رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل الثالث والتسعون
مُنذر! كنت عارفة إنك هتيجي عشاني.
وجملتها كانت خير دليلٍ على تصديقها له ولوعده الذي قطعه، فهو لم يكن بطلها المُفضل لو لم يفعلها ويعود لها ويُعيدها لأرضها من جديد، كانت قصتها تشبه قصة أسطورية من بين تلك القصص التي كان يسردها إيهاب عليها وهي تصدقه وتصدقها والآن تعيش قصةً منهم، خرجت من العناق تطالع وجهه بغير تصديقٍ فوجدته يطالعها بلهفةٍ ثم مسح عبراتها وعاد يضمها من جديد وهو يقول بصدقٍ:.
الحمدلله إني لقيتك، الحمدلله.
وفي تلك اللحظة خرج أحمد أخيرًا وما إن لمحه وقف بتيهٍ أمامه لثوانٍ حتى وجده ينزل الفتاة أرضًا ثم وقف أمامه يعرفه بنفسه قائلًا بزهوٍ وشموخٍ:.
معاك مُنذر الحُصري ابن أخو الحج نَعيم مش فاكر إننا اتقابلنا وش لوش قبل كدا بس تخيل بسببك أنا قطعت المسافة دي كلها علشان آخد اللي ليا، بيتهيألي كدا وماظنش هتكون معرفة خير بينا، خصوصًا لو متفقناش على حاجة واحدة من اللي أنا عاوزها، ساعتها كل كلامي دا هيتغير وهتكلم بطريقة تانية، تحب نقول كلام غير دا؟
سكت أحمد ولم يجد قدرته على الحديث، ابتلع لسانه وفضل الصمت على الكلامِ لكنه رأى تعلق الصغيرة به وهي تقبض فوق كفه كأنها تخشى رحيله، خاصةً حينما قال عمها بهدوءٍ أشبه بهدوء ما قبل العاصفة:
طب ممكن تتفضل ونتكلم بالهدوء والعقل؟
حينها زادت قبضتها الصغيرة تمسكًا بكف مُنذر الذي مسح فوق رأسها كأنه يُطمئنها ثم ولج معه للداخل وهي في قبضة يده لازال يتمسك بها خاصةً بعدما لمح نظرات عيشة له ولها وأدرك أن غيرة المرأة تنتصر في النهاية.
جلس الرجلان مع بعضهما وقد زاد تمسك الصغيرة بمنقذها الذي لمح خوفها البائن فقرر أن يقوم باستغلال هذا الخوف لصالحها هي قبل نفسه، فأخفض رأسه يسألها بخفوتٍ: أنتِ كلتي حاجة؟
حركت رأسها نفيًا فمسح فوق خصلاتها وقال بصوتٍ هاديءٍ: روحي هاتي أكلك وتعالي علشان أأكلك الأكل كله يلا.
حركت رأسها موافقةً بحماسٍ ثم تركته، بينما عمها فزفر بقوةٍ ثم رفع رأسه يتحداه بقوله القوي الذي تملكت منه قوة كان سببها وصايا من محكمةٍ أعطتهُ الحق في وصاية الصغيرة له: أنا لاحظت إنها متعلقة بيك، علشان كدا فضلت أسكت قصادها، بس أنتَ مش هتقدر تاخدها مني، أنا معايا حكم محكمة بوصايتي عليها، القانون مديني كامل الحق، ولو فكرت تعمل حاجة أنا هطلع على السفارة هنا وهما هيتصرفوا، بنت أخويا معايا ومحدش يقدر ياخدها مني، وتقديرًا بس ليك هخليك تقعد معاها زي ما أنتَ عاوز، أكتر من كدا لأ.
في تلك اللحظة كان مُنذر وصل ذورة الغضب، خرج من طور التعقل وأصبح في متاهات الهمجية والبدائية حتى أن أمر اقتلاع رأس أحمد من مكانه كان أسهل عليه مما يظن، لكن ثمة اسم واحدٍ فقط ظل يتردد بالعقل يحذره من تماديه بأي فعلٍ كي لا يخسر عودتها معه، لذا وقف أمام أحمد وقال بصرامةٍ:.
