رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وأربعة وعشرون
في روايةٍ ما لكاتبٍ مختل العقل.
ستجد البطل هو الشرير بذاته، هو نفسه الشخص الذي يجعلك تتساءل أين مثالية البطولة المُطلقة وأين الأخلاق الحميدة التي تُبنى عليها مواصفات الأبطال، فدعني أخبرك أن هذا العالم المثالي الذي تنتظره مني؛ ستجده هناك في المدينة الفاضلة، أما هُنا. هُنا حيث العالم الفاسد والبطل الشرير مُنقذ الجميع.
قتل الفاسد ودفن الفساد وجذَّ الموضوع من جذوره.
المعادلة معه أبسط مما يُخيل له وللآخرين، فعلها بكل سهولةٍ وهو يقضي على فاسدٍ والذنب لم يقع عليه، تحول جُرمه لبطولةٍ يستحق عليها كامل التقدير، جريمة في حق القانون، معروفٌ في حق الإنسانية، الكُل يرى الموضوع من جانبه، أما هو فكان على يقينٍ أن فعلته تستحق أن يُكرم عليها، لقد واجه الوحش وحده، عاش معه في كهفه لستة أشهر متواصلين، تحمل النظر في وجهه البغيض كل يومٍ، إلا أن حانت اللحظة وأسقط الكهف فوق رأسه.
فاسد، فاسد وفساده طال أرواح كتيرة.
نطقها أيوب حاسمة، قاطعة لا تقبل التشكيك، يُقر بصفة المجني عليه أنه سبق وكان جانيًا، والجزاء من جنس العمل بكل تأكيدٍ؛ فتنهد إيهاب براحةٍ كأنه وصل أخيرًا لمحطته المرغوبة قبل أن يُقلع الفطار، وأضاف بثباتٍ يُحسد عليه في لحظةٍ كهذه يدلي بخبرٍ وذنبٍ:
وأنا قتلت الفاسد ودفنت الفساد.
بكل يسر نطقها رغم تعسر الكلمات على طرفه، أقر بالذنب بكل بساطةٍ كأنما يخبره عن مؤهله الدراسي، جعل من أمامه يرتاب، ينتابه الخوف، حيث أتى سؤاله تائهًا، كأنه ولج طريقًا غير الذي كان ينتويه، ففُوجيء بجدارٍ سدَّ عليه التحرك:
عملت إيه؟ معناه إيه كلامك دا؟
أتت البسمة الظافرة كردٍ على السائل ثم جاوب إجمالًا ما قبل التفصيل والتفنيد:
معنى كلامي إني قتلته، قتلت ماكسيم.
ثم فصَّل الحديث وقام بتفنيد المقصود تفصيلًا ما بعد الإجمال:.
الحق مش قتلته بس، أنا خطفته، وحبسته وضربته، ذليته تحت رجلي، خليته زي الكلب المسعور اللي مضروب حقنة، حتى اللقمة كنت بديهاله بالمزاج، ومش علطول، أنا كل مرة كنت بشوف في وشه عمايله السودا كلها، كنت بزيد افترا وغضب ونار، كأني شايف قدامي واحد يهودي في أرضي، عمري ما هنسى اللي حصل في إسماعيل ومنظره وهو راجعلي، عمري ما هنسى أول مرة عقله رجعله في المستشفى وفاق وعرف حصله إيه واتكسر قدامي، حلفت وقتها لو موت ماكسيم بروحي كلها ماكنتش هستخسرها، أصلها مش خناقة في حارة، دي روح إسماعيل يعني روحي، وروحي تمنها غالي.
كان أيوب في أوج صدماته، يقسم أنه لم يعش في حياته مشهدًا بهذا الكم من الذهول، رفرف بأهدابه مستنكرًا، ثم عاد للخلف مرتخيًا كأنه استفاق من غفوةٍ، دامت النظرات في تضادٍ بينهما، نظرات عاكسة لشخص كليهما، وقد نطق أيوب أخيرًا مستفسرًا كأنه يرغب في التوكيد:
أنتَ بتتكلم جد؟ قتلته؟ إيهاب دي مفيهاش هزار.
وأنا مش بتاع هزار، حط نفسك مكاني يا أيوب واحد داس على طرف أخويا؛ المفروض أسمي عليه؟ هروح أتساير معاه وأفضل أتكلم قصاده كأنها خناقة ستات في حارة؟ الحسبة سهلة أوي، دا أخويا وواحد جيه عليه، الحل كان بسيط روحه كلها، وهو دا الحق، أي حاجة غير كدا تبقى هبل وعبط.
اندفع أيوب بعدما استمع لحديثه وقال بلهفةٍ قاطعة:
طب وبيتك وبنتك ومراتك؟ مفكرتش فيهم؟
وهنا استيقظ الذنب من جديد، تذكر جُرم فعلته، فداحة تكبره وتعنته، تذكر كيف كانت نظرات زوجته تقتل كما السهام الحادة، شعر كأنه أوضع الناس وأحقرهم منزلةً؛ لكن ثمة واجبٍ كان يدعوه لأخذ حقه، يدعوه كي يثأر، يثور ويجول في الأرض مستعيدًا لحقه المنهوب، فأضاف بثباتٍ وقوةٍ:.
فكرت فيهم، وعلشان تفكيري فيهم صممت أنهيها، بس تفكيري في إسماعيل كان عاميني، تخيل يبقى ليك أخ نصك التاني وروحك كلها، وييجي يغدر بيه ويكسر نفسه ويكسرك ويذلك، يقهرك على لحمك ودمك، المفروض اسكتله؟ بالعكس دا لو عملتها أبقى مش راجل، حق الروح والدم، دم برضه، معاك حق إني كان لازم أفكر في مراتي وبنتي وبيتي، بس مش على حساب دم أخويا، عارف ليه؟ علشان كدا هبقى ندل، مش راجل بمعنى أصح، وباللغة بتاعتنا لامؤاخذة.
أيقن أيوب أن من يجلس أمامه فعلها؛ هذه النظرة وهاته النبرة لم تكن أيًا منهما كاذبةً، ثباته ونظرة عينيه يتحدثان عن فعلته، وهو وقع في فخ الحيرة، جزء في قلبه شعر بالأمان يغمره، فهو حتى تلك اللحظة كان يخشى على زوجته التي رغم عدم تجديدها للحديث؛ إلا أن الخوف لازال ظاهرًا في عينيها، كل شيءٍ حوله كان يُخبره أنها حتى لو لم تُفصح عنها إلا أن عينيها قامت بالإعلان عنها آلاف المرات.
عاد لمن يجلس أمامه بعد غوصه في رحلة التفكير فوجد إيهاب يميل عليه نحو الأمام وقال بثباتٍ يُحسد عليه من هو في موقفه:.
أنا جيتلك مخصوص علشان يوسف قالي إنه زعلان على خوف أخته، والسبب اللي خلاني ماقولش ل يوسف حاجة هو إن يوسف متهور، ردود أفعاله مش محسوبة، لو كنت خليته يلمحه مش بعيد كان خلص عليه في نفس اللحظة، كان هيضيع نفسه ويضيعنا كلنا، وآخرتها نلبس قضية ومش قضية سهلة، دي قضية دولية، ماهو لا أنا ولا أنت? ولا غيرنا هنقدر نعمل حاجة مع دول، هيتداس علينا ونروح ضحية، لكن حق الرد مكانش حد هيعترف بيه، أنتَ نفسك كنت هتقوله.
ولسه عاوز أعمل كدا، لسه عاوز أطفي ناري ونارها، اللي سمع غير اللي شاف، والاتنين غير اللي عاش وجرب، عمري ما كنت أتخيل إني أجرب حاجة توجع أكتر من اللي جربته، كان ابتلاء صعب، لدرجة إني سألت أنا عملت إيه يخليني أعيش كل دا، كنت هيأس وأجحد على نعم ربنا، كل مرة كنت ببصلها وهي خايفة مني وخايفة من بيتنا كنت بفضل أفكر إزاي أردله الخوف دا، يمكن من رحمة ربنا بيا إنه موقعش تحت أيدي، علشان أكيد رد فعلي مكانش هيختلف عن رد فعل يوسف.
في تلك الثانية بالتحديد كان اليقين باترًا لكل شكٍ.
وجع الأحبةِ وإن تفاقم يوصل لحدَّ القتلِ، قتلٌ حتى قد يكون لكل المباديء والأخلاق السامية، لحظة وجعٍ وألمٍ في نظرة من نُحب تقتل فينا آلاف المرات، تيقن إيهاب أن القتل واحد واختلفت الأسباب، ليس الموت فحسبٍ؛ وإنما القتل.
إزهاق الروح حتى الخلاص، إجهازٌ على العُنق حتى تتعثر فيه الأنفاس، فيتوقف على إثرها كل شيءٍ، وباختلاف الأسباب وتوحد وانفراد القتل، يتلخص المبدأ الأوحد في زريعة البشر
الغابة تُبرر الوسيلة وهو وغيره غايتهم لم تكن مجرد قتلٍ؛
وإنما هي تبريء وطنٍ.
لم يتردد قبل أن يفعلها، أخرج هاتفه، فكر لثانيتين، أخذ القرار، حسم أمره، وضع الهدف نُصب عيني من يجالسه، وأضاف آخر البراهين الملموسة لديه على جُرمه وصنيعة يديه:.
دي آخر صورة ليه والبيت واقع عليه، الكلاب دخلت البيت فضلت تنهش في لحمه، بالظبط زي ما نهش عرضك ولحمك، وزي ما نهش لحم الغلابة، ماكنتش عامل حساب لحظة زي دي، بس ربنا يُمهل ولا يُهمل، دلوقتي بس عرفت ليه في جنة ونار وحساب وعقاب، علشان اللي زي دا يجرب العقاب فوق الأرض، وفي الآخرة، آخر حاجة بس علشان أبقى خلصت ضميري قدام ربنا.
تردد قبل أن يسأل، كأنه يتأرجح فوق حبالٍ واهية كلما ظن نفسه وصل للنهاية؛ يعود من جديد للخلف حيث نقطة البداية خوفًا من نهاية الطريق المجهول، لكنه يعود ويحسم الجدل في نفسه ولنفسه بقوله:
هو فاسد، بس أنا مش قاتل؟
استفسر وكأن ضميره يُلح، نفسه تطلب منه الخلاص من الذنب، يُريد الغفران من نفسه عليه، يود لو ينتهي الأمر بتلك الخاتمة التي وضعها، فكان القول الآتي على نهج استفساره، حيث أضاف الحكيم الذي أخذ بيده من عُقر دار الظلام لرحمٍ وُلِد به النور:.
ما أنتَ قولت إن هو فاسد، وعرفت عقاب الفاسد في الأرض إيه، ربنا سبحانه وتعالى لما خلق البشر بهدف تعمير الأرض، الملايكة تقبلت الأمر بطاعة وسألت ربنا جل علاه، إزاي يخلق البشر في الأرض ويفسدوها؟ وجاء الرد من رب العالمين أنه يعلم، هو وحده من يعلم، والدليل قوله جل جلاله قال تعالى سبحانه العلي العظيم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ? قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ? قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
توقف هُنيهة يلتقط أنفاسه واستأنف الحديث بقوله:.
الشيخ أبو الحسن كان بيجاوب تلميذه العباس المُرسي، عن التساؤل دا، وعن إن ربنا سبحانه وتعالى نزل البشر للأرض دي عقاب، بس الحقيقة إن آدم عليه السلام كان يعبد بالجنة، ربنا سبحانه وتعالى خلق آدم وأكرمه، أسكنه في جنته، جعل الملائكة تسجد له، ثم نزل به للأرض، مش علشان ينقصه، بل ليكمله، جعله خليفة في الأرض، مش في السماء ولا في الجنة، فكان نزوله إلى الأرض نزول تكريم، ليست إهانة أو عقاب، لأن سيدنا آدم كان بيعبد ربنا وهو في الجنة بالتعريف، فأنزله الله للأرض للعبادةِ والتكليف، وكان الجواب على سؤال الملائكة قاطعًا حيث قال تعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. وعِلم ربنا ومعرفته ظهرت في تعليمه لسيدنا آدم بالأسماء كلها، فكوننا بشر فوق الأرض خُلقنا للعبادة، مُكلفين بالتسليم لرب العالمين، زي ما دورنا نحارب الفساد، ندافع عن الضعيف، ننصر المظلوم، نقف ضد هتك عرض كل ضعيف، فكونك باصص لنفسك إنك قاتل، هيحرمك من نظرتك لنفسك إنك مسلم مطلوب الدفاع عن كل ضعيف ومهزوم.
توقف عن الحديث يرى الصفاء يحتل عيني إيهاب بحديثه الذي لم يكن مروره عابرًا، فكان كما حكم البراءةِ على قاتلٍ ينتظر تحويل أوراقه للمُفتي، تنهد يُحرر أنفاسه المكبوتة داخل رئتيهِ، وعاد يُنصت لقول أيوب حين أضاف مقتبسًا من سالف حديثه:
{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}.
