قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل السبعون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل السبعون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل السبعون

قال حديثه ثم فرق ذراعيهِ عن بعضهما ليقف أمامه مُنذر بعينين دامعتين لأول مرّةٍ منذ أمدٍ بعيدٍ، ليحثه نَعيم بشوقٍ وهو يقول:
تعالى، تعالى في حضن عمك.

ركض إليه مُنذر يضمه وهو يتشبث به وتلك المرة بكى حقًا وفعلًا، لقد ترك نفسه لمشاعرهِ وطاقته تحركه، لم يقوْ على الكذب أمام هذا الكم الهائل من العواطف والمشاعر المقدسة التي يحملها له هذا الرجل، لقد تمنى أن يستشعر هذا الأمان ويتذوق معنى الدفء، أراد أن يفهم ما هو شعور الأمان، والأمان لم يجده إلى هنا في كنفهِ، فكيف يحق له أن يكذب والقلب سبق وصدقه؟ وجد نفسه مثل الطفل الصغير الذي ضاع وسط القبيلة التي هجم عليها الغُزاة وفَر عنه حتى أهله وكأن والده تركه في الطوفان.

أما الآخر فحينما تأكد من ظنونهِ تشبث بهذا الفارس وبكى، بكى شوقًا لأجلهِ وأجل صغيره المفقود، بكى لأجل أشياءٍ لم يكن له أي دخلٍ بها بل إجبارًا من الدنيا أصبح وسطها، لم يختار أي شيءٍ من باب الطواعية بل كلها أمورٍ أُلقيت عليهِ، ابتعد عنه مُنذر بعينين باكيتين وهو يسأله بنبرةٍ مُحشرجة: عرفت إزاي؟ هما اللي قالولك؟

كان يقصد بسؤالهِ إيهاب و يوسف فيما أبتسم له نَعيم بعينين نطقتا بكل وجعٍ وهو يُضيف بألمٍ: ماقولتلك لو قلبي كدبك أول مرة مش هيكدبك تاني، كل الخيول اللي برة دي أنا اللي مربيهم، مفيش خيل أصيل بيهجر اللي منه، لما أول مرة قولتلي إنهم اتنين مش واحد، وإني ليا ابن أخ ساعتها الكلام مشغلنيش، بس لما فكرت في الحكاية عرفت إنه بنسبة كبيرة هو أنتَ، أكيد مش حد غيرك، كل مرة عينك كانت بتخونك علشان تبصلي فيها وتتمنى قُربي، قريتك ومفشلتش في قرايتك، دا أنتَ من دمي.

ضمه مُنذر من جديد باكيًا بحرقةٍ قاتلة، يبكي بكل مافيه يبكي وكأن البكاء هو حيلته الوحيدة في إخراج البركان الثائر منه لداخل قلبه، هتف بنبرةٍ موجوعة، منكسرة، باكية، حزينة: أنا تعبت من غيرك، تعبت أوي، أنا مكانش ليا حد خالص، كنت بعمل كل حاجة وأرمي نفسي في وش الموت وكل يوم استغرب أنا مبموتش ليه؟ بس لما عرفت إني منك أنا بقيت أتمنى عمري يطول قد اللي ضاع مني علشان أكون في حمايتك، أنا مش زيه والله، أنا مخدتش منه حاجة أنا شب.

أسكته نَعيم حينما شدد ضمته عليه وهتف بنبرةٍ باكية يعاتبه على كثرة الفراق والوجعِ والألم: ليه مقولتليش يا غبي؟ ليه حرمت نفسك مني وأنا قدامك؟ دا أنا من ساعة ما شكيت قولت أختبرك ولو كدبت عليا برضه هعرف من عينك، والله فرحتي بيك زيها زي فرحتي بابني بالظبط، دا أنا كدا شوفتك قبله، ليه يابني؟

سحب مُنذر نفسًا عميقًا يحاول به إيقاف البكاء ثم قال بنبرةٍ هادئة لم يخلو منها صوته الباكي وهو يخبره بصراحةٍ: خوفت، خوفت متصدقش إني منك، حاجة جوايا قالتلي إنك هترفضني، وإنك مش هتقبل بيا معاك، وأنا عزيز النفس مقدرش أقف قدام عين كرهاني ومش قابلة شوفتي.

ابتسم له نَعيم ثم ربت على كتفه وقال بنبرةٍ ضاحكة وملامح مبتسمة له: علشان كدا سألتني لو ابن أخويا ظهر هعمل معاه إيه؟ هشيله في عيني وأحطه في قلبي، بس خليك معايا.

انتبه له الأخر وهتف بنبرةٍ يائسة: صدقني مش هقدر، مش هقدر حتى أرفع عيني في عينك بعد عملته وعارف إن دا مش ذنبي أنا بس صدقني والله أنا هحاول أرجع تاني بس بحقك، ولو مرجعتش بيه يبقى كفاية إني أريح قلبك علشان تعرف ترتاح، مقدرش أقولك هو عايش ولا لأ، بس أقدر أقولك إني هحاول لحد أخر نفس فيا يا عمي.

ابتسم نَعيم له بحنينٍ بالغٍ من عينيهِ وفي هذه اللحظة صدح صوت قرآن الفجر قبل الآذان الأول فأشار له برأسه وأضاف مبتسم الوجه بحماسٍ: يلا علشان نصلي مع بعض.

وقف أمامه الأخر مشدوهًا وكاد أن يتراجع لكن عمه سبق وسحبه معه من ذراعهِ دون أن يجادله أو يتحدث مع من جديد، فقط سحبه معه من يديه وتوجه به إلى الخارج، الجسدان كانا كبيرين، تظهر عليهما القوة والوقار لكن في الحقيقة هناك صورة عكسية وهي صورة الطفل الصغير الذي يتشبث بكف عمهِ لكي يذهب معه إلى المسجد، أراد أن يهرب من هذا اللقاء وكأنه يخشى أن يقف أمام ربه، لكن مرشده كان الأقوى والأسرع حينما سحبه معه.

في نفس التوقيت بالبناية المجاورة للبيتِ.
كان يجوب الغُرفة ذهابًا وإيابًا وفي يده السيجارة التي نسى عددها، هاجره النوم وعاندته الجفون وعاصته العيون، فلا النوم حضر ولا الجفون نامت ولا العيون نعست، فقط التفكير هو ما يجول بداخل رأسه حتى أصبحت مثل ميدان معركةٍ أصبحت ممتلئة بالخيول والدخان يحاوطه من كل مكانٍ وانتشر بالغرفةِ.

من يراه يظنه طالبًا في المرحلةِ الثانوية والغد هو موعد تحديد المصير، لكن غَده بعيدًا، وقف يزفر بقوةٍ يخرج هواء سيجارته الممتزج بهمومٍ قاتلة لنفسهِ من الداخل وقد سعلت زوجته عدة مرات تباعًا ثم اعتدلت على الفراش بمضضٍ وهي تقول بضيقٍ من رائحة الدخان:
إيه دا! يا إيهاب قولتلك 100 مرة السجاير بتخنقني في الأوضة، صحيح قولتلك عفر بس مش كدا، هروح منك في سيجارة؟ طب خليها حاجة عليها الرمأ شوية.

أغمض جفونه لوهلةٍ حينما أدرك ما فعله ثم التفتت لها يقول بنبرةٍ جامدة وكأنها آلية مُبرمجة:
معلش سرحت شوية ماخدتش بالي.
لاحظت هي عبوس ملامحه وضيق جبينه وكثرة أعقاب السجائر المنطفأة في المنفضة فاعتدلت أكثر حتى أصبحت تقف على رُكبتيها ولازالت تتوسط الفراش ثم سألته باهتمام أنثى مُحبة بكل جوارحها:
مالك يا سي إيهاب شايل الهم ليه يا أخويا؟

تتبع وقوفها بنظراتهِ حتى استقر هكذا وهتف بقلة حيلة تعبر عن كل وجعهِ وهو يتحدث بخيبة أملٍ:
مفيش حاجة نامي أنتِ يا سمارة.
رفعت حاجبيها بحيرةٍ واضحة على صفحة وجهها ثم تركت محلها واقتربت منه تقف مقابلةً له وتحدثت بحنوٍ بالغٍ وكأنها تتعامل مع صغيرٍ وليس رجلًا بَلغ الكِبر:.