الحق دا تبله وتشرب مايته، مفيش حاجة هتخليني أسيبها ليك غير إنك تقتلني وتاخد روحي، علشان دي الحالة الوحيدة اللي هتلاقيني فيها مستسلم ليك، غير كدا لأ، والبت غصب عن أهلك كلهم هترجع، ومتنساش إن أهلك هناك تحت حمايتنا، وأبوك راجل كبير مش حمل بهدلة، الحكاية بسيطة، تدينا بنتنا هنسيب أهلك في حالهم، وأنتَ تعيش حياتك مع مراتك وعيالك، كل طير أولى بلحمه.
أديك قولت أهو، ودي لحمي ومن دمي، عاوزني أسيبها للغرب وياريتهم ناس عدلة، دول ناس مش هيقدروا حتى يوفروا ليها سمعة كويسة، الناس كلها ملهاش سيرة غير خالها وصاحبه اللي اتجنن بسبب شغلهم الشمال، أسيبها تتربى بفلوس حرام وسمعتها تبقى في خطر طول عمرها؟ حط نفسك مكاني كدا، وقولي هتقبل ليها بالظلم دا؟
ولأن الظلم أنواعٌ، وأشكاله كثيرة أتت هي بنوعٍ آخر من الظلم.
أتت الصغيرة تحمل صحن طعامها وهي تقول بلهفةٍ فرحة بسبب ظهور بطلها المُفضل من جديد وإنقاذه لها:
أنا ماكلتش خالص من بدري، بس لو هتأكلني أنتَ هاكل طبقي كله مش هسيب حاجة منه، وكل معايا علشان مش بحب آكل لوحدي.
لمح الإنكسار في عينيها وصوتها، أدرك أن الظلم وصل وتمدد لداخل قلبها حتى أن عمرها الصغير تحمل أكبر بكثيرٍ مما يفترض أن تتحمل، لذا التفت بكامل جسده لها وسألها باهتمامٍ يقتنص الجواب أولًا من عينيها قبل لسانها:
هو أنتِ هنا مش بتاكلي مع حد؟
حركت رأسها موافقةً تؤكد حديثه الصادق وحينها توسعت عيناه بغير تصديقٍ ثم التفت لعمها يرشقه بنظرات نارية حادة ثم عاد يلتفت للصغيرة ثم مسح فوق رأسها وحرك رأسه يلمح الشرفة التي تشبه الحديقة الصغيرة، فتنهد بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
روحي أقعدي هناك وأنا هخلص مع عمو وأجيلك.
تحركت بعدما تركت صحنها بينما هو انتظر رحيلها ثم التفت له ونظراته تزداد حدة وإنفعالًا ثم ترك العقل جانبًا واتبع جنونه حينما هجم عليه كما الوحش الضاري ثم قبض فوق سترته وقال بصوتٍ هادرٍ غيظًا وانفعالًا لأجلها هي:.
بقى هو دا العدل يا حيلتها؟ البت مبتاكلش وتقولي ترضالها بالظلم؟ هو فيه ظلم أكتر من كدا لعيلة صغيرة كانت عايشة متهننة بتاكل أحسن أكل وتلبس أحسن لبس؟ بص شكلها وشوف القهرة في عينيها بحياتها معاكم هنا، لو اللي هي فيه هناك دا كان ظلم، فهي هنا بتشوف منك الفُجر.
دفعه بعد أن أنهى حديثه ثم التفت يطالع المكان خلفه بتشتتٍ لحظي ثم عاد يُطالعه وهو يقول بجمودٍ:.
أنا جاي هنا وعارف كل حاجة، عارف إنك كنت بتحب أمها وكان نفسك إنها تكون من نصيبك، بس دا محصلش، النصيب جمعها بأخوك حي وميت، فاللي أنتَ بتعمله مع بنتها دا مش مبرر لحاجة غير إنك مريض نفسي، مش قادر تنسى مرات أخوك اللي حبيتها، فبتعوض دا في بنتها اللي هي صورة منها، يعني غباء وهبل، وبتخرب بيتك على نفسك، وآخرة اللي بتعمله دا مش هيفيدك بحاجة.
