رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الرابع والثمانون والأخير
خِف تعوم يا هندسة، ميغركش شكلي؛ المظاهر خداعة.
هتفها أيوب أثناء سيطرته على الأخر وبالرغم من دهشة يوسف من سرعة الأخر إلا أنه توقع شيئًا هكذا، لذا رفع ذراعه الأيسر يحاوط عنق أيوب وهو يحاول بصعوبةٍ نتيجةً لجسد أيوب المُلقى عليه، وقد نجح في الوصول لمراكز الإحساس الذي يعلم هو خطورتها في الجسد ومدى تأثيرها، بينما أيوب فهم ما يفعله الأخر لذا قرر رخو أعصابه وقد نجح يوسف في حيلتهِ حتى ألتفت ولَكم أيوب في وجههِ وهو يقول بنفس الصوت المتقطع: لو أنتَ ملاكم، أعتبرني حلبة الملاكمة كلها يا شيخنا.
نجح في تسديد اللكمة له وللأسف في هذه اللحظة كلاهما في أوج لحظات الغضب، القوتان كانتا شبه متساويتين، كلاهما على درجةٍ عالية من الكُفء والقوة البدنية شبه متساوية، يشبه الأمر أحد الأحلاف الذي تفكك لتنتج عنه قوات متضاربة مع بعضها وكل قوة تنفرد بنفسها في مُعاداة الأخرى، اليوم ينقلب الإتحاد إلى عداءٍ قد ينتج عنه قتيلًا، عداءٌ تحمله حلبة المُلاكمة الوهمية التي تتصارع بها أفكار العقول لينتج عنها نزاعًا يدمر أعتى الأحلاف.
عاد أيوب للخلف إثر الضربة التي تلقاها في وجههِ وحينها تلبسه الشر وظهر عليه الغضب، الآن من الممكن أن يقتله دون أن يَرف له جفنٌ لذا أقترب من الأخر الذي وقف يلهث بعنفٍ وكأنه يُصارع للبقاء حيًا بداخل سباقٍ طُلِبتَ نتيجة الخسارة به؛ الروح.
وقبل أن يقترب منه أيوب هجم عليه يوسف يمسك عنقه بأحد كفيه وهو يردد بنظراتٍ غائبة وكأنه تحول في لحظتهِ هذه:.
أنا محدش هيدوس عليا تاني وأسكتله، فاهم! محدش هييجي عليا تاني وأنا أكَبر وأعدي، أنا مش بهيمة علشان أبقى معدوم الكرامة، سامع!
في الحقيقة هو لم يضرب أيوب ولم يتحدث له، ففي لحظته هذه ترجم جسده النزاع الداخلي في رأسهِ إلى نزاعٍ واقعي يخرج فيه غضبه وطاقته وقد ازداد غضبه أكثر حينما لكم أيوب مُجددًا هربًا من لحظة ضعفه، أما الآخر فحقًا طفح الكيل لديه وصوتٌ بداخلهِ صرخ فيه عاليًا كفى وحينها قام هو بدفع يوسف ورد له اللكمة في وجهه بقوةٍ للأسف تضاعفت عن قوة الأخر الذي ترنح للخلف متألمًا وقد أقترب منه أيوب وسحبه وثبته على الحائط خلفه وهتف من بين أسنانه بغيظٍ منه:.
عاوز تقلبها حرب يلا بينا، عاوز تخليها حفلة دم يلا بينا، بس مترجعش تزعل أنتَ في الأخر، وإذا كنت سايب نفسي بمزاجي فأنا مش هسيبك تيجي عليا وأسكتلك.
دفعه يوسف عنه بعيدًا عنه بعنفٍ لكن الأخر جمد نفسه لدرجةٍ تسببت في عجز الأخر عن دفعه ويبدو أن العراك قد أوشك على البداية من جديد، وقد تأهبت حواس كليهما للمشاجرة من جديد وقد كبل كلاهما جسد الأخر وهو يضيق عليه الخناق واضعًا له بين المطرقة والسندان وفي هذه اللحظة لم يفصلهما سوى صوتٍ واحدٍ كان صداهُ مُترددًا بقوةٍ أوقفتهما عما يقوما بفعله ولم يكن هذا الصوت سوى صوت بيشوي.
أقترب الأخر منهما يهتف بنبرةٍ عالية أقرب للصراخ: أنتوا أتجننتوا؟ أنا كنت فاكركم بتهزروا بس طلع الموضوع بجد؟ شغل الهبل دا آخره إيه يعني؟
في هذه اللحظة تفكك الحصار الذي أعلنه جسد كليهما على الأخر وقد أولاهما أيوب ظهره ومسح وجهه بعنفٍ وكذلك شعث خصلاته بسبب حركة كفيه، بينما يوسف رفع كفه يمسح على أنفه التي ضربها الأخر وما إن لمح الدماء على أنامله هتف بغيظٍ منه: أنا مش عاوز أشوفك تاني، ولا تقرب من أمي ولا أختي ولا ليك دعوة بيا، طريقك ميجيش على طريقي تاني.
اندهش أيوب من الحديث وشعر حقًا بالألم الذي طاله وكأن هناك قبضة قوية تمددت لداخل قلبه تضربه ثم تبتعد ثم تعاود من جديد الضربات، أنه لأمرٍ مؤلم أن يُرفض بهذه الطريقة من عزيزٍ مثله يقدر نفسه، أما الأخر فقد أدرك أنه تسبب في خراب كل شيءٍ لذا خرج من المكان سريعًا مثل كتلة هواءٍ أتت بصدمة رياحٍ قوية أجبرتها على التوجه إلى هنا.
أما بيشوي فوقف يطالع الموقف مدهوشًا لا يُصدق مايراه أمام عينيهِ، لقد تخطى الأمر استيعاب العقل وقدرة التحمل في الصدمات، وقد تحرك أيوب هو الأخر نحو الخارج هربًا من نفسه قبل الجميع وترك رفيقه دون أن يُعقب أو يُضيف تفسيرًا للموقف، فقط ترك كل شيءٍ ورحل تاركًا خلفه شخصًا من ذهوله ضرب كفيه ببعضهما حائرًا فيهما بعدما ناداه كثيرًا وكثيرًا والأخر تجاهله كُليًا حتى بخل عليه بالنظر إليه.
وصل أيوب إلى بيتهِ بنيرانٍ تأججت بداخلهِ وقد شعر حقًا أنه يود قتل يوسف بين كفيه، أراد أن يصرخ فيه ويعنفه لكنه رأف بحالهِ وأولًا قدر حساب غضبه، هو قليل الإنفعال يعمل دومًا على تهذيب نفسه لكن الأخر لم يترك له مساحة كافية حتى يتحرك كيفما يُعلم نفسه، دلف البيت وهو يتمنى ألا يراه أحد ساكني البيت لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد وجد والده مُقابلًا له جالسًا على الأريكة صاببًا نظراته على الجريدة أمامه وهتف بتعجبٍ من طريقة دخول الأخر دون أن يرفع عينيهِ له:.
داخل كدا ليه كأنك عملت عملة؟ فيه إيه يا أيو...
بتر حديثه وكأنه أبتلع الكلام في جوفهِ ما إن تقابلت النظرات ورأى وجه صغيره المضروب وحينها ترك الجريدة بعنفٍ وأقترب منه بخطواتٍ واسعة وعينين نطقتا بكل قلقٍ وهو يرفع صوته قائلًا بخوفٍ عليه:
إيه اللي عمل فيك كدا؟ أوعى تكون اتخانقت ولا اتدخلت لحد زي عوايدك؟ وشك متعور كدا ليه؟ ما ترد ومتسكتش كدا وتسيب الخوف ياكل فيا.
صرخ عبدالقادر في وجههِ وقد نفذ صبره من صمت الأخر الذي أغمض جفونه ثم هتف بنبرةٍ هادئة يُطمئنه بنفس لحظة إظهار مُقلتيه المُتعبتين:
متقلقش أنا بخير ودي مش خناقة، هو بس موقف شديد شوية والحمد لله إنه عدى وأنتهى، معلش بس أدخل أغير هدومي وأخد دش علشان جسمي وجعني، ممكن؟
توسله بهذه الطريقة وقد أعرب صوته عن التعب الذي بلغ أشده في جسدهِ بينما الأخر وقف يتابعه بقلبٍ ألمه على رؤيته هكذا، حيث بدا له ضعيفًا ومكسورًا رغم أنه يرسم القوة والثبات لكن غالبًا نسى أن قلبه ماهو إلا جُزءًا من قلب أبيه ولن يخفى عليه حزنه.