ماعنديش رأي أو كلام تاني يتقال أو يتضاف، دا قصاص وحق ليك، يمكن تكون طريقتك صعبة، أو يمكن كانت أكبر وأعنف، بس أنا ماعنديش حاجة أقولها غير إن ربنا سبحانه وتعالى حكم وشرع كل حاجة بالحق والعدل، ودا حقك وحق أخوك، وحق غيركم وغيركم، وهو دا دورنا في الحياة، إننا نقف قدام الفساد، ننصر الحق، الصحابي حمزة رضي الله عنه وأرضاه كان مُلقب بأسد الله، علشان قوته ومحاربته وقتاله ودفاعه الباسل، وكذلك سيدنا موسى كان مثال للقوة، كان أقوى الأنبياء جسديًا، ودا واضح في قول الله تعالى.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}
فالقوة هنا مش بس تعني القوة الجسدية فقط، بل هي قوة القلب والثبات والقدرة على تحمل المسؤولية، والأمانة صفة أساسية في كل نبي، وتتجلى في أمانته في تبليغ رسالة الله تعالى، ولذلك إحنا كبشر مسؤولين عن نفسنا في إننا نبص لحياة الإسلام والأنبياء وناخد العظة ونكمل الطريق بالحق يا إيهاب.
ابتسم الآخر، ابتسم باطمئنانٍ ثم وقف، وقف وأهدى من يُقابله بسمة بها شيءٌ من الأمان الذي غمر روحه كأنه نجى من لحظة غرقٍ، وقبل أن يغادر قال بنفس الأمان الهاديء في نفسه:.
عرفت ليه دلوقتي يوسف متمسك بيك للدرجة دي، عارف يا أيوب؟ يوسف عاش معايا عمره كله، أكتر من نص عمره كمان، جالي عيل صغير لسه يدوب باديء عوده يتشد، كنت فاكره مُرفه ومتدلع، ماكنتش أعرف اللي فيها، بس على قد ما عاش معايا عمري ما شوفته حب حد زي ما حبك، حبه ليك ماشوفتوش منه غير لواحد بس، هو مصطفى الله يرحمه، وعرفت ليه سماك الغوث علشان أكيد بتنقذه من نفسه.
ابتسم أيوب على ذكر الرفيق، تخيله نصب عينيه يثير حنقه كما يفعل ويُجيد الفعل، فتنهد بقوةٍ ثم وقف يواجه من يحدثه وقال ببسمةٍ حنونة:.
أنا طول عمري ماعنديش صحاب قريبين، أقرب حد ليا أيهم وبس، الوحيد اللي كنت بحسه يقدر يفهمني ويقدر يتحول لأي شخص علشاني، كان بيعرف علشاني يشاركني ويجاريني في أي حاجة، فماكنتش بعرف أصاحب ناس وأقعد وسطهم، كنت برتاح طول ما أنا لوحدي في المسجد، فمش هكدب عليك، بس أنا ماعنديش صاحب غير يوسف والحقيقة إحساسي ناحيته تخطى الصحابية، كأنه ابني وأنا واجب عليا أحميه من نفسه.
ومن غيره يفهم ويُدرك المشاعر بتلك الطريقة؟
هو نفسه يفعل ما يفعله لأجل من يُناصفه في القلب، لذا صافح أيوب وشكره ثم بادر الآخر بعرضه عليه في مشاهدة المكان وتفحصه وكأنها زيارة شاملة منها فحص سيارته بما أنه هُنا في هذا المكان، والآخر لم يرفض بل أذعن ووافق وتحرك بصحبة المالك في المكان بحالٍ غير الحال.
هُنا وانتهى أمر المقتول،
وتمت تبرأة القاتل.
ليس جُرمًا في حق الإنسانية، وليست فجاجة طباعٍ من الكاتب، ولا حتى اختلال في ميزان المباديء والقيم، وإنما نصرةً لكل ضعيفٍ في الأرض، أوهموه الناس أن استرجاع الحقوق؛ جريمة يُعاقب عليها القانون، فلو كان القانون حلًا، لما كانوا اخترعوا الأسلحةِ.
< كل شكري لك على دروسك التي جعلتني أتخطاك دون جهدٍ >.
في بعض الأوقات يأتونا الآخرون على هيئة دروسٍ.
بعضها مفيدة، وبعضها لا تنفع ولا تضر، والبعض منها في غاية المنفعة، لكن لا شك في أن أقساهم هي تلك التي ضاعفت الاستفادة، فالبعض لولا مواقفهم كنا نحسب أن تخطيهم أمرٌ يستحيل علينا تحقيقه، لذا يتوجب علينا في الجهة الأخرى شكركم، كنا نحسب أن هناك نجومٌ لامعة فاتتنا.
فوجدناها لهيبًا يحرقنا.
الأمر لم يتخط الساعتين.
مائة وعشرون دقيقة مروا عليه حسم خلالهم الأمر، قرر أن يذهب، في كل الأحوال تلك المقابلة كان لابد منها، مواجهة أخرتها السنون وطمس الوقت فيه أثرها عليه، محى الزمن قسوتها من قلبه، وجبروا أهله قلبه بالوصال عنه، كل شيءٍ يبدو على ما يُرام لحين يقرر الماضي الاقتحام، بصورةٍ موحشة يحفظها القلب، وبملامح قاسية يرسمها العقل، وبعينٍ كانت تكره النظرات، يعود الماضي ويتعدى ويحتل قولك حين كنت تقول أنا هُنا.
وصل يوسف دار الرعاية، في أول ساعات الليل من بعد الغروب، قصد الطريق حيث مدير المكان، مقابلة رسمية تمت بينهما، مصافحة فترة تخلو من مثقال ذرةٍ من المشاعر، وبداية ترحيب جادة تخلو من الود، وحديثٌ رسمي بقول المدير:
أنا آسف طبعًا عن إزعاجي لحضرتك بس الأستاذ نادر كان مدينا رقم حضرتك تحسبًا لأي ظرف، وهو بقاله يومين مش بيرد للأسف، الحقيقة فيه مشكلة بخصوص أستاذ عاصم وعاوز أبلغ حضرتك بيها.
وبجمودٍ كان آفة القلب الحنون قال من يُجالسه:
شوف عاوز قد إيه وأنا مستعد أدفعلك.
وأتى البتر بنفس الثبات بحكمةٍ وببسمة مستهينة بالشأن المادي:.
مش مسألة فلوس يا باشمهندس يوسف الفكرة مش مادية خالص، الفكرة إن الحالة بتزيد سوء كل يوم، رفض الكلام والأكل والمشاركة، حتى تفاعله مع الناس حواليه بقى شبه معدوم، طول اليوم نايم على السرير ورافض أي حاجة، يمكن يكون محتاج قربكم منه، أو يكون محتاج عيلته معاه، ممكن حضرتك تزوره، أو تشوفه، أنا ماعنديش علم كافي بموقف العيلة منه، وماليش تدخل في ظروفه، بس إحنا بنحاول علشان الأمانة.
تبدلت نظرات يوسف في اللحظة، تاه كما كان يتوه في عُمق نفسه، كره اللحظة التي فتح بها هاتفه يجاوب على المتصل، كره تواجده ولحظته التي تتطلب منه بذل قصارى جهده كي يواجه من سبق وقاتله، وفي تلك اللحظة أدرك أن علاجه لم يتم حين استمع لصوت ضحكات ساخرة منه داخل عقله حيث قال:.
إيه كنت فاكرها خلصت؟ مبتخلصش بالسهولة دي، بص كدا ورطتنا في إيه؟ مستعد تشوفه؟ مستعد تحنله؟ أنا عن نفسي المرة دي هقولك لأ، لو منك أقوم أتشفى فيه، قوم وخد حق السنين منه، ناسي بسببه حصل فيك إيه؟ ماهو لو كان فكر وعمل حساب اللحظة دي كان زمانه مسنود عليك، كان زمانك في ضهره كأنك اب.
لم يستطع أن يُكملها حتى بينه وبين نفسه، أغمض جفونه بيأسٍ يهرب من صفةٍ لم ولن تكن في يومٍ لمن لا يستحقها، وهو بكل تأكيدٍ لن يستحق تلك الصفة كي يُنسب له يوسف الذي وقع في فخٍ لم يكن بحسبانه، حيث أتاه صوتٌ آخر يقول بتلجلجٍ:.
المرة دي مش هقدر أعمل زي كل مرة وأطلب منك حاجة فوق طاقتك، بس برضه مش هقدر أشوفك كدا واقف بتغرق، على الأقل قوم خد خطوة واحدة، يا تواجه وترتاح، يا تهرب وتفضل قافل على اللي جواك زي كل الوقت اللي فات، القرار قرارك المرة دي.
كان مع نفسه في رحلة بغاية القسوة على نفسه، رحلة أخذت منه عمره السنين بأكملها، لذا حين ناداه المدير عاد له بحاجبين معقودين، كأنه فقد أثر الزمان حوله، لذا ما كان عليه إلا أن يتبع خطواته في المسير، صوت نعاله يُقرع فوق رخام الرواق، ومعها يتعالى صوت نبضاته بين رئتيه، كان يسير بترددٍ كمن يسير على الجمر المُشتعل، وبين كل هذا وذلك صوتٌ بداخله يرجوه بالصمود، بالثبات، بالوقوف، بالاستبسال؛ لطالما كان المحارب العظيم فلن يُجديه الفرار نفعًا، صحيح هو لم يحارب سوى نفسه؛ لكن في تلك الثانية بالتحديد لن يستطع الفرار.
فتحت الغرفة لتوازي غرفة الجحيم في ماضيه، غرفة يختلف موضعها لكن مسماها واحدٌ، هي غرفة لسرقة العمر، سواء العمر في شبابه أو العمر في شيخوخة عمه، ولج خلف الطبيب، وقف، تجمد في موضعه، لمح عمه يجلس فوق المقعد المتحرك، يشرد والظلام الدامس يحاوطه، نهاية مهما توقعها لم يظنها منشودة لهذا الحد، اقترب يخطو منه ووقف يُطالعه من علياءه، فإذ بالآخر تصله رائحته المميزة، عطره الهاديء، العميق، عطره مميز يذكره برائحة الماضي.
تعجب عاصم وهو يشتم العطر، فكيف لرائحة عطرٍ أن تكون ثمنًا لرحلة العودة للماضي؟ رفع عينيه يلاقي بهما ابن شقيقه، لمحه بضعفٍ ووهنٍ، رفع رأسه المُرتخي برخوٍ وسأله بصوتٍ بالكاد يُسمع:
يوسف.! أنتَ بجد هنا.
كأنه لا يُصدق ما يراه بعينيه، سأل وانتظر الجواب فتحرك المدير وتركهما سويًا، يبدو أنه لمح التخبط في عيني يوسف فقرر أن ينسحب، بينما يوسف بالرغم من انتصاره لكنه كان يفتقد لذة الانتصار، كأنه تذوق الحلو بمر العلقم، وقف أمام عمه الذي تهاوت عبراته وقال بانكسارٍ:
كنت مستنيك تجيلي، كنت عاوز أقولك إني خايف هنا أوي.
والكأس يدور، الكل يتجرع ما سبق وسقى منه غيره، الأيام أكملت دورتها حتى وصلت لنفسها نقطة البداية وإن اختلفت الأدوار، فمن كان جانيًا في الماضي أصبح المجني عليه في الحاضر، كان يوسف يُدرك مشاعره، هو سبق وجرب الخوف، جرب قسوة المكان عليه، حين يُنفيك وطنك، وتغربك الأعين، وتتخلى عنك مدينتك، ثم تُلقى في غياهب الظلام للشارع تبحث عن مأوى?.
وجده يضيف بمرارة القهر الذي سكن روحه:
خايف وأنا لوحدي، لو مُت هنا محدش هيكون معايا، متخلينيش هنا لحد ما أموت لوحدي يا يوسف خليك معايا، تعالى كل يوم بص عليا بس وأمشي، نادر كان بييجي بس بطل، و فاتن بطلت تيجي حتى أنتَ مش بتيجي تشوفني، تعرف إني كل يوم بحس بيك حواليا؟ بحس إني محتاجك كل يوم أكتر من اللي قبله.
وابتسم البطل، ابتسم بوجعٍ وكمدٍ كان في روحه، ترقرق الدمع في عينيه وهو يقول بصوتٍ مغلوبٍ على أمره حينما جثى على عاقبيه يواجه القعيد أمامه:.
يعني دلوقتي عرفت إنك محتاجلي؟ فهمت اللي عيشت عمري كله أحاول أفهمهولك؟ قولتلك لو كنت اعتبرتني ابنك كان زماني في ضهرك، عمري ما كنت هقبل أشوفك كدا قدامي، فاكرني هنسى اللي شوفته منك؟ أنا شوفت وعيشت كل دا، أنتَ كنت كل مرة بتصعبها عليا، عمرك ما خليت الاختيار سهل، كان ممكن ترميني في الشارع، بس أنت اخترت الصعب ورميتني في إصلاحية، كان بإيدك تطردني من بيتك وبس، بس أنتَ رميتني في مصحة واتحكم عليا بالجنون، كان ممكن تسيبني في حالي بس أنتَ حطيت إيدك في إيد الغريب ودخلتني سجن، دلوقتي بس عرفت إنك محتاجلي؟
انتحب صوته، خانته عيناه وأظهرت الدمع الحبيس، انتفض قلبه حين قال بنفس الانكسار المؤلم لروحه:.
طب ما أنا كنت يتيم وكل يوم كنت بقولك إني محتاجك، كنت متطمن علشان أنا معاك رغم إنك ولا مرة طمنتني، كل يوم جنبك كنت بتعمد أقرب منك علشان أخليك تحبني ومعرفتش أخليك حتى تاخد بالك مني، أنا عيشت أتمنى منك بس تبصلي وتبتسم مرة واحدة في وشي، ومقدرتش، دلوقتي عاوزني أكون معاك؟ وأنتَ ليه ماكنتش معايا، ليه ماشوفتش ولا مرة إني محتاجك؟ أنتَ عارف أنا حبيتك لدرجة إيه؟ لدرجة إني كنت مستعد أقبل فكرة إنك خاطفني من أمي وحارمها مني وحارمني منها، بس لو كنت فعلًا حبيتني وعاملتني حلو، بس أنتَ صعبتها عليا أوي، أوي لدرجة تخليني أستكتر عليك الموت مرتاح.
استرسل الدمع من المقل كأنه يعرف الطريق عن ظهر قلب، لحظة رغم قسوتها كان لابُد منها، لحظة انهزم فيها يوسف الرجل، واختفى فيها عنفوان الشاب، والمُسيطر وحده هو يوسف الطفل الذي كتم الحديث سرًا في قلبه، فقال بصوتٍ ضعيفٍ بالكاد همس به:.
ليه ماكنتش معايا زي ما اتمنيتك؟ ليه مماديتش إيدك ليا تاخدني في حضنك وتعتبرني ابنك، إزاي ماخدتش بالك إن دواك كان عندي ودوايا كان عندك؟ ليه خليتني في يوم زي دا أقف أختار نفسي عليك أنتَ؟ ليه أصلًا حبيتك لدرجة تخليني استنى منك حاجة؟ ليه حبيتك وشوفت فيك حاجة عمرك ما قدرتها؟ ليه ابني يكبر وأنا مضطر أخبيه عنك علشان لا هقدر أسيبه يقرب منك ولا هقدر أحكيله أبوه شاف منك إيه.
والحديث في بعض الأحيان يقتل أكثر من السيف.
النظرات حدتها قد تغلب حدة السيف القاطع، الكلمات تنحر في العنق بكل عنفٍ دون رحمةٍ رغم أن السكين ثالمٌ، كل ذلك تعرض له عاصم خلال حديث ابن شقيقه، وقد توقف يوسف أمامه، استعاد رابطة جأشه، وقف واستقام يفرد طوله، اشتد عوده صلابةً ثم مسح وجهه كأنه مختلٌ، وقد تابعه عمه بعينيه فقال هو بثباتٍ:.
الحسبة مش بسيطة في حكايتي معاك، أنا مش المثالي اللي اتربى على إيد مصطفى وعاش في حضنه، أنا دلوقتي يوسف اللي اتربى في الشارع، اللي أتعلم الدرس بدري بدري، علشان كدا لما قولتلك الأيام دول مصدقتنيش، دلوقتي أنا في بيتي، مع أهلي، عندي أختي اللي حرمتني منها وأنتَ عارف إني روحي فيها، عندي غالية اللي رجعتلي الحياة لقلبي من تاني، عندي أيوب اللي من غيره هتوه، عندي عهد اللي أكدتلي إن قلبي لسه حي مماتش، وعندي يامن. ابني.
الشق الأخير من الحديث وبالأخص آخره كان جديدًا، استدعى كل انتباه عمه الذي زادت عبراته هطولًا وهو يسأله:
خلفت؟ اسمه يامن؟
أومأ يوسف بثباتٍ ثم قال بهدوءٍ تلبسه عند ذكره لابنه:
خلفت، خلفت وزي ما قالوا اللي خلف مماتش، مصطفى صحيح مات بس لسه اسمه عايش، ابنه كمان عايش وابن ابنه عايش، سيرته مش هتتقطع من الدنيا، كنت فاكر ربنا هيحرمني من النعمة دي، بس الحمدلله مكاتبش ليا أجرب مشاعرك دي، علشان والله لو كنت سبق وحنيت عليا، كان زماني أنا بديك ابني في إيدك، بس اللي يسقي قسوة وجفا، ماينفعش ييجي يدور على حنية.
رماه بنظرة قاتلة ثم التفت ودار على عاقبيه يقصد الرحيل، أخرج البركان الأخير في نفسه ثم تنهد يستدعي هدوء روحه، مد يده يمسك المقبض وقبل أن يفتح الباب توقف وقال بنفس الثبات الرزين:.
آخر حاجة قبل ما أمشي علشان أنتَ عارفني أنا مبكرهش قد الخيانة والكدب، والاستغلال، كان ممكن لو زقيت سامي الناحية التانية يعيش ومايموتش، بس أنا كنت قاصدها، كنت عاوزه يموت الموتة دي علشان تخلص كدا، دفاع عن النفس ماخدش حكم فيه، وأبقى خدت حقي وحق اللي يخصوني منه، أولهم تار أيوب اللي من صغره كان في رقبته، جاتلي مقشرة والله، لدرجة لو عيشت عمري كله أحسبلها مكانتش هتحصل كدا، الخلاصة يعني متراهنش على مسامحتي، علشان أنا مبسامحش، والبركة فيك.
أنهى المشهد بخاتمةٍ تليق به، فند اعترافه وكشف أوراقه ثم رحل مغادرًا بلا عودة، كأن رحلته شملت الذهاب والإياب دون غيابٍ أو رغبة العودة مجددًا، رحل وخرج من المكان وقد قطع تلك الصفحة المشؤومة من كتاب حياته، هي صفحة مُلطخة لن يستطع الكتابة عليها مهما فعل، حتى الأحرف بها زال أثرها مع الزمن، فكان الأفضل له أن يقطعها ويكمل الكتاب على صنع يده بدونها، وفي النهاية هو لم يظلم أحدًا، وإنما كل ساقٍ يُسقى بما سقى.
نقطة؛ وانتهى السطر ومعه وضعت خاتمة الحكاية.
< كلها أشياء تُسكر العقل، الخمر وصوت فيروز وعيناكِ >.
علي شاطيء هاديء قد نرى الجانب الآخر.
فالجميع هنا يعرفون البحر بغدره، بقسوته، يعرفونه في الليل بسرقته للروح، وبالنهار يعرفونه بالخديعة، يسرق الناس وسط الزحام، يخلق هالة من الراحة ثم يطفو بغدر الموج على الأنفاس، لكن في وجهة نظر أخرى، لما لا نعترف أن البحر يحتاجنا؟ يحتاج لصحبتنا؟ يحتاج لرؤيانا؟
والدليل القوي أنه يهدأ حين تبتلعنا أمواجه.
الليل غمر المدينة، الاسكندرية الساحرة في الليل، الجميع هنا يسهرون حتى شروق الشمس، المدينة حية لا تنام ولا تموت، إلا من بعض الشاطيء الفارغة من جاليسيها، وهو يبغض صخب المدينة، ينأى بروحه بعيدًا عن الزحام والصوت، سكون البحر ليلًا أفضل لديه من نور يصاحبه ضجيجٌ بالرأسِ، لا يعلم هل سحر المشهد هو الذي يتحكم في صفاء روحه، أم تواجدها بقربه وهي تراقب البحر بصمتٍ هو الأكثر تأثيرًا عليه؟
في النهار حين تواجه مع ماضيه وجدها تعترض رحيله، رفضت أن تجعله يختلي بنفسه، عارضت الطريق وتحكمت في تحركه حتى جعلته يعترف ويقر بمدى احتياجه لها، وهي قامت برد دينه له، احتوته، ضمته وتركته هو يحتضن خصرها ويدفن رأسه في عناقها حتى سقط في النوم رغمًا عنه، أما هي فاستسلمت للحظةٍ بقربه وهي تلعن العالم آلاف المرات على إحزان البطل الخاص بأحلامها وواقعها.
انتبهت لشروده فيها أثناء تدخينه فرمقته بطرف عينها ثم حركت خصلاتها وهي تقول بثباتٍ كأنها ترمي بحديثها عليه:
تعرف إنه شبهك أوي؟ نسخة من بعض.
عقد حاجبيه ينتظر التكملة فوجدها تُفند الحديث بقولها:.
البحر، في كل أحواله شبهك، الصبح شقي وموجه عالي، يخليك تفتكره حي وصاحي علطول، وفي الحقيقة هو بيغدر بيك، بيخليك تتعود عليه مش أكتر، علشان الوقوع فيه يكون سهل، تغرق من غير ما تحس بنفسك، وبليل تلاقيه هادي، ساكت، يمكن يخوف، بس جواه كتير، أسرار محدش بيعرف يكشفها، يمكن أسرار الناس اللي غرقهم فيه، ويمكن أسراره هو خافيها عن نفسه، في النهاية محدش بيتعلم ويآمن غدره، بنقع فيه برضه.
فلسفتها في بعض الأحايين تجعله عاجزًا عن تكذيبها، هي في الأغلب تُجيد التحدث بطلاقةٍ لطالما الحديث كان يخصه، تُجيد تفنيد طباعه وكل مرةٍ باختلافٍ عن السابق، لذا ابتسم لها بسمة لم تكتمل ثم اقترب المسافة الفاصلة بينهما، ازداد قربه ومعه تطلعه لعينيها العسليتين، غرتها الناعمة فوق جبينها، ملامحها التي تستحق التأمل في إبداع الخالق، حتى لو لم تكن الأجمل، فهي في عينيه الأحلى، مد كفه يبعد غُرتها عن جبينها ثم تنهد يُحرر أنفاسه وقال بقلة حيلة:.
البحر مش غدار، بالعكس صريح بزيادة، معرفك إنه يتحب ومحدش يقدر يقاومه، والبحر فيه ناس بتقاومه عادي، بس اللي ميقدرش هو دا اللي محتاج لسحر البحر، علشان كدا الغرق فيه بيكون سهل، وأحيانًا بيكون برغبة كمان، المهم نقدر نحدد إمتى نحب لحظة العوم وإمتى نلحق نفسنا من الغرق فيه.
طافت بعينيها في الفضاء حولها، فاستحوذ الخوف على قلبها من هول المشهد، السماء والبحر يتوازيان في الدُكنة الليلية، فتنهدت وقالت حين عادت لمرساها بعينيه:
طب واللي غرق ورافض يخرج أو حتى يلحق نفسه؟
فهم المقصد والغاية من الحديث، فرفع كفه يضمها تستند برأسها على صدره وهو يقول بضحكةٍ خافتة:
لأ دا دماغه تعبانة مالناش دعوة بيه.
وهي بدورها رفعت عينيها له وقالت بيأسٍ:
دا أنتَ دبش، مش هقولك حاجة تاني.
ابتسم لها ثم ربت فوق كتفها ثم تنهد وقال بقلة حيلة:.
بهزر وأنتِ عارفة، بس أنا لحد دلوقتي مش مصدق، حاسس إن فيه حاجة غلط، حاجة جوايا مش في مكانها، أو يمكن بقيت مترتب أكتر من الأول ودي حاجة جديدة عليا، والفضل في دا وجودك معايا، أنا ماكنتش بتاع حب ولا جواز، كان كل همي ألحق الناس، في واحد حمل رقبتي أمانة وطلب مني أكون قدها، وأنتِ أمانة برضه، بس أمانة قلبي أنا أحق بيها، تعرفي؟ أمي لو عايشة كانت هتحبك أوي، هي كانت بتحب كل اللي أنا بحبهم، فأكيد كانت هتحب أكتر واحدة أنا بحبها في الدنيا دي.
عادت للخلف تسأله باستنكارٍ ممزوجٍ بدهشةٍ مُحببة لعينيه:
أنا؟ أنا أكتر واحدة أنتَ بتحبها في الدنيا دي؟
أومأ لها بإيماءةٍ لا تُرى، فابتسمت هي بسعادةٍ، ضحكت له ضحكة يقسم أن يوم التحرير لن يُضاهيها جمالًا، وجدها تضمه من جديد ثم قالت بنبرةٍ غلفها الحماس كأنه صعد بها للسماء السابعة:.
تعرف؟ أنا لما أكبر كدا شوية قدام وأكون ست كبيرة ومعايا ولاد هفضل طول عمري أحكيلهم عنك وعن حياتي معاك، مش هقولهم عن أي حاجة قبلك، هبدأ معاهم من اليوم اللي بقيت على اسمك فيه، هحكيلهم إني لما كنت لوحدي مالقيتش حد غيرك يقف معايا، هخليهم يكونوا زيك، وأفرح بيهم علشان ولادك، تعرف ساعات بفكر أردلك الحلو اللي عملته معايا؟ أردهولك إزاي؟
كانت تسأل بجدٍ، تريد أن تعوضه عن الحياة ببشاعتها كما فعل هو معها حين التقى بها، ولأنه منفرد بطبعه، مال يهمس في أذنها بوقاحةٍ وعبثٍ كانا ولازالا أسمى صفاته:
نجيب العيال اللي عاوزة تحكيلهم وتشرديني عندهم دول، معرفش بصراحة موقفي هيكون إيه لما أقرر أتخلى عن مباديء حياتي وأجيب عيال في العالم دا، بس الفكرة تستاهل أخاطر علشانها، خصوصًا لو حاجة شبهك كدا صغيرة أنا هبقى مبسوط.
ابتسمت له ثم تنهدت بأنفاسٍ مقطوعة وعادت تقول بخيبة أملٍ:.
بس أنا خايفة، خايفة أجيبهم وأقصر معاهم، خايفة يطلع العرق داسس فيا ومعرفش أحب ولادي، ماهو أنا ماتحبيتش من اللي كنت بنتهم، إزاي هادي حاجة أنا معرفش عنها أي حاجة؟ إزاي هبحهم وأنا أصلًا من غيرك عمري ما حبيت نفسي؟ تفتكر أنا ممكن أحبهم بجد لدرجة تخليني سوية في عينهم؟ أنا والله مش في نيتي حاجة، بس أنا لما كنت لوحدي محدش إداني أسباب، وأنا خايفة يا باسم أوي، خايفة أكون زيهم.
كانت على مشارف البكاء، الخوف تحكم فيها، هي تخشى أن تكون كمن قسوا عليها، لذا وجدته يحرك إبهامه عن عينيها ويمسح العبرات قبل أن تهبط وقال بنبرةٍ هادئة:.
أنا معاكِ وأنتِ مش لوحدك، هتحبيهم وبكرة بنفسك تشوفي الحياة معاهم عاملة إزاي، مش هتكوني زيهم علشان أصلًا أنتِ مش زيهم، أنتِ حاجة متخلفة عنهم، هما جابوكِ في الدنيا دي وخلاص دورهم لحد كدا، واللي جاي نصيبي أنا أكمله علشانك ومعاكِ، طب أقولك؟ ساعات كدا بتخيلك عندك بنوتة زيك بتهتمي بيها وبلبسها وشكلها ومخلياها زي العروسة اللعبة، وتكوني صاحبتها وكل حاجة ليها، لايق عليكِ إنك تكوني أم جميلة.
ابتسمت من جديد له، بينما هو أجاد أن يمحو الخوف من طريقها، خاصةً حينما جعل رأسها يتوسد صدره وترتكن عليه لتسكن في مكانها الآمن، في الحقيقة كل الحياة معها هي فريدة من نوعها في كل ما يعايشه، أصبحت هدفًا جديدًا يحيا لأجل تحقيق راحته، تركها دقيقة وربما أكثر ثم خلل خصلاتها بيده وقال بصوتٍ رخيمٍ:
كتبتي النهاردة حاجة عني؟
ابتعدت للخلف بلهفةٍ وعيناها تضوي كما نجوم السماء في الليل المعتم وقالت بلهفةِ العشق من أنثى لرجلٍ كان مرسى سُفنها:
مبكتبش غير عنك، كتبت عن ال Super hero اللي خلى كل أحلامي تكون حقيقة، وكتبت عن طيبتك وأنتَ بتحاول تخليني أفرح من غير ما تزعلني، زي ما خليتني أقعد على الشط وأكمل اليوم لحد الغروب، بكتب عنك علشان مفيش حد يستاهل كدا غيرك.
بسمة هادئة زينت وجهه، قلة حديثه في بعض الأوقات مطلوبة، مثل هذه اللحظة وهو يتحدث لها بعينيه، وقد رأتها في نظراته، هو يُقر ويعترف بعشقه لها دون أن يفصح بها ويُزيد بالحديث، وقد التفتت هي تسحب هاتفها ثم قامت بتشغيل أغنية لهما بمناسبة الرحيل بعد بضع ساعات، ثم اشتمت عبير البحر وقالت بهدوء:.
اليومين دا هيفضلوا محفورين في قلبي وعقلي، مش هقدر أنساهم، حتى لو جينا هنا كل يوم، بس أول مرة ليها سحر بيكون خاص بيها هي، بالظبط زيك، لما شوفتك أول مرة كنت حاسة إني هاحبك، وحبيتك بجد، بقيت بتمنى أكون معاك، وفضلت أدعي ربنا ماتكونش زي حد، فطلعتلي أغرب منهم كلهم.
ضحكت في جملتها الأخيرة وهي تعود لسيرتها الأولى حيث رأسها يستند فوق كتفه تزيد سحر المشهد، وقد تركها ثم ربت فوق خصلاتها الناعمة حتى بدأت تغفو وتسقط في النوم، وهو بجوارها قرر أن يسهر كعادته لحمايتها، يراقبها، يُمعن نظراتها بطلةٍ في ملامحها، يحفظ عن ظهر قلب أدق التفاصيل فيها، فيعترف ويُقر أن عشقها وطنٌ يستحق النضال.
وعينيها بلدٌ لا يليق بها سوى الأمان.
< حين هربت من العالم لك، كنت أعلم أنك العالم بذاته >.
نفر من كُربتنا لمن هُم أهلٌ للقلب.
نحتمي فيهم داخل عناقهم وقد نرتمي عليهم عند ضعفنا، نهرب إليهم من بشاعة دنيا الغدر، خاصةً حين يكون العالم بأكمله ضدنا ونحن في خضم مواجهةٍ ضارية، لذا حين تظن أنك مجرد جُرمٍ صغير، فيك قد يكون انطوى? العالم بكواكبه وبك وجد القلب مداراته.
عاد لبيت أمه، هذا هو المكان الوحيد الذي يستحق عودته، كانت عهد مع ابنها في شقة أمها، بينما هو دفن نفسه بعناق غالية التي انتظرت المجيء منه، قلبها أنبئها عند رحيله أنه سيعود، كما كان يفعل في الماضي ويخبرها بعودته فعاد، ظل بقربها كأنه يحتاج لبرهانٍ قوي على وجودها، وهي تضمه وتحتويه ثم همست له بحنانٍ ألمه بقدر حرمانه منه:.
أقوم أسخنلك وتاكل معايا؟ أنتَ ماكلتش كويس، كنت شايل يامن ومركز معاه، ها أجيبلك تاكل يا حبيب عيوني؟
ابتسم لها، مسحت فوق قلبه بحديثها، فرفع رأسه يواجهها بعينيه ثم زفر بثقلٍ وقال بصوتٍ مبحوحٍ:
ماليش نفس والله، بس قولي صحيح، إيه حوار حبيب عيوني دا؟ أول مرة أركز فيها، الكلمة حنينة شبهك أوي، بس اشمعنا دي؟
ابتسمت للذكرى الماضية ثم سحبت الهواء داخل رئتيها تطفيء نيران الغياب والشوق وقالت بنبرةٍ غلفها الحنين:.
مصطفى الله يرحمه كان لما بيشوفني قبل الجواز بيفضل باصصلي، بصته كانت غريبة، مش بصة راجل لست بطريقة مش كويسة، بس بصة كأنه مش مصدق، لما كتبنا الكتاب وبدأنا نجهز لبيتنا بعدما كان خرج من حارة العطار، سألته كان ليه بيبصلي كدا، وهو قالي إن عيونه حباني، بترتاح لما تشوفني، ولما جيت أنتَ لاقيت عيوني بتحبك، بتحب تبصلك، فبقيت حبيب عيوني، العيون لو حبت بتعشق البصة في وش اللي بتحبهم.
ابتسم لها بحنوٍ ثم ربت فوق ظهرها، وقد صدح صوت هاتفها برقم أيوب وما إن جاوبته بصوتٍ ودود، قال هو بأدبه المعتاد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أمي، معلش ينفع تصحي قمر تجهز لحد ما آجي علشان نروح؟ أنا بكلمها بس هي مش بترد عليا.
ابتسمت له وجاوبته بحماسٍ:
هي نايمة من شوية حلوين، يوسف هنا تعالى أقعد معاه شوية لحد ما أصحيهالك، دا لو رضيت تصحى يعني، أطلع بس إحنا قاعدين ومفيش حد معانا.
كانت تخبره أنه لن يشعر بالحرج بسبب عدم وجود الآخرين، تعلم أخلاقه إلى أي نقطةٍ تصل، لا يذهب لها إلا حين يعلم أن ابنها معها، لا يصعد إلا حين يستأذن ويخبرهم بصعوده، لا يدخل الشقة إلا في وجود رجلٍ غيره، حتى بحضور زوجته لا يجيء وحده، وإنما ينتظر رفيقه كي يكون معه.
صعد وولج يلقي التحية ثم جلس بجوار يوسف فوق الأريكة وقد نطقت غالية بصوتٍ هاديء:
هقوم أسخنلكم تاكلوا مع بعض علشان تشجعوا بعض لحد ما قمر ربنا يكرمها وتصحى، عن إذنكم.
عارضها أيوب يوقفها بلهفةٍ حتى لا يتعبها:
مالوش لزوم يا أمي، متتعبيش نفسك البيت مش بعيد وأنا الحمدلله متعشي في الشغل.
التفتت تعاتبه بنظراتها وهي تقول بإيلامٍ:
هتزعل ماما منك؟ أنتَ واكل من المغرب و قمر قايلالي، الأكل هنا معمول حسابك فيه، حتى لو ماكنتش كلت كنت هبعتلك أكلك مع مراتك، بس كلوا مع بعض وخلي صاحبك ياكل، معرفش ماله من ساعة ما رجع.
تحركت وتركتهما، هي تعلم أن ابنها يحتاج له، هو وحده من يستطع أن يُخرج منه الحديث، لذا عاد أيوب له وسأله بثباتٍ:
مالك؟ شكلك مش مبسوط ليه؟ وكنت فين لما اختفيت ورجعت؟
ماليش، أنا كويس أهو قدامك، فيا حاجة؟
أكد له أيوب ذلك ثم أشار على عينيه وقال:
عيونك باين عليها، لو كدبت على كل الدنيا بما فيهم غالية أنا مش هتعرف تكدب عليا، عيونك فضاحين يا يوسف.
قصدك فتانين، فتنوا على صاحبهم.
أقرها يوسف فابتسم كلاهما، بينما تنهد هو وقال موجزًا:
كنت عند عاصم بشوفه.
فجر قنبلة حديثه في وجه الجالس أمامه، فلم يصدقها أيوب الذي سأله بعينيه عن مقصد حديثه، ليقول بثباتٍ:
الظروف حكمت فروحت، وياريتني ما روحت.
ما ارتاحتش لما روحتله؟
أتاه السؤال المتوقع، ليقول هو بنفس الحيرة:
لأ للأسف، فتحت على نفسي باب جروح ماكنتش مستعد أفتحه، معرفش فيه حاجة جوايا كانت مرتاحة علشان ربنا ردله اللي عمله فيا، وحتة تانية زعلت علشانه، راجل كبير ولوحده، عاجز فوق كرسي في دار رعاية، محدش معاه، مالهوش حد ولا ابن ولا بنت، ربنا قطع سيرته من الدنيا، يمكن زعلان علشان المصير دا تخيلت نفسي فيه كتير وخوفت منه مرات أكتر، معرفش يا أيوب بس ياريتني ما روحت.
علم أيوب أنه واجه ماضيه، أدرك أن المواجهة كانت قاسية عليه، رأى بكل شفافيةٍ ما يُخفيه خلف عينيه، فمد يده يُربت فوق ظهره وقال بصوتٍ هاديءٍ تخالطه حكمة أبٍ:.
أديك روحت علشان تهرب من إحساس الذنب، كان لازم تروح علشان تقفل الباب دا خالص، أنتَ مش مستعد تقابله وتواجهه تاني، ماعندكش القدرة إنك تتحمل وجوده، غصب عنك الأذى منه هيفضل جواك والكسر منه مفيش حاجة صلحته، وأنا مش هقدر أطلب منك تيجي على نفسك في حاجة زي دي، كل اللي هقدر أقوله، ربنا يقويك على صلاح نفسك، ويرزقك هداية الحال، غير كدا لأ ومش هقدر أزايد عليك.
يهديه دون أن يدري لملمة شتات النفس، يرسو بسفنه التائهة في مرسى الروح، ينوب عن نفسه في حلولٍ لم يتوقعها بهذا اليُسرِ، يخبره أنه خير ما وجد في أيامه، لذا وضع رأسه فوق كتفه وقال بيأسٍ:
أنا تعبت يا أيوب من نفسي، مش لاقي عدو غيري جوايا.
علشان كدا سيدنا محمد ? كان بيدعي ربنا ويقول لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ النفس بتهلك صاحبها يا يوسف وتأذيه، أرحم نفسك من عذابك ليها وسلم لرب العالمين، وحد ربنا كدا واحمده على النعم اللي محاوطاك يا أبو يامن.
تعمد ذكر ابنه حتى يدرك الآخر إلى أين وصل، وقد ابتسم يوسف وقبل أن يرد وصلتهما النبرة الحانقة من جهة الرواق وهي تقول متهكمةً باستخفافٍ:
يعني لما أخويا حاطط راسه على كتف جوزي، أحط أنا راسي فين بقى؟
أتاها الرد من شقيقها بوقاحةٍ على الفورِ:
عند أمك.
شهقت بدهشةٍ ثم اقتربت منهما تقول بغيظٍ:
أنتوا علاقة مش مظبوطة أصلًا، والله العظيم ما فيكم واحد بيحبني زي ما بيحب التاني، أطلعوا برة وسيبوني أنام ومحدش يصحيني، وأنتَ يا أيوب روح نام في بيتكم، خلاص.
كادت أن تلتفت حيث الداخل فوجدت أمها تخرج بصينية الطعام لهما فكتم كلاهما ضحكته على مظهرها حين فرغ فاهها وقالت بغير تصديقٍ:
العشا دا علشانهم؟
أومأت غالية لها فيما حدجتهما هي بسخريةٍ ثم قالت:
أبقوا أكلوا بعض كويس.
ارتفع صوت ضحكاتهما عليها بينما هي جلست عنادًا فيهما وأصرت على تناول الطعام وقد حصلت على جرعة زائدة عن الحد من الدلال المفرط من كليهما، حيث ظل يوسف يدللها وهي تتناول الطعام، بينما أيوب يطعمها لأجل من تحمله في رحمها، وهي تتصنع البراءة وفي قلبها ترتكز داهية جعلتها تنتصر في ملء مشاعرها التي تفيض عليها دون علمٍ محدد.
هي الأغنى والأثمن لكليهما ولا شك في ذلك.
فلو لم يكن بينهما اتحادًا لأجلها من المؤكد ستقام الحروب عليها، لذا هي لا ترغب في فك التحالف بينهما، بل هي تطمع لزيادة هذا التحالف لطالما هي الرغبة المنشودة من عواطفهما.
< هي تُعلن عليَّ الحرب، وأنا أقسم لها بالحُب >.
التضاد يوضح المعنى ولو بالعكسِ والمغايرةِ.
في حين تُفرض الحرب؛ نعلن نحن الحُب، وأنا وهي برغم الخلاف لكن هناك نقطة واحدة تجمعنا، تُعيدنا حيث نقطة الجمع مع القلوب التائهة في درب العشق،
فلولا الخلاف والتضاد لما وجدنا النقطة المفقودة.
عاد للبيت مع حلول العتمةِ، الصمت أطبق على المكان وخاصةً شقته، صوت التلفاز هو الدليل على الحياة هنا، يبدو أن صغيرته نامت، وزوجته لازالت تفرض عليه الحظر، وهو مسكينٌ، منكهة طباعه بطباعِ وغدٍ، حتى وعده الأخير حنثه معها، أخبرها أنه سيقضي اليومين معها برفقة ابنته، لكنه في نهاية المطاف نزل عند منتصف اليوم الأول، وعند عودته لم يجد الوطن مرحبًا به.
وجدها تجلس فوق الأريكة تضع ساقًا فوق الأخرى وتهز العُليا باستعلاءٍ، رمق إيهاب الوضع فأدرك أن الخسارة تلاحقه، مراضتها أصبحت أصعب ما يتوقع، لذا مد يده يضعها عند ظهر الأريكة فوجدها لا تكترث، تنشغل بما تشاهد، فسألها بصوتٍ خافت:
عاملة إيه؟
كويسة الحمدلله.
السؤال بقدر الجواب لا أكثر، حتى النظرة تبخل بها، لكن الكارثة في هيئتها، جميلة، قوية، خصلاتها المتمردة تتموج بالحرية، عيناها مزودة بالسحر الأسمر فوق جفنيها، ترتدي منامة بيضاء حريرية تليق بقوامها، فتنة وغواية لن يستطع صدها أو تجاهلها مهما حاول، لذا اقترب يغازلها بقولها:
بس إيه الحلاوة دي كلها؟ شكلك زي القمر وأحلى.
طول عمري والله، مش حاجة جديدة.
بنفس المقدار لا تُزيد، بينما هو فزفر بقوةٍ وقال بيأسٍ:
لأ أبوس راسك أنا مش قادر أهادي، اتفقنا خلاص هنهدي الدنيا لاوية بوزك في وشي ليه؟ دي المكافأة اللي بياخدها البطل يعني في النهاية؟ يبقى الراجل شقيان وطافح الدم في المعركة ويرجع يلاقي الجفا دا؟ أقل واجب يلاقي حضن حنين.
رفعت حاجبيها تستنكر تشبيهه، بينما هو اقترب يُلثم وجنتها وجبينها ثم الأخرى حتى استقر بجبينه عند خدها وقال باستسلامٍ:
والله العظيم وحشتيني يا سمارة بلاش أنتِ تقسي عليا.
رمقته بعتابٍ تغلي به دماؤها فوجدته يقول بلينٍ قلما تعامل به:
قولي مزعلك إيه مني وأنا هراضيكِ؟
تنهدت بثقلٍ، حاولت أن تجاري موجه، لذا قالت بهدوء:
اللي مزعلني منك إنك علطول بتيجي عليا أنا، كل مرة تقولي أنا معاكِ ومع بنتي، مش هسيبك، هقضي معاكم اليومين، ويحصل إيه؟ تسحب نفسك وتختفي، وتسيبني أنا أضرب أخماس في أسداس، لو أنا وجودي هنا تقيل عليك عرفني علشان أمشي، علشان أبطل أخنقك بوجودي معاك هنا.
توسعت عيناه أمامها، ذُهِل من الحديث الذي تتفوه هي به، رمقها بغير تصديقٍ، بينما هي لم ولن تزرف عبراتها عليه، بل استمسكت بثباتها وهي تُضيف:
ماهو مفيش حل تاني غير كدا، إنك زهقت وزهدتني خلاص مش عاوز وصالي يا إيهاب وأنا كرامتي غالية عندي، بالدنيا كلها، بس تحسسني إني قليلة عندك ولا شوية، هحسسك إني مش باقية على حاجة، متتغرش بحبي ليك.
خلصتي هرتلة يا سمارة وكلام فارغ؟
رد لها الصدمة في الحديث، جعلها تغتاظ من فظاظته، لكنه وأد كل تلك المشاعر حيث مد يده والتقط كفها وقال بلهفةٍ كأنه على مشارف خسارة لن تعوض مهما حدث حتى لو زحف العالم بأكلمه:.
أنتِ عارفة إن أنا مستحيل أكون ضامن وجودك لدرجة تخليني أهملك، إذا كنت أنا خايف أقرب منك وأنا حاسس بالذنب علشان محملكيش فوق طاقتك معايا، أنا أزهق منك أنتِ؟ ما أنتِ عارفة إني ماليش غيرك ولا نافعلي مكان في الدنيا غير وأنا معاكِ، أنا نزلت وعارف إني نزلت وهتزعلي، بس أنا روحت أعمل حاجة مهمة، أولها إني روحت أقابل أيوب.
توقف ثم عاد واستأنف الحديث، يشرح لها لمَّ ذهب، يُخبرها عن الحديث ككلٍ، يشاركها الحدث بذاته دون خوفٍ أو توريةٍ، لمح تعاطفها معه ومع حديثه، استكانت ثورتها أمامه، بينما حين أنهى الحديث وجدها تسأله بهدوءٍ:
يعني هو دا السبب اللي خلاك تنزل؟
نفى حدوث ذلك برأسه ثم اقترب منها على حيث غرة ثم مدَّ عنقها للأمام، وضع السلسال حول رقبتها ثم عاد للخلف، سلسال عريض زين رقبتها تتدلى منه دلاية عريضة بخطٍ عربي تحمل اسم دهب ابنته، قرأت الاسم المُشكل بالخط العربي من الذهب الخالص ثم رفعت عينيها تسأله بسخريةٍ:
كدا هتراضى يعني يا إيهاب.
حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم ثم ضمها لصدره يكبل حركتها وهو يقول بنبرةٍ هادئة على عكس عنفوان طباعه التي تتصف بأقصى حدود الغضب:
معاكِ خمس أيام من دلوقتي لآخر الأسبوع تختاري تروحي فين، أنا وأنتِ و دهب ولو عاوزة تفضلي هنا في ونخرج كل يوم ماعنديش مانع برضه، الاختيار ليكِ أنتِ، ومخلص شغلي ومقفل كل حاجة، برضه علشانك أنتِ، شوفي نفسك في إيه.
بدأت تبتسم وتلين بينما هو انتظر الجواب منها حتى وجدها تستكين في عناقه وهي تُشدد ضمتها له وقالت باستسلام أنثى تليق بها دنيا الحُب والعشق حين تهوى رجلًا يحايل العالم لأجلها:
مش مهم هنروح فين، المهم معاك أنتَ.
أيقن أنه على الطريق الصحيح، يسير بنفس الخطى الهادئة دون اختلالٍ، فكي يربح الرضا الكامل منها عليه أن يُضحي بأشياءٍ أخرى، هو الذي سبق وضحى لأجل الجميع، اليوم يُضحي بكل العالم لأجلها، هو الشرير في كل الحكايات،
لكنه يرفض أن يكون الشرير في حكايتها هي؛
هي والبقية تأتي، هي أولًا ثم العالم يتبعها.
< في عُرف العشق كنت جانيًا، وفي عرف الحياة قاتلًا >.
منهجية الحُب لا تطلب دستورًا ثابتًا.
وإنما الأمر متروك للحُرية، حيث الارتجال المطلوب في قواعد لم يهتم عاشقٌ بكتابة نصوصها، كأنه ترك الحرية لكل عاشقٍ كي يكتبها باللغة والطريقة التي يريد أن يسير على نهجها ويسير وفق خطواته هو فيها.
في اليوم التالي.
بعد حلول الغروب وظهور الشمس بلونها البرتقالي، حيث الشفق الأحمر في نهاية السماء تعلن عن انتهاء الدور المطلوب منها، كانت فُلة تتحدث مع أمها بهاتفها، تخبرها عن حزنها بسبب غيابها عنهم، تخبرها أن ابنة شقيقها تشتاق لها، شقيقها نفسه تأثر بغيابها الأيام الفائتة عليه بدونها، بينما هي فكانت تدرك أن الحياة مع الرجل المفضل تستحق المجازفة، الأمر حقًا يستحق أن تبقى معه، أنهت المكالمة بتحية وداعٍ ثم تحركت تبحث عنه.
صامت، هاديء، رزين، سوداوي، رجل آلي يحيا بنصف قلبٍ، رغم أنها زوجته ورغم إتمام الزواج بينهما ورغم أنها تتيقن من مشاعره تجاهها، لكن هدوء طباعه هذا غريبٌ عليها، هي كتلة الحياة وهو مقبرة الموت، وقفت تراقبه من الخلف فوجدته يقف في الشرفة يتابع البيت بصمتٍ وفي يده سيجاره يدخنه بصمتٍ، اقتربت منه تسأله بهدوء تعمدته بهذه النبرة:
أنا هاكل بس هعمل حاجة خفيفة تاكل معايا؟
التفت لها نصف التفاتة وقال بذات الهدوء المثير لحنقها:
ألف هنا، بس أنا مش جعان.
رمقته بغيظٍ ثم كادت أن تتحرك لكنها عادت له تسأله بحنقٍ:
هو دا الجواز يعني؟ بقولك إيه رجعني لماما.
كتم ضحكته التي كادت أن تنفلت من بين شفتيه، ثم أطفأ سيجاره في مرمدة السجائر وقال بهدوء يكتم فيه سخريته منها:
هترجعي لماما تقوليلها إيه؟
هقولها إنك ساكت، هادي، وأنا بكره الهدوء، بتعصب من الناس الساكتة، أعمل أي حاجة، اتكلم معايا شاركني، أقولك استنى، والله ما هسيبك، يا أنا يا أنتَ يا مُنذر.