تعجب أحمد من نفسه أمامه وهو يفكر كيف تسهل قراءته للجميع بتلك الطريقة، هل هو وحده الذي يجاهد لإخفاء تلك الحقيقة؟ أم أنه حقًا يسهل القراءة والإفصاح عما بداخله منه عينيه؟ وفي تلك اللحظة ولجت زوجته وهي تقول بقوةٍ وتحدٍ له:.
اختار بقى أنتَ عاوز إيه، لو عاوز بنت أخوك يبقى أنتَ بتخسرني أنا وعيالك، وهرجع تاني مصر وأنتَ هترمي عليا اليمين ومش هتشوف عيالك تاني، بس لو فكرت شوية بالعقل وقررت تحسبها صح أنا هفضل معاك زي ما بدأت وجيت هنا معاك، بس غير كدا لأ، مش هقبل أعيش معاك وأنت عقلك بيفكر في واحدة تانية، وياريتها ليك حق حتى فيها، دي كانت مرات أخوك، يعني الغلط من كل النواحي.
سكت في هاته اللحظة، سكت وفضل الصمت على حاله وحال عشقٍ كان صعبًا منذ أن غرس نبتته الأولى في قلبه، فمنذ البداية كانت الزراعة خاطئة، كيف يأمل في حصادِ مثمرٍ؟
< أنا الموطن الرث الخرب، لا تقترب وإلا ستغترب >
إذا كنت تظنني مأوى؛
سأخبرك أنني الموطن الخرب،
وإذا كنت تحسب صمتي هدوءًا، فهذا الهدوء هو نتاج عقلي المُضطرب، وإذا كنت تراني بلادًا فأنا الرقعة التي فيها سوف تغترب، وإذا كنت ترى فيَّ خيرًا،
فهذا الخير زرعه بداخلي بعض الصالحين
ثم رحل وترك الغربة في داخلي تعترب.
عادت والخيبة ترافقها، وألم الروح يُصادقها، كأنها أكتسبت من الآلام رفقة جديدة لن تُفارقها، عادت من موطنها الذي غربها لتلتحد بموطنها الأم ومنه ولجت غرفتها حيث موطن الخيبات والآلام، عادت ضُحى في الليل بعدما تحولت آمالها إلى آلامٍ مُهلكة تُفتت قلبها الذي ظن الخير في أهله، ذهبت لموطنها يأويها فوجدته أقسى من بلادها وغربها عنه، نفى الحب الذي كان وقال أن كل ما كان قد كان.
لم تنس عناقه لها وتشبثه بها، لكن ثمة مشاعر ناقمة طمعت في المزيد منه، كانت تطمع طمع المحارب المستبسل عند عودته لموطنه أنه سينل التعظيم والتكريم، لكنه لم يتوقع ولو للحظةٍ خائنة بداخل سراديب عقله السوداء أن هذا الوطن سوف يتبرأ منه ويُنفيه كما لو كان مُذنبًا عظيمًا في حق أرضه ووطنه.
استشعرت قمر عودتها فولجت لها الغرفة بملامح وجه شاحبة والقلق يأكلها كأن هناك ما يُخيفها وحينها اقتربت تجلس بقربها وهي تقول بقلقٍ:
عملتي إيه لما روحتي؟ قولتلك بلاها خالص أنتِ مش حمل وجع زيادة يا ضُحى وتعب لروحك، استفدتي إيه غير إنك راجعة مهزومة كدا من كل الدنيا؟ كان ناقصنا يعني إسماعيل ييجي عليكِ هو كمان؟
تهاوت العبرات فوق وجنتيها وقالت بصوتٍ مختنقٍ وهي تواجهها بعينيها الدامعتين وتعبر عن اختناق روحها:
كان واحشني يا قمر وكان نفسي أشوفه، خدتها حجة علشان أتأكد هو عاوزني ولا لأ، قولت يمكن قلبي يصعب عليه ويفتكرني، افتكرت نفسي قدام إسماعيل اللي أنا حبيته وحبني، بس إن جينا للحق ياريتني ما عملت كدا وروحت شوفته، جيبت لنفسي وجع أكبر من اللي فات كله، ياريتني ما شوفته ولا روحتله.