بينما في الداخل دلف أيوب غرفته وأرتمى على الأريكة وفقط جملة يوسف الأخيرة هي التي تتردد في سمعه وهو يمنعه عن أمه وشقيقته، ظل صداها يتردد روحةً وجيئة حتى أرجع رأسه للخلف وأغمض عينيهِ.
في مكانٍ أخرٍ تحديدًا بشقة يوسف.
وصل إلى هناك بحالٍ متخبطٍ، رأسه لم تكف عن إزعاجه والأصوات بداخلهِ لم ترحمه، أدرك ما فعله وما تفوه به آسفًا على نفسهِ وحالهِ وعلى أيوب أيضًا، هو لم يقصد أن توصل الأمور إلى هذا الحد لكن كل شيءٍ أنقلب عليه هو، والآن يجر خيبة الأمل معه ويجلس بها على الأريكة وقد شعر ب قمر أمامه ففتح عينيه يطالعها لكنها شهقت ما إن رأت وجهه وسألته بلهفةٍ أعربت عن قلقها:
إيه دا! مين اللي عمل فيك كدا؟ اتخانقت مع مين؟
أدرك لتوهِ فداحة ما قام به، أدرك أنه أخطأ في حق شقيقته قبل نفسه والأخرين وقد خرجت على الصوت أمهما التي وقفت أمامه مذهولة مما رأت عينيها، فلذة كبدها يجلس بألمٍ وكدمة ظهرت أسفل عينه؟ أقتربت منه باكيةً ودون أن تتفوه خطفته بين ذراعيها وهي تقول بنبرةٍ ملتاعة عليه:
مالك يا حبيبي؟ مين عمل كدا فيك؟ مالك يا ضنايا؟
من جديد يشعر بالذنب وهي تحتضنه، أقترف إثمًا وفعل ذنبًا وهاهي تفتح له ذراعيها تحتويه بينهما، لما ظهرت هي؟ ففي السابق كان يُخطيء ويعاند أمام الجميع مُصدرًا قوته للأخرين والآن هو أوج لحظات ضعفه وإنكساره، هو المُخطيء الوحيد هنا والحرب في رأسه شارفت على إنتاج دمارٍ شاملٍ ولازال المهزوم فيها هو لا غيره.
كل ما ينتج عنه فقط هو الصمت المنافي لغوغاء رأسه وضجيج الأصوات بداخلها وما إن استمرت الأسئلة تُلقى عليه في خوفٍ أعتدل بعيدًا عن حضن أمه وهتف بنبرةٍ جامدة خالية من الروح:
أنا و أيوب مسكنا في بعض.
ألقى جملته بصراحةٍ كما أعتاد دون أن يُخفي شيئًا عنهما وقد أرتخيا ذراعي غالية عليه بصدمةٍ وكذلك كانت قمر التي سألته بنبرةٍ شبه مقتولة وهي تجاهد لإخراج حروفها:
أنتَ، أنتَ ومين ضربتوا بعض؟
سحب نفسًا عميقًا وهتف مُجددًا بعدما ترك جلسته ووقف استعدادًا للتحرك:
أنا و أيوب يا قمر أظن قولتها وواضحة أهيه.
عقدت ملامحها كُليًا تراقبه بحيرةٍ وكأنها تراه لمرتها الأولى، من هذا وعن ماذا يتحدث؟ يخبرها عن ضربه لزوجها وكأنه يلقي عليها تحية الصباح؟ وقف كلاهما أمام الأخر وهو يحاول من الشعور بالذنب أمامها، حاليًا سيصبح هو المُلام الوحيد في هذه الليلة ولن يستمع له أحدٌ، أيبكي ويخبرهم أن الأمر خارج إرادته أم يصرخ أمام الجميع أنه لم يقصد ذلك بل الظروف هي التي تكالبت عليه؟
تدخلت غالية ترحمه من أصوات رأسه وترأف به قائلةً بتعجبٍ وقعت هي فيه منذ تفوهه الأول:
وليه؟ عملك إيه يوصلك إنك تضربه؟ إذا كان دا ضربته أومال اللي زعلوك بجد هتعمل فيهم إيه؟ ليه يابني كدا؟
أخفض عينيه من جديد هربًا منها ثم توجه صوب باب الشقة لكي يرحل لكن صوت شقيقه الباكي أوقفه محله وجمده في الأرض ثابتًا حينما قالت بنبرةٍ باكية:.
أعمل حسابك أنتَ هتحل الموقف دا وتصلحه، أنا أكيد مش هفرح لما أخسر واحد فيكم يا يوسف أهدا كدا مع نفسك وأعقل نفسك وأنتَ هتعرف إن مش من مصلحتك تخسر أيوب.
كان يوليها ظهره وحينما وصله الحديث ابتسم ساخرًا، بسمة رافقها الوجع وارتسمت حركتها بالألم، فما ظنه أصبح حقيقة والجميع يلومه هو فقط دون أن يفهم أسبابه، لذا هتف بكلمةٍ واحدة بعدما استقر بكفهِ على مقبض الباب:
خليهولك، أنا اللي همشي.
أنهى جملته تزامنًا مع فتح الباب ثم عبر للخارج وأغلق الباب خلفه بعنفٍ جعلها تبكي وهي تنظر في أثرهِ بخيبة أملٍ منه، ألم تخبره أنها تحب كليهما وتحب نفسها لكونها رابطة الوصل بينهما؟ أهذا هو جزاء حبها لهما؟ حينها دلفت غرفتها وسحبت هاتفها تطلب رقم زوجها وللأسف وبكل أسفٍ لم يجاوب على مكالمتها، وصلت غالبًا للمرةِ الخامسة ونفسها النتيجة لم تختلف.
حينها ألقت قمر الهاتف من يدها ثم جلست تبكي بخوفٍ وكل ما يشغل عقلها ماذا بعد عن علاقة زوجها بشقيقها؟ هل ستُجبر على الإختيار من بينهما كما أُجبرَت على عيش هذه الحياة؟ دلفت لها أمها تضمها بين ذراعيها وهي تقول بنبرةٍ هادئة حنونة تربت بها على قلب ابنتها:.
متقلقيش، يمكن اللي حصل دا يقربهم من بعض، جوزك عاقل وهادي و أخوك عصبي وإنفعالي، الاتنين عكس بعض بس شبه بعض أوي، متزعليش نفسك ومتتكلميش تاني وكل واحد فيهم هيفكر ويعرف إنه غلط.
ضمتها قمر بذراعيها وبكت من جديد وهي تتذكر كلمة شقيقها وعدم رد زوجها عليها وكأنها تخسر الإثنين بنفس اللحظة، الآن تتضرع بقلبها أن تهدأ الأمور بينهما حتى لا تضطر آسفةً إلى اختيار واحدٍ من بينهما.
من الأساس هو رفيق الليل.
وصاحب السهر، يُصادقه الوجع وتُعاديه البشر، الآن قلبه لم يكن في محلهِ، بل بدا مشغولًا بأخرٍ ظهرت أدق تفاصيله أمام عينيهِ، البسمة ونبرة الصوت، ضحكة العينين، دفء العناق، هذا اللذي تمنى أن يراه ولو بأحلامهِ صدفةً أصبح هو حبيب القلب منذ أن كان نُضفةً.
وقف نَعيم أمام مقر الخيول يستند على عصاه وكل تفاصيل تَيام تظهر أمام عينيه، لم يعلم كيف قطع لابن شقيقه وعدًا أن ينتظر الموعد المناسب، كيف ينتظر من جديد؟ تبًا للتحاليل الطبية وتبًا للوقت واللعنة على كل الإعتبارات التي تعجزه وتكبله بهذه الطريقة، ألم يحن الوقت حتى يضم ابنه؟ ألم يحن الوقت ليرتاح قلبه؟ آهٍ من هذا القلب الذي ألقى الحديث عليه ليسكته تمامًا بقولهِ مُناديًا قلب الأخر:
أنا منكَ وأنتَ مني،.