تحركت من أمامه غابت لدقائق ثم عادت من جديد، ارتدت خلالها فستانًا يليق بعروسٍ حديثة العهد، يكشف ذراعيها وعنقها، كتم ضحكته على سذاجتها تجاهه، رغم أنها في أجمل المرات التي رآها فيها، اقتربت تمد يدها له، تدعوه لمشاركتها الرقص كما كانت ترغب قبل رحيله، مد يده لها، وافق على عرضها، نغمة كلاسيكية هادئة، وهي تبتسم وتقول بضحكةٍ واسعة:
أهو شوفت الروقان؟ متعرفش تتجنن معايا كدا؟
ضحك رغمًا عنه ثم مد يده يُبعد خصلاتها عن وجهها وهي تدور بين يديه ثم قال بنبرةٍ هادئة وعيناه تطوفان في وجهها البريء:.
الروقان دا معرفهوش غير معاكِ هنا، بس أنتِ مش محتاجة كلام يقولك أنتِ إيه عندي يعني، لو أنتِ مش موجودة كان زماني ميت، حتى لما اتجوزنا وبقينا تحت سقف واحد أنا شوفت حاجات كتير هنا وعيشت معاكِ حاجات عمري ما تخيلت إني هقدر أعيشها مع حد، أنا بسببك إنسان عايش عنده مشاعر ومحبوب وحاسس إن فيه حد عاوزني، فحرام عليا يعني أرفض النعمة دي، كل الحكاية إني مش عاوزك تحسي إني خانقك هنا.
ضحكت له وهي ترفع كفها تمسد فوق لحيته المنمقة ثم قالت وهي تقترب أكثر حتى تستحوذ على مجال بصره بعينيها:
اخنقني، أنا جاية هنا ورامية العالم كله ورا ضهري علشانك أنتَ، ومعاك فين ما تروح، خلاص قدرك ونصيبك ومش هتعرف تهرب مني، عاجبك أهلًا وسهلًا، مش عاجبك خلاص بكرة يعجبك.
وضحكته توسعت أكثر فمال يُمرمغ لحيته في وجنتها وهو يقول بصوتٍ بدأ يتأثر بقربها منه وهي تباغته بالسلام:
مش عاجبني إزاي بس؟ دا أنتِ أحلى قدر ونصيب في الدنيا.
طوقت عنقه بذراعيها بينما هو ضمها بقوةٍ، يرغب في الوصال دون فراقٍ، يُحب الحياة معها بدون الموت، يحب ترحيبها به دون رفضٍ، يرى في عينيها لمعة الحب دون كرهٍ، معها كل شيءٍ دون نقيضٍ ومعها الحياة دون نقصٍ.
بعد مرور ساعتين.
كانت تقف بالأسفل بجوار الخيول، بينما هو كان يُطعمهم ويهتم بهم خاصةً في غياب إيهاب الذي رحل عن البيت منذ فجر اليوم وأخبرهم قبل الرحيل بفظاظةٍ وسلاطة لسانٍ:
لو الحرب قامت عليكم هنا ملمحش رقم واحد فيكم.
وفل من البيت، أخذ عالمه الصغير ورحل يأخذ حقه من الحياة، لا أحد يعلم إلى أين، وإلى متى، لكن لطالما الأمر يخص راحته فلا عليهم بقلقٍ، وقد تطوع مُنذر برعاية الخيول في غياب ابن عمه، ومعه عاونته الطبيبة التي كانت تلتقط بعض الصور للخيول بجوار الزهور الوردية، بينما هو وقف خلفها فوجد خصلاتها تسقط على عينيها وتغطي جانب وجهها وهي تحتضن أحد الخيول، وقتها التقط لها صورة يحفظها في هاتفه ثم ناداها وما إن انتبهت له غمز لها ثم التقط لها صورة جديدة.
بعد ذلك اقترب منها يحاصرها عند الجدار ثم همس بشقاوةٍ:
شكلك حلو أوي جنب الخيول والورد، غريبة مع إني باجي كل يوم هنا وأول مرة آخد بالي إن المكان حلو أوي كدا.
دفعته في منكبيه بقوةٍ واهية وهي تقول بضحكةٍ مكتومة:
بتطلب معاك بمشاعر في أماكن غريبة، لو سمحت أبعد خليني أروح أشوف الخيل اللي لوحده دا، شكله يا عيني مسكين خالص.
التفت حيث أشارت ثم قال بنفس الضحكة الخبيثة:
ماهو المسكين دا الخيل بتاعي هنا، محدش عارف يتعامل معاه غيري، ابن أدهم الخيل بتاع عمي، عارفة تتعاملي معاه؟
مدت يدها تمررها فوق خافقه وهي تقول بثقةٍ:
أنا اتعاملت مع صحبه اللي هو أصعب منه، مش هعرف أتعامل معاه هو؟ بعدين هو حاببني أوي ومستريح في وجودي، وباين في عينيه إنه بيحبني، حتى لو بيكابر يعني، لو مش مصدق ممكن أمشي ويوريني هيعمل إيه من غيري.
كان يدرك من المقصود بالحديث، فذهب يغلق الباب الكبير عليهما ثم عاد لها وهو يقول بخبثٍ حين دار بعينيه فوق ملامحها وموضع وقوفها:
إيه رأيك في المشهد اللي نفسك فيه هنا قدام الخيول؟
توهجت عيناها ثم ركضت نحوه بخطواتٍ واسعة، فتحت هاتفها ثم مدت يدها في يده داخل ساحة الخيول وهي تضحك بحماسٍ غريب عليه، رآها كأنها طفلة صغيرة تتعلق به وتسرق من العالم كل الأماني التي استحالت عليها، وقد ضحك لضحكتها وهي ترقص معه وكفها يعانق كفه وهو يضحك على ملامحها بقربه، مجنونة ومختلة ولا شك في حتمية ذلك،
لكن الجنون في عُرفها؛
حياة، والحياة لا يمنعها سوى الخوف.
زي الهوا يا حبيبي، زي الهوا.
وآه من الهوى يا حبيبي آه من الهوى?.
وخدتني من أيدي يا حبيبي ومشينا،
تحت القمر غنينا وسهرنا وحكينا.
وفي عز الكلام سكت الكلام،
وفي عز الكلام سكت الكلام.
وأتاريني، ماسك الهوى? بأيديا،
وآه من الهوى يا حبيبي
آه من الهوى?.
انتهى المشهد بها تميل عليه وهو يتلقفها بين ذراعيه يدعم سقوطها قبل أن تضحك بعينيها وتهمس له بمقصد الحياة:
بحبك.
وهو رجل الموت وجد الحياة في عينيها،
استسلم لنوبة جنون مختلة برتبة طبيبة نفسية، يعلم أن علاجه وإن استحال على كل الدنيا، هي وحدها من تجرؤ كي تداويه، لذا رد الهمس بهمس مثيله، ثم ضمها يثبتها بقرب قلبه كي تبرهن له أن هذا الساكن يخفق ويحيا رغم موته.
< الحياة لا تحتاج سوى الجنون،
والجنون لا يمنعه إلا التعقل >.
في قانون الحياة، الجنون حياة بذاته،
ولا يمنع الجنون سوى الخوف، وكما قيل في السابق أن الخوف لا يمنع الموت لكنه يمنع الحياة، لذا الحياة مع الجنون تساوي حياة، والحياة بتعقل دون جنونٍ تساوي موتًا.
الحياة معها تجربة جيدة تستحق أن يتخلى عن الخوف، مجازفة تتطلب منه أن يستسلم للجنون، ضُحى من بعد الليل المعتم، ونهار من بعد سرمدية الظلام، حلم بنكهة الواقع في خياله، وهو يعيش معها منذ أيامٍ ما لم يسبق له أن يعرفه من مشاعر موجودة في الحياة، هي الخلود في مفهوم القدماء، الحياة بكلمات المماليك، هي الأمل في غياب النور، وهي اليأس عند الفقدان والوحدة، هي الضُحى من بعد خيط الشروق.
أنهى المخابرة الهاتفية بشأن العمل، كانت هي تجهزت وارتدت ثيابها، وقف يراقبها وهي تقترب تحمل حقيبة ظهرها وقالت بحماسٍ ألهب مشاعره:
أنا جهزت أهو، يلا ولا هتغير هدومك؟
عقد حاجبيه متعجبًا منها، بينما هي قالت بحماسٍ لم يخمد:
هننزل نتمشى مع بعض زي ما قولتلي، أنتَ وعدتني يا إسماعيل ومش هينفع تخلف بوعدك معايا.
أنا وعدتك؟ قولتلك هنبقى، نبقى يعني مستقبلًا مش بعد دقايق؟
أتاها حديثه مستنكرًا لحديثها، فقد اقتربت بغير تمهل، تغزو أرضه باستباحةٍ لأراضيه المغلقة من كل السُبل إلا هي وعينيها، وقفت تهندم سترته وهي تقول بنعومةٍ بالغة:.
ماهو كلها أيام وترجع شغلك، وأخوك يرجع وتنشغلوا، وأكيد مش هتكون فاضي، مش كفاية مسافرناش؟ ننزل نتمشى شوية نتفسح أنا وأنتَ وبس، ولما نرجع ناكل أكلة حلوة، ونقضي سهرة حلوة مع بعض، نكمل حكاياتنا وكلامنا، مش هو دا العوض اللي اتفقت تعوضهولي عن كل اللي فات؟ أنا مستنية.
راقبها بجفونٍ ضيقة فوجدها تقترب ثم لثمت وجنته وكررت الفعل مع الأخرى حتى استسلم لها وخرج بها من البيت، قاد السيارة وهي معه، تغني وتلتقط الصور، ترفع صوت الأغنية وتفرد جناحيها للحياة، تجذبه حيث أرضها كأنها الموطن الآمن له، تمسك يده، توجه له مقصد الكلمات، بينما هو يبتسم لها ثم ضمها ترتكن على صدرهِ.
أخذته لمكانٍ قريبٍ من مقر عملها القديم، استأجرت منه دراجتين لكليهما، كانت تسير خلفه وسط مجموعة من البشر بمختلف الأعمار، أقرت بالجنون والجنون معه حياة، والحياة معها لا تعرف الموت، كان إسماعيل حُرًا، منطلقًا، في غياب إيهاب عنه لأول مرةٍ يشعر بالألفةِ، ألفة متبادلة من كليهما، ليس هو وحده وليست هي وحدها، كلاهما يقر بموطن الآخر له، وقد تقابلا سويًا عند نقطة التقاءٍ ابتسم لها وكرر سابق حديثه:.
القلب بيحس بدفا قلب صاحبه يا ضُحى.
وأنا قلبي بيقولك إنك أحسن صاحب في كل الدنيا.
ردت عليه بالحجة القوية ثم عادت تلاقيه بعينيها أولًا ثم عانقت كفه بكفها وهي معه، لحظات أمان مسروقة من الحياة قبل الغدر والخوف، لحظات ما قبل الختام ونهاية الحكاية، لحظات بها يعتذر العالم وناسه عن بشاعة الطباع وقسوة التصرف.
في مكانٍ آخر حيث حياة بدأت تستقيم.
كان يجلس رفقة صغيرته التي تعاني بسبب عدم انتظامها في تدريبات النادي الرياضي، خاصةً مع صعوبة الحمل على زوجته وبداية تقليل تحركها فبدأت تلتزم بتعليمات الطبيبة الخاصة بها، بينما سراج فهو يحاول مراضاة كل الأطراف، وقد أتى بابنة شقيقته للبيت منذ دقائق قليلة، وهي تعرضت للتوبيخ من المدرب، بسبب عدم تركيزها وتشتتها، فقال سراج بقلة حيلة لزوجته حين سألته:.
واخدة كلمتين في جنابها علشان مش مركزة، وعلشان مش منتظمة في التدريب، زعلت مني ومن ساعة ما ركبنا العربية منطقتش بكلمة، كل اللي قالته إنها هتكلم مُنذر علشان يخليها ترجع تاني للتدريب أحسن من الأول.
ابتسمت نور وقالت بصوتٍ غلبته قلة الحيلة:
هي أصلًا متضايقة من ساعة جوازه، بس متقلقش، الدكتورة قالتلي إني هينفع أتحرك تاني عادي، هي بس فترة الدخول في الشهور الصعبة بتكون مقلقة علشان الجنين بدأ يكبر، بس دا مش معناه إني هقصر مع چودي دي بنتي الكبيرة.
ابتسم لها بقلة حيلة ثم لثم جبينها فقط دون حديثٍ، وقد داهمتها ضربة أسفل رحمها جعلتها تتأوه، انقطعت أنفاسها فمال بلهفةٍ يتفحصها، وقد قالت بصوتٍ مقطوعٍ:
فيه خبط جامد في ضهري وبطني، مش قادرة.