انهارت باكيةً وهي تخبرها بجملتها الأخيرة وفي تلك اللحظة ضمتها قمر وتركتها تبكي كما تشاء، لم تعاتب وتلقي باللوم، حتى لم تحاسبها على فعلها وإنما تركتها ترتكن إليها كأنها خير الجدار وخير المُتكيء لنفسٍ مائلة لم تجد ما يُساندها.
تركتها قمر وخرجت من المكان وكل ما يدور ببالها هو عدم جواب زوجها على مكالماتها، وعدم قدرتها على تواصلوا معه، لذا عادت تكمل صنع الطعام حتى تستطع الرحيل من البيت والذهاب لزوجها كي تطمئن عليه.
أما ضُحى فتحركت نحو الصندوق القديم الموضوع فوق طاولة الزينة ثم التقطته وفتحته بتروٍ وأخذت منه الخطاب الموضوع بداخل مظروفٍ فرعوني بُني اللون، كان خطابًا وصلها منه لكنها لم تهتم بفتحه قبل زفافهما، كانت تأمل في قراءة الخطاب أمام عينيه وتلمح تعابيره هو بذاته، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السُفن، اليوم تفتح الخطاب بالإجبار لعلها تفلح في مواساة نفسها، أو ربما يكون هناك من الحديث ما يريح قلبها العليل.
كانت البداية بالسلام أولًا والكلام ثانيًا حيثُ:
السلام عليك وعلى قلبكِ أيتها الضُحى.
وإن لم تجدِ مني وداعًا فهذا وداعي لكِ، وداعي حيث أنا هُنا وأنتِ هناك في الضفة الأخرى ويفصل بيننا نهرٌ كان ينضب ويصب في قلبي صبًا، اليوم يكتب لكِ قلبي بضعفي وقلة حيلتي،.
يكتب مني ذاك الجبان الذي يخشى الدنيا بقدر ما يخشى الصغير الزحام فيمسك في ذيل عباءة أمه وهي تسير وسط الناس، أنا هو ذاك الطفل الذي أراد أن يتمسك في طرف عباءتك حتى لا أتوه عنكِ وتفلت يدي عن يدكِ.
اليوم أكتب وأنا الخائف من شيءٍ مجهولٍ لا أعرفه، لكن قلبي يراه، قلبي الذي اعتاد غدر الدنيا يعلم أن فرحتي تلك ينقصها شيءٌ، وهذا الشيء قد يكون التصديق من قلبي، فأعذريني عزيزتي، فعالمنا هذا لم يترك لي فرحةً واكتملت،
وإنما كل شيءٍ كان يُسلب مني ومعه يضيع جزءٌ من الروحِ؛
لكنها دُنيا، والجدير بالذِكر أنها لن تَدُم طويلًا،.
لذا لعلنا في مكانٍ ما وفي عالمٍ ما وفي مدينةٍ ما، بطريقةٍ ما ومن وسط الزحام نتلاقى من جديد، نبدأ في عالمٍ يُنصف الحُب ويُعيد لنا الذكرى، نبدأ ولا نُبالي بكل ما كان في العالم الخالي،.
وبشأن معرفتكِ لا تقلقين، سأجدكِ من بينهن، ومن وسط الزِحام سوف أعرفك، عيني ستعرف عينيك، قلبي سينادي قلبك، كفي سوف يرتفع ويلوح مُناديًا لقلبكِ كي ينتبه له ويمسك بكفك كي يعانقه، ولا تنخدعي بمظهري القوي، فأنا أرق من جناح طيرٍ مكسورٍ، لذا سأجدكِ يا طيري، ولن تهنأي مع غيري،
سأعلمك وأعرفك؛ وكيف لا أفعلها وأنتَ الضُحى من بعد ليلٍ مُعتمٍ حتى اسميتك أنا من فرط أملي ضُحاي،
كيف لا أفعلها وأنا الطير السجين.
ومن بين كل الحُريات والمواطن كنتِ أنتِ سماي؟
مرة وثانية وثالثة تكرر الخطاب بعينيها، فتذهب الكلمات لقلبها، مرة وأخرى وأخرى تقرأ بالعين ويبكي القلب، لا تعلم هل تصدق الحديث المكتوب، أم تُكذب القلب الذي يخبرها بحقيقة ما تم تدوينه، أم تهرب من كل شيءٍ حولها وتسبقه لهذا العالم الآخر لعله يأتِ لهناك فيعرفها!، كل شيءٍ حولها يدعوها للإقتراب إلا عينيه، قالت ما لم يسع للقلب جهله، والحديث كان: لا تقترب، إن كنت تحسبني موطنك،.
أنا الوطن الرث الخرب، وفي حناياه عن نفسك سوف تغترب.
< أما القلب فهو يعرفك وأنتَ أهله بكل ناسه >
القلوب مرآة القلوب.
فمن غير القلب أدرى بالقلب الآخر الذي يُعاني؟
ومن غير النصف الآخر يشعر بالنصف الثاني؟ فهذا قلبي وهذا قلبك وأمسى الاثنان قلبًا واحدًا إذا تألم نصفٌ؛ تألم لأجلهِ النصف الآخر، أنا هنا وأنتَ هُناك وقلبي مرآة قلبك أينما كنت وأينما حلت خُطاك.
يعود أخيرًا والعودة لبيتهِ تشمل معنى السكن وتفسر مقصد الراحة، نعم لم يكن بيتًا مثاليًا كما يظن ويحسب، لكنه بيت الحياة كما يفهم، يعود لبيتهِ هاربًا من ضجيجٍ يسكنه ولا يتلاشى إلا برؤيتها، كل شيءٍ هنا يهدأ من الثورة وكأنها الهُدنة له من طرف الحرب قبل أن يعود لقصفهِ المُبرح من جديد، ولج الغريب مدينته ووطأ بقدميه شقته وهي تقوم بتحضير الأطباق كما المُعتاد منها كل يومٍ عند قدومه، لذا ما إن ولج أتت هي تقول بلهفةٍ:.
ابن حلال وأمي شكلها بتموت فيك، لسه كنت بغرف لنفسي علشان آكل، هتاكل معايا بقى صح؟ مش هتعمل زي كل مرة!
وفي الحقيقة هي تعلم الجواب مُسبقًا، سوف يرفض الطعام ويخبرها أنه تناول الطعام في السابق في العمل مع الزملاء، وهي تعود وتتناول الطعام وحدها، لكن تلك المرة لن تصمت، لن تقبل بهذا الوضع، لذا تركته يدخل غرفته ويبدل ثيابه، بينما هي وضعت الطعام لنفسها وقبل أن تبدأ تركت الملعقة وهي تُغمغم لنفسها بما لا يُفهم من الكلام ثم ولجت له مباشرةً وهي ترفع صوتها في وجهه بقولها:.
دي مش عيشة على فكرة بقى، مش كل يوم هحضر الأكل وتيجي واكل من برة يا يوسف كأني جارية عايشة هنا، خلاص طالما بتاكل برة بلاها أكل ووقفة وتعب ومجهود على الفاضي، وأجيب ليا أكل من برة أنا كمان بقى، أهو نوفر برضه.