علي سمارة برضه؟ يا أخويا دا أنا بعرفك من حركتك ومشيتك وصوتك، عاوز تفضل تخبي عليا كدا؟ قولي بس مالك مش يمكن تلاقي حل اللي تاعبك عندي؟ دا أنتَ ولا اللي مستني نتيجة امتحان ونايم على أعصابه.
تحرك بعينيه نحوها وهتف بنبرةٍ مُثقلة بالهموم الواقعة على عاتقهِ بسبب موضوع شقيقه:.

هقولك إيه يعني؟ أنا ضايع ودماغي مش فيا، حتى مفيش حيل فيا علشان أقولك أنا إيه اللي تاعبني، النتيجة اللي مستنيها نتيجة أصعب من كل الامتحانات.
زفرت بقوةٍ ثم جلست على الأريكة الصغيرة وسحبته حتى جاورها بقلة حيلة لتقول هي بنبرةٍ هادئة تتسم بالحكمة على عكس طبعها التلقائي العفوي:.

وهو يعني لو خبيت عن روحك هتقدر تخبي عني أنا؟ قولي بس مالك وإيه اللي شاغلك كدا وأنا هحاول أدور معاك على حل، مش يمكن ترسى من التوهة عندي هنا، قولي بس بالله عليك.
حرك رأسه نحوها بعدما كان يُطرقها للأسفلِ وهتف بقلة حيلة وقد قرر أن يشاركها حقًا ما يشعر به لعله يهدأ مما يثور بداخله من تساؤلات حائرة:.

اللي شاغلني هو إني ممكن في يوم وليلة أطلع من غير حد في الدنيا دي، إسماعيل أخويا ممكن مايكونش أخويا ويطلع هو ابن الحج اللي اتخطف من حضن أمه.
شهقت هي بدورها تلقائيًا ولطمت صدرها باستنكارٍ شعبي بعد حديثه عن علاقته بشقيقهِ، أما هو فأخفض رأسه من جديد بانكسارٍ حقيقي لتبادر هي بسؤاله بعدما تخلت عن استنكارها:
طب معلش يعني، هو أنتَ إيه اللي يزعلك في حاجة زي دي؟ بدل ما تفرح لأخوك؟ حد يطول إنه يبقى ابن الحج؟

انتفض من جوارها يسألها منفعلًا بنبرةٍ عالية:
أنتِ مجنونة! إزاي؟ إزاي أفرح إنه مش أخويا وإنه مش حتة مني؟ عاوزاني أقوله معلش يا حبيبي إحنا طلعنا مش أخوات والراجل اللي أوانا في بيته هو نفسه أبوك وميعرفش؟ أفرح إني مبقاش ليا حد؟ دا اللي مصبرني إنه معايا في الدنيا دي، من يوم ما شيلته على أيدي وجريت بيه من المقبرة وأنا حالف إنه ما يزعل في حياته حتى لو التمن روحي.

ابتسمت هي رغمًا عنها ثم وقفت أمامه تضعه كفيها على كتفهِ وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول امتصاص غضبه:.

أديك قولت، حتى لو التمن روحك، أخوك عايش عمره كله موجوع إن أبوه هو اللي عمل فيه كدا، عاش عمره كله حاسس إنه مش مهم عند حد علشان اللي منه هو اللي رماه في القبر حي، أخوك يمكن يتوجع بس أكيد لما يعرف إن اللي منه مش هو اللي عمل كدا يبقى فعلًا يستاهل إنه يفرح، بلاش، الحج اللي فتح بيته ليكم واستأمنكم على حياته ميستاهلش إنه يفرح لما يلاقي ابنه؟ متبقاش أناني في حب أخوك يا إيهاب.

ابتلع الغصة المريرة في حلقهِ وهتف بإصرارٍ جليٍ على ملامحهِ يخبرها بما قرره هو:
أعملي حسابك لو دا حصل وطلع مش أخويا فعلًا يبقى كدا أنا ماليش حد في الدنيا، اتقطعت وهمشي من هنا، مش هقدر أقعد هنا وأنا عارف إنه مش أخويا.
علمت أن الحديث كاذبًا وهو فقط يواري خلفه ضيقه وحزنه لذا بكل هدوء ربت على كتفه وقالت بخضوعٍ له تطمئنه:.

سيبها على الله، وأنا رجلي على رجلك منين ماتروح مع إني واثقة إنك مش هتقدر تسيب إسماعيل لوحده حتى لو كان من آخر بلاد المسلمين، متزعلش نفسك يا أخويا.
أغمض جفونه بأسى فصدح صوت الآذان الأول للفجرِ وحينها ربتت على كتفه وهي تقول بنبرةٍ هادئة وملامح بشوشة كعادتها:.

انزل صلي الفجر وادعي من قلبك ربنا يريحك من الهم دا ويلطف بيك سواء حصل اللي عاوزه أو لأ، يلا يا أخويا دا إحنا كلنا ماشيين بستره وكرمه علينا، متخليش الشيطان يروقك كدا.

حرك رأسه موافقًا بإذعانٍ على غير العادة وهو يتحرك نحو المرحاض فيما وقفت هي تنظر في أثره بحزنٍ بالغٍ، تعلم أن الأمر الذي يتعلق بشقيقه يشبه السكين عند النحرِ، لقد كرس حياته بأكملها لأجلهِ ولأجل حمايته، حتى عند زواجه منها تردد في باديء الأمر خوفًا على أخيه أن يهمله، جلست محلها من جديد وقالت بنبرةٍ هادئة:
ربنا يُلطف بعباده كلهم، وياخد المفتري.
بعد مرور دقائق أخرى.

نزل إيهاب من شقتهِ يتوجه إلى المسجد الذي يقرب البيت بعدة أمتارٍ قليلة وهو يفكر في الحديث من جديد، لم ينس ولم يخرجه من رأسهِ، لازالت رأسهِ متكدسة بالأفكار السوداوية، دلف المسجد مع إعلان إقامة الصلاة فوجد نَعيم كعادته يقف في الصف والجديد أن مُنذر يجاوره!

كانت مفاجأة صادمة له لكنه تغاضى عنها ورفع كفيه بعدما وقف بجوارهما وهنا سكتت الألسنة وتحدثت القلوب، فاضت بكل ما فيها من وجعٍ وخوفٍ والكل في رحاب الله آمنين، أما مُنذر فكانت مرته الأولى يدخل فيها المسجد وقف بخجلٍ من الخالق، عيناه بكت ومن قبلها فؤاده المُتعب، يقف هنا بحيرةٍ وسط الناس وهو يفكر هل هو يحق أن يجاورهم؟ شرد رغمًا عنه في الصلاة حتى ركعوا المُصليين فركع مثلهم ثم اعتدلوا واقفين فوقف مثلهم ثم سجدوا لكنه سجد قبلهم.

سجد بعينين ترقرق بهما الدمعِ حينما لامس جبينه الأرضِ يسجد لله سبحانه وجل علاه، هنا وجد نفسه يعتذر بآسفٍ وهو يردد بقلبهِ قبل لسانه:
أنا آسف، والله آسف.

ظل يرددها باكيًا بحرقةٍ حتى انتهت السجدة الأولى وحضرت الثانية وهو يكرر على نفس المنوال بنفس وتيرة الاعتذار، يعتذر لربهِ، لم ينكر أن القلب أضاء بشعاعٍ ظهر فجأةً من وسط الظلام الذي يسكنه والفضل من بعد كرم الخالق عليه يرجع لعمهِ الذي سحبه معه إلى هنا وقد تعمد أن يتوضأ أمامه حتى يفعل مثله، لقد عاش طوال عمره بعيدًا عن الحياة الدينية بكل مافيها والآن يسجد بقلبهِ لمرته الأولى.

أما إيهاب فسلم أمره لخالقهِ، قرر أن يدعو بلسانه وقلبه أن تُحَل معضلتهِ، أراد أن يرأف الله بقلبهِ ويزيل عنه الهموم وكان لسانه يردد قبله أن يرأف به وبشقيقهِ، لذا استمر في مناجاة ربه بقلبه ولسانه وهو هنا في حضرة رحاب الله كان أمنًا.

كان إسماعيل أيضًا خلفهم في صف الصلاة وهو يقف هنا خلف شقيقه يدعو الله أن يناوله مراده ويرأف به وييسر أمر زواجه من الفتاة التي أرادها، كان هذا هو المطلب الأول الذي يتمناه ثم من بعدها يذكر نفسه وشقيقه وكل أحبته في الدعاء، لم يكن أنانيًا بل محبًا للجميع على عكس هدوئه، فحتى مُحي كان له نصيبًا من الدعاء.

