قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث

رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث

صياحٌ وصراخٌ من الطرفين، هو يقول بأنها الفاعلة، وهي تقول بأنه المذنب، ومع قول هذا وذاك اشتد الحديث إلى شجار، ليضرب الضابط على سطح مكتبه بعنف صارخًا بهم بنفاذ صبر وهو يقف من على مقعده: ما خلاص منك ليها مش ناقص صداع أنا.
حدجوا بغضهم بنظرات محتقنة، ليجلس الضابط مرة أخرى محله ممسكًا بقلمه، ثم وجه حديثه إليهم بتحذير: التهمة لبساكوا لبساكوا، فالأفضل تعترفوا علشان تريحوا نفسكم وتريحوني من القرف دا.

نظرت له غزل بغضب، لتتخصر محلها وهي تقول له بعتاب: قصدك إني كدابة! لو سمحت أنا عايزة أمشي.
ضرب على المكتب بحدة وهو يصيح بها: انتِ مفكراني خطيبك علشان تتقمصي وتمشي! اعترفي يابت واخلصي.
رفعت سبابتها بوجهه هاتفة بتحذير خطير: عندك مسمحلكش، أنا محامية محترمة وليا سمعتي، وعيب أوي لما تتهمني إتهام بشع زي دا.

نفخ الضابط بقلة صبر، يكاد يفتك بهم، يُريد سحب الإعتراف من أفواههم حتى لا تسنح الفرصة لأحد أن يُشكك في عمله، جاءت الأوامر من سليم المنشاوي بنفسه، وهو يريد كسب رضاه حتى لو على حساب عمله، نظر ل ريان الذي يُربع ساعديه وينظر له بضجر، ليقول بإستنكار: وانت ساكت ليه! معندكش حاجة تقولها انت كمان!
ظل على وضعيته ورفع أنفه بشموخ قائلًا بغرور: أنا مش هتكلم غير في وجود المحامي بتاعي.

تشنج وجهه وكاد حقًا أن يفتك السلاح في رأس كليهما، ليحاول ضبط نفسه، فجلس مُدعيًا الثبات ناظرًا لهم وهو يقول بتحذير بث الخوف في قلوبهم: على العموم انتوا هتفضلوا مشرفينا هنا لحد ما القضية تعترض على النيابة.

بمنزل عائلة النويهي، تجمعت العائلة مرة أخري بمنزل الجد الراحل، والذي يُعتبر ملجًأ يجتمعون فيه جميعًا يوم الجمعة، أنهوا التعازي والدعوات الحارة لعائلة الشيخ إمام ثم عادوا لمنازلهم، اقترحت عليهم زهر بأن تُجهز لهم أقداحًا من الشاي فنالت الفكرة إعجابهم، دخلت منتوية فعله ليدخل خلفها فارس خلسًة من الجميع.

وبينما هي تضع محتوياته، جاء من خلفها محتضنًا إياها من ظهرها، شهقت بفزع لتنظر له فجأة وقلبها يهرع بشدة، هدأت قليلًا عندما رأته لتضع يدها موضع قلبها وهي تقول: حرام عليك يا فارس خضتني.
قرَّب وجهه منها وهو ينظر لتفاصيلها بعشق متمتمًا بمشاكسة: سلامتك من الخضة يا قلب وكلاوي فارس.

ابتسمت بخجل سرعان ما تحول للغضب عندما تذكرت معاقبته لها بالأعلى بسبب طفلتهم المشاكسة، لتحاول إبعاده ولكن كان كالهضبة لا يتزحزح، فأردفت بنفاذ صبر: ابعد عني يا فارس وملكش دعوة بيا، أنا منستش اللي عملته فوق.
انزل يدها التي تحاول دفعه من على صدره، ليُكتفها مانعًا حركتها بسهولة مردفًا بعبث: إخس عليا، وأنا لازم أصالحك.

كانت وجوههم مقتربة بشدة، فظنت تلك القصيرة سليطة اللسان بأنه يُقبلها، لتشهق بعدم تصديق واضعة يدها على فمها وعيناها تنظر لهم ببراءة: انت بتبوس ماما يا بابا!
ابتعد فارس عن زهر مسرعًا، وكاد أن يُبرر لها ما يحدث، لتخرج لوچي مسرعة من المطبخ وهي تصيح بعلو صوتها: يا جدو. بابا بيبوس ماما يا جدو. بابا بيبوس ماما يا عمو. بابا بيبوس ماما يا عمتو، يا تاتا بابا بيبوس ماما.

