي حتة بت تضربها وفي شركتها، ابنك فين؟
صرخ بسؤاله الأخير رافعًا صوته كتعبيرٍ عن غضبهِ بينما سامي أخذه إلى المكتب عند ابنه الذي وقف على الفور أمام حماه الذي هتف بنبرةٍ جامدة أقرب للإنفعال:
أهلًا يا بيه؟ أنتَ إزاي تسمح لواحدة تمد إيدها على مراتك من غير ماتاخد رد فعل؟ إزاي مراتك حد يجرؤ أنه يبصلها حتى وأنتَ تسكت؟ خلاص أجيب حق بنتي أنا طالما حضرتك مش هتاخد خطوة، ولأخر مرة حد يقرب من بنتي يا نادر.
التفت نادر لوالده الذي تجاهله وكأنه يعطيه درسًا قاسيًا وحينها زفر نادر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
حضرتك أكيد فاهم غلط، الموضوع فيه سوء تفاهم و شهد بتحب تكبر المواضيع، بعدين هي اللي بدأت وغلطت أول مرة وبرضه غلطت تاني مرة، دا شغل ستات، هتدخل أنا في شغل الستات بقى؟ الموضوع مش مستاهل كل دا في النهاية يعني.
حديثه لم يُخمد نيران الأخر بل ألهبها أكثر لذا تحدث الأخر بنفس الجمود في نفس لحظة دخول عاصم للمكتب:
واضح إنك غبي ومش فاهم حاجة يا نادر بس أنا هجيب حق بنتي بطريقتي سواء من يوسف اللي بيتعمد يأذيها أو من مراته اللي فكرت تمد أيدها على بنتي، ولأخر مرة هحذرك لو حد قرب من بنتي أنا هزعلك أنتَ، بس المرة دي هخليك تتعلم وتتفرج إزاي الراجل بيرجع حق اللي منه.
وقف سامي يطالع الموقف بلامبالاةٍ واهية وكأن مراده يتحقق أمام عينيه، دون أن يتدخل ويفعل أي شيءٍ سيراقب فقط يوسف وهو يتأدب على أيدي نزيه صاحب السلطة والنفوذ السياسية والاقتصادية، بينما نادر حتى وإن كان رجلًا معقد الشخصية إلا أن فطرته تحركت نحو المشاعر وفكر ب يوسف إذا تعرض له نزيه حقًا وقبل أن يتحدث معه غادرهم وقبلها شملهم بنظرة واحدة وكأنه يهددهم صراحةً بقوة نفوذه.
في حديقة بيت العطار.
جلست مهرائيل بجوار آيات والأخرى تسرد عليها تفاصيل عزيمة الأمس وكيف قضت اليوم مع تَيام وأمه، كانت تسرد عليها بكامل سعادتها وهي تخبرها كيف تشعر معه بالألفة وقد أضافت مُجددًا بنفس المشاعر البريئة:.
بحس معاه كدا إني في مكاني، عارفة لما تفضلي تجري تجري تجري علشان حاجة مش عارفة هي إيه؟ بعدها تلاقي نفسك بتقولي إنك وصلتي خلاص؟ أهو دا إحساسي ناحيته من يوم كتب الكتاب، حاسة إني وصلت خلاص، الخوف المُبهم اللي كان جوايا أختفى، دلوقتي أنا أقدر أتكلم معاه عادي وأقوله كل حاجة وأنا مش خايفة، بحس علطول إني غالية عنده أوي وكأني أغلى حاجة هو بيملكها يا مهرائيل، يا رب يكون الإحساس هو دا الصح.
ابتسمت لها الأخرى وضمت كفها بين كفيها وهي تقول بنبرةٍ هادئة أيضًا:
صدقيني إحساسك صح، حبه كان باين أوي للكل، باين في كل مرة بيشوفك فيها يا آيات، بان في زعله ساعة خطوبتك الأولانية، كل حاجة كانت واضحة بس هو مقدرش ياخد خطوة، المهم أنتِ مبسوطة؟ حاسة إن هو دا الشخص اللي يستاهل قلبك؟
حركت رأسها موافقةً بإصرارٍ جعلها تحتضنها بين ذراعيها ثم مسحت على كتفها وظهرها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:.
شوف البجاحة؟ عيني عينك؟ ناقص تقولي إنك بتحبيه.
رفعت آيات عينيها نحوها وقالت بنبرةٍ ضاحكة:
طب ما أنا بحبه بجد.
شهقت مهرائيل كأنها تتعرض للخيانة فيما ضحكت آيات ثم استقرت على ذراع الأخرى التي ظلت تمسح على ظهرها بمشاعر رغم أنها خرجت من قلب صديقة إلا أنها كانت بنكهة الأمومة.
قبل إنتهاء الموعد المُحدد لإنتهاء عملها خرجت من المدرسة باكيةً بسبب زملائها بالعمل، تلك المرة إزدادت وقاحتهن وإزداد حديثهن قسوةً بسبب عدم قدرتها على الإنجاب وإتهامها بتخريبٍ بيتٍ عامرٍ، لقد سئمت من كل شيءٍ حولها وسئمت حتى من نفسها، كيف تدافع عن نفسها وتمحي النظرات التي تقتلها محلها، لقد دلفت البيت باكيةً وركضت نحو شقتها هربًا من الجميع وقد وصلت إلى هناك دون أن يلحظها أحدٌ من أهل البيت، وقد دلفت نِهال بعدما راسلت زوجها تطلب منه أن يُحضر إياد من مدرستهِ وما إن وصلها الرد منه أرتمت خلف الباب باكيةً وهي تضم رُكبتيها بكلا ذراعيها وكأنها تحمي نفسها لكن الأصوات لازالت تتراوح في عقلها وكأنه سباقٌ دون نهاية.
عاد أخيرًا بعد كل شيءٍ إلى بيت عَمهِ بعدما غلبه النوم في الفندق ونَعم بليلةٍ كثرت أحلامها وازداد فيها الأمل، الآن هو يصل إلى الأرض التي وعد نفسه أن يذهب إليها وقد دلف مباشرةً إلى مكان الخيول ليجد عمه هناك وقد جاوره وتنهد بقوةٍ جعلت نَعيم يبتسم بسخريةٍ وهو يقول بألمٍ:
قولتلك متروحش، بتروح تتعب نفسك وترجع تعبان.
تحرك مُنذر ووقف مقابلًا له وقد برع في إخفاء تعابيره وقد طالعه نَعيم بأسى وهو يقول بنبرةٍ موجوعة رافقنها العبرات:.
سيبتك يا مُنذر تروح علشان تخلص من التعب اللي شايله جواك، مفيش عيل بيتوه من أهله كل العمر دا ويرجع في الأخر، عارف؟ أنا شوفت وشه في كل عيل صغير وشوفت إحتياجه ليا في كل واحد هنا، شوفته في ضعف إسماعيل و رجولة إيهاب و عزة نفس يوسف و حضن مُحي ليا، حتى رجوعك ليا شوفتك أنتَ هو، شوفته في كل الناس حتى تَيام الغريب اللي طلب حضني وكبرني قدام الكل، شوفت الكل إلا هو.
بكى نَعيم بعدما فقد الأمل في إيجاد صغيره بينما منذر خطفه بين ذراعيه وقال بنبرةٍ باكية:
مش غريب، تَيام مش غريب عنك، هو ابنك يا عمي، الوحيد اللي طلب حضنك ولما إديته ليه وطلع دا مكانه.
إذا كانت بعض الكلمات تقتل فهاهي الكلمات التي تُحيي القلوب من جديد، جمده ابن شقيقه بهذا الحديث ولأول مرة يظل مكانه جامدًا دون أن يحتضنه كما اعتاد بل ظل صدى الكلمات يتردد في أذنه واسم تَيام يدور مثل الحلقات الدائرية في سمعهِ.