لم تكن أنتَ الغريب عني،
فأنا لكَ كنت مَوطنًا،
والهوية أنك مني وكُلي
هكذا تحدث القلب يحدث قلب الأخر الغائب عن عينيه، وقد استمع لقلبه ونزلت دموعه وأخيرًا متمنيًا من قلبه أن ينل فرحة يعقوب ويحصد الجزاء الخير من صبر أيوب، وقف حزينًا حتى فرحته لم يعلم مع من يشاركها؟ حتى مُحي هو يخشى رد فعلهِ ويقدر مشاعره التي لم يدركها، أين يذهب من نفسه إن كان هو لم يقبل البقاء مع نفسهِ.
وقف شاردًا في هذا الإسطبل يستمع لصوت الأحصنة البسيطة مابين صهللة عالية وبين نفرات تخرج كل ثوانٍ معدودة وغرق أكثر في شروده معهم حتى شعر بكف أحدهم يلمس كتفه ثم رافقه الحديث الهاديء بقولهِ:
مالك يا عمنا؟ واقف لوحدك ليه؟
انتبه له نَعيم وسحب نفسًا عميقًا وهتف بقلة حيلة:.
إيه الجديد يا إيهاب؟ مش عارف أعمل إيه في أي حاجة، كأني مكتوبلي الحيرة وبس تكون نصيبي، دماغي هتقف وسبحان اللي مصبرني على اللي ناوي أعمله.
ابتسم له إيهاب ومسح على كتفه وهتف بنبرةٍ هادئة على عكس جموده وعمليته التي صبغ بها طريقته:.
حقك تعمل كتير، وحقك برضه متسكتش بس صدقني اللي في مصلحتك لازم تعمله، مُنذر قالي اللي حصل، ولسه كل حاجة تايهة عننا، مين وداه هناك ومين اللي ربطه بحارة العطار وليه المكان دا بالذات؟ ومين أصلًا اللي خد الواد من حضن أهله؟ سيب مُنذر يتصرف وصدقني الواد دا رجولة، واخد كل صفاتك ومش هَيوِن غير لما يجمعك بابنك، وأظن أنتَ شوفته بعينك وضميته من غير ماتعرفه، عاوز تحرم نفسك من حضنه؟
تطلع إليه الأخر بذهولٍ غريبٍ فابتسم إيهاب وهتف بنبرةٍ هادئة بنفس منوال سابقتها بل رسم فيها الود قائلًا:
قالي، مكانش يقدر يخبي عني، أنا خرجت ورا يوسف بس ملحقتوش ومعرفش دلوقتي هو فين، وأتمنى يكون عقل شوية مش بيعمل مصيبة تهد الدنيا فوق دماغه، وجيت أتطمن عليك قبل ما أطلع ارتاح شوية، أنتَ عاوز مني حاجة؟
ابتسم له نَعيم وهتف بنبرةٍ متوسلة آملة في تنفيذ مراده:.
لو قولتلك عاوز أشوف ابني حتى لو من بعيد هتساعدني؟
كان الحديث في الحقيقة متوقعًا من الطرف الآخر، بينما نَعيم وقف في إنتظار الجواب وهو يفكر في سؤاله، ألم يكن هو من عرض عليه المساعدة؟ ألم يتقدم هو ويسأله عما يُريد، هذا هو ما يريده، يريد أن يرى فلذة كبده ولو من بعيدٍ عنه، وقد توقع أن يرفض الأخر ويثور ويتمسك برأيهِ لكنه خالف توقعاته حينما أتاه الرد الهاديء بقولهِ:.
حاضر، بكرة الصبح هاخدك تشوفه، بس متنساش إنك قاطع على نفسك وعد، أنا بس هخليك تشوفه بنفسك وتتكلم معاه لو تحب بس هكون لازق فيك، مرضي كدا يابا؟
ضمه نَعيم بامتنانٍ له وهو يربت على ظهره وقد ظهرت دموعه من جديد فيما أحتواه إيهاب مُقدرًا حجم مشاعره، يعلم أنه مثل البركان وأقل هزة أرضية طفيفة قد تتسبب في الإنفجار، لذا ظل بجوارهِ يحتويه بين ذراعيه والآخر لأول مرة يشعر بحاجة الإنسان للأمان بهذه الطريقة، الآن قلبه أصبح يعلمه ويراه حتى ولو العين لم تراه.
صغيرته بين ذراعيه تتشبث بسترته القطنية وهو يجلس على الفراش بجوارها ماسحًا على ظهرها ورأسها، القطعة الثمينة في العالم بأكملهِ مهما أمسك في كفيه من قطعٍ ثمينة، لازال يحلم باللحظة التي يعيش بها في بيتهِ بجوار حبيبته ومعه ابنة شقيقته التي يرعاها هو، أخر ماترك له الأحباب من نسل هذه العائلة، وقد مال على خصلاتها الذهبية التي تخالطها خيوط بنية رائعة وقد بدأ في صنع الجديلة لها مبتسمًا بسعادةٍ متخيلًا رد فعلها عند حلول الصباح.
وأثناء إنشغاله بما يفعل صدح صوت هاتفه برقم نور وحينها توسعت بسمته وأمسك الهاتف يجاوب على المكالمة ليجدها هتفت بنبرةٍ هادئة:
أنا قولت أكلمك وأعرفك إني منزلتش زي ما قولتلك، انا عاندت معاك بس علشان تبطل تتحكم فيا، و شهد أتصلت ننزل مع بعض بس كسلت، بس متعودش على كدا، دا بمزاجي يعني مش بأوامرك.
هدأت بسمته وأرتخت أعصابه وهو يستند على ظهر الفراش براحةٍ ظهرت في عينيه وارتسمت على ملامحهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.
ماشي يا ستي، شكرًا ليكِ ولتقديرك ليا، بس بكرة تعرفي إني مش بتحكم من الفراغ، أنا بخاف عليكِ يا نور وخايف من أي حاجة ممكن تخليكِ متضايقة، أنا ليا عداوات مع طوب الأرض واللي مهدي الناس عليا الحج نَعيم وإني معاه، بس مش عاوز حد يأذيني فيكِ، ياستي لحد ما نخلص ونتجوز بعدها تتأكدي إني فعلًا مش عاوز حاجة تزعلك، ولو أنا وحش مش هوافق على الفرصة اللي أنتِ عاوزاها كأننا بنعرف بعض من تاني.
هتفت هي هذه المرة بنبرةٍ هادئة بعدما أدركت حاله:
وأنا مش بعاند معاك، أنا بس عاوزة ذكريات جديدة تنسيني اللي فات كله، تنسيني بعدي عن هنا وغُربتي وخوفي، عاوزة نكون مع بعض آه مقولتش لأ، بس عاوزة نكون صفينا لبعض، مش عاوزة يوم يحصل حاجة بينا ألومك على اللي فات ومش عاوزاك أنتَ تفضل تعاتبني بعيونك على اللي إني مشيت، إحنا الاتنين غلطنا وواجبنا نصلح الغلط.
إشمعنا بقى؟
اندفع يسألها بهذه الكلمة متعجبًا من إلقائها اللوم عليه معها فيما هتفت هي بثباتٍ نبع عن إصرارها في ترميم هذه العلاقة:
علشان جودي يا سراج مش علشاني وعلشانك، علشان هي هتعيش وسطنا بصفتها بنتنا، مش عاوزاها تحس إنها وسط ضغط وجو كله مشاكل، صدقني لازم الدنيا تصفى بينا قبل ما نكون مع بعض، تنكر إنك لسه زعلان مني؟ أنا عن نفسي مش هنكر أني مش قادرة أنسى.
زفر مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة بها لمحة من قلة حيلته:.
لأ مش هنكر، مش هنكر إنك لما مشيتي وبقيت لوحدي كان أصعب درس في حياتي، فاكرة لما قولتلك أنا ماليش حد ويتيم وعند استعداد أحبك قد حبي لكل الناس؟ خوفي عليكِ هو اللي حركني وهو اللي خلاني آخد خطوة زي دي، وأهو رجعت أحاول تاني، والمرة دي خايف تمشي برضه في نص الطريق.
ابتسمت هي وسكتت عن الرد، فلازال هذا المتحاذق يلعب بها وبقلبها ويتعلم فنون التحكم في تهدئتها لذا سحبت نفسًا عميقًا تبعته بقولها مُتراجعةً عن صمتها:
مش همشي يا سراج أنا معاك لحد ما نكون مع بعض، ومستنية أكتر منك اللحظة اللي نبدأ فيها من جديد كل حاجة، يلا تصبح على خير، وأنا هروح أشوف بابا، باي.
أغلق معه سريعًا ثم تركت غرفتها تتوجه إلى غرفة والدها الذي كان في إنتظارها من الأساس وما إن رآها فرق ذراعيه لها لترتمي هي بينهما ثم ضمها مبتسمًا وهو يعلم أنها كانت تتحدث مع الآخر ويعلم أنها لن تخفي عليه وستخبره الآن وقبل أن يشرد أكثر وجدها تعترف له بكل شيءٍ لذا ابتسم وهو يستمع لها وهي بين ذراعيه كما لو أنها صغيرة في عامها العاشر.
وعلى الجهة الأخرى رفع سراج صغيرته ووضعها على صدره وهو يضمها بكلا ذراعيه مبتسمًا والقلب يرفرف بسعادةٍ بالغة، هذه اللحظة التي يحصل فيها المرء على كل مايريده ويكون معه، صغيرته سالمة بين ذراعيه وحبيبته غفرت له وكبيره تقبله من جديد وكأن العالم يعلن عن المسامحة والرضا بأمر الصُلح.
ساعتان!
ستون دقيقة مرت عليه بمفرده فوق سطح البيت استمر خلالهما على تدخين السجائر بشراهةٍ مُرعبة لكن الحرب لم تتوقف، الأصوات تزداد بداخلهِ وكلهم أتخذوا وضع الهجوم عليه وهو وسطهم أعزل بدون سلاحٍ حتى.
أين المفر من حربٍ مقرها الرئيسي جسدٍ ضعيفٍ
والسلاح فيها كلام لم يَكف عن التمزيق إربًا في هذا الجسد؟
وقف يستند على الدرابزون الحديدي الذي تعرجت عليه خيوط الزرع الأخضر، مراقبًا بعينيهِ المباني الشاهقة حولهِ متخيلًا رأسه مثل هذه المباني المتكدسة، لقد سئم نفسه وودً قتلها حتى أرتفع صوتٌ داخل رأسه يسخر منه بقولهِ:
أهو شوفت؟ بتسمع كلامه ويرجع في الأخر يضيعنا ولما آجي ألومك ألاقيك بتتعصب وتفكر تقتلني، طب أقولك طلع مطوتك وغز واحد فينا يمكن نسكت، يمكن ترتاح كدا.
أغمض عينيه مُجددًا لاعنًا في سرهِ الجميع وأولهم رأسه، أين السكوت وأين يلقي بنفسهِ؟ يود أن يصرخ ويبريء نفسه لكن حتى هذا الفعل لم يقو عليه وقبل أن يغرق أكثر شعر بها تجاوره، في هذه اللحظة تمنى أن تكون هي، تمنى أن تأتي له وقد حضرت بالفعل وكأن قلبها سمع مناداته لها حتى تنقذه من نفسه وقد وقفت هي مقابلةً له تسأله بتعجبٍ:.
حصل إيه؟ وليه واقف هنا لوحدك وعمال تشرب في سجاير كدا؟ قمر معيطة وشكلها زعلان، وأنتَ هنا لوحدك، أكيد فيه حاجة، ممكن تقولي هي إيه طيب؟ وأنا هسمعك مش هلومك ولا أعاتبك حتى.
تنفس الصعداء ثم هتف بنبرةٍ تائهة يُدلي بذنبه أمامها:.
أنا عكيت الدنيا كلها، اليوم كان صعب من أوله ومقدرتش أتحمل الضغط دا كله وكنت عاوز أنفجر وأهرب من نفسي، مقدرتش أكمل اليوم كدا، الصبح إجتماع في الشغل وأوامر ملهاش أول من أخر، بعدها أكتر شخص بكرهه راجع يلومني ولو بأيدي كنت كسرته، وآخرها حقي بيضيع وأنا واقف وكأني ممنوع أتدخل، كل حاجة كانت صعبة عليا أوي وأخرهم ضربت أيوب ويعتبر طردته من حياتنا.
اتسعت عيناها بصدمةٍ جلية، ووقفت أمامه جامدة الحِراك وكأنها تتعجب من صراحتهِ فيما استشف هو الراحة في الحديث معها وتذكر في لحظتهِ هذه حديث جواد حينما أخبره أنها أصبحت معه، وحينها سكب كل ما في جبعته أمامها مُسكتًا الضجيج داخله بهذه الطريقة، أخبرها عن كل شيءٍ واجهه اليوم وعن حديث شقيقته وأمه وأنه المُلام الوحيد هنا، وأكثر ما جعل الحزن باديًا عليه هو ما فعله مع أيوب.
استمعت له بكل جوارحها تشاركه وجعه بانفعلات وجهها تضامنًا معه وقد لاحظت أنه صمت أخيرًا عن إخبارها بكل شيءٍ على الرغم من عدم توقعها لذلك، لذا سحبت نفسًا عميقًا ثم مدت كفها تمسك كفه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:.
أنا وعدتك مش هلومك ومش هعاتبك على حاجة، بس أنا هشاركك التفكير، كأني بفكر بصوتك التاني، وارد إنك تتخنق من الشغل ومن التحكم فيك ومن سيطرتهم عليك، ووارد إن نزيه دا وجوده كان غلط وكلامه ضايقك، والمكالمة اللي جاتلك دي برضه بوظت أعصابك، بس رد فعلك كان غلط، أنتَ عارف إن مامتك مينفعش تكون معاهم هناك وعارف إن أختك بتخاف منهم، و أيوب خاف على مراته دا شيء بديهي، اللي مش بديهي رد فعلك وإنك تخرج كل غضبك فيه هو رغم إنه خايف على اللي ليك، يبقى الحل إيه؟
سألته بنبرةٍ هادئة وقد آسرته بعينيها ليركز معها منتظرًا منها التكملة وهو يتوسلها بنظراتهِ أن تكون هي مالكة الجواب وليس هو، وفي هذه اللحظة لم تُخيب أماله كما لم يفعل هو وأضافت بنبرةٍ هادئة رغم إصرارها:
يبقى الحل إننا نصلح الموقف قبل ما الوضع يتأزم أكتر، صدقني لو سيبت الدنيا كلها كدا مستني تتصلح لوحدها دا مش هيحصل يا يوسف أنزل دلوقتي وروح صالح أيوب وبعدها راضي مامتك وخد أختك في حضنك.
أغمض عينيهِ لوهلةٍ وزفر مُطولًا سألها بتخبطٍ:
طب لو محدش رضي يسمعني؟ بقولك زعلت الكل مني يا عهد أنا أصلًا مستغرب إنك مش زعلانة أنتِ كمان ولا بتلومي فيا، وآخر حاجة كنت بستعد ليها هي أني آخد وضع الدفاع قصادك، صدقيني أنا تعبت مني، بقيت بكهرني أوي.
ابتسمت له بغلبٍ مُرغمة على ذلك ثم ضغطت على كفهِ تدعمه بذلك تزامنًا مع قولها الهاديء الذي غدقه بحالة سلامٍ أوقفت حربه الداخلية:.
وأنا بحبك يا يوسف وبحب قلبك اللي لسه فيه نور رغم كل حاجة شافها، بحب حنيتك على الكل وإنك مش عامي نفسك عنهم، أنتَ قوي كفاية إنك تواجه الكل، مش دا كان كلامك ليا؟ أنا أهو معاك لا بلوم ولا أعاتب، أنا بس مستنية منك تغير اللي حصل، ولو كلهم زعلانين منك أنا هصالحك عليهم، أنا هنا معاك ووعد مش هخليك لوحدك، وعاوزاك توعدني إنك تاخد الخطوة دي، ممكن؟
ابتسم بعينيه قبل شفتيه، لأول مرة يرى في حياته الإخلاص على هيئة شخصٍ، لأول مرة يرى الصفاء في عينين تحتويه وتضمه وتحميه من قسوة العالم، بساطة قلب أذهله، وقوة طبع أبهره، وبراءة تفكيرٍ فاجئه ودائمًا وأبدًا هي المُذهلة الوحيدة في هذه العالم وكأن الجميع أناس فقط وهي وحدها من تملك دهشة قلبه.
حينها ضمها بين ذراعيه وسند رأسه على كتفها في حركته المُفضلة يُلقي بحملهِ عليها وقد تنفس لمرتهِ الأولى بعدما أعطته وعدًا أن تبقى هي معه وبجوارهِ أمام العالم بأكملهِ، أما هي! فحقًا أوشكت على صدق أنه مجرد فتى صغير يبحث عن طفولته المحروم منها والعالم يجبره على وضعه في صورة الرجل الكبير، حبه أشبه بالسقوط في الهاوية، لكن على كلٍ أفضل من حبٍ زائفٍ يجرد المرء من إنسانيته بدلًا من أن يشعر بها...
أبتعد عنها وحاوط عينيها بعينيهِ وسألها باهتمامٍ وكأنه طفل ينتظر جائزته لفعلٍ سيحسن صناعته بيديه:
طب لو سمعت كلامك هاخد إيه؟
علمت هي أنه يتحجج حتى يتهرب من فعلهِ لكنها قامت بمجاراتهِ فيما يود ورفعت عينيها قليلًا كأنها تفكر في جائزته وقد اِفتر ثغرها ببسمةٍ مرحة مُكملًا لوحتها ثم هتفت بنبرةٍ ضاحكة تخللها الحماس:
هغنيلك، بس الأول تروح تحاول وتيجي تقولي.
حرك رأسه موافقًا بحركة هادئة ثم أقترب منها يُلثم وجنتها وكأنها أصبحت عادة له يلزم عليها دون أن يتحكم في نفسه حينها وما إن أنهى فعلته هتف بنبرةٍ هادئة:
مش قولتلك أنتِ مُذهلة؟
أخفضت عينيها هربًا منها ونكست رأسها للأسفل فيما أبتعد هو عن مُحيطها ثم وقف أمام اللوح الخشبي الذي كان يكتب عليه كل جُمله وعباراته لها وهي تشاركه الرد أيضًا، وحينها أمسك القلم يكتب لها الرسالة التي ألقاها عليه قلبه في هذه اللحظة:
لقد كان كل العالم لي مثل ساحة الحرب،
وأنا وسطهم بدون سلاح،
حربٌ في كل مرةٍ ينتج عنها الدمار الشامل،
وكان مجيئك وحده هو السلام،
الآن فقط عرفت أين المَفر مني،.
وهو الهروب من العالم والمجيء إليكِ فأنتِ مني.
العالم بأكملهِ أعلن عليَّ الخصومة،
وأنتِ وحدكِ من أعطيتيني السلام.
يبدو كل العالم وكأنه يصرخ في وجهي
وأنتِ فقط بكل هدوء من توجهين لي الكلام.
أنهى كتابة رسالته ثم عاد للخلف خطوة أو ربما خطوتين ثم ألتفت لها يُعطيها بسمة هادئة ثم حرك رأسه موافقًا ورحل من أمامها إلى الأسفل، بينما هي تقدمت نحو اللوح تقرأ الخطاب الذي تركه لها وحينها ابتسمت مُجددًا حتى ظهرت نواغز خديها ثم أخرجت هافتها تلتقط به صورةً لهذا الخطاب بسعادةٍ بالغة جعلتها تحتضن الهاتف وهي تضحك بصوتٍ كونها الوحيدة التي فهمت قاموس التعامل معه.
نزل يوسف من البيت يتوجه إلى بيت عبدالقادر أولًا لكن ثمة شيئٍ جعله يتوقف عن هذا الفعل وقد عاد جالسًا على درجات المسجد ينتظر قدوم أيوب إلى هُنا، جلس مُستندًا على درج المسجد بكلا مرفقيه وقد أرجع رأسه للخلف حتى وصلته رائحة أيوب ففتح عينيه بلهفةٍ بينما الأخر رماه بنظرةٍ واحدة عابرة ثم توجه نحو باب المسجد بعدما هتف جملة واحدة لم يبخل بها عليه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رماها أمامه وتخطاه فيما تحرك يوسف يقف في ظهره على بعد مسافة كافية تركها بينهما وهو يقول بتوترٍ:
أنا جاي دلوقتي علشانك أنتَ، والله ما كان قصدي أعمل كل دا، ولو كان قصدي أكيد ماكنتش جيت أعرفك، كان زماني عملت اللي أنا عاوزه من غير إذنك حتى، معرفش ليه جيت ليك أنتَ، بس، بس أنا جيت.
أغمض أيوب عينيه وهو يستمع لنبرة الأخر التي نطقت بكل الضياع والتيه، والآن يخبره مثل الطفل الصغير أنه لم يقصد وجعه، وما إن طال غياب رد فعله حينها ترك يوسف محله ووقف أمامه وهو يقول بنبرةٍ منكسرة:.
أنا هنا غريب ماليش حد فاهمني، ما بصدق ألاقي حد يحسسني إني منه وإني مش غريب عنه، أنا كل مرة كنت بحس إنك قريب مني وكل الظروف جمعت بينا، حتى قلب قمر بقى بيجمعنا مع بعض، متصدقش الكلام اللي قولته يا أيوب أنا ماصدقت ألاقي حد ياخد بأيدي.
أيها الغبي! لما تبتسم الآن؟ هل بهذا الحديث سيكسب رضاك مُجددًا؟ لم تطالعه برضا الآن وكأنه ربحك؟ إذا كان يظن أنه أعادك لصفهِ مُجددًا بهذه الطريقة، مبارك عليه فقد نجح في هذا الظن.
هكذا حدث أيوب نفسه وهو يبتسم بعينيه بعدما كبت بسمة شفتيهِ بينما يوسف هتف من جديد مُكملًا حديثه:
ينفع متزعلش مني وتنسى اللي قولته؟ وينفع برضه تدخلني المسجد معاك ومتقفلش الباب في وشي؟
سأله حقًا بنبرة طفلٍ ضاع عن أمه وسط المدينة وظل يطرق الأبواب الموصدة لعلها تقوم بإنقاذ الصغير، وحينها هتف أيوب بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
وأنا مين علشان أقفل باب بيت ربنا في وشك؟ أنا هنا بس آمين على المكان بس، أتفضل معايا يلا.
مط يوسف شفتيه بيأسٍ ووقف خلف أيوب وهو يقوم بفتح باب المسجد وحينما فتحه سحب نفسًا عميقًا ثم ألتفت ل يوسف وأشار له أن يدلف المسجد وحينها تردد يوسف مستشعرًا ندمه في هذه اللحظة وحينها مد أيوب كفه وأبتسم له قائلًا:
هات إيدك في أيدي، متخافش ربك اسمه الكريم مبيقلش بابه في وش حد، ربنا مستنيك علطول تيجي، بس هي الدنيا اللي غاوية تفتن العباد، يلا يا يوسف.
وزع يوسف عينيه بين كف أيوب وبين المسجد المُظلم وحينها حسم أمره ثم وضع كفه في كف أيوب وابتسم له وحينها ضمه أيوب في عناقٍ مُفاجيءٍ للأخر وقد يكون مفاجئًا له هو الأخر، استكان يوسف لوهلةٍ و والآخر يضمه بين ذراعيه ماسحًا على ظهرهِ وفي هذه اللحظة تذكر والده مُصطفى حينما كان يُخطيء في صغره ثم يذهب له ويعتذر منه وينتهي الأمر في النهاية بين ذراعي والده.
ترقرق الدمع في عينيهِ وقرر أن يغلقهما هربًا من نزول هذه العبرات فيما هتف أيوب بسماحة نفسٍ طيبة:.
أنا أكتر واحد ممكن تلاقيه مستنيك تطلب منه حاجة وأكتر واحد نفسه تقبله صاحب ليك، وأكتر واحد بخاف عليك يا يوسف أنا قولتلك هتلاقيني في ضهرك علشان عارف إنك عاوزني في ضهرك وبتكابر، وعارف إن زعلك لو حطيته عندي ممكن أعديها إنما لو روحت عملت مصيبة ممكن تضيع نفسك، أنتَ مش غريب زي ما أنتَ فاكر، أنتَ بس باعد نفسك عن طريقك وماشي في طريق غريب عنك وطبيعي تحس إنك غريب فيه.
فهم يوسف سبب حديثه وحينها سحب نفسًا عميقًا أبتعد عنه للخلف وهو يقول بنبرةٍ هادئة يسأله بترقبٍ:
طب وأنا دلوقتي لو غريب، أنتَ لسه راضي تمد إيدك؟
أبتسم له أيوب وحرك رأسه موافقًا ثم أضاف مُتابعًا:
للأسف، أنا أتدبست فيك بكل مافيك، يعني مُجبر عليك وعلى طباعك، يلا يا يوسف خليني أدخل أحضر المسجد.
دلفا سويًا للداخل وقد أضاء أيوب الإضاءة الذهبية الخافتة ثم فتح الراديو على محطة القرآن في الإذاعة والتلفزيون، ذلك الصوت الهاديء الروتيني في سكون الليل، صوتٌ يشق الصمت الهاديء المُخيف بذكر الله تضرعًا وإبتهالًا ومناجاةً للمولى العظيم، وحينها استند يوسف على العامود الرُخامي بظهرهٍ ليصله الصوت الذي أصبح يحبه هو مؤخرً منذ أن خطى إلى هُنا:
إذاعة القرآن الكريم من القاهرة...
سحب نفسًا عميقًا يستشعر الدفء بداخل قلبه ليصله صوت الشيخ في الآية الكريمة قائلًا من سورة النساء:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
حينها أغمض عينيه عن الدنيا وترك نفسه لهذه الروحانيات تتوغل لداخلهِ سامحًا لنفسهِ بلمحة هدوء من حربٍ كادت أن تفتك به في دنيا فانية أوشك على أن يزول منها وفي هذه اللحظة تخيل والده يبتسم له برضا وكأنه يُثني عليه بفعلهِ ثم عاد وتذكر أين مكان والده الآن؟ لقد ترك هذه الدنيا ورحل عنها لكنه لم يرحل منه، لازال معه يسكنه ويحاوطه.
حينها أخفض جسده على الأرض يضع كلا كفيه أسفل رأسه وضم رُكبتيه في وضعٍ يشبه وضع الجنين برحم أمهِ وقد خارت قواه حقًا بعد هذه الليلة العصيبة التي مر بها واستنزفت كامل طاقته، بينما أيوب راقبه بعينيهِ ثم عاود العمل في رص المقاعد لكبار السن تجهيزًا للصلاة.
في صباح اليوم التالي.
في مكانٍ أختص بأهم صفتين وعُرِفَ بهما لكن بنفس التوقيت قد تجده متجردًا منهما، فحينما توضع أهم المهام في أيدي الطامعين مُستغلين عملهم في كسب المال وتحقيق الرغبات الشخصية على مصالح العمل، حينها تعلم أن الأمانة أُعطت للشخص الخاطي، فأهلًا ومرحبًا بكَ في مبنى خُصص للتربية والتعليم.
كانت نِهال في عملها بداخل أحد الفصول تقوم بشرح مادة اللغة الإنجليزية للصغار وقد أنتهت لتوها حينما صدح صوت الجرس مُعلنًا عن نهاية فترتها الثالثة على مدار اليوم وحينها زفرت بقوةٍ ثم أعلنت للصغار عن نهاية درسها ثم جمعت أشيائها وهي تفكر إلى أين تتوجه هربًا من غرفة المعلمين؟ لقد عانت وهي تحاول ضبط نفسها للمجيء إلى هنا، لكن أن تبقى معهم مُجددًا ترى نظراتهم لها هذا أكبر من قدرة تحملها.
وقفت في الرواق أمام الفصول الدراسية في إنتظار مرور هذه الساعة بفارغ الصبر الذي تملكه هي وقد لاحظت أقتراب إحدى المُعلمات منها تهتفت بقلقٍ:
أستاذة نِهال حضرتك هنا؟ دا جوزك قالب الدنيا في مكتب المدير والمدرسين كلهم هناك، أنتِ إزاي مش هناك؟
اتسعت عيناها ورددت بخوفٍ:
أيهم! بيعمل هنا إيه؟
حركت الأخرى كتفيها فيما سحبت هي حقيبتها ودفترها وتوجهت إلى مكتب المدير في الطابق الأول ركضًا إلى هناك وهي تصطدم في الصغار الراكضين بين الطرقات بملابسهم الصفراء والخضراء بمختلف الصفوف الدراسية، أما هي فلم تكترث لكل ذلك بل ركضت إلى هناك حتى وصلت للمكتب فوصلها صوت الوكيل يهتف بنبرةٍ هادئة في محاولة إرضاءه:.
يا أستاذ أيهم حضرتك مش غريب وطلعت ابن الحج عبدالقادر علم من أعلام حارة العطار يعني ي النهاية تحت أمرك كلنا ومحدش هيزعلك.
ازداد إنفعال أيهم أكثر وقد حقًا وصل لذروة غضبهِ من هذا المتحزلق الذي كلما فتح فمه أزعجه أكثر وحينها هتف بنبرةٍ عالية:.
أنا هنا مش بصفتي زفت ولا هباب، أنا هنا بصفتي راجل مراتي بتشتغل مُدرسة محترمة وفيه ناس زمايلها المفترض إنهم محترمين هما كمان كل شوية يتسببوا في مشكلة ليها، أنا هنا بصفتي واحد جاي ياخد حق مراته، لما دي مدرسة محترمة وفيها مدرسين قدوة بيطلعوا أجيال تبقى قعدة المساطب عاملة إزاي؟ لما دي مدرسة المفروض إن فيها مدرسين يربوا عيال ويعلموهم يفضلوا يلقحوا على زمايلهم في حاجة مفيهاش أي غلط تبقى قعدة النواصي شكلها إيه؟ لما المكان اللي المفروض يربي ويعلم عامل كدا واسمه للتربية والتعليم، يبقى الشهادة لله دا مكان لا شاف رباية ولا عنده تعليم.
ذُهلت نِهال من إنفعالهِ وحديثه ودلفت المكتب وهي تلقي التحية عليهم وقد لفت نظرها وجود سعاد معهم وهي تقف بجوار المدير الذي طالع نِهال بعتابٍ صامتٍ من نظراتهِ، وحينها أنتبه لها أيهم فوقف مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ جامدة إثر إنفعاله:
تعالي بقى عرفيهم إيه اللي حصل، علشان لو الأستاذ مش مصدقني يمكن يصدقك، والأستاذة اللي بتقول سوء تفاهم، توضحلنا بقى، اتكلمي وعلى الله تخافي من حد أو تشيلي خاطر حد هنا.
لم تعلم أو تفهم هل هو يُهددها أم يدعم خوفها أم يحثها على الكذب أكثر؟ لكنها حسمت أمرها وسردت الموقف بثباتٍ تحسد عليه حينما رسمت دور الشجاعة أمام الجميع:.
أنا ساعتها كنت بحضر للحصة الجاية وكعادتي قاعدة لوحدي علشان ماليش علاقة بالناس هنا أوي، وساعتها جت بنت تطلب مني أديها درس وأنا رفضت قولتلها إني ممكن أساعدها تفهم أي حاجة هي عاوزاها، وكنت فكراها في الفصل عندي، بس طلعت في فصل ميس سعاد وساعتها فضلت ترمي كلام الحقيقة مهتمتش إني أهتم بيه، وساعتها الكل لاحظ إن الكلام عليا أنا، ولما زعقت فيها أنفجرت في وشي تكمل نفس الكلام وأتهمتني بتهم غبية، وأنا إحترامًا لمكانتي كمُدرسة محترمة سكت ومرضيتش نكمل في أسلوب كلام غير آدمي، فأنا مع إحترامي للكل، المرة الجاية مش هسكت وهقدم مذكرة فيها.
افتر ثُغر أيهم ببسمةٍ مُرعبة بقدر هدوئها ثم قام بفرد جسدهِ مُعتدلًا للخلف وهتف بنبرةٍ جامدة قصدها عن عمدٍ:.
طب وعلى إيه؟ أنا بقول نقدم المذكرة دلوقتي علشان كل واحد يعرف مقامه، بس على العموم أنا هنا علشان يعرفوني، ومن غير ما أحلف أو أهدد علشان أنا مبتكلمش، المرة الجاية لو الموقف دا أتكرر أنا هطربقها على دماغ الكل، وموضوع الدروس الخصوصية دا هقوله، طالما كلها دايرة كدا واللي يتقي ربنا بيتاخد في الرجلين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
رمى حديثه ثم أمسك كف زوجته المذهولة أمام الجميع وخرج بها من المكتب وهو يجرها خلفه بخطواتٍ واسعة لم تقو هي على ملاحقتها حتى هتفت بنبرةٍ عالية لعلها توقفه بذلك:
استنى! أنا كدا هقع على وشي الجيبة هتوقعني.
رفعت صوتها حتى ألتفت هو لها يسحب نفسًا عميقًا يُهديء نفسه ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
تمام، أنا وقفت أهو، يلا.
حركت رأسها موافقةً ثم سارت بجوارهِ دون أن تتفوه بكلمةٍ واحدة هي فقط التزمت الصمت وهي تراقبه ساحبها لها من كفها خلفه وكأنها فتاة صغيرة أتى والدها إلى مدرستها حتى يُخرجها من ورطةٍ نتج على إثرها شجارًا مع إحدى الزميلات، التخيل بذاته جعلها تبتسم رغمًا عنها، فبدلًا من أن تكون مُعلمة تقوم بإنهاء المُشكلات أصبحت في إنتظار من يُخلصها من المُشكلات وهاهو أتى منقذها بطلها الأوحد والوحيد، بمقام جيش كامل من الرجال.
شمس الظهيرة نشرت دفئها وسط الجو البارد لكي تعلن عن نفسها، وفي هذه اللحظة توقفت السيارة في مقدمة الحارة وقد تولى قيادتها إيهاب وفي الجوار جلس نَعيم في إنتظارٍ أحر من الجمر، وما إن توقفت السيارة حينها فتح الباب بلهفةٍ فلم يكن أمام الأخر سوى أن يمسك كفه يمنعه عن التهور بقولهِ:.
يا حج! أنا مش عاوز أزعلك بس سيبني أفكرك بوعدك ل مُنذر أنتَ تشوفه وتسلم عليه بس، لكن أوعى تتكلم عن أي حاجة أو تجيب سيرة اللي عرفته، الله أعلم رد فعله هيكون إيه؟ ممكن.
حرك رأسه موافقًا وللأسف بدأت عيناه تلمع بالعبرات باكيًا على هذا الحال الذي لم يقبله هو، كيف بعد كل هذه الأعوام يعلم أنه ابنه الذي فاض الكيل إنتظارًا له ثم يقف ويتابعه دون أن يدخله داخل قلبه؟ كيف يعامله كما لو كان غريبًا ومن الأساس هو عبارة عن جزءٍ من القلب تشكل على هيئة أخرى مرئية أمام العينين؟ حسنًا لا عليكَ أن تبقى هكذا وافق وطالع صغيرك ثم أترك البقية للباقية.
ترجل من السيارة وخَلَّفهُ إيهاب ملتصقًا بجوارهِ إلى أن وصلا سويًا للزقاق المؤدي إلى محلات العطار وحينها كان صوت تَيام هو أول لصٍ يسرق انتباه نَعيم الذي حرك رأسه نحوه بسرعةٍ كُبرى يستقر بعينيهِ عليه فيما ضحك الأخر مع أحد الشباب العاملين ثم التفت يخطف ثمرة برتقال من خلفهِ يقوم بتقشيرها وهو يضحك أثناء التحدث بينما الأخر وقف يحفظ تفاصيله داخل قلبه، صوته وضحكته، ولحيته المنمقة، بشرته متوسطة الدرجة، كل شيءٍ في صغيرهِ أصبح مستقرًا داخل قلبه.
لقد شعر تَيام بتواجد أحد الأشخاص خلفه فحرك رأسه من فوق كتفهِ يلقي نظرة عابرة وحينها لمح نَعيم فهلل مُرحبًا به قائلًا بمزاحٍ:
الله أكبر! وأنا أقول الحارة دافية ليه؟ نورت يا كبير.
ابتسم نَعيم مُجبرًا على ذلك لعله يُخفي أثر العبرات من عينيهِ المُشتاقتين لصغيرهِ، وحينها فتح ذراعيه بصمتٍ فدلف تَيام مكانه يسحب نفسًا عميقًا ثم مسح على ظهر نَعيم ولا يعلم حتى الآن سبب الشعور بالانتماء لهذا المكان، يشعر كأن هذا القلب يحدثه لكنه لم يفهم عليه، هو فقط يشعر بالأُلفة تجاهه، لذا قرر أن يهرب من هذه المشاعر مبتعدًا عنه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
أكيد مش جاي علشاني، جاي علشان أيوب؟
كاد أن ينفي هذا الحديث مندفعًا بكل تهور لكن إيهاب تدخل بقولهِ المُتزن يقوم بحل المشكلة قائلًا:
لأ متقلقش، إحنا جايين علشان نتكلم مع الحج عبدالقادر بخصوص جواز إسماعيل أخويا، عقبالك يا رب وساعتها الحج برضه هييجي يتكلم علشانك.
ابتسم له تَيام وهتف بسعادةٍ نتجت عن سماعه هذا الخبر:.
بس كدا! دا شرف ليا هو أنا أطول؟ على العموم نورت يا حج، بس الحج عبدالقادر في الوكالة جوة تقدر تروح هو علطول هناك، أنا هنا بس بتابع شغل المخزن، تحب آجي أوصلك هناك؟
كاد إيهاب أن يرفض لكن الأخر كان أسرع حينما هتف بنبرةٍ آملة في حدوث هذا الشيء دون أن يحيد بصره عنه:
ياريت لو مش هعطلك.
ابتسم الأخر نافيًا حدوث هذا الشيء ثم ترك القلم من يده وسار بجوار نَعيم الذي رفع ذراعه يستند به على كتف ابنه، وحينها ابتسم تَيام ثم أمسك ذراعه يدخله في مرفقهِ وهو يبتسم له وقد جاورهما إيهاب مبتسمًا بشفقةٍ على هذا المسكين الذي يسير بجوار والده دون أن يعرف هذا الشيء، وعلى هذا الرجل الذي على وشك الإنفجار والتصريح بكل مافي قلبه.
وصلوا إلى مقر جلوس عبدالقادر الذي ما إن لاحظ تواجدهم ترك محله ثم أقترب منهم يرحب بهم بحبورٍ بالغٍ وحينها تحدث تَيام معتذرًا عن البقاء بقولهِ:
طب عن إذنكم بقى هروح أوصي على الشاي، وهشوف الرجالة في المخزن، عن إذنكم، بعد إذنك يا حج نَعيم نورت الحارة وإن شاء الله تتعوض تاني وأقعد براحتي معاك، السلام عليكم.
رحل قبل أن يحصل على الرد منهم وتوجه إلى مكانه السابق بينما نَعيم تعلقت نظراته به في آسفٍ على حالهِ لكونه مُجبرًا على معاملتهِ كما لو كان مثل بقية العابرين في حياته، وحينها أعتذر إيهاب قائلًا للأثنين:
طب عن إذنكم أنا هروح أتطمن على مُنذر وأجي تاني، تؤمروني بحاجة؟
رفض عبدالقادر شاكرًا إياه فيما راقب الأخر رحيله ثم أقترب يجاور نَعيم في وقفتهِ قائلًا بصوتٍ مهتزٍ:.
ممكن نتكلم مع بعض شوية؟ عاوزك في حاجة ضرورية.
حرك عبدالقادر رأسه موافقًا بشدة ومُرحبًا بهذا ثم أشار له بالجلوس على الأريكة البنية الجلدية وقد جاوره هو الأخر مستعدًا لسماعهِ وحينها هتف نَعيم بعدما تحدى نفسه وأزدرد لُعابه وقد تذكر أن ابن أخيه وافقه على هذا الفعل، وحينها زادت شجاعته وهو يقول:.
أنا طول عمري راجل دوغري، اللوع والكدب مش سكتي ولا عمرهم هيكونوا، دلوقتي الحياة بتجمعنا ببعض بطريقة أكبر من اللي فاتت، يعني بدل ما كان اللي جامع بينا مصطفى الراوي زمان وابنه يوسف دلوقتي، بقى فيه نسب ودم، وعلشان مطولش عليك يا حج، أنا أبو تَيام جوز بنتك، ابني الضايع طلع عندكم هنا.
لجمه بالحديث الذي ألقاه بألمٍ وقد ثبت عبدالقادر عينيه على وجه نَعيم الذي أخفض رأسه للأسفل بنفس الوجه الذي أعتلاه الألم، لكنه يأمل في الخالق أن يمن عليه بالأمل يحياه من جديد.
في مقر شركة الراوي
كان يوسف هناك يُتابع العمل بعدما أهمله لمدة يومين منشغلًا في العمل الأخر الخاص بشركة البترول، وقد ألقى تعليماته على عُدي الذي كان منصتًا له ومعه رهف التي تولت مهمة التسجيل لكل ما يُطلبه هو، وبعد مرور دقائق خرجوا من غرفة المكتب وتوجهوا إلى مكان الاستراحة الخاص بالموظفين.
حينها كان المكان ممتلئًا بالجميع فجلس يوسف على مقربةٍ من الشباب وبجواره جلس عُدي أما رهف فجلست وسط زميلاتها الفتيات وحينها صدح صوت إحداهن بمرحٍ وهي تعرض الهاتف على رهف قائلةً:
بصي يا رهف دي بوسي اللي كانت معانا في الجامعة بقت بلوجر وإمبارح كان كتب كتابها، الفرح تحفة أوي ولسه فيه فرح تاني كبير، بجد كنت مستنية اليوم دا يمكن أكتر منها، بقالهم 4 سنين مخطوبين، تخيلي؟
حركت رهف كتفيها بلامبالاةٍ وهتفت بعدم اكتراثٍ:
ألف مبروك ربنا يسعدها، إيه المبهر بقى؟
انتبه لها يوسف الذي كان يُدخن سيجارته وكذلك عُدي الذي رفع عينيه عن شاشة الهاتف ليجد الفتاة عاتبتها بقولها:.
إيه المبهر؟ بقولك اتخطبوا 4 سنين مستنيين يكونوا مع بعض، يا بنتي إحنا عيشنا معاهم كل لحظات الخطوبة والعفش والشقة والتجهيز، متتخيليش استنينا قد إيه ولما سابوا بعض مصر كلها زعلت، بس تاني يوم خد عربية مليانة هدايا وراح صالحها، ربنا يوعدنا.
ابتسم عُدي ساخرًا على التفكير السطحي الذي أصبح منتشرًا بين كامل الأجيال متذكرًا خطيبته السابقة ميار وحينها لفت نظره تميز رهف حينما هتفت مُعلقةً بتوضيحٍ:.
مع إحترامي ليكِ والله ولفرحتك بيها بس أنا مش شايفة أي حاجة مبهرة في الموضوع، مجرد أتنين ظروفهم مُتاحة حابين ياخدوا اللقطة، كان ممكن الخطوة دي تتاخد من سنين كتير، وكان ممكن تكون بكل بساطة وهدوء، بس أنا عمومًا بكره حياة الكدب دي، بكره وجهة نظرهم عن الحياة، ليه أفضح نفسي وتفاصيل حياتي وخصوصياتي؟ وليه كتب كتاب كبير وفرح أكبر منه؟ وقبلهم خطوبة واخدة ضجة؟ فيه ناس تانية مبهرة في الواقع أكتر من دول مليون مرة.
سكتت عن الحديث وهي ترى نظرات الاستنكار لحديثها والتعجب من عدم إنجرافها خلف التفكير السطحي وحينها أضافت هي بتفسيرٍ:.
مبتصوليش كدا، آه الواقع مليان ناس كتير تستاهل الدعم والكلام عنهم زي دول وأكتر، دول معاهم فلوس اللهم بارك يعني وعندهم أهلهم وأكيد يقدروا يلاقوا المساعدة وعندهم شغل وفلوس ومكان يعيشوا فيه، إنما الواقع مليان شباب كتير ظروفهم صعبة، شباب معندهمش مكان يعيشوا فيه، ولا وظيفة ثابتة، ولا شهادة كبيرة، وبنات بتشتغل وتساعد أهلها وتجهز نفسها، وتتعب علشان تكون في بيتها مع حبيبها رغم إن كل الظروف ضدهم، بس للأسف الناس بتحب اللامع كداب الزفة، إنما المجتهد اللي بيحارب ويجاهد دا مش متشاف أصلًا، فأنا لما بنبهر انبهاري بيكون بالشباب اللي واقف في وش الظروف، اللي مضطر ينزل شغل واتنين ويورط نفسه في جمعية وشقة إيجار، وبنت بتشتغل وتدرس وتجتهد وتساعد في جهازها، دول الأبطال الحقيقيين، إنما اللي الغرور راكبهم وفرحانين بلمة كدابة حواليهم، دول ورق مع أول نفخة هوا بجد بيطيروا منها.
ابتسم عُدي بإعجابٍ نتج عن ذهوله حينما رفع حاجبيه حائرًا من موقفها، تبدو من الطبقة الأرستقراطية لكنها أبعد ما يكون عن ذلك، تبدو حكيمة ورشيدة لدرجةٍ كُبرى تجعله عاجزًا عن مقارنتها بأخرى غيرها، وحينها ابتسم يوسف حينما تذكر تفكير عهد الذي يتسم بنفس العمق دون أن يكون سطحيًا منجرفًا خلف أفكارٍ هزلية، وحينها سحب نفسًا عميقًا متذكرًا موقف الأمس، والآن عليه أن يذهب إلى أمه كي يُرضيها هي وشقيقته بعدما هرب صباحًا منهما لكنه أشترط أن يكون برفقة أيوب.
في مكتبه جلس متخبطًا وهو يحاول الوصول إلى قرارٍ أخرٍ غير الذي سبق وأتخذه لكنه على كلٍ سيقوم به، يعلم أنه يلجأ إلى الشخص المناسب وعليه أن يتقبله بكل مافيه، لذا زفر جابر مُطولًا ورمى فاتحة الأظرف من يده وقد مل من إنتظار بيشوي الذي تعمد أن يتأخر عليه عن قصدٍ، وحينها مرت نصف ساعة عن الموعد المُحدد ثم شارفت المدة على ساعة كاملة وحينها أتى في نهاية الأمر.
دلف بثقةٍ بالغة يرتدي حلة رمادية داكنة اللون والقميص أسفلها باللون الأسود، الهيبة تبدو عليه كما هي، ونظراته الحادة يرمق بها الجميع كما اعتادوا منه وحينما جلس أمام الأخر، هتف جابر بتهكمٍ:
وتعبت نفسك وجيت ليه؟ ما كنت بعت حد ييجي ياخدني، مستنيك بقالي ساعة وأكتر، وسيادتك جايلي متأخر؟
رفع بيشوي أحد حاجبيه يسأله بحديثٍ وارى خلفه الكثير:.
يعني عرفت إن الإنتظار متعب؟ ساعة واحدة مخلياك مش على بعضك؟ أومال أنا بقى أعمل إيه؟ دا أنتَ طفحتني الكوتة وراك وأنا مستني، المهم خير؟ عاوز إيه يا حمايا؟
زفر جابر بقوةٍ بعدما فهم تلميحه المُبطن ثم قرر أن يتحدث مباشرةً وحينها هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:.
أنا مضطر أكلمك علشان محتاجلك، ومش أنا بس دا فيه غيري كتير محتاجينك، خلاصة القول تَيام مش ابن صبري و نجلاء دا عيل كان هيموت على يد واحد ابن حرام كان ساكن هنا وللأسف كان صاحبي، ساعتها أنا حليت الموقف و صبري كان صاحبي وعنده أزمة، المهم بقى إن أهل تَيام ظهروا، عاوزك معايا علشان نقدر نعرفه اللي حصل وإن كل حياته هتتغير في يوم وليلة.
فتح بيشوي عينيه على وسعيهما مصدومًا مما وصل إليه وبدا كأنه في أحد برامج الكاميرات الخفية وهذا المقلب الخفي من تنفيذ حماه، أو ربما يكون إختبارًا صعبًا تم وضعه به؟ ما هذه التفاهات؟ ألم يكن لديهم اخبتارًا أكثر صعوبة من هذا؟
تمت