لاحظ ثورتها عليه فالتفت يبحث مع من تتحدث بتلك الطريقة ثم عاود النظر لها وقال مستفسرًا بسخريةٍ بالغة ظهرت في حديثه وتعابير ملامحه وعينيه:
أنتِ بتكلمي مين كدا يا عهد وبتعلي صوتك؟
رفعت كلا حاجبيها باستنكارٍ أمامه وحينها تجاهلها هو ثم تسطح فوق الفراش وفرد جسده أمامها حتى اغتاظت هي أكثر وحينها اتجهت نحو الفراش ثم سحبت الوسادة من أسفل رأسه وضربته فوق وجهه بها، في تلك اللحظة وأمام شياطينه الحاضرة قفز من موضعه يُطالعها بنظراتٍ حادة جعلتها تقف كما الورقة في مهب الريح أقل فعلٍ يصدر سوف يُطيح بها
طالت النظرات بينهما وهو يبث فيها الرعب أمامه ثم مسح وجهه بكلا كفيه وقال بيأسٍ:.
أنا دلوقتي في جوايا واحد عاوز يجيبك من وشك دا يكسر عضمك لحد ما تخفي من وشي ملمحش وشك تاني، وفيه جوايا واحد ابن حلال وطيب بيقولي خُدها على قد عقلها وأخزي الشيطان ونام علشان دي مخها تعبان ودماغها على قدها، وأنا مش عارف أسمع كلام مين فيهم، بس لو سيبت نفسي عليكِ هطبق وشك يا عهد والاحسن تخرجي برة.
توسعت عيناها أمامه ووقفت تفكر هل طريقة حديثه الجادة بشكلٍ بالغ الأثر توحي بأن ما يتفوه به صحيحٌ؟ هل حقًا ينوي فعلها إذا اقتربت منه؟ لذا تمردت على حالها واقتربت منه تقول بتحدٍ له:
ولو مخرجتش يا يوسف إيه هتمد إيدك عليا؟
التفت لها من جديد في تلك اللحظة يُحدجها بنظرة نارية ثم ضرب كلا كفيه وقال بجمودٍ ونفاذ طاقةٍ للتحدث والكلامِ:.
هو فيه حد مسلطك عليا يا عهد دلوقتي؟ جاية ترازي فيا وخلاص كأنك فاضية وأنا دماغي طايرة؟ جاي مش قادر ومش عاوز آكل ومش عاوز حاجة، خلاص خلصنا، مش كل حاجة هتعوزيها عندي هتلاقيها يا عهد ودلوقتي بالذات أنا مش قادر حتى أحرك عينيا، فهمتي ولا لازم أفسر تاني؟
حينها أدركت أن المزيد من الحديث قد يُغلق الطرقات المتبقية، لذا أولته ظهرها وهي تغمغم بغطرسةٍ وعنفوانٍ ولم يلتقط هو معظم الكلمات لكنه آثر الصمت ونام فوق الفراش يشعر حقًا أن طاقته الفارغة أصبحت تصدمه بها هي، ما يُعانيه طوال اليوم بالخارج يُلقيه عليها هي وحدها، لذا أغمض عينيه وظل بعيدًا عنها حتى لا يصطدم بها من جديد وتلك المرة تأخذ الأوضاع حجمًا أكبر من السابق.
ولأن الود يعود في الحديث فياليت كل الأحاديث بالودِ تزداد وردًا كما يحدث الآن، فهذا الذي أصبحت المخاوف تحاوطه يلجأ لمدينة آمنة كانت تغلق في وجهه أبوابها كي لا يخترق أي حصنٍ من حصونها، والآن هي بذاتها من تفتح المدن وتختلق الأحاديث معه وهو يعلن إنهزامه وضعفه وقلة حيلته وهوانه، جلس عُدي يستمع لحديث خطيبته في الهاتف وهي تقول:.
كل دا هيعدي متقلقش، الدنيا للأسف مش بتدي كل حاجة وفي نفس الوقت ربك كريم وبيعوض، هيعوضك ويعوضها وكل دا هتفتكروه لما تنسوه وتضحكوا عليه كمان، أختك محتاجة ليك دلوقتي و نادر هيرجع كويس متقلقش، بلاش بس تحبط نفسك، حاليًا أنتَ الحيطة اللي كله بيتسند عليها، باباك ومامتك وعيلتك كلها حتى يوسف كمان واقف علشان أنتَ في ضهره، وأنا بصراحة قولت أدخل معاهم وبقيت بتلكك أنا كمان.
ابتسم رغمًا عنه ثم حرك كفه يقوم بفرك خصلاته وعاد يقول بقلة حيلة حقيقية ورغبة عارمة في الحصول على ماضٍ فات ومر ولم يعد:.
عارفة يا رهف أنا عمري ما كنت متخيل إن حياتنا تتشقلب كدا، من كام شهر بس كل حاجة كانت مظبوطة بشكل غريب، افتكرتها حياة سعيدة سعادة مطلقة، كنت فاكر إن أكبر أزمة عندي هي إني ملحقش اللي بحبه، بس ماكنتش أعرف إن وجع اللي بنحبهم بياكل فينا، خصوصًا لو هما فاقدين الحيل وعشمانين فينا إحنا، تحسي إنك متكتفة وبتتفرجي على غريق في عرض البحر.
حينها قررت هي تأخذ دور الجدار بدلًا عنه لذا قالت بصدقٍ:.
مفيش حياة حد مثالية يا عُدي ومفيش سعادة أبدية ومطلقة، لازم نختبر كل لون وطعم علشان نقدر نميز بعد كدا، الحياة مش لون واحد ومش رِتم واحد، دي مليانة حاجات كتيرة وإحنا بس بنخرج من كل مرحلة فاكرينها الصعب والمستحيل ونفتكر إننا مش هنلاقي صعوبة زي دي، بس الغريب بقى إن بييجي الأصعب علينا ونسأل نفسنا أومال عدينا قبل كدا إزاي، الصعب بيعدي أكيد، وبييجي الأصعب، بس إحنا مبننساش، إحنا بنحاول علشان عيبة في حقنا نقف من غير محاولة.
في تلك اللحظة وقبل أن يتحدث ولجت له قمر فأضطر هو آسفًا أن يغلق المكالمة مع رهف التي ودعته ثم عادت للعمل الخاص بها تتابعه، بينما هو ركز بعينيه مع أخته التي تنهدت بقوةٍ ثم وقفت تقول بخوفٍ:.
أنا هروح الشقة أشوف أيوب علشان مش بيرد عليا ومراحش المسجد، وسألت نِهال عليه قالتلي إنه وصل من بدري ومظهرش تاني، كل حاجة هنا خلصتها، الأكل والمطبخ، والهدوم كمان، سيب مامتك نايمة علشان تعبانة والسكر عالي عليها بقالها كام يوم، يلا عاوز حاجة؟
في تلك اللحظة انتفض من مكانه ثم سحب قميصه يضعه فوق السترة القطنية التي يرتديها ثم هندم نفسه وقال بهدوءٍ لها:.
الساعة بقت 11 بليل يا قمر استني آجي أوصلك أنا وأتطمن عليه معاكِ، بعدين عاوزاه يقول واخدينها مني وجايبينها لوحدها بليل؟ دي تبقى عيبة في حقنا وحاجة تعرنا يا قمر.
وقبل أن تعترض هي أو ترفض قادها للخارج وهي معه قلبها يتحرك بلهفةٍ نحو نصفه وجسدها يندفع للأمام بفعل نبضات خافقها، كانت تُقاد وتُساق لهناك ومعها عُدي الذي لاحظ لهفتها لكنه آثر الصمت وعدم الاستفسار حتى لا تنزعج وتضطر للكذب، وما إن أوصلها للبيت قال بنبرةٍ هادئة:.
أطلعي يلا وطمنيني عليه، وأنا هتحرك علشان أشوف ضُحى وأعرف منها حصل إيه هناك مع إسماعيل المهم بس تخلي بالك من نفسك ومن جوزك وخليكِ هنا ماتجيش تاني يا قمر علشان بيتك أولى وأحق بيكِ، يلا أطلعي يا حبيبتي.
أومأت له ثم ودعته وأغلقت الباب خلفه ثم تحركت نحو الأعلى حيث شقتها، كانت تركض وتهرول تقفز الدرج وتتسلقه حتى وصلت وفتحت باب شقتها، وما إن ولجت وصلها صوت القرآن من المذياع ورائحة البخور تفوح بالشقة، لوهلةٍ اطمئن قلبها، لكنها ولجت غرفتها مباشرةً فوجدته ينام فوق الفراش بهدوءٍ وسكونٍ، اقتربت منه وقامت بتحسس بشرته وحينذاك توسعت عيناها.
وجدت جبينه ساخنًا بشدةٍ أسقطت فؤادها، والإحمرار يغزو وجهه، ولو دل حاله على شيءٍ فمن المؤكد هي حالة إعياء صريحة، لذا تحركت بخطواتٍ واسعة وتوجهت نحو المطبخ تجلب الدواء من المُبرد، ثم أتت بعلبة ووضعت بها قطع الثلج وقطعة قماشية ثم جلست بجواره تُراعيه في حالته تلك.
جلست بخوفٍ فتت قلبها وهلعٍ قبض على روحها، ويدها تعمل بمسح جبينه ووجهه وهو ينام بتلك الهيئة المؤلمة التي جعلتها تطالعه بشفقةٍ ثم تحركت تخلع ثيابها وترتدي منامة بيتية ترتاح فيها ثم جلست فوق الفراش وضمته لها تضع رأسه فوق موضع نبضها وكفها يمسح فوق خصلاته وجانب وجهه، ظلت هكذا حتى وصله عبيرها واستشعر تواجدها بجواره، وما بين الحقيقة الصادقة والخيال الحالم فتح عينيه المشوشتين فوجد خصلاتها تسقط بجانب وجهها وعيناها ترصد عينيه بلهفةٍ قلقة قرأها.
ابتسم رغمًا عنه وعاد يُغمض عينيه ثم قال بصوتٍ واهنٍ:
لو أنتِ هنا بجد هاتيلي أشرب يا قمر أنا عطشان أوي.
وفي نفس ثانية الطلب كانت تُسقيه المياه وتُسقي روحه أيضًا، منت عليه بالرؤية والتروية حتى فتح عينيه من جديد يُطالع وجهها ثم قال بصوتٍ أجشٍ ورغم ذلك كان عميقًا ودافئًا:
مكانش نفسي تيجي وأنا خربان كدا، حاسبي تتعدي.
مسحت فوق رأسه بحنوٍ ثم لثمت جبينه وقالت بتأثرٍ لأجله:.
فداك، فداك أنا يا أيوب قولي بس أنتَ عاوز إيه؟
من جديد يتأكد أنها النصيب الخاص به وخير ما نال من الدنيا، لذا عاد واستقر برأسه فوق كتفها ثم صمت لثوانٍ يفكر كيف يخبرها أنه في تلك اللحظة وفي ضعفه وفي أمس حاجته لا يحتاج إلا تواجدها بجوارها، لذا كانت جملته كافية ووافية حينما قال:
كفاية أنتِ هنا من كل الدنيا، يا أنتِ بكل الدنيا، يا بلاها الدنيا بحالها من غيرك يا قمر.
أنهى حديثه وأغمض عينيه يستسلم للنوم من جديد، بينما هي فبقيت بالجوار مستيقظة لأجله ولأجل رعايته والذنب يتفاقم بداخلها لأجله، كلما فكرت في تلك اللحظة وفي حالته وكيف كانت تبعد عنه طوال الفترة السابقة وهو وحده بغيرها، حركت رأسها للخلف تمسك هاتفها فوجدته كتب فوق ورقة التقويم بتاريخ اليوم:
يا يُمنى عيني أخبريني متى اللقاء؟ .
واللقاء كان غير معلومٍ لكن القلوب تعرفه جيدًا.
فالروح تواصل الروح، والقلب يشم رائحة القلب
وهي اختارت التوقيت الممتاز وذهبت له حتى تخبره أن لقاء العين بالعين كان ولازال أكيدًا.