صرخت عند نهاية حديثها وقد هرولت لها الصغيرة تتفحصها بقلق، حاولت هي تلتقط أنفاسها لكنها لم تستطع، فسحبت نفسًا عميقًا تهديء به من روعها حتى هدأت الضربات وعادت لهدوئها بالتدريج، فضمتها الصغيرة وهي تقول بخوفٍ:
متخافيش هتكوني كويسة، أعمل حاجة يا بابا، متخليهاش تعبانة كدا، مين السبب إنك تتعبي كدا؟ سراج زعلك؟
كتمت نور ضحكتها من بين ألمها، بينما رفع هو حاحبيه ثم عاد يجاور زوجته وقال بسخريةٍ وقحة يكمل على حديث ابنة شقيقته:
مين الكلب الحيوان اللي عمل فيكِ كدا؟
حدجته نور بطرف عينها وهي تحاول ألا تضحك، فوجدته يمسد فوق بطنها وهو يقول بنفس الطريقة المراوغة:
مش عاوزة تاخدي حقك منه؟
من جديد ضحكت له حتى يأست من إصلاح أحواله الفاسدة، بينما هو فضمها يلثم قمة رأسها بقلقٍ كان حقيقيًا، خشى فراقها وألمها وتعب جسدها، تركها تلتقط أنفاسها ثم سألها بنبرةٍ لعوب:
قولتيلي إنها بنت؟ شكلها هتبقى لبط زي اللي جابها.
تركت نفسها بصحبته ترتكن عليه وهي تمسح فوق بطنها تنتظر موعد قدوم الضي للعالم، و ضي هي صغيرتها، حيث الاسم الذي يُلائم وصف اسميهما هي ووالدها، حيث السراج و النور ومعها ضَي هذا العالم لعينيهما.
تحرك وبدأ هو يقوم بتحضير الطعام ومعه الشقراء الصغيرة الحنونة التي تعتني بزوجته، تخرج ألطف وأكثر المشاعر حنوًا لأجل من وضعتها في خانة الأمِ، كانت تصنع الطعام، تهتم بتزيين صحنها، تشرف على مواعيد الدواء والعقار الطبي، تصنع لها كوبًا من العصير، ثم خرجت خلف خالها تجلس بقرب زوجته وبدأ كلاهما يقوم بإطعامها ومراعاتها كما كانت تفعل هي معهما، وقد راقبتهما نور بوجهٍ مبتسمٍ ثم ابتهلت وتضرعت لربها كي يحفظهما لها، ومعهما صغيرتها التي لازالت تختبيء في رحمها.
< صغيري وتظن العالم دونك شيئًا وهو بك كل شيءٍ >.
الليل أقبل بعتمةٍ قاسية لمن لا يعرف الأمان.
للغرباء حين تكون المدينة قاسية بعينيهما، لكن لهؤلاء الذين يسكنون رفقة الأمان في حدودٍ واحدة لن يشكل الأمر معهم شيئًا، وإنما المدينة ستكون أكثر أمنًا حتى لو الكل أقسم أنها مدينة الخوف بذاته، لكن لطالما مع من نحب، فنحن والخوف لا نجتمع في دربٍ واحدٍ.
يجلس في مكتبه، ابنه بجواره ينام فوق حامل الصغار المستدير، يراه بعينيه ويبتسم، ثم أخرج دفتره يضعه فوق مكتبه، يحمل في قلبه الكثير من المشاعر التي تتفاقم تجاه صغيره، يود لو كان يسمعه لكنه لم يستطع أن يعبر له، لذا تنهد بقوةٍ ثم بدأ الكتابة، حيث أكثر ما يُجيد فعله في هذا العالم الواسع، ورغم ذلك تضمه صفحات الدفاتر بمختلف أنواعها، فبدأ الخطاب بقوله:
عزيزي وصغيري يامن
ثاني من وهبته قطعة من القلب،.
وأول من حصل على كل الروح
حبيب عيوني وإن لزم الأمر أن أعطيك عيوني دون بُخلٍ مني؛ أفعلها، أولًا دعني اليوم أخبرك لمَّ أمي أول من لقبتني بهذا الوصف، فحين سألتها قالت لي بنفس الحب الذي أراه في عينيها أن العين إذا أحبت النظر عشقت الرؤية
فأجبني يا صغيري ما أحلاك كي تتأمله عيني سواكَ؟
اليوم أكتب لكَ خطابي الأول.
فربما تتعجب وأنا أفعلها، لكني رجلٌ فقير المشاعر والتعبير عنها شفهيًا، لذا أكثر ما أُجيد فعله أن أصف ما أشعر به عن طريق بعض الكلمات المُتراصة بجوار بعضها، لعلي أفلح فيما أرغب وأود إيصاله لكَ من داخل قلبي، أتعلم من أنا؟ أنا غريبٌ في الأرضِ وجد فيك موطنه يا صغيري، رأيت فيك الحياة والعمر والجزء والكل، فأصبحت في عيني العالم بأسرهِ، أتعلم يا صغيري؟ لقد كنت أخشى حمل الصغار في السابق، أخاف من لمستي لهم حتى لا تؤذيهم، لكنك أول من لم أخشهُ، بل تتوقت كي يلتصق جلدك الناعم بجلدي القاسي،.
كأنك قطرة غيثٍ في حلقٍ جافٍ.
حبيبي يامن أكتب لك من قلة حيلتي في حُبك وتتوقي لمشاركتك عالمي، فأنا رجلٌ قست عليه الحياة، دمرته التجارب، خذلته كل المشاعر، لذا يوم أن رأيتك أدركت أن جزءًا من قلبي لازال محفوظًا بعيدًا عن ظُلمة العالم لأجلك أنتَ فقط.
أولًا سامحني أيها الصغير على قسوتي.
لكن العالم أكثر قسوةً، وأعدك أنني قدر المستطاع سأكون رفقتك، أشد عضدك، أمسك يدك، كل يومٍ يمر عليَّ معك سأعوض فيه يوسف الصغير بداخلي عن حياةٍ لم تكتمل كما جربها، أولًا دعني أعرفك بيِّ، وفي البداية أتشرف وأسعد وأنا أقدمك لقلبي، فأنتَ يامن اسميتك بهذا الاسم تيممًا بخيرٍ أتمناه منك لقلبي المُعذب، علمًا بأن لكل فردٍ نصيبٌ من اسمه، فكان لي نصيبًا من اسمي؛ حيث تغربت عن أهلي، نُفيت عن موطني حيث قلب أمي، حُرمت من ضوء قمري، ذبحني العم، ذلني القريب، تخلت عني العمة، الجميع وقفوا ضدي وأنا في العالم وحدي يا صغيري، اعذرني على شكواي، لكن ما بيدي حيلة سوى أن أشاركك أيها الرفيق الصغير بما في قلبي، أتعلم؟ أنا مهووس بحب الأساطير، مولعٌ بحب الكتابة والفن، أعشق كل قديمٍ، حتى أن نصيبي جمعني بإمرأةٍ أشبه بخطابٍ عتيقٍ يحمل أثر الزمن، تلك سوف أسرد لك عنها آلاف الخطابات ولن يكفيها ذلك.
دعني أعود لي ولك.
سوف أسرد لك عن مجازات هرقل بطل الأسطورة الرومانية، ذاك الذي مر بكل محطات الحياة وفي كل محطةٍ واجه أكبر المخاوف وأعظمها، كل مرة يظن بها النهاية، يكتشف أن تلك النهاية هي فقط بداية الطريق الجديد، رأيت نفسي فيه، ورأيت نفسي فيك، أنت أول من أكد لي أن المُر يمضي ويمُر، أول من برهن لي أن مصطفى لم يمت بداخلي، وإنما يوسف القاسي الصلد هُزِم أمام براءة عينيك يا صغيري، اعذرني ربما حديثي يطول، لكنك لا تعلم مدى سعادتي وأنا أكتب هذا الخطاب لك، فأنا رجلٌ ظن الحياة توقفت عند لحظةٍ ما، ظننت أن قلبي موصدٌ عن طرقات العشق، حسبت أن نصيبي من النساء كان في الغدر فقط، لكن كل ذلك يا صغيري تلاشى حينما ضممتك بجوار قلبي أول مرةٍ، أتعلم؟ رغم حُبي لتلك المرحلة معك وأنا أحملك كل يومٍ فوق كف يدي وأضعك بجوار خافقي، لكني لازلت أتتوق أن أراك في كِبرك وأنتَ تسير بجواري ويدك في يدي، أتتوق لسماع اسمي من بين شفتيك، أتتوق لسيرك وأنتَ تستند على يدي في أولى خطواتك، أشتاق للمعة عينيك عند رؤيتي حين أطل عليك في كل وقتٍ وحين، أرغب أن أرى فيك ترحيب الوطن بعودة المحارب الغائب، وأنتَ يا صغيري موطني الأخير لطيرٍ هاجر الحياة وعاد لِعُشه.
مع تحيات أبوك الموصوف بالغريب
يوسف الراوي لحبيب روحه الأول
يامن يوسف الراوي.
أنهى الخطاب وقلبه يتراقص خلف ضلوعه، عاد ببصره يرمق الصغير في نومته ثم فتح صندوقًا بُني اللون ووضع به الخطاب الأول، ستكون تلك هي عادته الجديدة في هذه الحياة، الكتابة لابنه عن حياته وعالمه، حتى إذا حدث ما يخشاه وفارقه يكون قد ترك له خُلاصة تجاربه في الحياة رغم قسوته، أغلق الدفتر وحمل ابنه يضعه بجوار قلبه ثم ضم قبضته داخل كفه، يشتم رائحته الطاهرة من كل دنسٍ، النقية من كل قُبحٍ ثم بدأ يغفو ويُغمض عينيه.
أتت عهد ورآتهما سويًا، تنهدت بقوةٍ ثم أغلقت الضوء الساطع وسحبت صغيرها من بين ذراعي والده الذي فرق جفونه بخوفٍ وفزعٍ فربتت فوق كتفه وهي تبتسم له ثم همست بصوتٍ خافت:
متخافش، هنيمه في سريره، قوم نام شوية.
تحرك من موضعه ثم ولج غرفته وسقط فوق الفراش بتعبٍ بينما هي وضعت الصغير بمهده في نفس الغرفة ثم اقتربت منه، سحبته حتى وضع رأسه فوق خافقها وبدأت أنفاسه تنتظم تدريجيًا وقبل أن يغرق في النوم الهاديء قال بنبرةٍ غلبها أثر النوم عليه:
أنا و يامن محظوظين بيكِ، أنتِ نصيبنا الحلو من الدنيا.
ابتسمت هي ومسدت فوق خصلاته ولثمت جبينه حتى استسلمت للنوم هي الأخرى أخيرًا بعد أيام عذبها فيها الكبير قبل الصغير فهاجر النوم كليهما وهي بالتتابع ظلت ساهرة معهما، والآن المدينة تُعلن نهاية اليوم، بل ونهاية الأسى، لعل بطلها يأخذ قسطًا من الراحة، وغمرة من الأمان.
< آن الوقت للشمس كي تُشرق في العالم المُظلم >.
الشموس الغاربة تظهر.
تحين ولا تظل غائبة عن سماء الدرب،
الشروق لا يختبيء خلف عتمة الليل، والظلام لا يطول بدكنته في الحياة، النور يعود، الصوت يرتفع، الحق ينتصر، الظلام يختفي، العدل يتحقق، الراية تنافس حرية الطير، الحياة تموت، ونخلد نحن بكل إيمانٍ في الجنة.
بعد مرور ثلاثة أشهر إلا أيام قليلة.
الحياة لم تتوقف البتة، تسير ونحن معها نسير، بكل حلوٍ ومُرٍ نمضي والأيام تمضي، كان مُحي في طريقه للعودة إلى بيته، تقابل مع الطبيب عبدالمعز الذي قال بهدوء وابتسامة تزين وجهه:
سألت على الصيدلية اللي قولتلي عليها، جاهزة من كله محتاجة بس شوية توضيب، شوف هترجع إمتى من مشوارك ونبدأ فيها، بس لما نتطمن عليك يا مُحي وعمومًا هحاول برضه أظبط الدنيا لحد ما أنتَ ترجع، خلاص يوم الجمعة؟
أومأ له مُحي بوجهٍ بشوشٍ فربت الطبيب فوق كتفه وهو يدعو الله له، ثم رحل كلاهما بعد أن أغلقا الصيدلية ووقف عبدالمعز ينتظر قدوم زوجته وابنته، وقد ظهرت مادلين تمسك صغيرته فسألها بنبرةٍ ضاحكة:
ها نروح فين؟ عازمكم برة.
ضحكت له مادلين ومسدت خصلات ابنته وهي تقول:
المكان اللي رودي تختاره، أنا مش عاوزة حاجة معينة.
نزل بعينيه لصغيرته فوجدها تغمز له حيث المفاجأة التي تم تدبيرها من كليهما لأجل زوجته، وبعد مرور ساعة كان قد قادهما حيث أحد المحال التجارية الشهيرة، مكان زوجته المفضل، ولج بها وبصغيرته، ورغم تعجبها إلا أنها ظنتها مجرد صدفة من ابنته، وفي الحقيقة جلست وجلس هو الآخر وقبل أن يسألها عن طلبها أو تبادر هي بالحديث وصل قالب حلوى متوسط الحجم يحمل عبارة التهنئة بذكرى مولدها وحروف اسمها تزين قالب الحلوى?.
فرغ فاهها وطالعته بعينين واسعتين فابتسم لها وقال بحنوٍ:
كل سنة وأنتِ طيبة، دا أول عيد ميلاد لينا مع بعض.
ابتسمت دون أن تشعر بنفسها، حركت رأسها نحو صغيرته التي ارتمت عليها ثم ضمتها بقوةٍ تتعلق بها وهي تهنئها بيوم مولدها وتخبرها عن مدى سعادتها بتواجدها معهما، وقد اقترب عبدالمعز يقدم لها سوارًا من الذهب زين به رسغها، بينما صغيرته فأهدتها قلادة من الفضة تحمل صورتهم هم الثلاثة مع بعضهم، شعرت كأن العالم أصبح بحوزتها، بينما هو حدثها بصوتٍ خافت:.
عارف التاريخ من قسيمة الجواز، وسألت نادر قالي دا مكانك المفضل، أتمنى تكوني مبسوطة زي ما أنتِ علطول سبب مفرحني أنا وبنتي.
لمعت العبرات في عينيها ثم جاوبت بصوتٍ مختنقٍ:
متتخيلش فرحتني إزاي، ولأ دي مش حاجة بسيطة، أنتَ اهتميت تفرحني وأنا حقيقي عمري ما فرحت كدا، حتى قبلك عمري ما وصلت للراحة ولا للفرحة دي، ربنا يقدرني وأكون سبب راحتك دايمًا.
في تلك الحكاية هي الرابحة الوحيدة.
هي التي هربت من فخ الحب الكاذب المزين بكثرة المال والنفوذ والسُلطة لآخر غيره أكثر بساطة من كل تعقيدات البشر، حياة هادئة، روتينية، تشبه الحكايات التي تراها في المجتمع ذات الطبقة الوسطى?، لم تتخيل أن المجازفة كانت خير الفعل في هذه الحياة، لكنها لو لم تجازف لما كانت وصلت لتلك النقطة في هذه الحكاية التي لم يُظلم فيها سواها هي.
عاد مُحي للبيت رفقة شقيقه، كان تميم يزحف في ردها البيت وخلفه دهب التي تتبعه سيرًا على قدميها، حمله تَيام أولًا ثم دار به والصغير يضحك بملء صوته، وقد حمل شقيقه دهب وعبر الردهة حيث موضع الجلوس، لمح زوجته تجلس رفقة أبيه ومعها بقية أفراد البيت، فألقى التحية ثم جاور جنة التي ابتسمت برؤياه، بينما هو قال بهدوءٍ:.
عندي ليكم خبرين حلوين، الأول فيه صيدلية في حارة العطار على الطريق من برة، مقفولة بقالها سنة وأكتر، صاحبها سافر برة مصر وكمل هناك، عرضنا نشتريها بس والده رفض، فهنأجرها أنا ودكتور عبدالمعز ونوسع الصيدلية وشغلها، وبإذن الله نتوفق في الخطوة دي.
وصلته المباركات والتهنئات من الجميع وخصوصًا الشباب، وقد احتضنه والده يخبره عن فخره به، وقد عاد وجاور زوجته وقال بصوتٍ هاديء:.
الخبر التاني بقى إن أنا و جنة هنروح نعمل عمرة مع بعض الأسبوع الجاي بإذن الله، خلصت الورق وكل حاجة وأتمنى ربنا يكرمنا ويتقبل مننا، ودي أنسب هدية بصراحة قولت أهاديها بيها بعد كل الأيام الطيبة اللي عيشناها مع بعض وهي زوجة صالحة قادرة تصلح وتقوم خطواتي، وأنا كمان أمنيتي أزور بيت الله، وقولت لازم تكون هي معايا زي ما بدأنا الطريق مع بعض.
فرغ فاهها أمامهم، لم تصدقه إلا حين أخرج الأوراق يضعها في يدها، لثم جبينها أمامهم ثم أومأ بأهدابه لها فوجدها تبكي بسعادةٍ وهي تود أن تطير أمامهم من فرط سعادتها، وقف إسماعيل يبتسم بحنوٍ لهما ثم جاورته زوجته وهي تهمس له:
عقبالنا، عاوزين نروح الحج بقى مع بعض.
ابتسم لها ثم ضم كتفيه لعناقه وهو يقدم مشيئة رب العالمين قبل اتخاذ القرار، وقد وقفت آيات بجوار زوجها وهي تقول بصوتٍ هاديء:
مبسوطة ليهم أوي، اللهم بارك بجد، أحلى هدية والله ربنا يتقبل منهم، جنة تستاهل كل الخير اللي في الدنيا وأخوك ربنا يحفظه بقى قدوة صالحة تخلي كل الناس تتمنى تربي زيه، ربنا يكرمهم بالذرية الصالحة ويحفظهم لبعض.
لما هما يرجعوا من هناك، هنروح إحنا مع بابا.
سألته بعينيها فأومأ هو بصدقٍ لها ثم ضمها بذراعٍ وبالأخرى حمل ابنه وضمه لعناقه يغلق على عالمه الصغير من نسمة هواءٍ قد تؤذيهما وتحرمه من أمانه معهما.
الحياة أحيانًا تستحق المجازفة،
تستحق التجربة، تستحق المغامرة.
والآن هي تتلقى نتيجة المغامرة بقرب من أحبت، تجلس في المشفى فوق فراش الغرفة يتم تحضيرها للولادةِ، أيوب يجلس بجوارها يمسح فوق خصلاتها ويقرأ لها آيات القرآن الكريم، يبثها الأمان الأكيد،
يخبرها أن تلك الرحلة ستنتهي بكل خيرٍ دون عسرٍ.
في الخارج يقوم يوسف بتحضير أي شيءٍ قد تحتاجه شقيقته، أمه معه وكذلك أسرة الزوج، وفي انتظار اللحظة الحاسمة، وقد أتى إياد رفقة أبيه وجده الذي جلس في كافتيريا المشفى لحين تخبرهم الطبيبة بموعد الولادة، وقد كانت قمر تنتظر بكل حماسها، تنتظر لحظة اللقاء، تشتهي العناق، ترغب في تلك الحياة، حتى ولجت الطبيبة تقوم بالفحص الأخير ثم أخبرتها بحسمٍ:
جاهزة؟ خلاص إحنا على استعداد أهو.
أومأت لها بحماسٍ بينما أيوب فلثم جبينها وكفها ثم خرج من الغرفة، وقف بجوار يوسف الذي تبادل الدور معه وأصبح يهديء قلقه وخوفه، بينما غالية فظلت تدعو ربها وبجوارها فضل الذي وقف يربت فوق كفها، وفي الخارج جلس كلًا من عُدي و نادر مع عبدالقادر الذي كان يدعو ربه أن تخرج له الابنة بخيرٍ.
لم يخبر يوسف أخوته في منطقة نزلة السمان ولا حتى كان نَعيم يعلم، وذلك لأن الموقف أتى بمحض الصدفة، لكنه لم يرد أن يفرح وحده، ففتح هاتفه وخاصةً المجموعة الخاصة به رفقة الشباب وكتب لهم على عجالةٍ:
كلها شوية وهبقى خال يا صيع.
أرسل الرسالة بها مصحوبة برمزٍ تعبيري يدل على الغرور ثم أغلق الهاتف وعاد لرفيقه الذي لم يفعل شيئًا سوى الابتهال والتضرع لخالقه، يخشى أن يُبتلى فيها تلك المرة، يخشى أن يُبتلى في صغيره، يخشى فراق أحدهما، يتمنى أن يكون بلاءه في نفسه وليس في أحبته، وقد مر الوقت، دون أن يشعر كم مر، وجد الطبيبة تخرج وهي تقول بصوتٍ ضاحك:.
الله أكبر أسهل عملية ولادة تعدي عليا من فترة، ربنا يبارك فيهم، جابت بنت وولد ربنا يحفظهم، يتربوا في عزكم وربنا يجعلهم ذرية صالحة ليك يا شيخ أيوب.
كانت تعلم أنهما اثنين، كانت تشعر بهما ولم تخبره، بطنها لم تكن ظاهرة للحد المبالغ فيه، فأخفت المفاجأة عنه، طلبت من الطبيبة أن تخفي هذا الخبر، خاصةً أن الفتاة كانت تختفي خلف الصبي فلم تظهر إلا بآشعة خماسية الأبعاد، لم يصدق نفسه وهو يضحك ويحمد ربه، عانقه يوسف وضمه يبارك له، كذلك فعل شقيقه، ربت أبوه فوق ظهره حين ضمه لعناقه.
دقائق مرت، أكملت ساعة كاملة ثم خرجت له الممرضة تحمل الصغير وخلفها أخرى تحمل الصغيرة، وقف مشدوهًا لا يدري ما يتوجب عليه فعله، فمد يوسف يده يلتقط الفتاة، ثم دفع أيوب في ظهره يحثه على التقدم، وحينها حمل أيوب الصبي، شعلة النور والإيمان حديثة العهد والميلاد، اندفعت الدماء لرأسه، شعر بجسده يتوقف، الأنفاس تتعثر، وضع يوسف الصغيرة فوق كفه ثم قال بحنوٍ:
يتربوا في عزك وخيرك، ويا رب يكونوا زيك.
رفع عينيه الباكيتين له، ابتسم وعاد للصغيرين فوق ذراعيه ثم حمد ربه، ظل يكرر الحمد والامتنان، ضمهما قرب صدره، يشعر بالحياة تلين بعد القسوة، الظلام يفر أمام سطوة النور، المسار يعتدل بعد الانعواج، العدل ينتصر بعد الظلم، مثله يكرم مثواه بالدنيا والآخرة، دون تذكيةٍ أو جدالٍ لكن الحياة لا تنفع بغير استقامة يكون خير الجزاء فيها الجنة.
مرت ساعة أخرى أو أكثر استفاقت خلالها قمر بحثت عن الزوج ثم التوأم، حملت الصغيرة ثم مدت يدها تلمس الصغير، أمنية عمرها تحققت، حلم المراهقة بحمل توأم في رحمها تحقق، دعاء قيام الليل وهي تطيل السجود استجاب له الخالق، لثمت كف صغيرتها، ثم لثمت ابنها، ونظرت لزوجها الذي عاتبها بمزاحٍ:
مخبية عليا أنهم اتنين ليه؟ دي حاجة تخبيها؟
ضحكت رغمًا عنها، بينما نادر حمل الفتاة وخلفه عُدي حمل الصغير وقبل أن يناوشهما أيوب اقترب يوسف يضم شقيقته، فضحك أيوب ونظر لشقيقه الذي قال بنبرةٍ ضاحكة:
حق الواد تَيام وبيرجع.
تدخلت أسماء تسألهم بحماس أمٍ ملهوفة:
المهم هتسميهم إيه يا أيوب.
ابتسم لها وقال بهدوءٍ:
أنا كنت مختار اسمه لو ولد، لأن قمر أكدتلي إنه ولد وملمحتش ليا بوجود بنت خالص، وعلشان هما عوض وهبة من ربنا، هسمي الولد أُويْس معناها العوض أو العطاء أيام العرب زمان، والحقيقة ربنا عوضني بيهم في الدنيا.
ابتسموا له وبدأوا يرددون اسم الصغير، وقد نطق أيوب لرفيقه بقوله الهاديء:
البنت بقى خالها يسميها زي ما سمى مامتها.
انتبه له يوسف بغير تصديقٍ، فأومأ له يحثه على الفعل، انتفض قلب يوسف رغم بساطة الفعل لكن مثالية أيوب تبهره في كل الأوقات، حتى في هذا الموقف يشبه مصطفى لأبعد الحدود، لذا تحرك يوسف يحمل الصغيرة ويراقب نمنمة ملامحها ببشرتها الحمراء، تشبه لحظة الغروب في جمالها الآخاذ، أو ربما هي ساحرة كما لحظة الشروق، في مجملها هي شمسٌ بكل الأوقات، لذا كرر ما جال بخاطره بلهفةٍ:
شمس.
وقد كرر أيهم خلفه الأسماء متلذذًا بهما:
أُويْس و شمس! حلوين أوي.
ضم أيوب ابنته، وضمت قمر شمسها، لتكتمل اللوحة، فقدر له أن يكون أول الرجال الذين يحملون الشمس والقمر بين قبضتيه، ومعهما نجمة من السماء تلمع لتخبره أن الحياة في مجملها تستحق العيش بحريةٍ، رجلٌ عُرف بالطيبة والأخلاق العُليا فكان غوثًا لكل غارقٍ، طوق نجاة لكل غارقٍ، كان خير المثل والمثال، وأمسى خير القدوة ومن يُقتدى به، هو الذي يستحق بكل جدارة لقبًا لم يلق بسواه، هو الوحيد الذي كان للجميع غوثهم.