لطمت زهر على صدغها وهي تَحثُ فارس المتصنم من الصدمة لإيقاف إبنتهم: بنتك هتفضحنا يا فارس، يالهوي يالهوي يالهوي.
هرع للخارج ركضًا عله يستطيع إيقاف محطة الإذاعة تلك، ليجد نفسه بالصالة وجميع مَن بها ينظر له بعبث ومكر، ومنهم من ينظر له بغضب، بادلهم النظرات بحرج وإبتسامة بلهاء تتشكل على ثغره وهو يلوح لهم بغباء: هاي يا جماعة.
تحدث معتصم بخبث: مش ليكوا بيت يلمكوا يا كبير ولا إيه!

ليرد عليه شهاب بنفس العبث والخبث: بس بقا يا معتصم متكسفهوش، دي هتلاقيها تصبيرة مش أكتر.
زجرهم بكر والذي يُعتبر كبير العائلة بعد وفاة والده: اخرس يا جحش انت وهو مش عايز أسمع نفس حد فيكو.
صمت الإثنان بحرج بينما التفت بكر ل فارس وعلى قدمه تمكث تلك السليطة تنظر لأباها بشماتة: وانت يا بيه مش لاقي غير المطبخ، وذنبها إيه بنتك البريئة دي تشوفك انت ومراتك كدا!

عن أي براءة يتحدث هو بحق الله؟ هل يقصد إبنته بتلك الكلمة! أشار لها فارس بدهشة متحدثًا بعدم تصديق: دي بريئة دي! قصدك على دي!
كتم بكر ضحكته بصعوبة لعلمه بأفعال الصغيرة، ربعت لوچي ذراعيها بسخط، ثم نظرت إلى جدها وهي تقول بعصبية طفولية أضحكت الجميع: شايف يا جدو بيبصلي إزاي! قصده إيه بالكلام دا!
احتضنها وهو يقهقه على حديثها وهو يقول لها: مش قصده حاجة يا حبيبة جدك، متزعليش نفسك بس.

جاءت من خلفهم زهر تُقدم قدم وتؤخر بالآخري، ومن داخلها تتوعد لإبنتها، رأتها لوچي فهبطت من على قدم جدها وذهبت إليها ركضًا قائلة بحسم لا يتناسب مع عمرها، وهي تمسك بيد والدتها: من النهاردة هننام هنا مع جدو يا ماما، وسيبي بابا ينام لوحده علشان يبطل قلة أدب.
فقد فارس آخر ذرة صبر يمتلكها، ليذهب إليها بغضب صارخًا بها بحدة: بت انتِ! هو انتِ تخليص ذنوب!

وقف شهاب أمامه يسد عليه الطريق وهو بالكاد يُسيطر على ضحكاته، فقال له مُهدئًا: اهدى يا فارس، هتعمل عقلك بعقل بنتك!
بنت مين دا هي اللي بتربيني!
صاح به ثم أشار تجاهها وهي تنظر له بسخط مُربعة كلا ذراعيها: شايفها بتبصلي إزاي!
ضربت بقدمها على الأرض وهي تصيح به: دادي لو سمحت متزعقليش قدام الناس.
تشنج وجهه وهو يردد خلفها بصوت خفيض متعجب: دادي!

كان مدثر يُتابع ما يحدث، لينتفض من مكانه ويتجه إلى لوچي الواقفة بجانب زهر، وأمامهم جميعًا قام بإحتضانها مربتًا على ظهرها وهو يقول بتأثر: متزعليش يا لوچي، انتِ عارفة عمو فارس طول عمره قاسي.
ربتت زهر على كتفه قائلة بحنان: مشوفتش في حنيتك على بنتي والله.

بينما كاد فارس أن يُجن وهو يرى دعم زوجته لهذا الفِسق من وجهة نظره، ليصرخ بهم وهو ينتشل الصغيرة من يده: يارب، يعني أم فاسدة وبنت بايظة! دا إيه الحظ دا.
اعترض مدثر وهو يُعيد لوچي بين زراعيه: إشمعنا انت تحتضن يا أناني وأنا لأ!
اقترب مدثر منه قليلًا يطلب منه أن ينزل لمستواه، ليفعل فارس ما يريده وهو يكادُ ينفجر في الجميع، بينما استطرد مدثر حديثه: سيبني أحضنها براحتي وأنا هبعدها عنك انت والمُزة.