اجتمع رجال الحارة في المسجد خلف أيوب الذي أقام الصلاة بصوتهِ العذب الذي اعتادت عليه المنطقة بأكملها، كل من يريد الغوث من نفسه يذهب إليه، يتعمد أن يُطيل في الصلاة حتى يترك النفوس في رحاب الله، آمنون هنا في جوار من نُحب والخالق في القلوب هو الأحب.
أنهى الصلاة وتابع خروج الناس من المسجد ليغلق أبوابه ثم يعود إلى بيتهِ من جديد مع شقيقه ووالده لكن بدون إياد الذي منذ الأمس وهو ينام بجوار أمه.

أما يوسف فأنهى الصلاة وتحرك للأعلى من جديد حيث شقة زوجته التي أنهت صلاتها وجلست تنتظره في غرفتها حينما أخبرها أنه يود التحدث معها بعد الصلاة وقد أخذها لمكانهما المعتاد فوق السطح يشاهدا الشروق في أول لحظاتهِ معًا وقد سألته هي بنبرةٍ هادئة:
خير! قولي جينا ليه ما إحنا كنا مع بعض.
التفت لها رافعًا أحد حاجبيه وهو يسأل بسخريةٍ:
دا أنتِ طهقتي مني بجد!

ضحكت له وهي تنفي ذلك برأسها لتجده يطلق زفيرًا قويًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
خوفت من الغِياب ردتني الشوفة.
ابتسمت هي بخجلٍ ثم قالت بنبرةٍ معاتبة:
طب يلا أنا سهرتك كتير وشكلك وراك شغل، وأنا بصراحة النوم حضر دلوقتي، قولي عاوز إيه كفاية الأيام اللي فاتت سهرتك علشان الكوابيس، شكلها مطولة المرة دي.

ترك محله وسحب المقعد الخشبي يجلس أمامها في وضعٍ يواجهها ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول برمجة الحديث حتى لا تخشى مما سيقوله:
عاوزك متقلقيش، بس على الضُهر كدا هنروح النيابة مع بعض علشان تشهدي ضد سعد مش عاوزك تخافي أنتِ بس هتقولي إيه اللي حصل ساعتها وأنا معاكِ مش هسيبك، هكون معاكِ جوة كمان، و أيهم و بيشوي و جورج جوز أخته المحامي هييجي هو كمان، يعني مستحيل حد يقرب منك ولا يرفع عينه فيكِ.

عند ذكره زاغ بصرها، لازال يحتل ساعات نومها بطلتهِ المزرية ويستوطن صفاء أرضها الهادئة ويُعكر حياتها، انقبض قلبها وهي تتذكر ضرباته لها في عقر دراها، كيف تحايل واستخدم أسوأ الأساليب حتى وصل إليها أو عفوًا حتى وصلت هي إليه، لاحظ يوسف خوفها المقروء بفصاحةٍ على ملامح وجهها فرفع كفه يحتضن كفيها ثم هتف بلهفةٍ يُطمئنها:.

أنا بقولك هكون معاكِ، بس دا لازم يحصل علشان حقك وحق كل الناس اللي اتظلموا على أيده، أنتِ و أيوب و غيركم كتير يا عهد لازم يتكسر ويتذل ويعرف إن محدش هينفعه، المرة دي مش زي كل مرة، مش تهديد والسلام، دا كان هينفذ فعلًا.
سحبت الهواء داخل رئتيها فيما مسح على ظهرها ولازال خلفيضم كفها ليجدها تقول بنبرةٍ تائهة وحزينة:.

نفسي أخلص منه ومن أي حاجة ليها علاقة بيه، نفسي يسيب نومي وحياتي في حالهم، مش كل ما أفكر أبعد عنه ألاقيه ظهر من تاني، نفسي يكون زي الكوابيس كدا ملهوش وجود غير في خيالي بس.
ابتسم لها وهتف بتأكيدٍ يعبر بكل ثقته:
متقلقيش، كل دا هيخلص وهنفوق لحياتنا بس الأهم نقفل كل الصفحات المفتوحة قبل كدا، عاوزك متخافيش، هتيجي معايا ونكون مع بعض وكل حاجة هتعدي وأنا معاكِ، ولا مش واثقة فيا؟

زاحمت البسمة ملامحها وظهرت نواغز خديها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
لأ واثقة، وهروح علشان أنتَ معايا.
حسنًا هي حقًا تُجيد اسعاده بحديثها وببسمتها، العلاقة العكسية بينهما غريبة وفريدة من نوعها، لا تعلم من منهما يحتاج الأخر أكثر لكن في نفس اللحظة ما يقدمه كلاهما لشبيههِ يكون بمثابة الهوية حينما تُعطى للغريب ليصبح في وطنهِ حينما رفضته كل الأوطان، أما هو فابتسم بعينيهِ لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة:.

ودا اللي أنا عاوزه منك يا عهد، وعاوز حاجة تانية منك برضه، حاجة وحشتني ونفسي اسمعها.
حركت رأسها مستفسرةً له لتجده يُضيف بأملٍ أن تستجيب لمطلبهِ حينما هتف مراوغًا:
صوتك، نفسي اسمع صوتك وتغني، بس أغنية حلوة علشاني وساعتها أنا كدا هتأكد إنك بتتخطي كل حاجة، غني كدا وسمعيني صوتك اللي خلاه يقع فيكِ من أول مرة.
توترت هي من مطلبهِ وكادت أن ترفض ولاحظ هو ذلك فتحدث بلهفةٍ يُثنيها على الرفض بقولهِ:.

دا أول طلب بطلبه منك، يلا.
سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بتوترٍ تطلب منه بخجلٍ:
طب غمض عينك علشان متوترش.
أقترب منها يهتف بمراوغةٍ أكبر لعله بذلك يشاكسها:
ليه هتبوسيني ولا إيه؟

ضربته في كتفه بحنقٍ وقد تأوه هو بضحكاتٍ خالطت تأوهاته ثم أذعن لها وأغمض عينيه لتحاول هي سحب الهواء دا رئتيها ثم بدأت الأغنية التي أرادت أن تخبره بها، لقد كانت رؤوفة بقلبه، يطالع الصباح بشروق شمسه، صوتها الغَنَّاء مع نسمات الصباح الباردة التي تبعث اللطف في القلوب، لتسير القشعريرة في جسدهِ حينما استمع لكلماتها:
أنا قلبي ليه حاسس أوي بالشكل دا؟
هو الهوا بيعلي إحساسنا كدا؟
صدقني خلاص صدقت.

إن أنا حبيت دلوقت.
وماكنتش أعرف قلبي هيحبك كدا
وكنت فين أنتَ وكل الحب دا؟
وليه سايبني لوحدي طول العمر دا.
فتح عينيه يطالع ملامح وجهها حينما توقفت عن الغناء وهي تسأله بوجهٍ مبتسمٍ حينما فهمت تأثير صوتها باختيارها للكلمات عليه:
كنت فين يا يوسف طول السنين اللي فاتت؟

ابتسم لها وضحك بخفةٍ عقبها بإطلاق أنفاسه المحبوسة أخيرًا ثم أضاف بنبرةٍ هادئة حينما طالع عينيها السوداوتين، نفس اللمعة الأولى التي ظهرت له لم تنطفيء ونفس الحنان الذي تطالعه به، نفسها النظرة التي تحتويه وتضمه بين جفونها فأضاف بشرودٍ في عمق عينيها:
كنت بجهز علشان أكون واحد يستاهلك.

جوابه كفى ووفى في الحديث بأقل الكلمات وأبلغها، هي تضمه بعينيها وهو يحتويها بقلبهِ، فحتى وإن كان الغياب في السابق عليهما مفروضًا، فالآن لا محل له ووجوده مرفوضًا، وقبل أن تتحدث هي من جديد وجدته يضيف بنبرةٍ هادئة:
صوتك حلو ودافي، وشكلك حلو ومذهل، وعيونك حلوين بيلمعوا زي ضي القمر، فكرتيني بالأبنودي والله.

سألته بعينيها عن حديثه لتجده سحب كفها ثم أقترب بها من اللوح الخشبي الخاص بكابتهما سويًا وقد أمسك كفها يكتبا معًا فوقه جملة عبدالرحمن الأبنودي حينما كتب في السابق لحبيبته وزوجته الأصيلة:
كلّك حلو
صوتك حلو. قلبك حلو
وحتّى لما تتعبني وأسهرلك،
سهرك حلو.
حركت رأسها للخلف لكي يتسنى لها رؤيته بعينيها اللامعتين ببريقٍ لم يراه سواه فقط فوجدته يميل على أذنها يهتف بنبرةٍ خافتة:.

واخدة بالك من سهرك حلو دي؟ نشكر كوابيسك يا عسولة خليتك اتعودتي خلاص.
ضحكت بعينيها تعبر عن خجلها ليضيفها هو من جديد:
علي حضني.
قال الجملة وضحك وضحكت هي معه وقد برع حقًا في سحب توترها وخوفها، أجاد أن يجعلها تحلق بسعادةٍ فوق السماء مثل الطير الذي كان بدون جناحيهِ ولم تجدهما سوى برفقتهِ، أصبحت قوية وحرة في آنٍ واحدٍ، وهو مستأنس يملك الدار بمن فيها.

وصل أيهم مع أخيه لبيتهم وأمامهم كان عبدالقادر الذي تقدمهم في الخطى ثم ودعهما ودلف غرفته ينعم بالنوم قبل العمل، أما أيوب فقبل تحرك شقيقه أوقفه بلهفةٍ يسأله عن الصغير بقولهِ:
طمني إياد عمل إيه دلوقتي؟
حرك كتفيه بقلة حيلة وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.

ولا أي حاجة، ماسك في حضن نهال مش عاوز يسيبها وصحي يشرب مياه ورجع كمل نوم تاني وهي معاه، مستنيه يفوق كدا علشان لو صحي بالغصب هيزعل وأنا مش عاوز أزعله، لحد ما أفهم حصل إيه خلاه يمشي وييجي معيط كدا.
هز رأسه مومئًا له ثم سأله من جديد:
طب مشوار النيابة دا متأكد إنك مش عاوزني معاك؟ خليني أروح معاكم وأتابع على الأقل علشان يوسف ميكونش لوحده هناك، سيبني أروح يا أيهم.
رد عليه شقيقه بنبرةٍ جامدة يرفض مطلبه:.

مش هوديك هناك يا أيوب عاوز تروح قصاده ويبقى على آخر الزمن أنتَ وهو متساويين؟ لما يشوفك ويفتكر اللي عملته فيه؟ أكيد هيعاند، خصوصًا إن هي رايحة تعترف ضده، ومتقلقش أنا موصي عليه وصية عسل، من أول مأمور القسم لحد أصغر أمين شرطة هناك، أرتاح وأتطمن أنا مش هسيب يوسف لوحده.

ابتسم أيوب باطمئنانٍ له ثم ودعه ودلف غرفته ينعم بالنوم قليلًا، لذا خلع عبائته وخلع ساعته وأخرج هاتفه يضعه على المنضدة بجوار الفراش فوجدها أرسلت له بمزاحٍ:
تقبل الله منك يا شيخ أيوب، عقبال ما نصلي في الحرم مع بعض كدا، قولت أفكرك أحسن تنسى ولا حاجة، حَكِم الرجالة دول زي الغربال ميتأمنش على المياه فيهم.
ضحك رغمًا عنه وسحب هاتفه يطلب رقمها فوجدها تقول بأدبٍ يتنافى مع رسالتها تمامًا:.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، دا التليفون رقص تحطيب أول ما لمح رقمك والله.
رفع حاجبيه وانفرجت شفتاه عن بعضهما بضحكةٍ واسعة سمعتها هي فعدلت الحديث بقولها الذي كانت سخريته أكبر:
آه لا مؤاخذة صحيح، أكيد مش هينفع يرقص برضه لما يشوف رقمك، أقولك؟ حطب بعود السِواك، أبسط.
ارتفع صوت ضحكاته صباحًا وضحكت هي أيضًا حينما ضحك ووصلها صوت ضحكاته ليضيف هو بنبرةٍ أهدأ بعدما توقف عن الضحكات:.

عارفة يا اسمك إيه أنتِ؟ أنا شكلي كدا والله أعلم صحتي هتيجي على العلاقة دي، ربنا يسامحني كنت فاكرك هترفضيني علشان إمام مسجد وكدا، وكنت فكرك خرعة بصراحة بس واضح كدا إنك ربيع جاي أرض مستنية تعمر بالونس.
ضحكت بسعادةٍ ثم قالت بسخريةٍ تقلد حديثه:.

عارف أنتَ كمان يا اسمك إيه؟ أنا كنت فكراك متكبر ومغرور وعامل فيها الشيخ الخلوق وهتتجوز واحدة تقولك صباح الخير يا قرة عيني، وأنا بقولك يا أسطى أيوب ولما أدلعك بقولك يا مطروف العين يعني بالبلدي أعور.
ضحك من جديد وضحكت هي الأخرى، تبدو وكأنها أتته هذه الفتاة على طبقٍ من ذهبٍ لتؤنسه بمرحها ولطافتها وتتسلل لداخل روحه تُرمم الدمار فيها، فيما قال هو بنبرةٍ هادئة بعدما سحب نفسًا عميقًا:.

طب روحي نامي وأنا هنام برضه شوية وهجيلك بليل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا قرة عيني.
هتفها بسخريةٍ يقلد طريقتها لتضحك من جديد عليه وأغلقت معه الهاتف ثم أرتمت على الفراش من جديد بحماسٍ بعدما حدثته في الهاتف ولم يختلف هو عنها كثيرًا، بل ضحك من جديد حينما تذكر المحادثة ثم تمدد على الفراش ووضع كلا ذراعيه خلف رقبته وهو يقول بنبرةٍ حالمة:
يا بركة دعاكِ يا رُقية شوفتي النقاوة؟

أغمض جفونه وهو ينام قرير العين أخيرًا بإطمئنانٍ حتى يقوم ويتابع عملهِ الذي ألقاه عليه شقيقه أثناء غيابه في النيابة العامة للتحقيق في قضية سعد الذي حتمًا سيحصل على نصيبه الذي يستحقه.

في الأعلى توجه أيهم إلى شقته وعلم أن زوجته لازالت بجوار الصغير فاقترب من الغرفة يطرق بابها بحركاتٍ هادئة، هو يعلم إنها استيقظت لصلاة الفجر كعادة موعد ذهابها للعمل، لذا انتظر طلتها حتى فتحت الباب وطالعته بملامح مقتضبة وهي تقول:
خير يا أيهم!
ضيق جفونه لوهلةٍ بتعجبٍ من طريقتها ثم هتف بنبرةٍ هادئة يستفسر منها عن طريقة حديثها:
أنتِ بتكلميني كدا ليه؟ هو أنا جيت جنبك يا ستي؟

سحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته وأشهرت سُبابتها في وجههِ وهي تقول بنبرةٍ جامدة:
فيه إنك زعقت ل إياد قدام الكل، واتعصبت، وهو منعرفش ماله بس أكيد باين إنه زعلان، حتى لو خايف عليه بس اللي واقفين كانوا كتير ودا طفل نفسيته هتتعب، أنا ماصدقت بقى بيقول إيه اللي مزعله ويحكي عادي، مش عاوزة نرجع لنقطة الصفر من تاني.

أيها الغبي أهذا الوقت المناسب لكي تبتسم لها بعينيكِ؟ هي ترفع صوتها وتحذرك وتتحدث معك بهذه الطريقة وأنتَ تضحك؟ هكذا نهر نفسه حينما فرح بحديثها واهتمامها البالغ بابنه ليجدها ترفع من قدر سعادته وهي تضيف ما لم يتوقعه منها بتحذيرٍ:
وأخر مرة يا أيهم تزعق لابني قدام حد، عارف لو حصلت تاني؟ هاخده وأمشي بجد، الواد مش حِمل عمايل الهبل دي، دا طفل فاهم يعني إيه طفل؟

ضحك من جديد لها فوجدها تصرخ بغيظٍ منه ثم أغلقت الباب في وجهه ليرفرف هو بأهدابه عدة مرات ثم قال بنبرةٍ واثقة وثابتة كأنه لم يفعل أي شيءٍ:
طب يا نِهال أنا حبيت بس أتطمن عليكم.
ضحكت من الداخل وكتمت ضحكتها سريعًا ثم توجهت نحو الصغير تجاوره في فراشها هي وفجأة شعرت به يدخل الغرفة من جديد بعدما بدل ثيابه في المرحاض وأتى ينام بجوراهما وقبل أن تنطق هي حذرها أيهم بقولهِ:.

عندك! ابني زي ماهو ابنك، هو هيفرح لما يصحى يلاقي نفسه جنبنا إحنا الاتنين وياريت تتعاملي قدامه بهدوء علشان ميحسبهاش خناقة.
أثار بحديثهِ حُنقها ليجدها ترفع رأسها عن الوسادة وهي تسأله بحنقٍ من بين أسنانها:
أنتَ هتقلبها خناقة وخلاص؟ على فكرة بقى كنت بَوَعيك علشان متجرحش مشاعره، الطفل بيتأثر بكل الانفعالات من اللي حواليه، فما بالك بقى بيك وأنتَ كل حاجة عنده؟

ضيق جفونه من جديد بعد حديثها وما إن نامت وأغمضت عينيها شعرت به يسحبها نحوهما ويضمها بكفهِ الكبير وقد طالعته باستفسارٍ مريبٍ جعله يفسر ببراءةٍ:
كنت هتقعي فبوعيكِ.

ضحكت هي عنوةٍ عن ملامحها المقتضبة وابتسمت أكثر حينما قربها هي وصغيره إليه يضمهما داخل أحضانه بعدما لثم جبين الصغير بحنوٍ بالغٍ، وهو ينام بين الإثنين بعدما رفض الاسيتقاظ من فرط الحزن الذي عصف بقلبه الصغير، لقد حسب نفسه ماهرًا سيستطع أن ينساها لكنه لم يضع في الحسبان أن تسوقه الطرقات إليها ليتأكد من كرهها أكثر من السابق.

في مقر النيابة العامة.
وصلت سيارة يوسف بزوجتهِ التي حتى الآن لم تعلم كيف أتت إلى هُنا، وخلفه سيارة بيشوي معه زوج شقيقته ومعهما أيهم أيضًا الذي تولى الدور طواعيةً منه، وقد نزلوا من السيارات يقفون مع بعضهم ليتحدث چورچ بصفتهِ محامي عهد في القضية:.

بصي يا مدام عهد أهم حاجة تقولي كل اللي حصل، من غير أي خوف أو توتر لأن دا حقك أنتِ، أحكي عادي كأنك بتحكي اللي حصل ل يوسف مثلًا، وأنا أوعدك إنك مش هتشوفيه تاني، كل اللي بعد كدا شغل محكمة ودا تخصصي، تاني هأكد عليكِ بلاش خوف علشان دا حقك أنتِ.

حركت رأسها موافقةً عدة مرات بخوفٍ جعل يوسف يَحثُها على الإقدام بعينيه عدة مرات لكي تتنفس هي الصعداء ثم حركت رأسها موافقةً تؤكد له ذلك، وبعد مرور دقائق وقف في الممر الطويل المتكدس بالناسِ من شتى الأجناس والأنواع والطبقات، هنا من أتى في مهمة إدارية وهنا من أتى في تُهمة جنائية، هنا من أتى مظلومًا، وهنا من جاء ظالمًا، مبنى غريب يحمل الجاني والمجني عليه في نفس المكان والحكم قيد الإنشاء.

وقفت عهد بجوار يوسف تتعجب بنظراتها من المناظر والهيئات حتى أتى سعد في يد متهمٍ أخر وهو يواجهها بعينيه وتلقائيًا رفعت كفيها تتشبث بذراع يوسف الذي رفع كفه الأخر مُربتًا فوق كفها ثم هتف بنبرةٍ هادئة يخبرها حديثه المعتاد حينما لمح الخوف في نظراتها:
متخافيش أنا هنا، معاكِ.

حركت رأسها عدة مرات خلف بعضها بخوفٍ من نظراته، نفسها النظرة التي تظهر في كوابيسها، نفس الملامح الجامدة التي تشبه ملامح الأفلام المُرعبة، نفس الهيئة التي تكرهها هي ونفسه هو الجلاد وهي الضحية التي سئمت حياتها وسئمت تواجده معها في نفس الأرض التي تحملهما سويًا.

أما يوسف فتكفيه النظرات القاتلة التي بثها للأخر داخل عينيه، لم يكتفْ بذلك بل هو فقط يقدر المكان الذي يقف بداخلهِ ويقدر زوجته التي تتشبث بذراعه كطفلة صغيرة تخشى مَن حولها وتأمن فقط لوالدها من بينهم، وزع نظراته على سعد ليشعر بالراحة تتخلله، نفسها الكدمات التي كانت على ملامح أيوب ونفس الضربات القاسية التي تلقاها، ناهيك عن الجرح الذي تركه يوسف له بذراعهِ ليكون ذكرى أليمة لن تلتئم بمرور الأيام.

دلف وكيل النيابة وخلفه چورچ ومعه عهد و يوسف كانت لحظة غريبة عليها لم تفهمها، تقف هنا مجني عليها والخوف بداخلها كأنها هي من أجرمت وليس العكس، كان يوسف جالسًا بجوارها وهي تضغط على كفها من فرط التوتر، هيبة المكان وسلطة الجالس أمامها حتى وإن لم تفعل أي شيءٍ ستعترف من نفسها.

بدأ التحقيق وهي صامتة عن كل شيءٍ ولم يصدر عنها سوى صوت نبضات قلبها المرتفعة بِصخبٍ والقلق المحاوط لقلبها، كل شيءٍ هنا يرعبها وهي فقط تنتظر حتى أتى دورها في التحدث فابتعلت لُعابها الذي لم يكن بحلقها وقالت بنبرةٍ مهتزة:
ه. هو اللي خطفني، وهو اللي خلى الست تكلمني.

بدأت في سرد التفاصيل حينما وصلتها المكالمة الصوتية من رقم إمرأةٍ مجهولة إدعت أنها جارتها في بيت والدها وكيف انطوت عليها خدعته حتى وقعت الفريسة بِشباك الصياد، كانت تسرد في باديء الأمر بخوفٍ وتيهٍ و يوسف يحثها بنظراته لكي تستكمل ما بدأته من حديثٍ، وقد وجه وكيل النيابة سؤاله للجاني بنبرةٍ جامدة:
إيه ردك في اللي حصل دا يا سعد.
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة هو الأخر يتصنع ثباتًا لم يملكه من الأساس:.

محصلش يا باشا، كدابة.
التفتت هي له فورًا فيما تحدث يوسف بسخريةٍ:
هي برضه؟ ولا أنتَ يا عرة الصنف كله؟ قولتلك 100 مرة متتكلمش عنها لا بطيب ولا بوحش علشان مقومش أروق اللي جابوك، ولا مش مكفيك الترويقة بتاعة جوة؟
تدخل وكيل النيابة يهتف بنبرةٍ جامدة في التحدث لكي يوقفما عن المشاجرة ثم أضاف بنبرةٍ عملية يستجوبه:.

طب تفسر بإيه الصور اللي لقيناها عندك وعقد الإيجار بتاع الشقة وتليفونك اللي التحريات أثبتت إنك كنت بتتواصل مع حد تاني لتلفيق صور ودي كدا قضية تانية، إيه يا عم! دا أنتَ سايب كل حاجة بحطة إيدك مكانها، برضه بتكدب.؟
رفع رأسه بثباتٍ من جديد يجاوبه مؤكدًا:
لأ، مش هكدب، هما اللي حاطين الحاجات دي علشان يثبتوا التهمة عليا وصورها دي هي اللي اديتهالي بنفسها قبل كدا لما كنا مخطوبين، وفيه شهود بكدا كمان.

كادت أن تتحدث من جديد لكن چورچ تدخل وردع فعلها بتقديم كافة التفاصيل المطلوبة من جهة عهد التي كانت تجلس بنيرانٍ كادت أن تحرق سعد محله على عكس يوسف الذي رسم اللامبالاة على ملامحه لكن نقيضه بداخلهِ كان عكسه تمامًا، وقد استمر التحقيق بينهما حتى تحدث وكيل النيابة من جديد لمن يُحرر الجلسة كتابيًا:.

قررنا نحن نيابة العامة بتجديد حبس المتهم في المحضر رقم المسجل باسم عهد محفوظ اكتب بياناتها والرقم القومي عندك من بطاقتها، خمسة وأربعون يومًا على ذمة التحقيق.

تجدد حبسه من جديد في النيابة لحين استكمال التحقيقات معه ولحين تحديد موعد الجلسة في المحكمة الجنائية، وقد تم إخراجه من المكان وتم إتمام التوقيعات على المحضر والتسجيل الذي كان عبارة عن حديث عهد وشهادة يوسف أيضًا لكن باعتباره زوجها لم تؤخذ بشهادتهِ، خرجت من الغرفة تتنفس أخيرًا بعدما سحبت أنفاسها طويلًا داخل رئتيها لتجده أمامها بجوار متهمٍ أخر تضمهما أصفاد حديدية واحدة لتخشاه من جديد.

لقد أصبح هاجسًا لها بمجرد رؤيته ينقبض قلبها، بسببه تركها النوم ويتألم قلبها وخاض الناس في شرفها، كل المساويء التي من الممكن أن تلاحق فتاةٍ. لاحقتها هي على يديهِ، جاورها يوسف الذي خرج برفقة چورچ الذي كان يخبره ما يتوجب عليه فعلهِ حتى يتم التحقيق معه مرةٍ أخرى لحين استكمال التحقيقات والتحريات، وما إن لاحظ نظراته المصوبة نحو زوجته أقترب منه يقف مقابلًا له وهو يقول من بين أسنانه بغلٍ دفينٍ:.

الكدابة اللي قولت عليها دي أشرف منك ومن أمك، ودي علشان تحرم تجيب سيرتها تاني على لسانك.

ضربه برأسهِ في وجههِ حتى اصطدم الأخر بالحائط خلفه وسادت لحظة هرج شديدة في المكان تم على أثرها تحريك يوسف من مكانه للخارج فيما نزف سعد من أنفه نتيجة الضربة التي تلقاها بُغتةً على وجههِ، غبي من يظنه سيصمت عن رد الفعل في حين أنه يبرع في صنعهِ، لقد أخذ حقها بيديهِ ولم يكفيه، الحل الوحيد أن يجعله يُعاني بنفس طريقة معاناتها.
وقف أمامه بيشوي يحدثه بنبرةٍ جامدة:.

مكانش ينفع كدا يا يوسف دي نيابة مش محل فول في الحارة، لولا وجود الناس معانا وعارفينا كان زمانك مشرف جوة، أمسك نفسك شوية اللي فاضل مش كتير.
تدخل أيهم يقول بنبرةٍ هادئة هو الأخر يحاول بها تهدئة ثورته الغاضبة:.

دا حقك على فكرة محدش هيلومك، أنا لو وقع تحت أيدي هعمل أكتر من كدا بس أسمع مني، الواد دا حله أنه يتربى جوة الحجز ويتعلم عليه، جسمه نحس من كتر الدق ومش فارق معاه، الهباب اللي بيطفحه مخليه في عالم تاني غير عالم البشر، حق مراتك وحق أخويا هيرجع هيرجع.

خرج چورچ لهم من الداخل بهيبته المفروضة عليه، محامي ذاع صيته وسط المحامين زملائه، لم يخسر قضية واحدة طوال مسيرته، مكتبه برغم صغر حجمه وتواضعه إلا أنه دومًا ينجح في مهامهِ، وهذه القضية مقارنةً بما يأتيه لن تأخذ معه وقت، بل سيبرع في حلها، فإذا كانت القاعدة أن القانون لا يحمي المُغفلين، فبالطبع لن يُعركل حركة القانونيين.

في بيت نَعيم كان سراج جالسًا على الفراش بعدما بدل ثيابه بمساعدة مُحي الذي أخرج روح الطبيب من داخله وعمل على تغيير الجرح وتوفير رعاية طبية فائقة تحديد التهديد بالطبع ليس طواعيةً منه بل إجبارًا من إيهاب الذي تعمد أن يراه نَعيم لكي يفخر بابنهِ، وحينها وقف يتابع معاونة إسماعيل له وهو يفكر هل مم الممكن أن يكون مُحي هو الأخ الحقيقي لشقيقه؟ الفكرة بمجملها مُرعبة، لذا نحاها جانبًا متحاشيًا الفكر فيها والنظر ل مُنذر الذي بدا أكثر هدوءًا عن السابق.

فرغت الغرفة على سراج الذي صدح هاتفه برقم نور التي اعتذرت منه بقولها:
أنا آسفة علشان معرفتش أجي أشوفك بس عمتو مش هنا وبابا مش راضي أجي لوحدي بس هجيبه وأجيلك ولو هما مش راضيين هاجي لوحدي، أو هات حد ياخدني.
ضحك رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ خافتة:
براحتك خالص، كدا كدا مش هنغيب كتير، المهم أشوفك بخير وأعرف إنك كويسة، وكفاية مكالماتك ورسايلك، أنا عن نفسي مكتفي بكل دا منك يا نور كفاية أوي عليا.

ابتسمت هي على الجهة الأخرى واستمرت تحدثه وتطمئن عليه وهو يجاوبها بسعادةٍ، أصبح ممتنًا لذلك الرجل الملون الذي تعمد إصابته حتى أنه دون أن ينتبه لذلك خدمه خدمة العُمر التي لن تتكرر مرة أخرى سوى واحدةً فقط تكون من نصيب المرء الذي كتبت له الفرحة.
دلف إسماعيل بالعصير له وقدمه على الطاولة الخشبية الخاصة بالجلوس على الفراش وقد بدأ سراج يرتشف منها وسأله بعدما لاحظ شروده:
عرفت إنك ناوي تخطب، مبروك.

ابتسم له الأخر وهتف بنبرةٍ هادئة:
الله يبارك فيك بس يا رب تكمل على خير ومتحصلش حاجة تعرقب الدنيا، أديني مستني النتيجة ومتعشم خير.
ترك سراج ما يمسكه في يده واقترب منه يهتف بنبرةٍ هادئة وثابتة وقوية من حيث أثر الكلمات:.

تسمعها مني نصيحة بقى؟ خليك صريح وقول على اللي فيها علشان متعملش زيي، الراجل الكداب الست بتخاف منه، وأديك شايف أنا عيشت قد إيه من غيرها، ولما رجعت كانت بتكره تبصلي حتى، اللي حصل دا كان قرصة ودن لينا إحنا الاتنين، هي علشان تعرف قيمتي وأنا علشان أحترم نفسي، هنجيب منين حد تاني يضرب عليك نار؟ مفيش.
ضحك الإثنان معًا بسخريةٍ ليضيف سراج بنفس الجدية من جديد مستانفًا الحديث في نفس الموضوع:.

قبل أي خطوة جد وقبل أي حاجة تروح تقولها على الليلة كلها، حياتك واسمك واللي حصل فيك وإزاي اتعالجت وإزاي لسه أثره فيك، هتصارحها مرة بس هتفضل محترماك طول العمر، ولو كدبت مرة هتفضل كرهاك طول العمر، ألحق قبل ما الموضوع يبقى في صورة جد وتبقى مستغل، اسمع مني.
في هذه اللحظة دلف يوسف الذي أوصل زوجته وأتى إلى هُنا من جديد وما إن استمع لهذه الجملة الأخيرة هتف بتهكمٍ لاذعٍ كعادته:.

متسمعش منه حاجة دا عيل حشاش، وواخد طلقة يعني كلامه ملهوش لازمة أصلًا مش كدا يا سراج.
خرجت سبة نابية من بين شفتي الأخر وتبعها بسؤاله الذي خرج بحنقٍ بعدما رأى يوسف أمامه:
أنتَ إيه اللي جابك؟ يا أخي في وضعي دا أنا عندي استعداد أشوف دخلة عزرائيل ولا أشوف دخلتك.
جلس يوسف على الأريكة المقابلة له بلامبالاةٍ وقال بنبرةٍ أعربت عن كم البرود الذي يتعامل به:.

والله بدعيلك ربنا يريحك من اللي أنتَ فيه، ونخلص منك وليك عليا البت هتتربى أحسن تربية، أعملها أنتَ بس ورَيح، ثم إن دا مكانش بيت أهلك علشان تقولي أجي ولا ماجيش، خليك في حالك.
كاد أن يتحدث سراج من جديد فتحرك إسماعيل من الغرفة نحو الخارج بعدما تركهما معًا يطالعا بعضهما بنظراتٍ حاقدة تبعها دخول إسماعيل من جديد وهو يقول بنبرةٍ تائهة خشيةً من رد فعل سراج:
بقولك إيه؟ أحمد برة وعاوز يشوفك.

اعتدل سراج في جلستهِ وكذلك يوسف الذي سأله بتعجبٍ:
أحمد! دا عم جودي صح؟
حرك رأسه موافقًا بتيهٍ ونظراتٍ مشوشة ليدخل أحمد الغرفة وهو رجل في الخامس والثلاثين من عمرهِ، رجل وقورٍ يعمل في إحدى الدول الخليجية بأحد الفنادق الشهيرة هناك، دلف يلقي التحية بطريقةٍ رسمية وبادر بالسؤال عن سراج وحالته الصحية والآخر يجاوبه بهدوءٍ حتى وجده يُضيف بنبرةٍ هادئة:.

طب يا سراج أنا هنا بتطمن عليك وعاوزك في موضوع تاني، أظن يعني كل الناس عارفة اللي حصل وإنك مضروب عليك نار، بس علشان أنا مش جاي أضيع وقتك ولا وقتي، بقولك إن جودي مش هينفع تفضل معاك، أنا كدا هبقى بضيع البنت، بقضي عليها، فبدل المحاكم والشوشرة إحنا أولى بلحمنا.

كان الحديث مثل القُنبلة الموقوتة التي تم تفجيرها في المكان فجأةً بصدفةٍ غير متوقعة، لم يحسب سراج هذه الحِسبة بتاتًا، بل تفاجأ أيضًا بهذا الحديث ووقف أمامه مدهوشًا، ليضيف أحمد بكل قوةٍ:.

أنا عمها من العصب وجدها عايش وجدتها كمان، وإذا كانت حجتك إن أهلي كبار وأنا مسافر فأنا خلاص استقريت هنا، وبنت أخويا هتتربى مع عيالي، على الأقل هبقى نايم وأنا عارف إنها بخير مفيش طلقة كدا ولا حادثة كدا ولا حتى أسلوب حياتك الطايشة دي، وإذا كنت أعزب وبطولك فأنا أهلي عايشين وهيخلوا بالهم منها.
انتفض سراج محله دون أن يكترث بآلام عظامهِ ثم هتف بنبرةٍ عالية تعبر عن انفعاله وتفاقم غضبه المشحون:.

أنتَ بتعايرني يعني؟ دا نصيب يا باشا، وبعدين من إمتى الحنية دي؟ ماهي من ساعة موت أبوها وأمها وهي معايا، إيه اللي جد جديد يعني؟ بعدين اللي حصل دا كان بعيد عنها وأنا مش هقبل جودي تبعد عني.
هتف أحمد ببرودٍ ردًا عليه:.

خلاص يبقى بيننا المحاكم، وكدا كدا هاخدها أنا سألت المحامي وقالي إن مجرد اللي حصل دا بس يضمنلي إنها هتكون تحت وصايتي، أنا مش هستنى لما بنت أخويا دمها يتصفى على إيدك وأيد معارفك الشمال يا سراج.
عجز سراج عن الرد وتسلل الخوف إليه يسكنه ويتشعب بداخل أوردتهِ ليتحدث بدلًا عنه يوسف الذي ترك محله وتحدث بأسلوبه الوقح قائلًا بنبرةٍ عالية:.

وهي بروح أمك مش دي البت الصغيرة اللي رميتها ورا ضهرك وسافرت تشوف شغلك مع مراتك وعيالك؟ دلوقتي أحلوت؟ بعدين بأي حق تاخدها دلوقتي؟ تعرف عنها إيه أنتَ؟ تعرف بتاكل إيه؟ بتحب إيه؟ بتحب مين؟ مين صحابها؟ أنتَ مالكش أي حق فيها، والوحيد اللي ليه كل الحق هو سراج اللي حاططها أولوية في حياته عن الكل حتى نفسه، مش سيادتك علشان اتنقلت الفرع هنا جاي تعملها تقضية واجب؟

التفت له أحمد وهو يقول بنبرةٍ جامدة يحاول أن يهذبه بها:
أحترم نفسك أحسنلك، شكلك متعرفش أنا مين، ولو على جودي غصب عنكم هاخدها، ولو هيقدر يثبت حاجة يثبتها، قانونًا الجد هو الوصي عليها ولو الجد مش قد الوصايا فأنا موجود، يعني أنا جاي أعرفه وأعمل اللي عليا، مش همشيها بلطجة وخلاص.
في هذه اللحظة دلف إيهاب على الصوت المرتفع وهو يسأل بنبرةٍ جامدة أوقفت علو صوتهم:
فيه إيه؟ صوتكم جايب لآخر البيت ليه؟

التفت له يوسف بجاوبه بنبرةٍ منفعلة:
البيه جاي عاوز ياخد جودي جاي يستغل اللي حصل ل سراج ويصطاد في المياه العِكرة فاكرها سايبة وجاي ياخد وخلاص.
دلف إيهاب يقف أمام أحمد وقال بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم بغموضٍ وهو يشمله بنظراته رغم فهمه منذ البداية سبب الزيارة:.

طب وماله ما ياخد، بس هياخد على دماغه إن شاء الله، أو ياخد في سنانه، البت هنا لو فيه دكر من ضهر دكر يقدر ياخدها أو يعتب خطوة واحدة بالغصب ييجي يوريني نفسه.
طالعه أحمد بعينين نطقتا بكل غضبٍ وتطاير منهما الشرر الملتهب وهو يقول بنبرةٍ عالية في وجهه بعدما رفع كفيه يلوح بهما:.

هو أنتوا فاكرينها هتمشي بلطجة؟ فوقوا أنتَ وهو البلد فيها قانون وهاخد البت، هو أنا هسيبها تتربى هنا وسط شوية البلطجية دول؟ دي غلطتي إني مشيتها وِدي من الأول معاكم.
سحبه إيهاب من تلابيبه وقد أُغلقت الطرقات أمامه وأصبح مثل رجل الكهف وإذا وقعت الفريسة تحت قبضته سيفتك بها لا محالة مِن هذا، لذا هتف يُهدده من بين أسنانه بنبرةٍ هادرة وهو يحاول أن يتحكم في أعصابه:.

قسمًا بجلالة الله لولا العيبة وإنك في أرضي أنا كنت حطيت رقبتك تحت رجلي وعرفتك شغل البلطجة بحق، بس أنا مش هعمل كدا علشان الأصول بتقول إنك ضيفي، يبقى تاخد واجبك وتمشي، وواجبك وصل، بنت أخوك معانا هنا زي ما سافرت وشوفت حالك قبل كدا ومفرقتش معاك، روح شوف حالك من تاني علشان جودي تخصني أكتر ما تخص سراج ولو فارق معاك تعرف أنا مين، فأنا المُدرب بتاعها، شوف طريقك يلا.

تركه إيهاب بحركةٍ عنيفة جعلته يُهندم ثيابه ثم رحل من الغُرفة وترك سراج الذي شرد في الفراغ وقد أقترب منه يوسف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
أنتَ هتنخ ولا إيه يا حيلتها؟ فوق كدا وأصلب طولك علشان تاخد حذرك ولو على جودي متقلقش فيه جيش كامل يقدر يحميها ومحدش هيطول منها شعراية واحدة بس.
حرك رأسه موافقًا ثم هتف بلهفةٍ:.

محدش يقولها اللي حصل علشان بتخاف دا غير إنها مبتحبش عيلة أبوها، جدتها ولية مفترية، يمكن جدها طيب شوية، بس أنا مش هقدر برضه آمن عليها مع حد تاني، خصوصًا وأنا هنا، صعب أوي.
أضاف إيهاب من جديد بنبرةٍ هادئة بعدما أجاد إنحاء غضبه لكي يتصرف في الأمور باعتباره الكبير وسطهم:.

متقلقش، أنا هنا وكله هيبقى تمام، أقل مافيها قرصة ودن صغيرة ليهم وكسرة عين ميجيش بعدها بعدين، ريح بس علشان الجرح وأنا هجيبلك جودي تطمن عليها بنفسك.

خرج إيهاب وتركهما معًا ليزفر سراج بقوةٍ جعلت يوسف يُشفق عليه بنظراتهِ، يعرف جيدًا كيف يملك المرء إنسانًا واحدًا فقط من وسط العالم بأكملهِ ليكون عالمًا له ويعرف جيدًا معنى أن يتم حرمانه من هذا العالم، لذا جلس من جديد مع الآخر الذي شرد رغمًا عنه فيبدو أنه مكروهٌ بهذه الحياة، لما كلما ظنها تهاديه يتفاجيء بها تلطمه على صفحات وجهه؟

كان يجلس في محل عملهِ ينهمك فيما يفعل حتى دلف له تَيام الذي جلس على المقعد الموضوع بجوار مكتبه وقد ارتسما الخجل والتوتر على ملامحهِ الذي قرأها بيشوي وسأله بسخريةٍ:
خير؟ طالما جيت هنا يبقى فيه مصيبة.
ضحك له ثم حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ هادئة:.

بص، أنا كمان كام يوم نازل مع آيات و أيوب نجيب حاجات في الجهاز لشقتنا، علشان كدا جيتلك، بص أنا مش قصدي حاجة، بس أنا معايا فلوس ولسه قابض الجمعية وحطيت كل اللي معايا في الشقة، فخايف المبلغ اللي هاخده ميكفيش، ينفع تسلفني مبلغ كدا لحد ما أظبط الدنيا وأجيبه تاني؟
أرجع بيشوي ظهره للخلف وهو يقول بأسفٍ:
بس أنا مبسلفش حد وأنتَ عارف.
رفع تَيام كفه وهو يمسح على شعرهِ ليضحك الأخر ثم هتف يثير استفزازه:.

بس أنتَ مش حد.
أصدر تَيام صوتًا من حنجرته ينم عن الاستياء مما جعل بيشوي يسأله بنبرةٍ هادئة يحاول بها طمئنته:
يا عم مالك؟ أنتَ أول ولا أخر واحد بتتجوز؟ هديك اللي عاوزه ومفيش حاجة اسمها أظبط أموري وأجيبه تاني، فتجيبه إمتى؟ مش سمك في مياه هو يا ريس.
طالعه تَيام بدهشةٍ جعلته يضحك مُجددًا ثم قال يمازحه بقولهِ:
ياض بهزر معاك يخربيت رخامة خالتك، بقيت بومة زيها، مالك؟ عمال تلف حوالين نفسك ليه؟ فيه حد مزعلك؟

حرك رأسه نفيًا وهتف بنبرةٍ هادئة يخبره بما فيه:.

بصراحة حاسس إني مش كفاية، حاسس كدا إني مهما أعمل مش هوفي المطلوب مني، عارف إني بعمل اللي أقدر عليه، بس هي وضعها غير وضعي، دي واحدة عايشة في بيت العطار وأنا يدوبك بشقتي دي قد أوضة في بيتهم، عارف إحساس إنك بصيت لفوق أوي ومجبر على وجع الرقبة، بس المنظر حلو ويستاهل؟ أهو أنا عامل كدا، هي تستاهل كل الدنيا تيجي لعندها، خايف أخسف باللي هي عاوزاه الأرض بس أنا والله مش ببخل.

فهم بيشوي مشاعره وما يمر به فحدثه بثباتٍ يقوي من عزيمته وهو يقول:.

بُص علشان نوفر التعب على بعض، دا شغل هلاوس، اسمع مني الكلام دا كله أوهام، لأني بحكم تربيتي معاك ومعاها فهي مش كدا، آيات أغلب من الغُلب نفسه ومش بتاعة مظاهر، أعمل اللي عليك طالما مش في نيتك إنك تلعب بديلك أو حتى تسيب، هي فترة قبل الفرح دي الشيطان بيشوف شغله فيها، بس أسمع مني هي طيبة وغلبانة وعاوزة تعيش، ودي أهم حاجة، لو على العفش بيتكسر ولو على الدهان بيقع ولو على البيوت بتتغير، إنما القلوب دي بيوت، بيوت تضلل عليك وتلحقك من نفسك، القلوب مبتتغيرش يا تَيام والحب اللي جواها زي ماهو، خد الفلوس وفرح عروستك وفرح نفسك ولو احتاجت حاجة تعالى، مش هعبرك طبعًا.

ضحك تَيام له وهتف بنبرةٍ مُحبة لصديقه الوفي:
ربنا يديمك ليا يا غالي، مش عارف من غيرك كنت هعمل إيه، من أول ما حبيت آيات لحد دلوقتي وأنا قاعد قصادك.
رفع بيشوي رأسه بشموخٍ وهتف بزهوٍ في نفسه يشبه ذاك الزهو الذي يتحدث به أيهم وكأن حب الذات مرضٌ مُعدي انتشر بينهما:
ماكنتش هتلاقي حد يسلفك طبعًا.

ضحكا سويًا بنبرةٍ عالية وقد أخرج بيشوي من درجه مبلغًا ماليًا يضعه في كف رفيقه حتى يذهب به مع خطيبته، أما الآخر فكان يمتن له بنظراتهِ كثيرًا فهاهو يفعل ما بوسعهِ لأجل من يحب.

حديث صديقه شجعه كثيرًا أن يأخذ هذه الخطوة حتى يُصارح من يُحب لذا أرسل لها أنه سيقابلها بعد عملهت في نفس المكان وقد تحركت هي بعد عملها إلى هناك مباشرةً تتصنع اللامبالاة وما إن جلست أمامه سألته بعتابٍ طفيف:
أنتَ استحليتها ولا إيه يا إسماعيل؟ مصمم تقابلني وتقولي الموضوع حياة أو موت، بتخلع بطريقة حقيرة أوي.
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة:.

بصي يا ضُحى، أنا للأسف مكانش ليا أي علاقات قبلك، ومكانش في نيتي إني حتى أدخل علاقة أو أشغل نفسي، بس أنا فجأة اتشديت زي ما سبق وقولتلك، حصلي لغبطة في كل حساباتي وبقيت متلغبط، أنا كنت مستني أضمن الأول إني أكون معاكِ وكل حاجة تيجي واحدة واحدة، بس دا لو حصل مكانش هينفع، كنت هخسرك لآخر العمر، وأنا يعز عليا أخسرك.

وترها وبشدة وأربك ثباتها وتفنن في تغيير حالتها، حديثه الغريب هذا جعلها تتوتر بشدة وهي تتابعه بعينيها، ظنت أنه سيخبرها أنه ربما يسرع أمر هذه العلاقة أو ينهيها قبل أن تبدأ، لكنه ضرب بمخيلتها عرض الحائط حينما هتف بنبرةٍ هادئة لكن الآلم يرتسم فيها:.

أنا إسماعيل أشرف الموجي الابن التاني والصغير ل أشرف الموجي تاجر الآثار واللي كان بيتاجر بيا عند المشايخ ويخليهم يسخروني علشان أنزل أعرف مكان الآثار تحت الأرض، وبالمناسبة أنا لسه زي ما أنا ومكشوف بيني وبينهم الحجاب.

رفعت كفها تضرب فمها بدهشةٍ وهي تتابع ملامحه والخجل والانكسار في عينيهِ، لم تفهم ما يتوجب عليها فعلهِ حينما صمت هو وسكتت هي، وطالت النظرات بينهما لكن الخوف حل محله في قلبها وبدأت الوساوس تلعب بعقلها، فما هو رد فعلها؟

كان يجلس بجوار الخيول بمظهرهم الساحر وهو يقف يتابع كل حركةٍ تصدر عنهم، صوتهم وعزتهم وشموخهم وحبهم لأنفسهم، كل شيءٍ يشبهه كثيرًا، وقف في انتظار النتيجة بأعصابٍ مقتولة، في المعتاد تأتي في حلول يومين وحدها الأقصى خمسة أيام، لكن بتدخل المال أصبحت تأتي خلال ساعات، حل الليل وبدأ فكره ينشغل بما هو قادمٌ عليه ليصدح صوت هاتفه بنتيجة التحاليل من قلب المعمل، النتيجة وصلته فور الحصول عليها فتحها بأعصابٍ غادرت جسده بعدما تلفت تمامًا وكأنها نتيجة الصف الثانوي ومن بعدها يتم تحديد مصير الطالب نهائيًا.

لكن هذه، هذه يترتب عليها حياة أخرى وانتقام وثار للنفوس التي كانت مثل اللعبة في أيدي متحجري القلوب، لذا قرر أن يفتح هاتفه أخيرًا ووصلته النتيجة التي سبق وتوقعها، حيث أن، نادر ابن سامي السيد و إسماعيل لم يكن ابنًا ل نَعيم، هنا زفر بقوةٍ بمشاعر متباينة مع بعضها، لم يفهم أي شيءٍ هل يفرح لأجل أصدقائه أم يحزن لأجل عمه؟ هنا سيتوجب عليه أن يذهب إلى حارة العطار حيث مسقط رأس سامي أو يتم خطف سامي، هذه الفكرة التي جالت بخاطره سينفذها، لذا قرر أن يبدأ في تنفيذ الخطوات من جديد.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة