رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وسبعة عشر
لا مفرٍ من مواجهة ضارية مع ذكرى قاسية.
ذكرى تستحوذ عليكَ بامتلاكٍ غير شريفٍ وأنتَ في خضم سعادة كُلية، تمامًا كما فرحتك عند شاطيءٍ أغواك بشمسه ولطافة دفئه، فتناثرت عليك بعض القطرات تغزو وجهك، فجعلك ترتمي لأوسطه فتبتلعك فيه دوامة نحو الغرق، غرقٌ يسلب منك أنفاسك، حتى أن أمر التلويح بيدك مفقودٌ، فإما النجاة، أو الغرق.
حمل يوسف صغيره وهو يشعر أن جسده يتعرض لضربات كهربية، نبضات قلبه تعالت، وجهه أِحمر بشدةٍ، توقفت الأصوات حوله ولم يعد يعلم كم مر من الوقت عليه حتى يقف يحمل قطعة منه تحمل الروح فيها، لا يعلم كيف انتهى به الأمر هنا في رواق المشفى يحمل ابنه؟ لحظة.! ابنه؟ هل حقًا يحمل ابنه؟ هذا لم يكن مجرد خبالٍ؟ ألم يكن عقله عاد لمرضه وزاد الأمر عليه قسوةً حتى يعيش بهذا الحلم؟ أهذه حقًا حقيقة وليست وهمًا؟
هبطت عبراته تباعًا وضم ابنه، كان عناقه لابنه قشة قسمت ظهره، لا يعلم لما يبكي لكنه حقًا كان يتحمل أضعاف طاقته، لاحظه الجميع، لكن أسرعهم كان أيوب الذي ضمه وضم ابنه يخفيهما بين أحضانه، وواساه باليد والنظرة والعناق، وكان خير الأخ الذي يشد به أزره، ويستند عليه عضده.
كتم يوسف صوت البكاء بعد أن تكالبت عليه الذكريات القاسية، ذكريات لم تبرح خياله حتى تجلده كل يومٍ فتترك قلبه داميًا، شريط أيامه مر عليه بمنتهى القسوة ليعلم أن الحياة ماهي إلا دار شقاء أبدية، تُخالطها برهة سعادة لحظية، وهو في خضم الهزائم بأكملها، كان يحتضن الربح بين ذراعيه، بينما أيوب فهو الربح الأكبر الذي ضم الرفيق بابنه لعناقه وهمس بذكر الله في أذنه، ظل يُهديء من روعه حتى رفع يوسف عينيه له فابتسم أيوب ومسح له وجهه وقال بنبرةٍ هادئة:.
الحمدلله الذي قدر وأعان، متخليش الشيطان ينسيك شكرك لربنا على الرزق دا، بص لابنك وشوفه وملي عينك منه.
نزل يوسف بعينيه لصغيره وهو يتذكر كم كانت قاسية رحلته، كما حارب وجاهد وصبر وصمد كي تكون تلك هي نهايته، كم نام يرافق الدمع، وكم بات يحتضن القهر، كم كانت الحياة بناسها أقسى عليه من قسوة عدوٍ مُحتلٍ؟ ضم ابنه لعناقه وقد سارت القشعريرة بجسده وشعر بعودة الروح للجسد، ابتسم وتذكر أول مرةٍ يحمل فيها قمر كيف كان خائفًا، تذكر احتضان والدهما، وقد ذُكِر فحضر.
شعر بكفين مصطفى تطوقان جيده، نفس الأمان، نفس الرائحة الطيبة، نفس البسمة، نفسه صوت أنفاسه، يبدو أن الراحل كان يعيش بخلده، لذا رفع عينيه وابتسم فلمح للمرةِ الأولى صورة مصطفى يبتسم له، فأخفض عينيه لابنه، ثم رفعهما ثانيةً فلمح أيوب.! عقله وقلبه لازالا يختصرا صورة والده الراحل في الرفيق الحي، لذا ابتسم بحبٍ ل أيوب الذي صبر وكابد وعاند معه الحياة، بينما الآخر ابتسم حين فهم مقصد رفيقه.
طالت المشاعر الجميع، خاصةً الجدتين، غالية التي تذكرت كل شيءِ لكنها تحملت لأجل ابنها، و مي التي هرع الدمع من عينيها حين أتت جملة محفوظ الراحل تطرق مزلاج عقلها، فتفتح هي الباب للذكرى على مصراعيها:
ياه يا مي؟ هو أنا لسه هعيش لحد ما أشيل عيال عهد!
وكأنه كان على يقينٍ أنه لن يُكمل حتى تلك اللحظة، فتركهن وحدهن في الحياة مع عائلته الخبيثة، لذا ضمت الحفيد لقلبها تمسح فوق جبهته، طاله دمعها، فأخفته سريعًا ثم همست بصوتٍ مبحوحٍ:
هتمسيه إيه يا يوسف؟
ابتسم لها ثم اقترب منها وقال ببسمةٍ هادئة:
هسميه يامن أبويا كان نفسه يخلف ولد تاني يسميه يامن.
نال الاسم إعجابهم جميعًا، بينما هو فكان يحب الذكرى التي جمعته بالاسم، حيث جلس معه والده ذات مرةٍ في ليلة أنسٍ كعادتهما، كان يحمل فيها قمر بحديقة بيتهم الكلاسيكي القديم ويجلس فوق الأرجوحة وهي تغفو بين ذراعيه، كان المشهد المُحبب لقلب مُصطفى بلا منازعٍ، فجلس بجواره بهدوءٍ وابتسم بحبٍ وقال:
كدا محدش هيقدر يقرب منها، هاخدها منك إمتى؟
ابتسم له حينها وقال بحبٍ حين مسد فوق غصلاتها الغزيرة:
خليها معايا، أنا مبسوط وهي جنبي، ممكن تنام؟
حرك رأسه نفيًا ثم ضمهما وقال بصوتٍ هاديءٍ كطباعه:
قولي ليه عاوز تسمي يامن عجبك الاسم؟
لمعت وقتها عيناه بوهج نجمٍ سطع في سماءٍ صافية وقال:
علشان الاسم معناه حلو، أنا بحب كل حاجة يكون معناها حلو، زي ما قولتلي قصة سيدنا يوسف وخلتني أحفظ السورة، يامن معناها إنه كثير اليُمن والخير على الناس، علشان يكون زيك كدا، طيب مع الكل وكل الناس بتحبك.
وقتها زادت الضمة قوةً، زاد العناق خوفًا، سكن في عناق والده الذي لم ينفك عن احتضانه كأنه يصك ملكيته قبل أن يرحل، وما إن طال الصمت بينهما، قال مصطفى بهدوءٍ يُصارح به رفيقه الصغير لأول مرةٍ:.
عارف؟ أنا لما جدك اتجوز تاني على أمي زعلت علشانها أوي، كنت حاسس إني مدبوح، وقتها سيبت البيت ومكاني ومشيت مع أمي، بس لما عرفت إنه خلف وجاب أخوات، وقتها أمي قالتلي اللي بيني وبين أبوك حاجة، وبينك وبين أخواتك حاجة تانية، دول عزوتك في الدنيا، وطالما ربنا مش رايد ليا أجيبلك أخوات، حط أخواتك دول في عينك، والأيام دارت ومشيت، وفضلت أحبهم، غصب عني بحبهم ما أنا ماليش غيرهم، بس هما مش بيحبوني، أو خايفين يحبوني، كان نفسي يكونوا عيلة ليا، والله عينيا ما كانت خسارة فيهم، بس يحبوني.
وقتها كان لأول مرةٍ يستشف الألم في نبرة والده، هذا الرجل الهاديء الوقور كان يتألم دون أن يخبر أحدًا غير زوجته التي فقط كانت تشاركه كل شيءٍ، وقتها حشر يوسف نفسه في العناق وقال بحبٍ:
هما اللي خسروك، أقولك أحسن علشان تحبني أنا بس.
ما أنا بحبك هو أنا يعني عارف أحب حد غيرك؟
كان هذا جواب والده عليه قبل أن يمسح دمعة خائنة فرت كي تُعصي ثباته، بينما يوسف رفع رأسه يُلثم خده ثم قال بشقاوةٍ كان يتصف بها منذ صغر سنه:
عرفت بقى ليه هسميه يامن علشان ميخلينش أعيط زيك كدا.
كان منذ صغره داهية، ذكاؤه لم يكن محدودًا، بل كان يفوق عمره بكثيرٍ، لذا ضحك والده بملء فاهه، وأتت أمه تضحك هي الأخرى حينما استمعت للحديث وجلست أمام الثلاثة، كانت رشيقة، بشرتها ناصعة البياض، لامعة بدون تجاعيد الزمن القاسي، خصلاتها الكستنائية تنسدل للخلف، كلما رآها يوسف يتعجب من جمالها، وقبل أن يطوف عقله بأي استفسارٍ عن سرِ جمالها، كان الجواب في والده الذي لم يفعل شيئًا سوى إسعادها فقط.
خرج من الذكرى على المباركات والتهنئات بمولوده، والاسم الذي تمنوا جميعًا أن يحمل صفاته، وبالطبع سراج لم يتوقف عن المشاكسة مع يوسف الذي هدر فيه:
أيدك لو لمسته هقطعهالك.
والآخر بدوره تصنع الحزن والأدب ومع أقرب فرصةٍ له حمل الصغير لعناقه، ثم لثم كفه الصغير وقال بوقاحته المعتادة:
ربنا يحفظك ومتبقاش زي أبوك يا رب.
أومال هخليه زيك يعني؟ نصاب وحلنجي؟
كان الرد من يوسف أمام الجميع، بينما سراج فضحك بتشفٍ وقال بثقةٍ في محلها وإن كان الموضوع لا يستحقها:
ولما أنا نصاب وحلنجي مصاحبني ليه؟ ما تسيبك مني.
والإجابة حقًا غير معلومة، لما يصاحب هذا الداهية؟ لما من الأساس يحبه؟ توقف يوسف عن الجواب، فاقترب الآخر يقول بثباتٍ ومساومةٍ وقحة:
قول إنك بتحبني وأنا هسيبهولك، يا أخطفهولك ونعيد الحوار من تاني.
ضحك يوسف رغمًا عنه وكذلك البقية، وحقًا اعترف أنه يحب سراج كثيرًا، محبته من نوعٍ آخر مميزة عن البقية، لذا ارتمى يضمه وقال بضحكةٍ يائسة:
القط مبيحبش إلا خناقه يا ابن الجزمة.
ضحك الموجودون، بينما سراج ضم رفيقه بحبٍ، ضمة قوية تلاها الحديث الهاديء الذي خرج من القلب:
ربنا يباركلك فيه ويعوضك خير بوجوده، ويعينك على تربيته يكون راجل زيك، مع إن يوسف الراوي واحد بس مبيتكررش.
لا يعلم يوسف هل الحياة أصبحت جميلة هكذا، أم أنها من الأساس كانت زاهية للجميع عداه هو، لا يعلم لما اليوم هو مستعد أن يتحمل ثقل الجبال فوق أكتافه؟ أين مشقة الحياة، وأين تعب الليالي، وأين أرق النوم وأين الخوف من المجهول؟ وقف شاردًا ببسمةٍ يائسة حتى وجد هاتفًا نصب عينيه يحمل صورة شقيقته التي قالت بشكوى:
يرضيك يسيبني هنا وهو عندك؟ عاوزة أشوف ابنك.
ابتسم لها بتقديرٍ وحبٍ واعتذر منها بقوله:
حقك عليا بس دا كان طلبي، الجو هنا زحمة وتوتر وأنتِ مش ناقصة يا قمر خلي فرحتي تكمل، وعد أول ما نخرج هجيبه لحضنك، ماهو زيه زيي، لازم يلاقي حضنك موجود علشان يكمل.
بكت وهي تتحدث معه، رغمًا عنها بكت حينما تذكرت كيف كان الماضي قاسيًا عليهما، كيف تعرضت لفقدانه لكثيرٍ وكثيرٍ من الأيام والمواقف، استأذنت منه وباركت له قبل أن تغلق الهاتف، وما إن أغلقته، تحركت نحو الداخل تلتقط دفترها، اليوم ستكتب نصرًا جديدًا فيه، كان صاحبه يوسف.
بينما يوسف وصله خبر إفاقة زوجته، فولج بهدوءٍ يخفي شوقه ولوعته، ونيران خوفه، كان يتحرك على خطٍ مستقيمٍ تنافيه ضربات قلبه المتسارعة، ولج ووجدها تجلس فوق الفراش، تضحك له بسعادةٍ، لقد كان دومًا سبب راحتها حتى في أصعب الحالات مثل هذه، اقترب يمسك كفها وطل عليها من علياه، فوجدها تلتقط كفه ثم قالت بصوتٍ مبحوحٍ:
هو كويس؟ طمني نزل بخير؟
أومأ بأهدابه لها فتنهدت تشكر ربها ثم التفتت له تقول بنفس البسمة الهادئة التي زينت محياها البريء:
هو أنا قولتلك إني بحبك؟
ضحك رغمًا عنه ثم سحب المقعد وجلس بقربها وقال بعتابٍ مرح كأنه يلومها على شيءٍ لم تقترفه:
بقالك كتير مقولتيهاش، بس عيونك قالتهالي كل يوم.
ضحكت هي بدورها ثم ألقت رأسها على مقدمة ذراعه وقالت بيأسٍ غلبه العشق لتصبح النبرة مُقرة بالحب:
طبيعي ماهو أنتَ حبيب عيوني.
قبل أن يبدي أي ردٍ لفعلها، ولجت الممرضة بابنه، وضعته بين ذراعي أمه التي انتفضت لرؤياه، وقد حملته باكيةً، بكت وهي تتذكر تلك الضعيفة التي نزلت الشارع في منتصف الليل بعدما طُرِدت من بيتها وفي عاتقها مسؤولية كُبرى، حيث تعول أرملةٍ وطفلة، وهي فتاة أجبرها الواقع أن تصبح رجلًا، واليوم هي أنثى في كنف رجلٍ جعلها أميرة في مملكته الخاصة، واليوم تحمل دليل حبه وعشقه بين يديها، بينما هو ضم رأسها بكفٍ وبالأخرى ضم ذراعيها بابنه ثم لثمها، ولثم صغيره بحبٍ.
وقد اكتمل مثلث الحكاية،
حيث حكاية غزلت الشهامة أول السطور فيها.
فأكمل العشق دوره نيابةً عنها، ليكتب القصة،
قصة بدأت من غريبين اجتمعا من أقصى المدينة لأطرافها، فكانا لبعضهما شبيهًا اطمئن لشبيهه،
وقد أتى لهما الشبيه الثالث ليُكمل هو ويضع ختام الحكاية.
< ولتعلم الميادين أنني يوم أن ناضلت، كان نضالي حُبًا >.
إذا كُنت مُحبًا فأعلم أن؛ النضال واجب، والجهاد مطلوب.
فإن لم تُجاهد لأجل حُبك وتناضل مُطالبًا بأسرهِ فلمن تُجاهد؟ فعليك أن تعلم أن العشق ماهو إلا الميدان الذي يتطلب الجُرأة الأكثر فعالية، عليك أن تفعل ما يخبر الجميع عنك وعن نضالك، حتى وإن كان الفعل هو تخليك عن حياةٍ، لكن لا عليك سوى النضال والجهاد، فإن المُحب لمن يُحب جَهود.
في نفس الليلة ذاتها.
قُبيل منتصف الليل، جلسة عائلية هادئة لملمت شملهما، مائدة طويلة تحمل ما لذَّ وطاب، كل ما قد تشتهيه الأنفس من طعامٍ، وجوه عادت الحياة تغزو الطريق في قسماتها، بسمات تنتقل بين الشفاه، نظرات الأعين تتحدث عن انتصاراتٍ بعد خيبات الهزائم، وهذا الوسيم ذو البشرة القمحاوية بملامح مصرية أصيلة يبتسم بصمتٍ وعيناه تنتقل بين الأحباب.
كانت نورهان تتناول الطعام بالإجبار من كِنز التي لم تتخل عن صفات المرآة المصرية الأصيلة التي تعتبر الإطعام لغة الحُب الأكثر تعبيرًا بين كل اللغات، والأخرى تتناول حتى لا تُخجل يدًا امتدت لها، حتى اكتفت؛ فقالت برجاءٍ:
علشان خاطري يا كِنز كفاية كدا.
والأخرى تُصر وتُطعمها أكثر، حتى خرج هو من شروده وقال يرأف بتلك المسكينة التي ستموت ضحية تُخمة دسمة:
خلاص بقى البت هتروح مننا، مكانتش أكلة دي.
جلست خالته بإحباطٍ وهي تشير على السُفرة الطويلة وقالت:
طب دا كله هنوديه فين؟ طالما مش عاوزين تاكلوا؟
مدت نورهان كفها لها وهي تقول باسمة الوجه:
كفاية تعبك معانا، وعد هنفضل نفطر ونتغدى ونتعشى منهم.
ضحكت الأخرى وقالت بخبثٍ اختصت به الابن الوقح:
لأ وعلى إيه، أنا هقفله في علب علشان يتحط في تلاجتكم فوق، أصل باسم اليومين الجايين ربنا يقويه بقى محتاج ياكل كويس، علشان وراه شغل كتير.
ابتسمت لها نورهان وقالت تصدق على حديثها بنيةٍ بريئة:
أنا والله فرحت أوي لما عرفت إن ربنا كرمه عند عمو نَعيم وشغله هناك مريحه، وربنا يقدره ويقويه ويثبت نفسه أكتر وأكتر.
تلاشت بسمة كِنز بينما هو جاهد ليكتم ضحكته على براءة عقلها، بالطبع هي لن تصل لفهم خالته الوقحة، التي تريد إتمام تلك الزيجة لتكبر عائلتها الصغيرة، وقد تعجبت نورهان من عدم ردها، فالتزمت الصمت هي الأخرى بخجلٍ من نظرات باسم الذي لم تبرح موضعها، أخجلها بتلك النظرات التي تخصها، نظرات مُبهمة لم تفهم مقصدها، فالدليل الوحيد عليها أنها نظرات عاشق.
مرت دقائق عليه وقف فيها في الشُرفة يُطالع مصر القديمة منها، حي السيدة زينب الجميل الذي يُعبر عن مصر عشيقته الأولى، تلك التي أفنى حبه وعمره ونضاله لأجلها، وقف ينفث هواء سيجاره وصورة الحبيبة الثانية لم تبرح العقل، ولن تترك القلب، وقف والهواء يُداعب خصلات شعره الناعمة الواقفة بثباتٍ فنزلت خُصلة تتراقص فوق جبينه، تزامنًا مع لمس كفها لظهره، فأجفل من لمسةٍ وتعالت النبضات بقلبه كأنها خير الدليل على أنه لازال حيًا.
التفت يواجهها بملامح متألمة، فقرأت في عينيه هذا الألم، حتى لو كانت جاهلةً فيه إلا أن عينيه تجعلها فصيحة، لذا مدت يدها له بقدح القهوة ثم قالت بهمسٍ رقيق:
أنتَ فيه حاجة وجعاك؟ ضهرك بيوجعك؟
تهجمت ملامحه على الفور، التفت يواري عينيه عنها ويخفي سوط الألم عن عينيها، ارتشف رشفة قصيرة من القهوة، بينما هي وقفت بصمتٍ تجاوره، حاله يتباين بين طرفة العين والأخرى، يتحول بمقدار الثواني المارة عليهما، وهي تتقبل لتباينه، تراه يندم على اقترانه بها؟ أم أنه يرى نفسه تورط فيها؟ العديد من الأفكار الصعبة تملأ رأسها تجاهه، لكنه طلَّ على عينيها فقرأ الحيرة، والحيرة تخصه وحده، لذا حرك كفه يمسك مرفقها برفقٍ ثم تنهد وقال بصوتٍ هاديءٍ:.
مش حاجة من اللي بتفكري فيها، ومش ندمان علشان بقيت معاكِ ولا حاسس إني متكتف بيكِ، بالعكس أنا أول مرة أحس إني حُر وقادر أعمل حاجة أنا عاوزها، بس أنا ضهري دايمًا مسبب ليا عقدة، لمسة واحدة عليه، بتخليني أخاف، وقبل ما تسألي هجاوبك، أنا كنت معتقل في سجون سياسية، وأظن يعني ممكن تكوني سمعتي عنها، ضهري دا كان بيشوف كل يوم نوع جديد من العذاب، كنت مرمي على الأرض، أيدي ورجلي متكتفين، راسي مربوطة زي الكلب، وفي عز التلج والشتا، كان بيتحط فوق ضهري لوح تلج، وأتضرب علشان أفضل أمشي بيه، وأقضي الليلة كلها كدا لحد ما يسيح، وبعدها أتجلد فوق ضهري تاني، بس المرة دي وهو تلج وبعدها بساعات، كنت بحس إن ضهري محروق، ولو لامست الحيطة بس كنت بتكهرب.
نزلت العبرات من عينيها، شعرت أن قلبها يتألم وهي فقط تتخيل مقدار الألم، حتى أن خُيْل لها أن ظهرها يؤلمها بهذا الشكل، انسكب الدمع من عسليتيها، فمد كفه يمسح ببنان أنامله عبراتها حتى قالت هي بندمٍ لما فعلت:
أنا آسفة والله، حقك عليا متزعلش مني.
لمح الندم من عينيها كأنها تجلد نفسها بسوط اللوم، لذا ضمها لعناقه فدفنت رأسها بعنقه وكتفه، تبكي بصوتٍ مكتومٍ، لذا مسح فوق خصلاتها الشقراء ثم قال بهدوءٍ:
مش زعلان علشان مالكيش ذنب، أنا مقولتش ليكِ فطبيعي متعرفيش حاجة، المهم إنك معايا خلاص، ساعديني أنسى اللي فات كله، وأنا معاكِ أساعدك تبني اللي جاي، موافقة؟
في الحقيقة هي دون لا تستطع،
وهو من غيرها لا يُريد، الأمر يشبه عملية حسابية بسيطة، فأبدًا واحد بغير واحد لن يساوي اثنين، هو يحتاج للواحد الآخر ليكمل النصف المحترق فيه، وهي تحتاج للنصف القوي حتى تستطع إسناد نفسها، لذا أومأت له موافقةً ولا تعلم علام وافقت بالضبط، لذا لن يكن خبيثًا لهذا الحد، فاقترب من أذنها يهمس بطلبه منها.
تورد وجهها خجلًا وابتسمت له بعينين لامعتين، فأدرك الجواب لذا شد كفها يقبض عليه بكفه، ثم تحرك بها للخارج وقال لخالته بصوتٍ عالٍ لم يجعلها تتعجب، بل أصبحت على يقينٍ أن تلك العائلة وقحة لا شك في ذلك:
تصبحي على خير يا خالتو، وعد مني هملالك البيت عيال.
في الداخل من عند المطبخ أطلقت خالته زغرودة عالية، جعلت زوجته تجحظ بعينيها، وقد حمدت ربها أنها لم تر أمه وإلا كانت تلقت الصدمة فيها هي الأخرى، لذا كانت تسير معه بقلقٍ واضطرابٍ حتى وصل شقته وفتح الباب وفي لمح البصر حملها فوق ذراعيه، وقد طالعته بخوفٍ فيما ابتسم هو ثم قال بهدوءٍ:
علشان بس تبقي تقولي إني شايلك على كفوف الراحة.
مر بها في الشقة حتى وضعها في الغرفة التي سبق وزينها لأجل هذا اللقاء المقدس بينهما، وضع الدُب القطني الخاص بها يحمل زهرة التوليب بنفسجية اللون، ووضع بالجوار خاتم دِبلتها، ووضع هاتفًا جديدًا لأجلها، إضاءة خافتة ذهبية اللون، غرفة حديثة التصميم وشقة كاملة جددها حتى تليق بها، وقفت تدور حول نفسها في الغرفة بينما هو اقترب منها وعلى حين غرة أمسك كفها ثم الخاتم بكفها الأيسر.
ارتجفت أوصالها بمجرد أن فعلها، بمجرد أن عاد خاتمه لإصبعها باختلاف الكفوف، رفعت عينيها تطالعه بنظرةٍ شغوفٍ فرفع كفها يُلثم راحته ثم أسر عينيها بعينيه الصافيتين بلون القهوة الممتزجة بدرجات البندق، لمح في عينيها سعادة مسروقة، لذا سحب الهاتف وضعه في يدها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:.
موبايلك ودبلتك خدتهم منهم لما روحتي علشان تبدأي من تاني، تليفونك للأسف كان بيبوظ معرفتش أتعامل معاه، وكان ممنوع أجيبهولك، علشان كدا رميته وجيبتلك واحد تاني بخط تاني علشان البداية تكون جديدة هي كمان، يا رب يعجبك.
ابتسمت له ببراءةٍ وهي تفتح الهاتف الغالي وقد تنهدت بقوةٍ ثم تركت الهاتف على الفراش وقالت بنبرةٍ ناعمة دون أن تقصدها:
دا اللي عاوز تقوله ليا، بس الحقيقة غير كدا، صح؟
تعجب من قرائتها له، بينما هي قالت بنفس الهدوء:
أنتَ كسرت التاني عن قصد علشان أي رقم وأي حاجة ليها علاقة بالمخدرات تضيع، وعلشان مشوفش صوري زمان وأحس إني عاوزة أرجع تاني، بس أنا سيبت كل دا علشانك أنتَ، كان لازم أليق بيك، مكانش ينفع أخليك تخاف معايا، وعلشان كدا هديتك مقبولة.
ضحك لها وقد انفرجت أساريره، بينما هي رفعت كفيها تتلمس ملامحه، أرادت التحقق من حقيقة تواجدها معه، لذا قررت أن تصارحه، فهبطت بكفيها وجلست فوق الفراش وهي تقول بصوتٍ مهزومٍ:.
نفسي أقولك إني خايفة، خايفة مني عليك، خايفة أكون واحدة أنانية أعمل زي ما ماما عملت مع بابا، سابته علشان تتجوز حد تاني، وهو راح اتجوز واحدة غيرها، وفي النص سابوني، كنت لسه عندي 18 سنة، كنت لسه صغيرة وبحاول استوعب الحياة، فجأة لاقيت نفسي من غيرهم وهما عايشين، قعدت معاها لحد ما شهور العدة خلصت بعدها بأسبوع هي نفسها اتجوزت، وجوزها رفض وجودي، رجعت لبابا مراته رفضتني.
نزلت العبرات من عينيها، فجلس أمامها على عاقبيه، حينها سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بصوتٍ مبحوحٍ:.
وقتها كنت مستغربة إزاي مشاعر الرفض دي صعبة كدا، يمكن لو كان حد فيهم مات هيكون أهون عليا من إنهم يعملوا كدا فيا، بس فكرة إن هما عايشين وعملوا كدا كانت صعبة، كان ليا واحدة صاحبتي، كانت بيتي وعيلتي كلها، وقتها كنت برمي عليها كل حاجة، مكانش ليا غيرها، عزمتني مرة عندها وروحت شوفت بيتها وعملتها وحبيتهم أوي، وحكيت قصادهم ظروفي، بعدها هي غابت عني، مشوفتهاش تاني، ولما روحتلها عرفت إن أهلها خايفين عليها مني، وقتها هي كمان بعدت عني، العالم كله رفض وجودي وسطهم، علشان كدا.
تجمد سيل الكلمات عند طرف لسانها، لكنه ترك لها المساحة كي تتحدث عن كل شيءٍ ألمها، فأكملت هي بصعوبةٍ:.
فضلت أذاكر في الكلية بس، كنت أصلًا شاطرة جدًا، ذاكرت وكانت الكلية هي المكان الوحيد اللي ليا، علشان كدا كنت بنجح بتقديرات رهيبة، لدرجة إني كان ممكن أتعين معيدة، بس لما اتخرجت وقعدت في البيت كان عندي 22 سنة، نزلت النادي وأنا معرفش حد، الناس كلها رفضاني حتى شهد وواحد كنت فاكرة نفسي بحبه، فمش بستغرب، ولما نزلت النادي و.
هناك اتعرفت على الشاب دا اللي كنت باخد منه المخدرات، فضلنا فترة نتكلم وعرفني على شلة هناك وبقوا صحابي، بنسهر ونخرج ونسافر، مكانش فيه عندي أي موانع، فلوس عندي كتير، بيت كبير ليا لوحدي، ومفيش أهل بتسأل، ودخلت الطريق دا، كل ما أحاول أخرج منه أرجع أصعب من الأول، علشان كدا بعتبرك فرصة العمر ليا اللي طول عمرها بترفضني، حتى لو مش بتحبني، وعاوزني بس من باب الظروف وأكون مراتك وبس أنا مستع.
بترت حديثها حينما وضع كفها فوق فمها، تأهبت حواسه ودون أن يشعر وجد نفسه ينحني على كفها يُلثمه كي يُخبرها أنها في عينيه أغلى وأثمن من أن تُفكر في نفسها بتلك الطريقة، ثم رفع عينيه لها وقال بصدقٍ:.
والله بحبك، مش بس علشان تكوني مراتي واللي بينا يكون دا أخره، علشان أنا مش شايف غيرك قصادي، مش قابل واحدة غيرك تكون معايا، يمكن ربنا بعتني اليوم دا علشان ألاقي نصيبي فيكِ، وعلشان تلاقي أنتِ حقك فيا، أنتِ أكبر من إن واحد زيي يعتبرك واحدة وخلاص ياخد منها مزاجه، أنتِ تتحبي وتتحبي أوي كمان، واللي سابك وخسرك بكرة هيجيلك ندمان، هما كلهم خسروكِ بس أنا كسبتك، ولو على كل اللي شوفته أنتِ نصيبي الحلو فيه، أنا راضي بيكِ نصيبي.
ختم الحديث بربتة خفيفة فوق كفها ثم ارتفع ووقف وسحبها كي تقف مقابله ثم مال يُلثم جبينها، وضع قبلته الأولى كي يسترضيها والثانية حتى تعتاد قربه، والثالثة حتى تعلم أن كل المسارات في النهاية تؤدي له هو، أما هي فلأول مرةٍ تستشعر أهمية الحياة بدون مخدرات، الحياة بغير اللون الأسود الداكن الذي كان يتواجد بها أسفل عينيها جميلة، تمامًا كمن كانت تعيش في كهفٍ مُعتمٍ وكل ما يصلها من الخارج فقط صوت البرق والرعد، وعند حظها يوم أن خرجت رأت بأم عينيها الربيع بأزهاره وألوانه.
منذ شهورٍ أحبت العين رؤيته.
ثم وقع القلب في فخ طَّلته، ثم أجبرها العقل على حُبه،
وفي هاته اللحظة هي تُقر أن كل ما فيها
حتى روحها خُلقت من هذا الضلع،
ليكون فيما بعد مكانًا ومستقرًا لها.
< إني معك ولك وفي ظهرك وإن كان العالم كله ضدك >.
في بعض الأحايين لا نخشى المواجهة.
لكن ما يخيفنا حقًا هي تلك الوحدة التي نكون فيها في مواجهة العالم، فمن الصعب أن يكون المرء وحده في الحرب والجميع لبعضهم أعداءٌ له، فقد لا نُجبر على الاستسلام لكوننا الخصم الضعيف، بقدر ما قد نستسلم لكوننا الخصم الوحيد.
قُبيل الفجر، في المشفى كانت الأحوال هادئة للغاية.
يوسف اطمئن على ابنه الذي رضع من أمه، ثم اطمئن على زوجته التي نامت بعد أن نام الصغير، وقد رحلوا الجميع بطلبٍ منه، عدا الوحيد الذي لم يتركه وحده مهما كان الأمر، فخرج من الغرفة بهدوءٍ ليجد أيوب يُقيم الليل في رواق المشفى، ابتسم بهدوءٍ ثم جلس على مقربةٍ منه حتى أنهى أيوب صلاته وأنهى التسبيح فوق عُقله والتفت للصديق الذي راوغه بقوله:.
دعيتلي يا شيخنا؟
ابتسم بيأسٍ وجلس بقربه يطوي سجادة الصلاة ثم قال بمزاحٍ:
لأ، دعيت ل يامن بصراحة.
رفع حاجبيه بذهولٍ كردٍ على حديثه، فيما أغمض أيوب جفونه يُطبقها فوق بعضها، فلاحظ تذمر يوسف بملامحه فسأله بسخريةٍ بعد أن أعاد إغماض جفونه:
غيران من ابنك؟ هما مش بيقولوا أعز الولد ولد الولد؟
ضحك يوسف رغمًا عنه وكذلك رفيقه فيما اعتدل أيوب للأمام وتنهد بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
دعيتلك، أنا مبعملش حاجة غير إني أدعيلك ربنا يريح قلبك ويطمنك دايمًا، وبدعي ربنا ينور بصيرتك ويثبتك على الحق.
ابتسم يوسف ثم تذكر أمر شقيقته فسأله مندفعًا بقلقٍ عليها، ليأتيه الجواب أن ضُحى معها تبيت هذه الليلة، فطلب منه يوسف بهدوءٍ ورجاءٍ ألا يرفض مطلبه:
طب ينفع تروح؟ معلش علشان أكون متطمن عليها، أنا خلاص أتطمنت وهما كويسين وبعد الفجر هنروح عند حماتي، بس قمر لوحدها وكل شوية تتصل شكلها منامتش، متقلقش يلا.
رفض أن يتركه وحده ويتحرك، لكن قدوم نادر غير الثوابت، حيث أتى بعدما جفاه النوم وهجر النعاس عينيه، وقد ألقى التحية ثم جلس في مدخل العيادة الخاصة التي كانت تعمل فيها عهد وحينها فضل أيوب أن ينسحب ويتركهما مع بعضهما، وقد جلس نادر بسترة رياضية على عكس ملابسه الرسمية التي كان يرتديها قبل سويعات، وقد التفت ل يوسف يسأله بثباتٍ:
فطرت؟ ولا أخرج أجيبلك فطار؟
انتبه يوسف للساعة وقال بسخريةٍ:
مين هيفطر قبل الفجر؟ وليه يعني؟
زفر نادر باختناقٍ وضيقٍ فلمح يوسف ذلك لذا جاوره وسأله بهدوءٍ على عكس المعتاد من جموده واقتضابه:
مالك يا نادر فيك إيه؟ وإيه اللي خلاك ترجع تاني؟
تنهد نادر وزفر حيرته على هيئة هواءٍ من رئتيه ثم قال بتيهٍ يعبر عن أفكارٍ دارت بخلدهِ روحةً وجيئةً طوال الليل المنصرم:.
رجعت علشانك، معرفش ليه بس حسيت إنك ممكن تكون محتاجني معاك، أو يمكن أنا ملحقتش أشوف ابنك، عاوز أشوفه وأشبع منه، عاوزه يكبر يحبني، مش عاوزه يعرف حاجة عن نادر القديم، يمكن هو هيتولد كدا بيحبني بس لو سمع هيكرهني، وطلبي منك إنك متخليهوش يكرهني، أنا ما صدقت الحياة اللي كان نفسي فيها تظهر، وجودك أنتَ وأخواتي معايا، ابنك اللي هيعوضنا كلنا، الود والحب اللي ما بينا، بلاش حاجة تعكر الحب دا.
أشفق عليه يوسف حقًا، أدرك أن الضحية الوحيدة بين الجميع كان نَادر الذي دفع الثمن طوال عمره، لذا مد كفه يُربت فوق كف نَادر ثم هتف يطمئنه بقوله الهاديء:.
اللي فات مات، واللي حصل بينا كلنا كأنه محصلش، محدش خسر كل حاجة غيرك، لو هقوله عليك حاجة هقوله عمك راجل وتربية راجل، مش عاوزه يكبر خايف من حد، عاوزه يكبر بيحب كل الناس، عاوزه يكون مصطفى الراوي بجد من غير أي نقط سودا في حياته، ريح نفسك وطمن قلبك يا عريس.
ابتسم له وقبل أن يرد عليه صدح صوت هاتفه، أخرج الهاتف ليجد اسم زوجته فغمز له يوسف ثم تركه وذهب يتوضأ قبل صلاة الفجر، أما نَادر تحرك حتى نهاية الرواق فوجدها تقول برقةٍ:
معرفتش أنام قولت أكلمك، أنتَ كويس؟
في الحقيقة بمجرد أن يستمع لصوتها يغلبه الحنين، لذا توسعت بسمته وبان ذلك في صوته حين قال بمراوغةٍ شقية:
قبل المكالمة ولا بعدها؟
الاتنين لو مش هيضايقك يعني.
وصله جوابها البسيط الذي يخبره أنها تعتاد عليه دون أي تكلفٍ أو حتى زيفٍ منها، بل هي تعود للتلقائية كي تنتهجها معه، فجاوب بقوله البسيط:
قبل المكالمة كنت مخنوق وحيران ومش فاهم المفروض أعمل إيه، حاسس إن الحياة فاضية، بس لما كلمتك عرفت المفروض أعمل إيه خلاص، الحل طلع بسيط.
وإيه هو بقى؟
أتى السؤال مصحوب بضحكةٍ رقيقة وصلته، فجعلته يرد بشقاوةٍ:
إني أنزل أقابل حنين دلوقتي، موافقة؟
رمت بعينيها نحو الساعة لتجدها قرب الرابعة فجرًا، توسعت عيناها، بينما هو فأخذ القرار لذا أغلق الهاتف ثم ودع يوسف الذي عاد وفرد سجادة الصلاة كي يصلي ركعتي الشكر لخالقه، كان يحتاج للصلاة حتى يطمئن باله وقلبه، بينما نادر فتحرك نحو بنايتها بعدما مر على محل بقالة صغير الحجم وجلب منه بعض الأشياء، ولج البناية وجلس فوق الدرج عند طابقها وقد هاتفها وما إن جاوبته قال بثباتٍ:.
دقيقة واحدة لو مخرجتيش هخبط وأصحيهم.
توسعت عيناها وتركت الفراش بفزعٍ، ركضت نحو الباب تراه من التجويف السحري فلمحت ظهره، خجلت من الموقف لذا فتحت الباب وهي تسأله بهمسٍ حانقٍ:
أنتَ مجنون يا نادر حد ييجي في وقت زي دا؟
أومأ لها موافقًا ثم التفت يرد على همسها بقوله:
هتيجي تقعدي ولا أدخل للحج أقوله بنتك مكلماني الفجر تقولي غلبني الشوق وغلبني وليل البعد مدوبني؟ وهو عارف إنك بتحبي الست وهيصدقني.
ضحكت بيأسٍ ثم خرجت وردت الباب وجاورته فوق الدرج، بينما هو رفع لها الحقيبة ثم أشار لها أن تختار منها ما تريد، فاختارت لهما سويًا زجاجتي عصير ثم غطت خصلاتها جيدًا، بينما هو فراقب النمش المنثور فوق أنفها، راقب ملامحها المحببة لقلبه وأشبع عينيه بمظهرها، بينما هي تجاهلت نظراته وأخفضت عينيها عنه تسأله بصوتٍ خافت:
ها؟ جيت ليه دلوقتي؟
علشان محتاج أتطمن، محتاج أشوف نصيبي الحلو.
رفعت عينيها بمجرد أن جاوبها، فيما قرر أن يكون صريحًا معها فقال بصدقٍ دون أن يخفي عنها أي شيءٍ:
بصراحة طول عمري بسمع إن الحب بيطير العقل، بيخلي الإنسان مجنون وميعرفش هو بيعمل إيه، فقولت وماله أتجنن معاكِ، أجيلك ناكل حاجة حلوة، نسمع أغنية رايقة مع بعض، أقولك إني مستني بفارغ الصبر علشان أشوف وشك كل يوم، مستني اللحظة اللي هكون معاكِ فيه وآخدك في حضني كل يوم، مستني كتير بصراحة يا حنين.
تورد وجهها خجلًا، شعرت أن مشاعره تجتاحها، لقد تخلى عن كونه صبورًا، حتى أنه اقترب منها مشدوهًا وطبع قبلته فوق وجنتها، توسعت عيناها وفرغ فاهها، بينما هو عاد لسيرته الأولى يطالعها فوجده تخفي وجهها عنه بخجلٍ، لذا ضحك وهمس بقوله الوقح الذي مازال يدهشها به:
أنا بقول من هنا لحد الكام يوم دول ما يعدوا أجي كل يوم أديكِ كورس في التعامل، بحيث تكوني خدتي عليا بدل الكسوف اللي هيجيبنا ورا دا يا حنين.
ضحكت رغمًا عنها ولكزته بعتابٍ فيما أتى صوت شقيقها يقول بسخريةٍ عليهما وهو يجلس خلفهما:
والله ما حاجة جايباكم ورا غير القعدة دي.
توسعت عيناها حدَّ الجحوظ بوصول صوته لها، بينما نادر فكان يعلم أن هذا الحدث واردٌ، لذا التفت له يقول ببساطةٍ دون أن تهتز به شعرة واحدة:
يا جدع؟ وأنتَ إيه اللي مسهرك لدلوقتي؟
راقبته وهو يتصنع الثبات كأنه لم يفعل أي شيءٍ وكذلك شقيقها الذي فرغ فاهه، فوجده يستقيم بوقفته ثم أشار عليه بجمودٍ يأمرها هي بقوله:
لو كلمك ولا رفع عينه فيكِ عرفيني علشان أسلخه.
وفقط اكتفى بتهديده ورحل بعد أن مال يُلثم وجنتها الأخرى ثم همس في أذنها بقوله الوقح الذي وصل شقيقها بالفعل:
علشان متغيرش من أختها بس.
ضحك ورحل وترك خلفه قلبها يقسم أن الوقوع في حب رجلٍ مجنون من أجمل الأحداث التي قد تداهم حياة إحداهُّن، وهو كان المُداهمة الأكثر لُطفًا على أيام عمرها، حتى لو كانت ترفض مبدأ الإحتلال، فسيظل هو إحتلالًا تم الترحيب به ليغزو أيام عمرها.
< القلب نصفان، نصفٌ خُلِقَ لكِ ونصفٌ يحيا بكِ >.
الروح ترتكن لمن يُشبهها.
تلتئم بجوار أحبابٍ كانوا أهلًا للقلب،
تتعجز من ألمها في أحضان من تُحب فتشعر أن طمأنينة العالم بأكملها تفرد ذراعيها له، الروح إذا اطمئنت آوت الأحباب،
وإذا سكنت رحمت من العذاب.
اليوم الثاني نصفه مر ومضى.
السعادة تملأ الأوجه بعد أن فاضت بها القلوب، الغرف تحمل القلوب بأجنحة الفراشات، الجميع تملأهم سكينة تغدق أيامهم، حتى أن قمر نفسها تلك المشوشة في الأيام الأخيرة التي كانت على شفا حُفرةٍ من الجنون الأكيد هدأت أخيرًا وبدأت تعود للحياة بكامل طاقتها، دون خوفٍ في الليل، أو اضطرابٍ في المشاعر، أو حتى قلق مُضاعف كما شخصتها فُلة.
جلست في شقتها بعد أن عادت من عند شقيقها في بيت أمها، رأت ابنه واحتضنته وتركته في عناقها، كان صغيرًا يحمل الروح، لكنها رأته ملاذًا طيبًا، كانت تحتضنه بقوةٍ كأنها تعوض تلك الفترة التي غاب عنها فيها شقيقها، وقد عادت بمعاونة عُدي الذي أوصلها وذهب لعمله بعد أن أنهى بعض الأعمال في شقته.
جلست ببطنها المتوسطة تمسح فوقها بحبٍ وهي تنتظر اللحظة تلك، تنتظر عوض ربها بذريةٍ صالحة مثل والده، تنتظر مجيء الصغير كي يمسح فوق قلبها كما فعلها في المرة الأولى حينما أتى بموعده الصحيح، فتذكرت يومها جيدًا، بدلت ثيابها بعباءة بيتية قطنية تلتصق فوق جسدها وتُبرز بطنها وتصل لركبتيها، وفردت خصلاتها الغزيرة تتراقص بحريةٍ فوق ظهرها، ثم جلست بهدوءٍ بدون خوفٍ أو قلقٍ.
الأمر تطلب الكثير منها ومن أيوب الذي قام بتعطيل بعض الأعمال لأجلها، كانت في بعض الأحايين تبكي وتصرخ بهلعٍ وتتوسله ألا يتركها، وهو في النهاية يرفض العمل ويؤجله ويجلس معها في النهاية، وإذا اضطر لبعض الأعمال كان يتركها عند أمها ثم يعود في نفس الليلة لا يتأخر أكثر من ذلك.
ألقت رأسها فوق ذراع الأريكة ثم غاصت في بحور الذكرى، تذكرت كيف خرجت من عند الطبيبة ذاك اليوم بعد أن علمت بخبر حملها، خرجت والكلمة تتردد في صداها، حتى أنها أخبرتها عن محاولة الاغتصاب وعن عدم إتمام الأمر، ثم أخبرتها عن تخطيها للأمر بمعاونة زوجها، فطمأنتها أن ما في رحمها ابن أيوب وهذا ما اتضح من تاريخ الحمل وفقًا لبقية التواريخ، وقتها جلست بجوار غرفته تنتظر خبر الإفاقة، ففي تلك اللحظة أصبح الأمر في غاية الصعوبة، هي لن تقدر على تربية صغيره وحدها، لن تستطع أن تفعلها وتربي كما تربت هي بدون أبٍ.
نزلت بعينيها للرواق فلمحت أيهم يجلس ضاممًا رأسه بين راحتيه، ولوهلةٍ أتى الشيطان يلعب في ذهنها، هل سيحدث مع صغيرها كما حدث معها؟ هل ستنقلب العائلة ضدها إذا حدث له ما تخشى حدوثه؟ العديد والعديد من صخب الأفكار السوداء داهمت عقلها فجعلتها تتراجع وتستغفر ربها، وفي وقتها خرجت الطبيبة خلفها تؤنبها بقولها:.
مينفعش تقعدي كدا، لازم تاكلي وتتغذي كويس علشان اللي في بطنك دا، أنتِ لسه في أول أيام حملك والحمدلله إنه ظهر قبل ما ينزل بسبب المجهود، لو سمحتي قومي معايا.
انتبه أيهم فاقترب منهما وسأل بجمودٍ:
فيه إيه؟ وحضرتك بتكلميها كدا ليه؟ دي مرات أخويا.
التفتت له الطبيبة وقالت بهدوءٍ نسبي:
عارفة يا فندم، بس هي أغمى عليها من شوية مع والدك وعملنا ليها تحاليل وطلعت حامل، الأفضل ليها إنها تخلي بالها من صحتها ونفسها علشان للأسف الجنين لسه في الأول خالص، الأفضل هي تروح البيت ترتاح وتتغذى بدل شدة الأعصاب هنا، ودي روشتة فيها فيتامينات وأدوية تمشي عليها لمدة 3 شهور، ودلوقتي ياريت تاكل أو على الأقل نعلق محاليل.
تباينت مشاعر أيهم فورما علم بحمل زوجة شقيقه، لا يفهم ما يتوجب عليه أن يفعله في تلك اللحظة، هل يُحق له أن يفرح وهو لا يعلم ماذا حدث مع شقيقه بالداخل؟ شكر الطبيبة بعرفانٍ وامتن لها، ثم انتظر رحيلها والتفت ل قمر يعاتبها بقوله:.
ينفع كدا؟ طب لو مش علشانه هو علشانك أنتِ وأبوه، ولا حتى علشان يوسف اللي هيخرج من هنا ميلاقيش حد فينا مقصر، اسمعي كلامي هقوله مش هيتكرر، هطلب عربية تيجي تروحك عند خالك، تفضلي هناك تخلي بالك من نفسك وابنك لحد ما أبوه يخرج بالسلامة، ووعد مني لو حصل حاجة هعرفك، ولما يفوق أول واحدة هتعرف هي أنتِ.
لم تقدر على الرفض، هي تعلم قوة أيهم وإصراره خاصةً عند الأمور التي تتعلق بزوجها، فجلست تنتظر حتى أتت السيارة تقلها للحارة، وتحركت بالفعل وهي تترك قلبها بجواره، تحركت جثة خالية من الروح، والروح هناك تعاني الويلات بجواره، قضت نصف الليلة عند أمها التي جلست تبكي على ابنها المحبوس بتهمة القتل، فشعرت بالتعب يتضاعف كأن الروح ركضت هي تبكي معها بجوار شقيقها الذي من المؤكد يعاني هناك.
عند حلول الفجر رنَّ هاتفها، انتفضت من فوق سجادة الصلاة ليحدثها أيهم ويخبرها أن شقيقه قد فاق وعاد للحياة، وقتها انتفضت فوق السجادة تحمد ربها، سجدت لله شاكرةً باكيةً، وقفت تتعرقل في طرف العباءة، أوقظت خالها والجميع فنقلها نادر و عُدي له، بينما غادر فضل ل يوسف يطمئن عليه ويُطمئنه، وبعد حلول ساعتين استفاق أيوب كُليًا وبدأت يستوعب هذا المشهد الذي تكرر معه حتى أنه اعتاده وما إن لمحته ارتمت بجوار الفراش تُلثم كفه بجنونٍ، حقًا كاد عقلها أن ينفلت من عُقاله، بينما هو همس بصوتٍ خافت:.
يو. سف فين يا قمر.
سأل بلسانٍ ثقيلٍ جعلها تبكي بصوتٍ حادٍ، خارت قواها فارتمت بكليتها بجوار الفراش باكيةً، انتفض قلبه وهو يشعر أن هناك جزء لازال مفقودًا في تلك الليلة، وبعد أن علم بما حدث أصر على الرحيل، عاند الجميع ووقف على قدمه وتحمل كل الضرر وحده حتى يلحق برفيقه، ووقتها أدركت هي لماذا هو دونًا عن غيره من الرجال الذي وقع القلب أسيرًا في حُبه.
غفت بموضعها ولم تفق إلا حينما اخترقت رائحته الطيبة أنفها، يبدو أنها قد أتى من عمله، ويبدو أنها تتوهم، لا يهم، ما يهمها حقًا هي غمرة الأمان التي حاوطتها، حتى أنها شعرت بجسدها يرتاح فوق شيءٍ صلب، ورغم ذلك كان حنونًا، ابتسمت لهذا الحلم الجميل ورفعت كفها تُربت فوق خافقه وهي تقول بصوتٍ ناعس:
يا رب أجيب عيال حنينة زيك.
ابتسم هو رغمًا عنه ثم مسد فوق ذراعها، شرد بهدوءٍ وهو يشعر أن النوم هجر اجفانه فتركه ساهرًا وحده، حتى هي سبب سهره وتعبه كل ليلةٍ نامت وتركته وحده، نزل بعينيه يُملي مُقلتيه بها، فابتسم رغمًا عنه، مطروف العين كان ولازال كما هو، على عكسها هي تزداد فتنةً فتغويه نحوها، تزداد جمالًا وأنوثةً فيخضع هو لها، لمحها بتلك الملابس القصيرة فضحك رغمًا عنه، تتصرف بأعجوبة منذ أن تكورت بطنها، أنزلها تنام فوق الوسادة ثم دثرها ودثر ساقيها المكشوفتين وهو يقول بسخريةٍ:.
هي بتغريني وهي صاحية وهي نايمة وترجع تتهمني أنا!
تحرك نحو المطبخ يصنع لنفسه الطعام، حيث فقد الأمل فيها أن تفيق، وللحق هو يكره الشقة بدونها، تصبح كئيبة وغريبة، جلسته بدونها ملولة، لا صوت ولا حياة ولا حتى مشاكسة ومراوغة منها، أنهى غرف الطعام ثم ولج لها فوجدها تنام كما هي بنفس الهدوء، لذا خرج وجلس يتناول الطعام وحده، بشرود كان يمرر الملعقة في الصحن فتُصدر صوتًا يُنافي السكون حوله.
ألقى الملعقة بمللٍ ثم نظف مكانه وغسل الصحون وترك كل شيءٍ كما كان، ثم نزل للأسفل حيث مسكن والده، ولج بصمتٍ فوجد عبدالقادر يجلس وفي عناقه سيف و تميم أحفاده الصغار، فابتسم له ثم اقترب يُلثم كفه وجلس في مواجهته، فضحك والده وقال بمرحٍ:
عقبال الغالي التالت ييجي جنب أخواته.
توسعت بسمة أيوب ثم حمل ابن شقيقته تميم حضنه بقوةٍ ولثمه وقد ضحك الصغير له ثم مال برأسه على كتفه يُعضعض قبضته الصغيرة، ظل هكذا معه لبعض الوقت وتحدث مع والده في أمورٍ شتى كثيرة حتى نام ابن شقيقته، فوضعه بحجر جده وقال بخوفٍ زائفٍ:
آيات هتيجي تعيط جنبنا، صحيه بدل ما يصحى كمان ساعتين ويسهرها للصبح.
عند نهاية الحديث ولجت مع زوجها بعد أن أنهت زيارة حماتها، وما إن لمحت ابنها ينام فوق ذراع جده، قالت بيأسٍ:
ليه طيب؟ دا أنا نزلته من عند جدته علشان كان هينام في حضنها، صحوه أبوس إيديكم لو سهر مش هينام غير لما مُحي ياخده مني، أجيبله مُحي أنا منين دلوقتي؟
ضحك أيوب ثم أخذه منها وقبل أن يصعد به بكى لأجله سيف لذا عاد له أيوب ثم حمل الاثنين معًا، صعد بهما للشقة الخاصة به، وقد حمل كليهما بذراعٍ رغم المشقة حتى يفتح الباب، ولج بهما الشرفة وجلس معهما يضاحكهما ويحملهما فوق ساقيه، يدندن معهما بعض أغاني الطفولة التي يعرفها منذ الزمن البعيد، وقد خرجت قمر من غرفتها لتراه في الشرفة مع الصغيرين، ضحكت بحبٍ ثم اقتربت تجلس بجواره تمازح الصغار، انتبه لها وللهفة الصغيرين عليها، تعجب كيف أسرت قلبيهما ببراءةٍ.
حيث استقرا فوق ساقيها وهي تغني لهذا وتداعب خصلات ذاك ثم تحركت وغابت لثوانٍ وعادت راكضة، وضعت كوبي الزبادي بجوارها وأخذت تطعمهما بعد أن وضعت حبات السمسم به، وقد نال الفعل تعجب أيوب فقالت بحماسٍ:
ماما قالتلي السمسم على الزبادي حلو للأطفال علشان أسنانهم وعضمهم وخصوصًا العمود الفقري، وهما بياكلوه مني لما بطلعهم هنا، بص بيحبوه إزاي؟
انتبه بالفعل لغمغمة الراحة من الصغيرين وهما يلوحان بكفوفهما بينما هي فكانت سعيدة بتلك التجربة معهما، تتدرب لحين تصبح أمًا، لذا جاورها أيوب وأطعم الصغار معها وهو يلاعبهما بكفه وتعبيرات وجهه، لترى هي فيه الرجل والأب بخلاف مثاليته كزوجٍ وأخٍ ورفيقٍ.
< كانت الرصاصة الأولى قاسية، أما الثانية معتادة >.
المكمن دومًا في بداية الأمور.
الصعوبة لن تجدها إلا في نقطة البدايات، أما ماهو دون ذلك ستجده يسيرًا وسهلًا، وقد كانت الصعوبة لديه حتى يعتاد الحياة في مرتها الأولى، أما الثانية فهي مرت مرور الكرام وانتهت، بمجرد أن عاد وجد نفسه في بيته بحقه وشعر أنه لهنا ينتمي.
أوقف مُنذر الدراجة البخارية عند بيتها بالأسفل، وقف بجوار الدراجة والحياة التي عصفت به معها تمر عليه، تذكر الليالي كلها القاسية والحلوة وكل شيءٍ مر بهما حتى وصل، ثواني قليلة وقف ينتظرها، ثم طَّلت عليه بعينيها ثم وقفت مباشرةً أمامه تضحك وهي تقول:
هتوديني فين بقى؟
مد كفه يمسك يدها ثم قال بحبٍ:
هوريكِ الحاجة اللي فرحتني أول ما جيت.
وبالفعل ركبت خلفه وهي تحاوطه كتفيه فوق الدراجة، وتضع رأسها فوق ظهره، توسطت برأسها هذا الظهر فيما ضحك هو رغمًا عنه وقال بصوتٍ وصلها من بين ذرات الهواء المتسارعة خلف بعضها:
وحشتك الحركة دي صح؟
لم تجاوبه بل شددت قبضتيها فوق بطنه، وقد سارع هو بالتحرك حتى وصل للبيت، تعجبت من الحضور لهنا، لكنه سارع الخطى نحو الأعلى وهي معه، أخرج المفتاح وفتح الشقة الخاصة به ثم أشار لها، ولجت بترددٍ وخوفٍ فيما ترك هو الباب مفتوحًا ثم وقف بجوارها وقال بحبٍ وأملٍ:.
دي شقتك، أو شقتنا مع بعض اللي كلها يومين وندخلها مع بعض بصفتك مراتي، لما شوفتها حسيتها شبهك، هادية بس فيها الروح، جذابة بس في نفس الوقت تخوفك لو فيها لوحدك، تشدك بس لما تتملي في جمالها تغرقك ومتعرفيش تخرجي منها، حسيت نفسي بشوف عيونك فيها، عجبتني زي ما صاحبتها عجبتني.
لمعت عيناها وبدأ البكاء يعرف طريقه نحوها، لذا التفت لها فوجدها ترتمي عليه وهي تصرخ بملء صوتها، بكت فضمها يُهديء من روعها، لكنه تركها تنفجر كما أرادت هي وودت، لذلك قالت ما إن عادت للخلف:.
محدش فيهم صدقني، كلهم قالوا مش هيرجع ليكِ تاني، فضلت أربع شهور أستنى فيك ماجيتش، قالولي إنني بقيت مجنونة وخلوا دكتور يكشف عليا، كانوا عاوزيني أنساك وأعيش من غيرك، محدش صدق غير إسماعيل بس هو اللي كان واقف معايا وكان علطول يقولي إنك راجع، أنا تعبت من غيرك أوي، كنت هضيع في غيابك، خوفت أندم إني خليتك تروح وأعيش بذنبك طول العمر.
رق قلبه لأجلها، شعر بمدى قسوة الحياة التي نزلت بالصفعات فوق وجهيهما، لذا ضمها يُهديء تلك النوبة، وقد سكتت هي أخيرًا ومسحت عبراتها، التفتت ترى الشقة بأعين لامعة، لاحظت كل شيءٍ بها تم كما طلبت ورغبت، يبدو أن إسماعيل يتمتع بقلبٍ كبيرٍ حتى يتحمل تلك المشقة وحده، ابتسمت وضحكت وبكت تلك المرة بفرحٍ، فوقف خلفها بعدما وضع الهاتف وترك به أغنية رومانسية، ثم حاوط كتفيها ولثم وجنتها ثم أدارها وراقصها كما كانت ترغب قبل الرحيل.
حينما سألها عند عودته عن سبب قدومها، أخبرته أنها كانت ترغب في الرقص معه بطريقة رومانسية لتكون ذكرى مميزة بينهما، لذا أراد تعويضها عن تلك الليلة بذكرى أكثر جمالًا، حيث كانت تتمايل معه وهو يضع كفه بخصرها، وبيده الأخرى يمسك يدها:
إيديك وهي لمساني بحس براحة فوق الوصف.
وجودك جنبي قواني ومن غيرك بحس بضعف.
ماليش في الدنيا دي غيرك،
جيت وخطفت قلبي أنا خطف،
وعمري في يوم ما أتوه عنك، بشوفك حتى لو بين ألف.
أدارها في يده مثل راقصة البلارينا بخفةٍ، دارت وضحكت بصوتٍ عالٍ لتصنع لحنًا أكثر حلاوةً من الأغنية، خاصةً حينما تبدلت الكلمات لمقطع أكثر حماسًا:
حُبك رزق جه في وقته، حلم بعيد وحققته
طريق من يوم ما أنا بدأته قلبي أرتاح،
حبك فرحة جنونية، دفا وأمان وحنية
عوض من رينا ليا عن اللي راح.
كانت تدور حتى انتهى الأمر بها بين ذراعيه وهي تستند بكفيها على صدره، كانت تتنفس بصعوبةٍ وهي تضحك له، بينما ابتسم هو بنعومةٍ ثم لثم جبينها، وسحب الهاتف يغلقه وعاد يعتذر لها بقوله:
حقك عليا أنا، كنت غبي ومفكرتش فيكِ كفاية.
مسحت عبراتها ثم ضمت كفه بكفها وقالت بتوسلٍ:
ممكن تنسى اللي فات؟ خلاص أنتَ جيت وبقيت معايا، خلينا في فرحنا اللي كمان يومين دا، بلاش نبوظ فرحتنا مع بعض ببعض.
في مكانٍ آخرٍ حيث مقر شركة الراوي.
ركضت ضُحى تقتحم مكتب شقيقها الذي ابتلع السباب وكتمه في سره، بينما ولج نادر خلفها مثل الإعصار وهو يقول بصوتٍ ساخرٍ:
أخرجي يا جبانة من عندك وواجهيني هنا، مش هينفعك دا اللي مستخبية وراه، لو عاوز أضربك هضربك وأجيبك من شعرك.
شهقت له بتهكمٍ، فيما وقف عُدي بينهما وقال بجمودٍ:
بس منك ليها، بس يا حبايبي مش جنينة هي، أنتوا مش واخدين بالكم أنتوا فين؟ جرى إيه يا نادر هو كل شوية أنتَ والهانم تشبطوا في بعض؟
رد عليه الآخر بانفعالٍ مكتومٍ:
خليها تبعد عني ومالهاش دعوة بشغلي، المشتريات الجديدة دي يوسف ماضي عليها وعارف وأنا بنفسي صارف الفلوس، الهانم جاية ترفض خروج باقي الفلوس وتقولي ماسكة الحسابات، ولما بتناقش معاها، تقولي أنسوا أيام السبهللة؟ هي فكراها زي محل عصير القصب اللي كانت بتشتغل فيها دي؟
شهقت هي وكتمت غضبها ولجأت للدبلوماسية بقولها:
دا أسلوب يا بيئة؟ تصدق أنتَ مش بروفيشنال في شغلك؟ علشان كدا أنا هنا ليكم ظابط ورابط.
فرغ فاهه ورفع حاجبيه وقال مستنكرًا يردد خلفها:
ظابط؟ أنتِ آخرك ظابط إيقاع، ظبط طبق دش، دا تمامك.
قبل أن ترد عليه ولجت رهف وقالت بصوتٍ هاديء:
يوسف أتصل بيقولكم حد يرد على التليفون ويستلم الإيميل اللي اتبعت من معرض شرم الشيخ بسرعة علشان هو مش هييجي النهاردة، وقالي أبلغكم خبر فصل نادر و ضُحى.
توسعت عينا نادر فيما جلست ضُحى باستمتاعٍ وهي تعلم أن الشركة لن تتأثر بشيءٍ لطالما هي هُنا، وقد اندفع نادر نحوها ينهرها بحدةٍ:
ورب الكعبة لأجيبك من شعرك.
قبل أن يخطو خطوة واحدة وجد من يقف أمامه وهو يقول بسخريةٍ تهكمية:
أنا قولت العلاقة الزبالة دي تتقطع أحسن، مفيش فايدة.
انتفضت هي تحتمي بزوجها الذي أتى من الخارج فجأةً، وقد وقف يشير نحو أخويها وقال بصرامةٍ تتنافى مع لين طباعه:
لو واحد فيكم رفع عينه فيها هقفله الاتنين، مراتي براحتها تعمل اللي هي عاوزاه ومحدش فيكم يعترض يا كدا يا تفضل في بيتها معززة مُكرمة، وعلى فكرة أنتوا اللي محتاجين ليها مش هي.
همست من خلفه بإعجابٍ تراوغه كما المعتاد:
يسلم فُمك يا سيد الرجالة.
التفت يُرشقها بنظرة نارية اسكتتها، فيما قال نادر يوضح له الموقف وقد شعر إسماعيل بالحرج من موقفها وما إن التفت يسألها بعينيه وجدها توميء له أنها فعلت ذلك، لذا قال بثباتٍ كاذبٍ:
برضه دا شغلها وبراحتها، يلا عن إذنكم علشان رايحين نكمل حاجة الفرح، وحلوا مشاكلكم دي مع بعض بقى ولا أقولكم أرفدوها هي تستاهلها.
ابن حلال والله، هي لسه واصلها الخبر إنها بقت قعيدة، مبروك يا سُمعة مراتك بقت معاش مبكر قبل التلاتين.
كان هذا رد عُدي عليه فضحك لهم ثم أخذ كفها يسحبها وهي تغمغم بالكلمات وتحتج عليهما، بينما نادر خرج خلفهما، وقبل أن تخرج رهف وجدت هذا الوقح زوجها يسد عليها الطرقات، شهقت أمامه فوجدته يضحك وهو يسألها بعبثٍ:
هتخرجي من غير ما تطمني عليا؟ بقولك مصدع طول اليوم.
ضربته بالملف في كتفه وقالت من بين أسنانها المتلاحمة:
من قلة أدبك وسفالتك لازم تصدع، احترم نفسك.
عاد للخلف لثوانٍ يقف بمقدمة الباب ثم تنحى جانبًا، بينما هي حاولت فتح الباب فوجدته موصودًا، حاولت بقدر المستطاع لكنه لم يُفتح، لذا التفتت له بعينين اتقد فيهما الشرر وهي تُشير نحو الباب، وفي تلك اللحظة حرك كتفيه ببراءةٍ ثم قال موجزًا:
اتصرفي، هي صعبة عليكِ؟
ضربت الأرض بقدمها وحاولت من جديد لكن النتيجة كانت نفسها، الباب لازال مغلقًا وكأنه يرد لها ما فعلته معه في البداية، أولته ظهره بينما هو تحرك ثم وقف خلفها ووضع زهرة زرقاء عند طرف حجابها السُكري حتى التفتت له بخجلٍ، بينما هو وضع كفيه ومال عليها يقول بشقاوةٍ:
أنا أهو بجيب الورد، بس أنتِ بخلانة عليا بالوِد.
ضحكت رغمًا عنها، ثم عادت تحدثه تلك المرة بهدوء بعدما سقطت عنها تلك الساخطة التي كادت أن تضربه منذ قليل:
أنا مش بخلانة، أنا بس مقدرة إننا في الشغل وفي معرض وزنقة علينا كلنا، و يوسف مشغول بولادة مراته، يبقى إحنا نعمل إيه نركز في الشغل أحسن ولا لأ؟
دار بعينيه يفكر في الأمر ثم قال بعبثٍ:
طب وصاحب الشغل مش محتاج يتروق علشان يعرف يركز؟
ضحكت من جديد تلك المرة بيأسٍ ثم اقتربت منه تُلثم وجنته وفي نفس ذات اللحظة سرقت المفتاح من جيب سترته وما إن فتح عينيه وجدها تخرج من المكتب ثم أرسلت له قبلة في الهواء تكمل عبثها معه، فيما احتج هو رافعًا صوته بقوله:
مبتأكلش عيش دي يا رهف.
في الأسفل كان إسماعيل يتجول معها الجولة المحببة لقلبه كل أسبوعٍ، تلك الجولة العشوائية التي تمتليء بعبثيات زوجته، حيث الصور الغريبة، الأماكن الأكثر غرابة، الأكلات التي تفضلها وهو معها، إمرأة بنكهة الحياة وقعت في طريق رجلٍ محاوط برائحة الموت، شوارع الزمالك أصبحت تخلد قصتهما معًا، كل مكانٍ هنا أصبح يشهد عليهما وعلى جنون العاشقين، حتى تلك المرة قامت بتأجير دراجات هوائية وصنعت معه سباقًا، فتركها تربحه مرة ليربحها هو مرات ومرات.
< في كل مشهدٍ يحمل الحياة ستجد بين سطوره الموت ضيفًا >.
في كل حكاية انتهت بربح الحياة ستجد الموت بها ضيفًا.
يأتي كل حينٍ وقبل أن يكتمل دوره تعود الحياة من جديد تُكمل هي الدور، لذا اليوم بين طيات حكاية تغزل سطورها بالحياة، كان الموت يُكمل دوره في مكانٍ آخرٍ.
اليوم التالي كان يومًا بنكهة الحياة.
بيت عبدالقادر شهد ليلة أسطورية، ليلة مصرية تدعى ليلة الحِنة، ليلة لإطعام أهالي السمان بأكملهم، ليلة عقد قران نجله الثاني، وحنة الشباب، كان يقف وسط الناس يرحب بالقريب والبعيد، والصغير قبل الكبير، الخيول ترقص رقصات عديدة تدل على التراث المصري الأصيل، رقصة المرماح تارة، ثم رقصات شعبية بالتزامن مع الطبول، كان يضحك وهو يحمل حفيده الصغير وبجواره تَيام الذي تحمل عاتق الليلة لأجل أخوته.
وقد انتقلوا بعد فريضة العصر لحارة العطار لعقد القران، كان مُحي في المسجد ينتظر قدوم البقية، ومعه أيوب و عبدالمُعز الذي لم يتركه، كان ينتظر قدوم المعنية حتى يطمئن قلبه، ومرت نصف ساعة تلاها قدوم الجميع، أخوته ووالده، ثم زوجته وأهلها بالكامل، ثم الأحباب والأقارب والأصدقاء، وبعض الشباب الصالحين الذي تعرف هو عليهم في الحارة بالمسجد.
جلس مُحي بجوار المأذون ثم وقع فوق الأوراق وترك بصمته، وكذلك تحرك والدها يأخذ توقيعها وما إن لمحت صورتها بجوار صورته ابتسمت بحبٍ ثم وقعت وهي تضحك بخجلٍ وقد نضجت الخُضرة في عينيها، حتى بدأ المأذون الخطبة الخاصة بالزواج، بدأ يتكلم ويتحدث عن الزواج وعن أهمية هذا الرباط المُقدس وكيف عظم الله هذا الميثاق، لذا كان مُحي لأول مرةٍ يستشعر أهمية هذا الرباط، أدرك أهمية الزواج لكل مسلمٍ صالحٍ، فوضع كفه بكف بهجت الذي ابتسم له وظلا يرددان خلف المأذون حتى انتهى عقد القران بقوله:.
بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
انطلقت المُباركات والتهنئات والعناقات المُهنئة ل مُحي ووالده وشقيقه من ساكني الحارة، وقد وقف إيهاب بجوار نَعيم وحمل ابنته التي تعلقت به خوفًا من الزحام، حتى أن نَعيم بدأ يتعجب من ملاصقة الآخر له، بينما مُحي فظل يبحث عنها وعن لقاء عينيها، تهرب من الجميع وتحرك لها هي وحدها حينما وجدها تقف بجوار فتيات العائلة بمدخل دار المناسبات، اقترب منها ومد كفه يُصافحها، كانت تلك هي المرة الأولى التي يمد كفه لها.
ما إن مدت كفها له ضمه وهو يبارك لها بهدوءٍ، تعجبت هي منه لكنها احترمته، حتى أتت آيات ومدت كفها له بباقة الزهور التي تركها معها، فالتقطها منها وضحك لزوجته ثم مدها لها واقترب يهمس:
طب إيه أحضن ولا هتتقمصي؟
ضحكت له بخضراوتيها فاقترب يُلثم جبينها أمام الجميع، لكنه لم يكتفِ، لذا ضمها لصدره يُعانقها بقوةٍ وتنفس بحدةٍ، اليوم تيقن أن التوبة باتت مقبولة، والجنة تليق بعاصٍ مثله كي يدخل دون أن يُدنس أرضها الطاهرة، العاصي أصبح هو المُصلح، والجنة أصبحت تليق به، فحتى لو جاب الأرض بشرقها لغربها، لن يجد شعورًا يُضاهي شعور قبول التوبة، وهداية العاصي مثله.
في الأسفل صدح صوت هاتف إيهاب فتحرك مسرعًا بخطواتٍ واسعة يجاوب على المكالمة الهاتفية، فوصله صوت المتصل يقول بتأكيدٍ لشيءٍ مرغوبٍ من قبيله:
اللي أنتَ عاوزه حصل يا عمهم البيت وقع.
استمع للحديث وتوسعت عيناه ببريقٍ ساطعٍ والمعنيَّ بالطبع له معلومٌ ولو كان للكلِ مجهولًا.