رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثالث عشر
لا تصنع المعروف إلا في أهله
وليس كل من رأيت للمعروف أهل
و ارفض سكوتك في لحظات ضعفك
حتى ولو كان السكوت كعادته سهل
وامسح دموعك وانتفض مواجها
فلكل صعبٍ قائد وأنت وحدك جيش.
أشعل غضبها ثم قال أمام والدتها ما جعلها تود لو أن تبتلعها الأرض، هكذا يتحدث بسلاسة لوالدتها عن ابنتها التي تريد احتضانه، قالها ورحل ولم يرض الطلوع مبررا ذلك بأنه يجب أن يذهب لوالده على الفور، كانت ملك في الردهة مع والدتها تبرر موقفها بحرج: ماما على فكرة عيسى كان بيهزر، هو كان معايا في المدخل علشان كان طالع عندنا، بس عمو نصران اتصل بيه فقالي هيرجع، لكن م...
قطعت والدتها حديثها وهي تتجه لغرفة شهد: خلاص يا ملك حتى لو حصل يعني، أنتِ مراته.
أغمضت عينيها بغيظ واضح وهي تتمتم: يا ماما أقسم بالله ما حضنته.
ضحكت هادية ودخلت إلى الغرفة تتبعها ملك فتوقفا الاثنان وهما يسمعا مريم تقول لشهد الجالسة على الفراش: أنا مش عايزة اكتئاب في البيت ده، بصي أنا شارية ايه علشان أجرب فيكم.
رفعت أمام عين شقيقتها ما ابتاعت وهتفت بحماس: قررت أسيب التعليم و أشتغل حنانة، أنا جايبة القلم اهو والرسومات اللي هنعملها وفي حروف كمان.
جذبتها والدتها من ملابسها من الخلف وهي تكرر باستنكار: يعني أنتِ شايفة اللي احنا فيه ده كله، وبدل ما تيجي تهديني، ولا تعدلي أوضتك اللي تضرب تقلب بتفكري في الحنة.
حاولت مريم التملص منها وهي تقول بتصنع البراءة: يا ماما استني بس، ده في بنت معانا في الكلية بترسم حلو أوي فقولتلها علميني راحت قايلالي على الورق المتفرغ ده وأنا جبت القلم وهرسم بقى.
كانت والدتها تطالعها بضجر فتابعت بضحكة: يا هادية استني بس ده حنة سودا بيبقى اللون الأسود شيك أوي، هاتي ايدك بس.
جذبت يد والدتها عنوة فضحكت شهد وهي تمسح دموعها التي رافقتها منذ أن صعدت من الأسفل بعد ما تعرضت له، جاورتها ملك على الفراش ووكزتها بخفة ضاحكة لتنتبه لوالدتها و مريم حيث حاولت هادية شد يدها باعتراض قائلة: سيبي ايدي يا بت أنتِ.
إصرار ابنتها على الأمر يجعل أي أحد يستجيب وخاصة وهي تقول بإلحاح: استني بقى الله يكرمك، اختاري رسمة يلا، بصي الوردة دي.
أشارت على وردة صغيرة رقيقة متابعة: تعالي هعملهالك وهي كده كده صغيرة مش هتبان، هعملهالك على جنب ايدك.
رفضت هادية مسرعة: لا بلاش، اعمليها من فوق علشان متبقاش متشافة، وعلشان لو باظت
وضعت الرسمة المفرغة على منتصف ذراع والدتها بعد أن شمرت أكمامها واتسعت ابتسامتها بحماس وهي تلقي تعليماتها: أنا مش عايزة حركة خالص، علشان تطلع بالظبط ومتخرجش برا الرسمة.
عارفة لو باظت أنا هعك وشك بقلم الحنة اللي في إيدك ده.
كان هذا تهديد والدتها الذي أضحك ملك و شهد وهما يتابعا بتشوق ما تفعله شقيقتهما الجالسة وأمامها والدتها والأولى تحاول ألا تخرج عن حدود الرسمة المفرغة حتى تكون النهاية مرضية.
لم يستغرق الأمر الكثير بسبب أن الرسمة صغيرة وما إن انتهت حتى هتفت بفخر: بصوا بقى، شايفين الجمال، فنانة أنا فنانة والله، سيبيها بقى يا ماما لحد ما تنشف خالص، و عايزاكي تمشي تقولي في البيت بنتي الفنانة راحت، بنتي الفنانة جت.
ردت عليها هادية بغيظ: فنانة ايه يا بت أنتِ، هو علشان حتة الوردة دي بقيتي فنانة، ده أنتِ حاطة الورقة ويادوب بتمشي عل...
قاطعتها مريم صائحة بانزعاج: أنتِ بتنكري مجهودي، طب أنا هبوظها بقى...
قبل أن تفعل أي شيء ضحكت والدتها وهي تخبرها أثناء تطلعها للرسمة: لا خلاص متبوظيهاش حلوة.
قالت هذا واتجهت للخارج تحديدا ناحية الردهة فلم يبق إلا ثلاثتهن فتوجهت مريم ناحية شهد هاتفة: يلا قوميلي علشان ترسمي.
قبل أن تعترض جذبتها من ذراعها متحدثة بتصنع الحزم: أنا قولت محدش يعترض هنا، كله هيتجرب فيه، بطلوا الكآبة اللي بتجري في دمكوا دي.
ضحكت شهد وهي تشير على رسمة لعصفور صغير: طب أنا عايزة دي.
وافقت مريم وهي تشير لملك أن تستعد فسمعت اعتراضها: بقولك ايه، أنا مش هرسم حنات.
حذرتها مريم رافعة سبابتها: أنا هنا اللي بقول.
فردت شهد يدها بابتسامة واسعة وهي تقول: بصي ارسمي منه تلاتة بالطول مثلا كأنهم طايرين ناحية صباعي الأخير كده.
وضعت مريم الرسمة وبدأت في الرسم وحين اهتزت شهد حذرتها شقيقتها بغضب: هتاخدي على وشك، متتهزيش.
طالعتها شهد بنفاذ صبر وأكملت مريم عملها حتى انتهت تماما حينها ابتسمت برضا وأبدت ملك إعجابها قائلة: لا حلوين أوي دول.
تأملتهم شهد بحب وعلقت: أيوه شكلهم رقيق أوي.
وقعت عين شهد على شيء ما في الورقة الخاصة بالحروف فمالت على أذن مريم وهمست بشيء ما وهي تبتسم بمكر جعل مريم تبادلها الابتسامة وتتبعها بقولها: يلا يا ملك.
أنتوا بتضحكوا الضحكة الشريرة دي ليه؟، أنتوا هتعملوا إيه؟
جذبتها مريم قائلة: والله هعملك حاجة حلوة أوي، تعالي بس.
طلبت منها ملك التمهل وهي تقول: طب اصبري هختار الرسمة.
هزت مريم رأسها نافية وهي تردف بابتسامة: لا أنتِ هعملك على ذوقي.
رفضت رفض قاطع مسرعة: لا يا مريم، أنا أصلا مش عايزة أعمل.
مطت مريم شفتيها متصنعة الحزن وهي تعاتبها: يعني تقصدي إن أنا ذوقي وحش.
حين انتقلت نظرات ملك إلى شهد رمقتها شهد بتأنيب فرضخت بقلة حيلة: خلاص يا مريم ماشي علشان متزعليش.
أبعدت مريم حجاب أختها وثبتت رأسها على زاوية معينة قائلة: بس اثبتي كده ومتتحركيش خالص.
إيه ده في إيه؟
هكذا هتفت ملك باستغراب فردت شهد على تساؤلها بضحكة: هترسملك على جنب رقبتك، دوري دماغك بقى ناحية اليمين ومتتحركيش خالص.
هتفت بضجر: طب قولولي هترسموا إيه طيب؟
جاوبتها مريم بحماس: مفاجأة، مفاجأة.
قلقت بشدة ولكنها استجابت وما زاد من قلقها هو ضحكتهما البلهاء، انتهت مريم ولكن سريعا ما حذرتها: خليكِ زي ما أنتِ لحد ما تنشف خالص
طب أشوفها طيب.
طلبت ملك برجاء وكان رد شهد هو أنه عليها الانتظار، بقا معها يشغلاها حتى تأكدا من أنها جفت تماما فقالت شهد بحماس وهي تعطيها المرآة: بصي.
كانت ملك تضحك بحذر وسريعا ما اختفت الضحكة وجحظت عيناها وهي ترى على جانب عنقها حرفين من حروف اللغة الأجنبية باللون الأسود اللامع، إنها الحروف البارزة في اسمه، الأول (E) وجواره(S) وأسفلهما قلب صغير
احتدت نظراتها فصاحت شهد: اجري يا مريم وبسرعة.
وهرولا من أمامها وانكمش حاجبيها بغضب وهي تنادي على والدتها بنبرة باكية: يا ماما.
كانت بالنسبة لها كارثة وليست كأي كارثة بل كارثة كبرى.
لأول مرة منذ ما حدث له ينفرد بوالد زوجته، الذي أتى له الغرفة خصيصا وطلب أن يبقا بمفردهما، أحضرت الخادمة لثروت كوب من القهوة ولشاكر واحدا من العصير بناء على تعليمات بيريهان وانصرفت، قطع صمتهما صوت ثروت الذي سأل: عامل ايه يا شاكر؟
الحمد لله بقيت أحسن كتير، حتى لسه كنت بقول لبيري إني هحجز علشان نسافر يومين نغير جو.
كان الرد على هذا السؤال لا علاقة له تماما بما قيل حيث سأله ثروت: بتحبها يا شاكر؟
ضحكة فلتت من شاكر وهو يسأله: لو أنت عارف إني مبحبهاش مكنتش جوزتهالي، ولا أنت جوزتهالي مصلحة؟
سأل شاكر غامزا فرد عليه ثروت: جوزتهالك علشان هي بتحبك، وعلشان شايفاك الراجل المثالي، وعلشان أخيرا وافقت ترتبط بحد و...
أكمل شاكر بدلا عنه: وعلشان أنا قدمت فروض الولاء والطاعة وعملت كل اللي اتطلب مني، كتبتلها اللي ورايا واللي قدامي زي ما أنت طلبت، أنا لو مش بحب بيري مكنتش وافقت إني أعمل ده ولأجل الحق برضو أنا عارف كويس أنا بناسب مين.
ضحك ثروت وهو يقول له: عارف يا شاكر أنا عجباني دماغك، لو كنت خلفت ولد أكيد كنت عايز دماغه تبقى زيك، مبتضيعش وقت.
أشار له ثروت ينبهه أنه يستطيع فهمه بعض الشيء: عايز تكسب من كل حتة.
تحدث شاكر بصراحة مطلقة وهو يطالع والد زوجته: طب ما احنا فيها، طالما مخلفتش ولد أهو جالك الولد.
قالها ثروت وهو يشير على نفسه وتبعها بقول: وأنت فاهم صح على فكرة، أنا فعلا عايز أكسب من كل حتة، أنا عايز أبقى كبير بس مش كبير في البلد زي أبويا لا، أنا بلعب على أكبر من كده.
تبقى زيي مثلا؟
كان هذا سؤال ثروت له فرد عليه شاكر: لا لا أنا مش عايز أبقى وزير، أنا عايز أبقى قوي، ومش هبقى قوي غير بتلاتة، فلوس كتير علاقات مع ناس كبيرة، ونفوذ، التلاتة دول أهم حاجة عندي.
تناول شاكر كوب العصير وارتشف منه قائلا: بالنسبة للفلوس أنا عندي بس عايز أشغلها وأكبرها، بس مش في أي حاجة أنا عايز أشغلها في الحتة اللي تحققلي الاتنين التانين، العلاقات والنفوذ.
مش بقولك عايز تكسب من كل حتة؟
كان هذا رد ثروت الذي أجاب عليه شاكر ضاحكا: وأنا قولتلك إن دي حقيقة، وقولتلك كمان اعتبرني ابنك، قولي أعمل ايه.
طالعه ثروت بنظرة مطولة أتى عقبها قوله: اللي أنت عايزه ده بيبقاله طريقين، واحد طويل وواحد تاني...
قاطعه قائلا: طويل، قصير مش هتفرق، اللي هيفرق معايا حاجة واحدة، هتقف في ضهري لحد ما أوصل؟
دقيقة فكر فيها ثروت هو يعلم أن زوج ابنته يمقت من دمره يوم زفافه، ذلك الذي قابله مرة ورأى كم هو متبجح، زوج ابنته يريد أن يصل ليصبح أقوى من كل شيء أقوى من عيسى ومن الخلافات والصراعات القديمة، لذلك قال: هفكر يا شاكر بس لازم تثبتلي الأول إنك تستاهل تكون ابنى.
قالها ثروت واتجه للمغادرة ولكنه سمع من الخلف: متقلقش أنا شاطر أوي في الإثبات، أنا نعمة على الأرض يا ثروت باشا.
ابتسم ثروت فأكمل شاكر: اندهلي بيري بقى علشان وحشتني الشوية دول.
قالها شاكر وجذب هاتفه متصنعا العبث به بينما نظراته تتابع والد زوجته بترقب شديد.
حل المساء أخيرا، غادر الاسترخاء طاهر فترة طويلة منذ ما حدث لها يتذكر حين علم من عز ما يقال، يتذكر محاولاته في الاتصال بها قبل أن يأتي بحقها، لم تنجح هذه المحاولات إلا بصعوبة، ردت عليه بنبرة أبت أن تكون منكسرة حيث قالت: متصل ليه يا طاهر؟، متصل تقول إيه؟
لو متصل تقولي إني غلطانة وإن ده نتيجة و...
قاطعها وهو يرد بما نبع من قلبه حقا: أنا متصل علشان أقولك إني معاكِ و هجبلك حقك...
وإني اتعلمت الدرس، ولو الدنيا كلها صدقت إنك كده أنا مش هصدق وهحاربها كلها علشانك يا شهد.
استطاع سماع شهقاتها المتتالية، وصله المرارة التي تقتلها لذلك وعدها: أوعدك إني مش هرتاح غير لما أخرس كل واحد قال كلمة في حقك.
وأنا مصدقاك.
كان هذا ردها عليه، الرد الممتزج بعبراتها، ولقد صدق وعده، لقد رد لها نفسها التي سُلبت منها بعد ما سمعته يقال في حقها.
فاق من شروده على صوت ابنه الذي أتى بدفاتره وهو يقول بحماس: بص يا بابا خطي حلو ازاي؟
انتبه له واتسعت ابتسامته وهو يقول بإعجاب: اه حلو أوي يا يزيد، قولي صحيح أنت مبقتش تروح عند طنط هادية ليه؟
مط الصغير شفتيه بحزن وهو يرد على والده: علشان أنا زعلان منك ومن شهد علشان متخاصمين ومش عايزين تتصالحوا.
طب بص، أنا عايز أصالحها بصراحة، قولي أنت بقى نصالحها ازاي؟
بدا الحماس الشديد على وجه ابنه وهو يقول بضحكة واسعة: أنا لما ريم صاحبتي زعلت علشان قلمها ضاع اشترتلها واحد جديد لونه بينك علشان هي بتحب اللون ده.
رفع طاهر حاجبه وهو يجذب ابنه من ملابسه سائلا باستنكار: ريم مين دي اللي بيتصرف عليها فلوسي، وبيتجابلها أقلام بينك.
رد عليه ابنه ببراءة شديدة: صاحبتي في الفصل.
تصدق أنت وشهد تستاهلوا قلمين فعلا بس على وشكم.
رد عليه الصغير بانزعاج: أنا مش هكلمك ولا اساعدك تاني يا بابا.
جذبه طاهر يحاوطه بذراعيه وهو يقول بضحك: طب تعالى متزعلش.
أخذ يلاعبه وتعالت ضحكات ابنه بينما في الأسفل كان نصران يستعد للخروج فدخلت سهام الغرفة ووقفت خلفه تسأله بنبرة حزينة: وايه أخرتها يا نصران.
استدار لها يرد عليها قائلا بابتسامة: لولا عيالي كان بقى ليها أخر تاني خالص يا سهام، بس أنا هختار الأخر اللي هيجيب أقل الخساير.
تعالت دقات قلبها، واتسعت عيناها وهو تنتظر أن تسمع ما ينوي فعله ولم تنتظر كثيرا حيث قال ما دمرها: أنتِ خذلتيني، لو استنيت الضربة دي من الخلق كلها مكنتش هستناها منك، لا ورجعتي خبيتي تاني لما مقولتليش على حكاية منصور.
أسرعت تقول بدموع: خوفت عليك والله خوفت، منصور ضحك عليه فهمه أنه لو مشي ورا...
قاطعها بإشارة من يده قائلا بحسم: ملهوش لزمة الكلام، أنتِ مستنية بقالك كام يوم تعرفي إيه اللي هيتم وأنا هريحك وأعرفهولك.
واجه عينيها وهو يخبرها بقراره: أنتِ هتفضلي هنا يا سهام...
ابتسمت وقد ظنت أنه السماح ولكنه أكمل بما قضى على روحها: بس زيك زي أي حد غريب عني هنا، أنتِ هنا علشان.
طاهر و حسن و رفيدة علشان اللي سعيت لأخر لحظة وأخوهم قبل مني إنهم ميعرفوش حاجة علشان البيت ده يفضل قايم، وطول ما أنا عايش بإذن واحد أحد هيفضل قايم وعمره ما هيتفرق، أنا مش هحرق قلبهم بأبوهم اللي طلق أمهم، علشان عارف ده هيعمل فيهم إيه، مش هقولك الكلمة دي يا سهام، مش دي الكلمة اللي حلفتيني ما أقولهاش.
تسارعت دموعها ومسكت كفه وهي تصارحه بوجع: نصران أنت لو طلقتني أنا هموت، أنا روحي هنا جنبك، أنا بحبك أكتر من عيالي اللي المفروض يبقوا أغلى ما عندي.
سحب كفه بهدوء وهو يخبرها: وعلشان عيالك أغلى ما عندك، كل حاجة قدامهم هتبقى زي ما هي، مفيش حاجة هتتغير، لكن اللي بيننا بقى واللي من وراهم، إنك معدتيش تلزميني.
شهقت بغير تصديق، على الرغم من تأثير مقلتيها في فؤاده ولكنه كان أقوى وهو يقول: تلزمي ولادك وبس، وعلشان ولادك هتفضلي على ذمتي شكلا بس، غير كده تخليكِ عارفة إنك بالنسبالي انتهيتي خلاص، والأساس ده هو اللي هتتعاملي عليه بعيد عن عيالك يا سهام.
نصران بس...
حاولت قول أي شيء ولكنه أوقفها بقوله: مفيش كلام تاني، الكلام خلص و مفيهوش رجعة.
تركها وخرج من الغرفة فهوت على الأرضية تبكي بحرقة وهي تنظر في أثره وتحاول تكذيب كل ما دار هنا الآن.
في نفس التوقيت
أحضرت هالة كوب العصير الذي طلبته رفيدة لها في غرفتها فشكرتها رفيدة بامتنان: شكرا يا هالة، تسلمي.
انتبهت رفيدة إلى أنها ترتدي مما أعطتها إياه من ملابس مسبقا فأخبرتها بابتسامة: وعلى فكرة الفستان شكله حلو أوي عليكِ.
ردت عليها هالة بابتسامة: شكرا يا أنسة رفيدة ربنا يكرمك.
ما قولنا بلاش ألقاب بقى هو رفيدة علطول.
هزت هالة رأسها بامتنان ثم طلبت منها رفيدة: بقولك ايه شوفيلي تحت أي مسكن للصداع أحسن دماغي هتنفجر.
وافقتها هالة على الفور واتجهت سريعا لتغادر غرفتها، لمحتها أثناء الخروج وهي تشرب مما أحضرته، هي شبه تعلم سبب الدوار الذي تشتكي منه رفيدة، ربما بسبب جرعة المخدر الأولى التي وضعتها لها، والآن وضعت لها الثانية فيما تشربه، بعد جرعة أول أمس غابت عن العالم، استرخت تماما وكأنها في دنيا ثانية، ولم تفق إلا في، الصباح ومنذ ذلك الوقت وهي تشكو من الدوار، بالتأكيد شعرت بالانتشاء بعد أول جرعة لها ولكن الأكيد أكثر أن هناك بوادر شعور بالذنب بدأت تصيبها ناحيتها، تصيبها ناحية رفيدة وخاصة وهي تراها الآن تتناول ما وضعت به الجرعة الثانية لها.
هي معه في السيارة الآن، منذ فعلة شقيقتيها وهي تشعر وكأن أفعى تسير على عنقها، كل دقيقة تتأكد من وضعية حجابها وتثبته أكثر من ذي قبل مما جعله يسألها باستغراب: هو في حاجة يا ملك؟
هزت رأسها سريعا نافية بابتسامة متوترة ثم سألته: احنا هنقعد في القاهرة يوم واحد بس صح؟
هز رأسه بالإيجاب فسألت مرة ثانية وهي تثبت حجابها: هنقعده فين؟
كان رده هو أن نظر لها وسألها بغيظ: أنا عايز أعرف أنتِ عمالة تفركي في الطرحة ليه؟، أنتِ في نملة بتقرصك في قفاكي طيب؟
لم تستطع إلا أن تبتسم وقررت إجبار نفسها على التوقف حتى لا يلاحظ شيء، كانا قد وصلا إلى القاهرة وتحديدا أمام إحدى المقاهي الشبابية الراقية، أوقف سيارته وقبل أن يخبرها أنهما سيجلسا به وجدها تشد حجابها للمرة الألف فقال بنظرات متيقنة: أنتِ حاطة مخدرات تحت الطرحة دي صح؟..
عايزة تلبسيني مصيبة وتبيتيني في الحجز علشان قولت لأمك إنك عايزة تحضنيني.
نفذ صبرها فردت عليه بغيظ: اسكت علشان أنت مش فاهم أي حاجة.
طب فهميني
هكذا طلب وقبل أن تجاوب أتاه اتصال من خالته، قررت هي الهرب واستغلت رده لتقول له: أنا هستناك جوا.
قصدت المقهى فأشار لها بعينيه بالموافقة، ونزلت هي مهرولة نحوه، تأملت المكان بانبهار، فتصميمه رائع وخاصة الجدران التي تميز كل جدار فيها بصورة تزيد من تألقه وحده، وتلك الخزانة التي امتلأت بالورود المتناثرة وأبرزها اللوح الزجاجي الموضوع عليها، اختارت طاولة جوار حائط الزهور هذا ولكن قبلها طلبت من النادل بأدب: لو سمحت هو الحمام فين؟
أنا أسف يا فندم جدا هو مغلق بس للصيانة.
هزت رأسها وجلست تنتظره ولم يمر الكثير حتى وجدت النادل يعود من جديد وهو يقول: اتفضلي يا فندم لو عايزة الحمام.
سألت باستغراب: مش قولت مقفول.
أنا لسه جاي دلوقتي حالا، وعرفت إنه اتفتح فجيت أبلغك.
أرشدها لمكانه باحترام فذهبت إليه، لا تعلم لما شعرت بالبرودة الشديدة، تجاهلت الأمر وتتوجهت لتقف أمام المرآة، عدلت حجابها بعد أن خلعته، وتأكدت من أنه على ما يرام ثم دخلت للمرحاض وأغلقت الباب، وضعت كفها من جديد تتحسس حروف اسمه بحرج شديد ثم قررت الخروج حتى لا تتأخر وما إن فتحت الباب حتى وجدت شاكر في وجهها، شهقت بغير تصديق، وارتسم الذعر على تقاسيمها وكردة فعل سريعة حاولت الدخول وإغلاق الباب مجددا، ولكن نظراته كانت متحدية وهو يحيل حدوث ذلك بالعصا التي تساعده على السير بسبب جرح ساقه الذي في طريقه للشفاء.
وكأن أحدهم يسرق أنفاسك ويخبرك أنها من حقه هو، كذلك كان هو حين أمال رأسه ليرى وجهها من الجزء الصغير الذي تمنع العصا إغلاقه، نطق بضحكة: وحشتيني يا لوكا.
وقبل أي ردة فعل وضع سبابته أمام فمه محذرا: أي قلق هتزعليني وتزعلي نفسك وأنتِ مجربة.
تموت نعم هي تموت، كما تموت دائما في حضرته، أدركت أن مقتها له يزداد ويزداد وهو يقول: مفيش حد في باقي الحمامات، كلها فاضية...
كيف دخل إلى هنا، كانت على أمل أن يأتي أي أحد لدخول المرحاض، تخشى الصراخ تخشى تهوره، حتى صوتها لا يساعدها فسأل بابتسامة جانبية: هتفضلي ورا الباب كتير، أخرج سلاحه ولوح به لتراه من هذه الفتحة الصغيرة وهو يضيف: كده هبتدي أزهق.
تعالت شهقاتها وقال هو من الخارج: لو عقلك بيقولك تصوتي صوتي، علشان أنتِ وحشتيني أوي يا ملك.
بدا الاشمئزاز جليا على وجهها وتابع هو: ووحشني صريخك، فاكرة اللي كان على المرحوم الأولاني، مفيهاش حاجة لو نكرره تاني.
كان يتحدث وعلى حين غرة دفع الباب بذراعه السليم بعنف جعلها تكاد تسقط وقبل أن تصرخ كمم فمها بيده واستند على الحائط، تحركت عيناه على تفاصيل وجهها بانتشاء شديد وهمس بعينين لمع بهما التحدي قابلا عينين مذعورتين: ده أنتِ طلعتي وحشتيني أوي.
إنه الرفض، إنه حقك في أن تقول لا، في أن تفر هاربا، إنه شعورها الآن، بلا شعورها الآن هو شعور يساوي في صعوبته قتل روحك للمرة التي لا تعلم عددها وأنت على قيد الحياة، وأنت ما زالت تتنفس ولكن بماذا تفيد الأنفاس وأنت مقيد.