انفتح فمه بصدمة وشلت الدهشة جسده، ليُطلق معتصم الذي استمع للحديث صفيرًا عاليًا مردفًا بإعجاب: ابن ريان بحق وحقيقي مش هزار.
قطع عليهم الحديث صوت هاتف بكر الذي دوى صوته في المكان، أجاب عليه وبعد برهة هبَّ بفزع من مقعده متشدقًا بصدمة جلية على قسماته: بتقول إيه سجن! قسم إيه!

بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.

كانت تلك كلمات المأذون التي صدحت عاليًا بعد أن تم عقد قران بدر على نوال الشاردة، بين ليلة وضحاها تحولت حياتها إلى كابوس مرعب، تعرضت لمحاولة إعتداء على يد من ظنته حبيبًا، وأنقذها ابن عمها الغامض منه، والآن تم عقد قرانها عليه لتصبح على اسمه، أخذت دموعها صفحات وجهها مجرى لها وهي تُفكر بحسرة أن كل ما يحدث الآن بسبب خطأها هي، خطأ غير مقصود سيجعلها تخوض مستقبل غير معروف، مبهم، وغامض، لرجل لم تراه في حياتها سوى مرتين في طفولتها.

لا تعلم كيف ومتى وصلت إلى غرفتها بعدما أعلنت موافقتها على تلك الزيجة، أفاقت من شرودها على أنامل خشِنة تُزيل دموعها بخفة، نظرت لصاحبها لتجده هو، بدر الأباصيري ابن عمها الغريب، رجل بجلباب صعيدي، ذو ملامح خشنة، ليس بالوسيم ولكن أيضًا ليس بالقبيح، ابتعدت عن مرمى يده وهي تصرخ بهياج: ابعد عني.

تنغض جبينه بإنزعاج، فأكثر ما يكرهه بأن يصرخ شخصٌ بوجهه، وهذا الشخص هو امرأة! رفع سبابته مُحذرًا إياها بصوت آجش غليظ: أول وآخر مرة عترفعي حِسك فيا تاني، فاهمة ولا لع يا بت عمي!
تحولت ملامحه للبرود، موليًا ظهره لها وهو يأمرها بجمود خشيته: لِمي خلجاتك عشان هنسافر الصعيد دلوجتي.

شعرت بالهوان، وإحساسٌ بالظلم بدا يُداهمها، رغم أنها المُخطئة منذُ البداية، لذلك يجب عليها دفع ثمن أخطائها، اتجهت نحو خزانتها لتبدأ بلملمة ملابسها، وشريط الساعات الآخيرة يُعرض أمامها يجلدها بلا رحمة، أغمضت عيناها بشدة وهي تهز رأسها بنفي لإبعاد تلك الأفكار عن عقلها، الآن هي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تعيش حياة تعيسة مع المزعوم بزوجها، إما أن تنتظر بعض الوقت وتطلب الطلاق، حسمت أمرها ويبدو بأنها تُخطط لشئ ما في رأسها، لكن هل تلك الأفكار ستحميها من ذاتها أم ستُهلكها مرة أخري!

بعض بضعة ساعات وصلوا إلى الصعيد، أجواء صافية وحياة نظيفة بعيدة عن حياة المدينة، جالت بنظراتها للأراضي الخضراء، أحست بالراحة لوهلة وهي تري نقاء المكان من حولها، لكن حدسها يُنبؤها بأن هناك شئ سئ على وشك الحدوث.
ترجلت من السيارة بسخط عندما سمعت صوته المستنكر: الحلوة هتبيت في العربية ولا إيه!

وقفت أمامه بقوة، وكأنها تخبره بأن ما حدث لم يؤثر بها كأنثي، سارت بجانبه حتى رأت منزله الكبير، والذي يسمونه ب سرايا، شعرت بالخوف ولكن ما بث بها الروح هي رؤيتها لجدها الحنون والقاسي بذات الوقت يقف بإنتظارها، اتسعت ابتسامتها وتركت الحقيبة التي بيدها لتهرول إلى أحضانه، احتضنها هو الآخر بحنان، مردفًا وهو يربت على ظهرها: اتوحشتيني جوي يا حبيبة چدك.

قبلت يداه بإشتياق متحدثة وغمامة من الدموع تتكون على عيناها: وانت كمان وحشتني أوي يا جدي.
استمعت لصوت يأتي من خلفها، ومن الواضح أنها لم تكن سوي والدة بدر، أشار لها جدها بالذهاب لها، لتتجه إليها بتوتر خائفة من تلك المقابلة الأولي، لم يدوم توترها بل تفاجئت بها تجذبها لإحتضانها وهي تقول بسعادة: مرحب بيكي يا مرت إبني، مرحب بيكي يا ضنايا.

للحقيقة لم تظن أن الإستقبال سيكون بتلك الحفاوة، ابتسمت بخفوت وهي تُجيبها: أهلًا بيكِ يا طنط.
عاتبتها برقة وهي تُجعد جبينها: طنط إيه بس، جوليلي ياما زي بدر.
ابتسمت بإستغراب لتلك المرأة العفوية، أحبتها وأحب حنانها، لتمتثل لطلبها قائلة بود: حاضر يا ماما.
لم تعتاد على ذكر تلك الكلمة، لتقول بمزاح: ماما! يلا مش مشكلة.

ضحكت بخفة على حديثها، لتلمح من طرف عينيها فتاتين مقدمتان لها، بدأ بدر في التعريف عنهما وهو يقول: دول أخواتي، غالية و رباب.
في البداية لم ترتاح نوال لنظراتهم، وتأكدت من حدسها عندما بادرت غالية بالحديث وهي تنظر لها من أعلها لأسفلها: أهلًا يا مرت أخوي، نورتي بيتنا.
قاطعها بدر بنظراته الصارمة وهو يُعدل حديثها: وبيتها كمان يا غالية، ولا نسيتي إنها بجت مرتي!

سددت لها نظرة محتقنة، لا تعلم لما لم ترتاح إلى مظهرها، بينما ذهبت إليها رباب لإحتضانها وهي تُرحب بها: كيفك يا مرت أخوي.
الحمد لله بخير.
قاطعهم الجد عندما أطالوا التهاني والترحيبات موجهًا حديثه لوالدة بدر: بكفياكوا بجا يا تهاني ووصلي الغالية لأوضتها.
ثم وجه حديثه ل نوال وهو يحدجها بنظرات ثاقبة: وانتِ يا نوال ارتاحي في مطرحك. ولينا كلام لما تجومي.

توترت من مغزى حديثه، فأومأت له لتنظر للمنزل بجهل لا تعلم إلى أين تذهب، لتسمع زجر تهاني ب بدر وهي تقول: روح يا ولدي وِرِي مَرتك مطرحها، واجف مكانك كدا ليه عاد!
حاضر ياما رايح اهو.
انهي حديثه وهو يحمل الحقيبة بيد واليد الأخري ممسكة بيدها، دُهشت من فعلته ولكنها لم تُعقب، سارت معه حتى آخر الرواق حيث ستقطن بغرفتها معه هو، لم تروقها الفكرة ولكن ليس عليها سوا ذلك.

دخلوا للداخل فوجدت الغرفة واسعة وكبيرة، بها فراش كبير يتوسط الغرفة، وعلى كلا جانبيه يوجد كومود صغير إلى حدٍ ما، وخزانة كبيرة تحتل الحائط الأيمن منها، وأريكة تتسع إلى أربع أشخاص موضوعة على الجانب الحائط وأمامهم شاشة تلفاز متوسطة الحجم، لم تكن تتخيل بأن تكون الغرفة كبيرة لهذا الحد، ورغم أن الأساس ليس بالمبهر ولكنه مُريح للغاية، أثارت الغرفة إعجابها ومع ذلك لم تُبدي له ذلك.

كان يُراقب ردات فعلها عندما جالت بعيناها على الغرفة، كان ينتظر منها أن تتحدث، لكن خيبت ظنونه عندما استكانت على الأريكة دون أن تتحدث ببنت شفة، كم هي غريبة تلك الفتاة، قوية وضعيفة في آنٍ واحد، مثيرة للإهتمام أيضًا، جال ببصره على ملامحها، جسدها ملئ بعض الشئ، قصيرة إلى حدٍ ما، بشرتها تمتاز باللون القمحي، وعيناها بُنية لامعة، عادية، لكن تجذب الإهتمام.

نفض عن رأسه تلك التفاهات، واتجه ناحية الفراش مستعدًا أن يأخذ قيلولة للتخفيف من تعب السفر، وما هي إلا ثواني وذهب في ثباتٍ عميق، تاركًا إياها تُفكر في مستقبلها المجهول معه.

في منزل صغير يقوم بتأجيره قريب من منزله، كان عابد منهمكًا في الشرح لتلاميذه، شهرته في المنطقة التي يقطنُ بها ك مُعلم لغة عربية جعلت كثيرًا من الطُلاب يتوافدون إليه، بعدما تخرج من كلية التربية قام بأخذ التدريس ك وسيلة له رغم أنه كان يمقتها بالبداية، انتهي من الشرح بسلاسة ليخرج التلاميذ مُلقون على مسامعه عبارات الشُكر والمدح، تقبلها بصدر رَحب وهو يبتسم لهم بوداعة، انتهي من تدريسه اليوم مبكرًا، فقرر الذهاب لقضاء اليوم مع عائلته.

أثار فضوله تلك التي تقف على أعتاب المنزل الصغير وكأنها تنتظره، ذهب إليها بتروي فلم تكن ناظرة تجاهه، سألها بصوت هادئ رزين مُتجنبًا النظر لها مُباشرة: أقدر أساعدك في حاجة يا آنسة!
فزعت وصال من حديثه المُفاجئ، لتضع يدها على قلبها قائلة بتلقائية: يخربيتك.
نعم!

نطقها بدهشة وهو ينظر لها، لتحاول إصلاح ما فعلته مردفة بسرعة دون إعطاءه حتى فرصة الرد عليه: أنا. أنا كنت جاية لحضرتك علشان يعني اشتغل مع حضرتك، أو أسيستنت لحضرتك.
كاد أن يضحك على طريقة حديثها، لكنه تمالك نفسه وهو يُجيبها بأسف: بعتذر جدًا. بس أنا مش محتاج مُساعدة معايا.
رسمت إمارات الحزن على وجهها وهي تتصنع الإستسلام: تمام. وشكرًا ليك مرة تانية.

استبقته بعدة خطوات، وهي تعلم بأنه يُغلق الباب من خلفها، ليرن هاتفها وتُجيب عليه بحزن مصطنع: أيوا يا ماما، لا يا حبيبتي لسه ملقتش شغل، أول ما ألاقي هعرفك، إن شاء الله ربنا يقدرني وأجبلك العلاج بتاعك قبل ما يخلص.
استمع عابد لحديثها مع والدتها، وكم شعر بالأسف تجاهها، مشت عدة خطوات ليُناديها بصوت مرتفع نسبيًا حتى يصل لمسامعها: يا آنسة استني لو سمحتِ.

تصنعت عدم الإستماع وأكملت طريقها متجاهلة إياه، ليذهب خلفها حتى أصبح بالقرب منها مُباشرة مُناديًا إياها: يا آنسة استني بعد إذنك.
التفتت له راسمة على وجهها الحزن المزيف، ليشعر بتأنيب الضمير تجاهها، فأردف دون أن يُشعرها بالشفقة: أنا موافق إنك تشتغلي معايا.
هزت رأسها بالرفض وهي تقول له بقوة: لو حضرتك وافقت تشغلني معاك علشان صعبت عليك يبقي أسفة مش عايزة.

حاول إصلاح تلك الفكرة التي وصلت إليها مردفًا بسرعة: مين قال كدا بس! أنا فعلًا محتاج أسيستنت معايا علشان المجاميع كتير وتقيلة، وانتِ هتخففي الحِمل دا عني.
صمتت قليلًا ثم أومأت له بفرحة وعيناها تلتمع بسعادة وهي تجيبه بسرور: بشكرك جدًا يا أستاذ آ...
أجابها بهدوء ورغمًا عنه جذبته لمعة عيناها الخضراء: عابد.
لتُكمل هي جملتها شاكرة إياه: بشكرك جدًا يا أستاذ عابد، متعرفش فعلًا كنت محتاجة الشغل دا إزاي.

وكأنه إستفاق لنفسه ولتحديقه بها، ليقول بدون قصد: استغفر الله العظيم.
قطبت جبينها بإنزعاج عندما سمعت جملته، وما زاد الطين بلة بأنه قام بالتحديق بعيدًا عنها وكأنه يتجاهلها أو يرفض رؤيتها، شعرت بالضيق تجاهه ولا تعلم أنه يغُضُ بصره عنها، لتستمع إلى قوله: ممكن تبدأي شغل من بكرة لو عايزة يا آنسة، عن إذنك.

تركها ورحل من أمامها قبل أن تخونه أبصاره وتتوجه نحو عيناها الجميلتان مرة أخري، وهي تكاد تستشيطُ غضبًا من تجاهله لها.

ذهب بكر ومعه فارس وأولاد عمومته إلى القسم حيث يُحتجز ريان، طلبوا مقابلته والخوف ينهش أفئدتهم، يبدو أن الأمر سيكون معقدًا كما قال له ريان أثناء مهاتفته، جاء إليهم وهو مُكبل بالأصفاد الحديدية ووجهه مُنزعج للغاية، تجمعوا حوله فبادر بكر بالحديث مستفسرًا منه: إيه اللي حصل يا ريان!

زفر مطولًا ثم قام بسرد ما حدث بوجه ممتعض، بداية من مهاتفة أحدهم إليه مُخبرًا إياه بوجود ابنه بالمشفي وركوبه للسيارة مع فتاة، حتى إلقاء القبض عليهم عندما وجدوا أكياسٌ بيضاء من العقاقير المُخدرة بتهمة الإتجار بها، كانوا يستمعوا إليه بإنصات، ناهيك عن ذلك القلق المسيطر عليهم، تحدث معتصم بعدما فكر في الأمر مليًا: الموضوع دا مترتب ومتخطط ليه، مستحيل دا يحصل صدفة كدا.

أثار حديثه إنتباههم، ليفكروا في الآمر، فلم يكن سوا هذا الحل المنطقي، ليؤكد له ريان قوله متشدقًا: ما هي العِرسة اللي كانت معايا قالت كدا برده.
عِرسة!
نطقها الجميع بإستغراب، ليوضح لهم ريان بقوله: أصل مش أنا لوحدي اللي متهم في كدا، في بنت معايا كمان مشتركة معايا، يعني القضية فيفتي فيفتي.
تسائل شهاب تلك المرة بتوجس: ومين البنت دي يا ريان!
غزل أبو زيد...
نعم!

قالوها بصدمة جلية على وجوههم، وإمارات الإنزعاج بدأت تتشكل عليهم، ولأنه يعلم الخلاف القائم بين العائلتين، برر بقوله المستهجن: متبصوش كدا، ما أنا مش هروح أقول للي ملفق القضية لا وحياة أمك جيبلي واحدة تانية اتحبس معاها!

لم يكادوا أن يتحدثوا حتى وجدوا عائلة غزل تقتحم عليهم المكان، نظرات امتعاض ودهشة من العائلتين، خفتت عندما لمح إبراهيم ابنته تأتي عليهم وبيدها الأصفاد هي الآخري، ذهب إليها مُسرعًا وهو يقول بلهفة: إيه اللي حصل يا بنتي!
ربتت على زراعه لتهدأه، رغم أن الأمر صعب للغاية إلا أنها قالت مطمئنة إياه: متقلقش يا بابا سوء تفاهم مش أكتر.

سمعت نواح والدتها ودموعها تنهمر قائلة بتحسر: يا عيني عليكِ يا بنتي، كان مستخبيلك فين دا كله! دا انتي حتى ملحقتيش تتغدي.
نظر لها الجميع بإستنكار ليتحدث ريان بحزن: وأنا والله يا طنط مكلتش أنا كمان.
تلك المرة صاح به بكر يُعنفه بغضب: اخرس يا حيوان وخلينا نشوف حل للمصيبة دي.
وبينما هم يقفون، دخل عليهم الضابط ناظرًا لهم بضجر وهو يصرخ بالعسكري: مين اللي سمح لدول كلهم بالدخول!

ابتلع الآخير ريقه بخوف متمتمًا بتلعثم: ح. حضرتك قولتلي. لو جه من أهل المتهمين يدخلوا.
تقم مدخل دول كلهم!
حاول إبراهيم أن يُهدأ من حدة الاجواء، ليردف بود: أسفين يا باشا. بنتنا وبنطمن عليها.
نظر له ببرود، فالتفت يجلس على كرسيه بهدوء يُنافي الوضع الذي فيه، متحدثًا بجمود: بنتك الاحسن ليها إنها تعترف وإلا مش هيحصل كويس.

نظر الجميع لبعضه بتوتر، الأمر ليس سهل كما اعتقدوا، لتصيح هي بغضب نافية عنها التهمة: بقولك أنا معرفش حاجة عن الزفت دا.
وافقها ريان في الرأي وهو يؤكد حديثها: أيوا وأنا كمان معرفش حاجة عن الزفت دا.
استطرت غزل حديثها وهي تُلوح بيدها: هي عربيتي ولا عربية السواق!
ليوافقها ريان مرة أخري وهو يكرر حديثها: أيوا صح، هي عربيتي ولا عربية السواق!

نهض الضابط بعنف ضاربًا على سطح مكتبه وهو يصيح بهم بغضب: بس انتِ وهو في إيه!
ثم أشار بسبابته تجاههم مُحذرًا إياهم: الإنكار مش هيفيدكم، بكرا الصبح هتتعرضوا على النيابة، السواق هو اللي بلغ عنكم لما لقي المخدرات جنبكم في الكرسي، وانتوا كنتوا مع بعض، يعني التهمة عليكوا مش على السواق.
ثم نادي بعلو صوته: يا عسكري، تعالي خد المتهمين على الحجز.

نفذ العسكري أمره وهو يسحب كلاهما تحت أنظار عائلاتهم العاجزة، خرج بكر ومن خلفه فارس وهو يردد: لله الأمر من قبل ومن بعد، يعني إيه! يعني كدا الواد اللي حيلتنا ضاع!
نفي فارس برأسه، رغم أن الفزع تملك منه بعد حديث الشرطي لكن حاول طمئنته: متقلقش يا عمي. أنا هكلم بابا وهو عنده أصحاب محاميين كتير، يمكن يقدر يساعدونا.
تهجم وجه بكر على ذِكر سيرة عَزام، ليردف بسخط: لا مش عايزين حاجة من أبوك.

حاول شهاب إقناعه بشتي الطرق لركن الخِلاف القائم بينه وبين عمه: يا عمي دا كله في مصلحة فارس، وإلا كدا هيضيع فعلًا.
ومع الضغط منه ومن معتصم أيضًا وافق على مضض، واضعًا حياة ريان أمامه أولًا.

بشموخ ورأسٍ مرفوع جلس على مقعده الوثير في مكانه الفسيح، منزل يشبه القصور في تصميمه، يظهر عليه الترف والبزخ، أمسك سليم بقنينة من الخمر الفاخر ثم صب محتوياته في كوب زجاجي فخم يحتوي على مكعبات الثلج، أمسك بالكوب ثم ارتشفه ببطئ متلذذ بما يسمعه الآن، خطته الدنيئة نجحت وأُلقي القبض على من تحداه، غزل أبو زيد و ريان الطحاوي.

تذكر ليلة البارحة عندما علم بإختراق أحدهم لنظام شركته، ومن الاكيد بأنه علم بتعامله مع كبار التجار ذوي السمعة السيئة، هاج وماج وقام بتحطيم كل ما أمامه بغضب شديد، و فريد يُتابع ثورته بخوف من ردات فعله المتهورة، وقف محله وصدره يعلو ويهبط من إنفعاله الزائد، آمرًا الذي يرتعش أمامه بأن يجلب له كل المعلومات التي تخص ذلك المحتل، وبالفعل قام بجلب كل المعلومات التي تخص محتله، ولسوء حظ ريان كان قد دخل بالحساب الخاص به، فكان من السهل الحصول على جميع معلوماته، وكانت ضربة الحظ له عندما علم بأنه يقطن بنفس المطنقة التي تقطن بها غزل، فقام بالتخطيط والتدبير للإيقاع بهم سويًا.

قلَّب قطع الثلج بإبهامه ثم ارتشف منه بتلذذ، استمع لصوت فريد وهو ينقل له آخر الأخبار، منتشيًا بإنتصاره على خصميه الغبيان من وجهة نظره، وضع الكوب من يده ثم أكد عليه بحديثه: متأكد يا فريد القضية متحبكة كويس! مفيهاش أي غلطة.
أجابة بثقة مؤكدًا: مش أقل من 15 سنة يا سليم بيه.

ظهر على ثغره ابتسامة خبيثة منتصرة، فأمسك بكوب الخمر مرة أخري، ضاربًا به بكوب الآخر مُحتفلين بإنتصارهم، ولكن هل سيتحقق ما خططوا لأجله! أم ستتغير الأحداث!

شعور الظلم يجعلك تشعر بأنك مُحتبس داخل قفص كالطير الجريح، صوت آناتك في الليل لا يسمعها بنو البشر، صرخات قلبك تُنادي للعون، وجسدك ما عليه سوي أن يضعف، وحدتك تقتلك، والجدران صديقتك، أوراقك متناثرة، بها جملة واحدة متكررة في جميعا، البشر كالذئاب.

نظرت حولها لذلك المكان ذو الرائحة العفنة، وجوه النساء من حولها ترتسم بالإجرام، وهي كالطفلة هشة من الداخل، رغم تظاهرها بالقوة ولكنها في النهاية فتاة بريئة، دخلت غرفة الحجز بأقدام متوترة، وقلب يخفق من الهلع، جلست عند الباب بجانبه تحديدًا، أكثر ما أفزعها هي نظرات تلك النساء، حاولت التغاضي عنها، لكن شعرت بالخوف عندما رأت إمرأة كبيرة الحجم تأتي ناحيتها، ادعت بالثبات لتنجي من هذا المأزق، وقفت الأخري قبالتها لتزجرها بقدمها بعنف: قومي يابت دا مكاني.

حسنًا، قلت لكم إنها تشعر بالرهبة، لكن مع تلك المعاملة المُهينة تأجج قلبها بالغضب الحارق، لتقف قبالتها صائحة بعنف: انتِ إزاي تعامليني بالطريقة دي! انتِ اتجننتي!
وبصوت غليظ خرج من حنجرة تلك المرأة تحدثت وهي تضربها في كتفها بعنف: ما الحلوة عندها لسان وبتعرف تتكلم أهو!

جزت غزل على أسنانها بغضب، وتلك المرة لن تتغاضي عن إهانتها، لتشمر كُم بلوزتها السوداء، ثم جذبتها من خصلاتها بعنف وهي تحرك رأسها بين يدها يمينًا ويسارًا قائلة بتحذير: مش أنا قولتلك ابعدي عن خلقتي السعادي يا دكر البط انتي! انتي اللي جيتي لقدرك بقا.

وقعت السجينة على الأرض من الهجوم العنيف من غزل لتجلس عليها ثم ظلت توجه لها اللكمات والضربات كأنها تُفرغ محتويات غضبها اليوم، لتستنجد التي أسفلها بها وهي تردف برجاء: آاااه خلاص، خلاص مش جاية ناحيتك تاني.
وقفت من عليها وهي تنظر لها شمئزاز حقيقي، ثم عدلت من ثيابها وجلست محلها مرة أخري، ولكن تلك المرة جلست بقوة.
علي الجانب الآخر.

كان ريان يستمع لحكايات الرجل الذي تعرف عليه من عدة سويعات والمدعو عطا، ليستطرد عطا حديثه بقوله: قومت بقا يا سيدي طاعنها 12 طعنة لحد ما فطست مني.
مصمص ريان بشفتيه وهو يقول بإستنكار: مسم، 12 طعنة إيه اللي تموت منهم! أما نسوان قموصة بصحيح.
وانقضي ليله يستمع لحكايات المساجين الشرسة وسبب دخولهم السجن، حتى سطعت الشمس بنورها، تدلف من تلك المنطقة الصغيرة من شباك الغرفة المحتجزين بها.

انفتح الباب ليدخل العسكري وهو ينادي اسمه بصوت عالي: ريان الطحاوي.
انتفض من مكانه وهو يجيبه: أيوا يا شويش.
تعالي.
ذهب معه ليدلف إلى غرفة الضابط، ليجد سليطة اللسان تلك تقف أمامه، أمر الضابط بوضع الأصفاد في يد كليهما، حتى أصبحا متشاركين بها، ليقول الضابط بشماتة واضحة: ودلوقتي هتتعرضوا على النيابة يا حلوين.

نظر كلاهما لبعضه بتوتر بالغ، وأول ما جال ببال ريان هو ابنه مدثر، لا يهم أين سيذهب هو، ولكن هل سيترك ابنه وحيدًا!
مشوا حتى وصلوا إلى السيارة التي ستقلهم، ثم صعدوا بها منطلقة بهم إلى مصيرهم، الأفكار تدخل وتتضارب في عقل كليهما، والمخاوف تتزايد كلما اقتربوا من الوصول، هم ضحية لمؤامرة حقيرة ستتسبب في خسارة حياة كلاهما، لا يوجد مفر الآن، يجب الإقتناع بالأمر الواقع.

دلفوا إلى ساحة المُحاكمة، ليجدوا كُلا من عائلاتهم موجودة بالمكان، شعرت غزل حينها بالتوتر البالغ، القضية ليست في صالحهم مطلقًا، كل الأدلة ضدهم، المحامي الموكل لقضيتهم غير قادر على تقديم أدلة كافية، بينما الآخر يُدينهم وبقوة، لا يفصل الآن بينهم وبين العالم الخارجي سوي النطق بالحكم.

نظر القاضي للأوراق وللأدلة، كل ثانية يصمت بها كانت بمثابة خوف جديد يتجدد داخل الجميع، وأخيرًا فتح فمه لينطق بالحكم، متحدثًا برسمية: بالنظر إلى كافة الأوراق والأدلة المُقدمة، حكمت المحكمة حضوريًا على كلا من المتهمين ريان منصور الطحاوي و غزل إبراهيم أبو زيد بالسجن لمدة 15 سنة مع الأعمال الشاقة، رُفعت الجلسة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة