رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الأربعون
عبدالرحمن جاتله جلطة في السجن ودخل العناية المشددة وبيقولوا حالته خطر، ربنا عنده العفو يا بنتي ربنا يستر،.
لم يستطع عقل ريتال ترجمة ما سمعته، وقفت تنظر إلى جدها ببلاهة وكأن حديثه كان موجهًا لشخص آخر غيرها، عن مَن؟ عن مَن يتحدث جدها؟ أي رجل يقصد؟ هناك الكثيرون يُدعون عبدالرحمن مؤكد أنه ما قاله لا يتعلق بوالدها لكن شخص آخر، مؤكد أن قلبها لن يطوله المزيد من الجراح والحُطام أكثر من ذلك، لقد كانت تتمنى موته ولقد نطقت بها بلسانها دون أن تُفكر ولو لوهلة أن القدر موكل بالنطق الآن فقط أدركت مدى صدق العبارة...
جدو هو، عبدالرحمن، عبدالرحمن مين؟ بابا؟
أهدي يا حبيبتي وكل حاجة هتبقى زي الفل إن شاء الله. قال جدها وهو يحاوطها بذراعيه، هربت الدموع من عيناها بينما تسأل جدها من وسط شهقاتها مُردفة:
بابا بيموت؟ بابا بيموت يا جدو؟
هيقوم بالسلامة يا حبيبتي إن شاء الله متقلقيش، أنا جنبك.
أنا قولت إني بكرهه ومش عايزة أشوف وشه تاني في حياتي يا جدو لكن أنا، أنا مكنتش أعرف إن الدعوة هتتحقق بسرعة كده، مكنش قصدي. قالت من وسط دموعها في صدمة، لقد كانت تشعر بإستياء شديد منه في الأيام الماضية وغضب يصل إلى حد الكره أو هكذا كانت تظن لكن حينما وصلها ذلك الخبر تأكدت من أن قلبها أرق من أن يكره أي شخص مهما تسبب في أذى لها خاصة وإن كان ذلك الشخص هو أبيها!
أهدي يا حبيبتي كله قدر، إن شاء الله هيقوم منها وهيبقى كويس، قومي بس أغسلي وشك كده وإرتاحي ونشوف هنعمل أيه.
لازم ننزل القاهرة، لازم أشوفه و، يوسف وتيته لازم أكون جنبهم دلوقتي.
طيب خليها بكرة خلاص الليل بدأ يليل والطريق مش هيكون أحسن حاجة وبعدين هتروحي دلوقتي تعملي أيه؟ الزيارة هتكون ممنوعة. حاول جدها إقناعها لكنه لم يفلح في إقناع حفيدته العنيدة، تنهدت ريتال قبل أن تقول بأعين لم تجف دموعها:
يا جدو ريحني لو سمحت، أنا هكلم تليد وأشوفه هو وياسين لو لسه مرجعوش على القاهرة ياخدونا معاهم بالعربية.
طيب أنا هكلم تليد وأنتِ كلمي زينة قوليلها إنك مسافرة معايا وشوفي هتقولك أيه. قال رضوان لتتسع أعين ريتال قبل أن تقول بإستياء شديد:
لا لا يا جدو، ماما هتقعد تتخانق معايا ومش هتوافق إن أنا أسافر.
ما هو أنا برضوا مش هقدر أخدك من وراها يا ريتال، اسمعي الكلام بس يا حبيبتي. تنهدت بقلة حيلة قبل أن تبحث عن هاتفها في حقيبة يدها لتهاتف والدتها وبالفعل لقد تلقت ردة الفعل المنتظرة.
ماما أنا مسافرة القاهرة؟
ده ليه كده؟ رجلت خدت عالمشوار ولا أيه؟ سألت زينة ساخرة فالخبر لم يصلها بعد وكل ما تفكر فيه هو شعورها بالغيرة والضيق كلما قامت ريتال بزيارة أهل والدها أو التحدث بشأن أخيها الأصغر لذا قررت ريتال أن تُفجر القنبلة فقط لكي تستوعب والدتها الغرض الحقيقي من وراء تلك الزيارة.
بابا جتله جلطة في المخ، أتنقل عالمستشفى وحالته مش مستقرة عايزة أروح أشوفه وأشوف تيته ويوسف.
أيه؟ لا إله إلا الله، طيب ربنا يشفيه ويقومه بالسلامة بس أنا مش فاهمة هتسافري تعملي أيه برضوا؟ سألت زينة وعلى ما يبدو أنها لم تتأثر كثيرًا بما سمعت أو ربما فعلت لكنها لم تُريد أن تشعر بالشفقة أو الحزن تجاهه لكنها لم تستطع.
ماما هو أنتِ مش سمعاني بقولك بابا تعبان جدًا وحالته خطر؟ ولسه قايلالك هسافر ليه من دقيقة بالضبط والله.
أنا شايفة ملهاش أي لازمة هو هيبقى في العناية والزيارة هتبقى ممنوعة، طيب خليكي للصبح وأنا هاجيلك ونسافر مع بعض. قالت والدتها لتصفع ريتال وجهها بيدها بضيق ولحسن الحظ أنها كانت مكالمة هاتفية لكي لا ترى والدتها ردة فعلها، ساد الصمت لبرهة قبل أن تقول ريتال:.
هنسافر مع بعض ازاي بس يا ماما وأنتِ حامل وتعبانة؟ خليكي مرتاحة أنا هروح مع جدو.
براحتك يا ريتال، طمنيني لما توصلي لو أفتكرتي يعني. أردفت زينة بنبرة لا تخلو من الإمتعاض تنم عن عدم إقتناع بما تود ريتال أن تفعله لكن الأخيرة لم تهتم بل حاولت طمأنة والدتها بكلمات لم تُقنعها قبل أن تنهي المكالمة وتذهب لتبديل ثيابها سريعًا وتجلس هي وجدها في انتظار قدوم تليد وياسين.
أنتِ كويسة؟ صدر هذا السؤال من تليد بمجرد أن لمح ريتال تغادر باب المنزل والتي أومئت ب نعم دون أن تنبس ببنت شفة، لم يقتنع بإجابتها لكنه لم يُطيل في الحديث حتى لا يرهقها يكفي ما تشعر به داخل قلبها في مثل هذه اللحظة.
ساد الصمت طيلة الطريق فيما عدا صوت همهمات تصدر من جد ريتال وهو يرتل آيات من القرآن بصوت غير مسموع، غفت ريتال على كتف جدها في الخلف ولم تستيقظ إلا عند بلوغهم بوابات القاهرة.
ريتال صحصحي كده يا حبيبتي أحنا خلاص على وصول أهو.
هو أحنا هنروح المستشفى؟ سألت ريتال بصوت ناعس مرهق ليحرك جدها رأسه نافيًا قبل أن يقول:
مفيش زيارة دلوقتي، الزيارة بتبقى الصبح.
أومئت ريتال، مرت دقائق من الصمت قبل أن يتوقف تليد بالقرب من محطة وقود.
هنحط بنزين ونتحرك على طول، ياسين خليك هنا أنا هنزل أجيب حاجة ناكلها أو نشربها وأجي.
غادر تليد السيارة وتبعته ريتال بعيناها لكن سرعان ما شعرت بمعدتها تسوء لذا تركت السيارة واتجهت نحو دورة المياه مسرعة، اصطدم بتليد بالداخل قبل أن تبتعد عنه وتتجه لدورة المياه الخاصة بالنساء، أفرغت ما في معدتها وضعف جسدها لتسقط على الأرضية الباردة، الدموع تنهمر من عيناها بلا توقف ومرة آخرى لقد خانها جسدها وخارت قواها رغمًا عنها، جاءها صوت طرقات على الباب قبل أن تقتحم فتاة المكان وتحاول مساعدتها.
أنتِ كويسة؟ في ولد برا قالي أشوفك.
أنا، كويسة، أردفت بوهن قبل أن تساعدها الفتاة على الوقوف، صفعت ريتال وجهها بالماء البارد ثم جففته بالمناديل الورقية قبل أن تشكر الفتاة وتتجه نحو الخارج.
أنتِ كويسة؟ حصلك أيه؟ نروح المستشفى؟ سألها تليد وهو يفصحها بعيناه، حجاب رأسها لم يعد في موضعه وخصلات شعرها ظهرت من الأمام، وجهها شاحب مُفتقر إلى لونه ويديها ترتجف وقدمها بالكاد تحملها، طالعته بأعين دامعة قبل أن تُجيب عن سؤاله مُردفة:
أنا مش كويسة، كل لما تتصلح من حتة بترجع تخرب تاني يا تليد، أنا تعبت، تعبت وعايزة أموت وأرتاح مش قادرة أكمل في العيشة دي بقى،.
نبست هي بكلمات متقطعة قبل أن تنفجر في البكاء، طالعهم الجميع بقلق لكن لم يتدخل أحد بل وقفوا يراقبون في صمت، صُعق تليد من إعلانها عن رغبتها في الموت أمامه وسُحق قلبه لمجرد تخيل حدوث شيء لحبيبته، ألا تكون هنا بعد الآن، أن ترحل عن هذه الدنيا وتتركه وحيدًا، أنا تنتصر عليها آلامها والأفكار البشعة داخل رأسها وتُقدم على إنهاء حياتها التي لم تبدأ بعد...
استغفري ربنا، كل حاجة هتتصلح إن شاء الله وأحنا كلنا جنبك متقلقيش،.
ما صدقت حياتي بدأت تستقر في اسكندرية وأنجح تقوم أنتَ تسافر وتغيب ويوم ما ترجع بابا يبقى هيموت مراته وبعدين يبقى هو نفسه هيموت، أنا مش قادرة بقى أنا تعبت،.
كل حاجة هتبقى كويسة يا ريتال، أوعدك كل حاجة هتبقى كويسة. أومئت هي بوهن تحاول تصديق ما يقوله فما بيدها حيلة، أبتاع عصير بدون سكر من أجلها وبعض الأغراض من أجل البقية.
ريتال مالك أنتِ كويسة؟
مفيش حاجة يا جدو معدتي تعبتني بس من الطريق بس أنا تمام مفيش حاجة.
طيب تعالي أشربي مياه، وأنتَ يا ياسين يا ابني معلش سوق براحة شوية كفاية المطبات اللي تليد خلانا ناخدها من اسكندرية لهنا. طلب الجد بنبرة لا تخلو من المزاح لتضحك ريتال رغمًا عنها، غمز لها تليد بإحدى عينيه قبل أن يدلف إلى داخل السيارة.
توقفت السيارة أمام المنزل الذي أصبح ملعونًا في أين ريتال، غادرت السيارة بعد أن شكرت تليد وياسين على كل شيء وكذلك فعل جدها، كان تليد يريد أن يرافقها نحو الداخل لكن ريتال طلبت منه ألا يفعل فالأجواء ليست مستقرة وإن حدث شجار بينه وبين صالح فسوف يزداد الأمر سوءًا.
هكلمك لما أوصل، هكلمك كل يوم لحد ما ترجعي اسكندرية تاني.
تمام خد بالك على نفسك. ودعته ريتال ومن ثم لوحت له حينما تحركت السيارة قبل أن يأتيها صوت عطر المرح وهي تهرول نحوها.
ريتال! تيتي أنتِ جيتي أمتى؟ صاحت عطر بمرح لتقترب منها ريتال وتمنحها عناق قوي، كان صوت عطر رنان للدرجة التي جعلت الجميع يعرفون بوجود ريتال، ترك صالح الملعقة في يده وغادر طاولة الطعام متجهًا نحو الخارج.
ريتال؟
بابا وضعه أيه دلوقتي يا صالح؟
أنتِ جيتي هنا ازاي؟ لحقتي تيجي أمتى أنا لسه قافل مع جدك مفاتش أربع ساعات.
تليد وصلني أنا وجدو بس هو مستني برا مش عايز يدخل علشان ميبقاش في إحراج. أجابته ريتال بهدوء ليمتعض وجهه لكنه يحاول جاهدًا إخفاء غيرته فالظرف غير مناسب بتاتًا لشيء كهذا.
لا طبعًا ازاي بس، أدخلي أنتِ وأنا هجيبه وأجي هخليه يقعد في الشقة عندي أنا وبابا وأنتِ خليكِ عند تيته.
صالح، شكرًا.
شكرته ريتال بهدوء قبل أن تتجه نحو الداخل دون أن تنتظر ردًا منه، كانت جدتها تجلس بحزن تتناول الطعام بصعوبة لكن عند رؤيتها لوجه ريتال نمت ابتسامة صغيرة على وجهها قبل أن تقول:
شكلك وحشتي البيت يا ريتال ميعديش يومين إلا لما تحصل حاجة تخليكي تيجي. مازحتها جدها وإن كانت المرارة تفوح من حديثها، ابتسمت ريتال بحزن دفين قبل أن تقول:.
متقلقيش يا تيته هاجي أزورك كتير من غير أي مصايب ولا كوارث طالما بوحشكوا أوي كده.
بيتك ومطرحك، نانسي طلعت فوق شوفيها كده وأبقي إنزلي كلي لُقمة.
بالهنا والشفا يا تيته أنا مش جعانة أنا بس عايزة أعرف ميعاد الزيارة أمتى؟
لسه الزيارة ممنوعة إن شاء الله عالصبح يكون أتحسنت والدكاترة توافق حد يدخله.
أومئت ريتال بتفهم دون أن تنبس بنت شفة، قضت ليلتها برفقة نانسي وفي صباح اليوم التالي ذهبت هي وجدها إلى المستشفى لكن كما قالت جدتها لم يسمحوا لهم بزيارته بعد لذا عادت أدراجها إلى المنزل مرة آخرى.
في مساء ذلك اليوم وبعد تناولهم وجبة الغداء كانت ريتال تجلس على باب المنزل تعبث في هاتفها، كان صالح يتحدث في الهاتف في حديقة المنزل الصغيرة وأخذ يتحرك ذهابًا وإيابًا وعلى ما يبدو أن ما سمعه في الهاتف لم يكن خبرًا سارًا قط، انتبهت ريتال لذلك واضطربت دقات قلبها وكل ما خطر على بالها أن مكروهًا قد أصاب والدها ولقد تأكدت ظنونها حينما رمقها صالح بنظرة سريعة قبل أن يُشيح بنظره عنها، أنهى مكالمته بعد ما يقرب من العشرة دقائق قبل أن يقترب من حيث تجلس ويجلس أمامها قائلًا:.
ريتال أنا كنت عايز أقولك حاجة.
بابا جراله حاجة؟ سألت بفزع وهي تتمنى عدم سماع الإجابة، تنهد صالح قبل أن يقول:
لا لا، سالي، فاقت وبقت كويسة.
فاقت أمتى وبقت كويسة أمتى؟ هي مش،.
سالي فاقت بقالها 3 أيام ومحدش بلغنا، حالتها أتحسنت والحمدلله الخبطة معملتش مضاعفات ملحوظة أو كارثية. أخبرها صالح بالمعلومات التي وصلته، على الرغم من أنه كان يبغض سالي إلا أنه لم يكن يتمنى لها الهلاك خاصة وأن هلاكها كان سيصعب من موقف عمه والذي بدوره سيجعل ريتال في حالة أسوء.
وبعدين؟
أتنزلت عن الشكوى وقالت إن هي وقعت غصب عنها وهي بتتخانق مع عمي وإن هو موقعهاش بس من الصدمة قال إن هو السبب وإن هو جوزها وهي مستحيل تشتكيه يعني خلاص موضوع عمي ده أتلم مش محتاجة تقلقي.
أعلن صالح عن الأخبار التي من المفترض أنك تكون جيدة لكن ريتال لم تشعر بالراحة قط فسالي تلك ليست بإمرأة هينة هي أقرب إلى أفعى سامة منها إلى إنسان، ساد الصمت لبرهة قبل أن تقطعه ريتال وهي تُردف الآتي بأعين شاردة:
أكيد مصعبش عليها مرضه والحالة اللي هو فيها، في حاجة في دماغها بس أنا مش عارفة أيه هي بس أنا قلبي مش مرتاح، هي مسألتش على يوسف خالص؟ مطلبتش تشوف ابنها؟
تبعثرت مشاعر ريتال بين قلق، وتيه وإستياء لكن سرعان ما شعرت بالحزن تجاه شقيقها الأصغر والذي سُحق بين الأقدام في خلافات لا تخصه ولقد كان الأمر غاية في القسوة للدرجة التي جعلت سالي تسترد وعيها وجزء ولو صغير من صحتها لكنها لم تكترث للسؤال عن طفلها أو تُرسل لأحد طلبًا في رؤيته والإطمئنان عليه.
معرفش بس اللي أعرفه إنها خلاص هترجع البيت ومحدش هيقدر يدوسلها على طرف بعد كل اللي حصل ده.
لا حول ولا قوة إلا بالله، مش عارفة أقول أيه، معنديش حاجة أقولها أو أعملها بصراحة، ربنا يستر أنا بخاف من سالي دي ودماغها.
متقلقيش أحنا كلنا هنا وأحنا صحاب البيت مش هي واللي حصل ده كله مش هيغير حاجة. كانت نظرة صالح مليئة بثقة طفولية وتفاؤل ساذج، لقد كان يحاول طمأنتها بل وطمأنة نفسه بأن الأجواء لن تزداد إضطرابًا وأن كل شيء سيعود هادئ كما كان هذا بالفعل إن افترضنا أن الأجواء كانت مستقرة قبل تلك الحادثة.
أنتَ بتحلم يا صالح، أنا وأنتَ وحتى نانسي كمان عمرنا ما كان لينا دور في البيت ده، عمره حتى ما كان بيتنا، كلنا أتعرضنا للأذى النفسي وحتى في وقت من الأوقات الجسدي جوا البيت ده ومن أقرب الناس لينا،.
باحت ريتال بما كتمته في صدرها لسنوات ليعقد صالح حاجبيه غير مقتنعًا بما تقوله أو ربما لأنه لا يملك الجرأة الكافية لمواجهة نفسه بالحقائق، حقيقة أن جميعهم تعرضوا للظلم والقهر داخل هذا المنزل لكن الفارق الوحيد أن ما تعرضت لها ريتال كان علنًا فجًا حدث أمام الكل لكن صالح ونانسي كان الأمر خفيًا، لكنه لم يعلم أنها كانت تسمع صوت والده وهو يثور ويُحطم الأغراض هنا وهناك ويُعنف ابنه ولم تعلم نانسي كذلك أن ريتال كان يصلها الكلمات السامة القاسية التي تنفثها عمتها كالنار في أذن وقلب ابنتها جاعلة منها شخصية غير متزنة حقودة ترغب في أذية من حولها وتكره رؤية الخير في يدٍ غير يدها.
كلامك صح بس ده أيه علاقته بالي بقوله؟
علاقته إنه بيت من عمدان مخوخة، هشة، فاضية من جواها ضعيفة، سالي من أول يوم دخلت فيه البيت عرفت حقيقة كل واحد وعرفت إن كل واحد ماشي بدماغه وكل واحد في دنيته وأننا معرفناش نبقى عائلة، الإسم قاعدين في بيت واحد لكن مفيش حد ليه علاقة بالتاني ولا بيخاف عالتاني ولا بيحب التاني من قلبه.
أخذت ريتال تصفع الحقائق في وجهه صفعًا وبات هو يشعر بنيران تحرق صدره، لا يريد سماع حديثها ويرفض رؤية الواقع بل ويرى أن ما تقوله بعيد كل البعد عن ما يحدث الآن وأنه لا علاقة بين الأمرين.
كلامك نصه صح ونصه غلط يا ريتال، أنا كنت فاكر زيك كده لحد ما مشكلة عمي دي حصلت أول حاجة أنتِ جريتي وسيبتي اسكندرية وجيتي تشوفي الناس اللي كانوا سبب في أذيتك كتير قبل كده وقولتي دول عائلتي وأهلي، أبويا اللي كان على خلافات مع عمي من سنين أول واحد جري عليه وعمتو، ده عمتو كلمت طليقها اللي بقالها سنين مش طايقة حتى تنطق بإسمه علشان بس تلحق عمي من المصيبة اللي هو فيها.
حاول صالح إقناعها بوجهة نظره وقام بسرد جميع الحقائق لكن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة إليها، فذلك لم يمحي تجربتها السيئة داخل هذا المنزل والتي أعمت عيناها عن رؤية أي شيء إيجابي فيما حدث، أجل لقد تركت الإسكندرية وهرولت إلى هنا لكن ليس من أجل والدها قط بل من أجل شقيقها وجدتها، وهي على تمام الثقة أن والد صالح لم يكترث لكونه شقيقه بل لأنه يخشى أن تُضر سمعته بغلطة أخاه السخيفة فتتأثر أعماله وتجارته.
وأما عن والدة نانسي فلقد كانت ريتال تستحي أن تعرض حقيقة وجهة نظرها في ذلك الأمر والتي كانت كالآتي، لقد قامت غادة بإستغلال ذلك الموقف العصيب فقط كحجة للقاء زوجها السابق والتحدث إليه، عودته وظهوره في حياة نانسي جعلتها تشعر بصراع داخلي ولقد غلبها فضولها البشري ومشاعرها وقامت بطلب لقاءه تحت مسمى الحصول على مساعدة منه.
كل ده جميل جدًا لكن أنا مش مقتنعة، كل واحد ساعد أو قدم دعم كان علشان سبب غير التاني ومكنش ولا سبب فيهم هو إن فرد من العائلة حصلتله مشكلة ولازم نقف جنبه ونساعده علشان هو مننا وأحنا بنحبه.
أنا برضوا مش قادر أفهم أنتِ عايزة توصلي لأيه بالكلام ده؟ نكتبلها البيت بإسمها ونطلع أحنا منه ولا أيه اللي المفروض يتعمل؟
طول عمري كنت فاكرة إن أنا مش بفهم كلامك وإنك ذكي جدًا للدرجة اللي مخلياني مش قادرة أفهم وجهة نظرك لكن اتضح إن الحكاية العكس تمامًا، أنتَ تقريبًا مش سامعني خالص يا صالح مش بس مش فاهمني.
سخرت منه ريتال لكنها لم تكن تتعمد التقليل من شأنه بل في الواقع كانت تستهزئ من نفسها لأنها كانت تظن أن صالح صاحب عقلية فذة مُفكر يستطيع فهم من حوله لكنها كانت مخطئة تمامًا.
بص يا صالح أنا هقولك اللي أقصده بكل صراحة، مفيش حد أتربى في البيت ده وطلع سليم، من أول بابا وعمك وعمتك لحد أنا وأنتَ ونانسي وللأسف عطر ويوسف كمان طالهم اللي طالنا، وعلشان أكون منصفة المشكلة عمرها ما كانت في سالي ولا كانت في ماما ولا كانت في طليق طنط غادة، المشكلة هنا، طالعة من هنا مع عمدان البيت ده.
كانت هذه الكلمات هي القشة التي قسمت ضهر البعير، لم يعد يتحمل صالح سماع كلماتها لذا اضطر إلى التعقيب على حديثها بطريقة عنيفة قائلًا الآتي بنبرة لا تخلو من الإستنكار:.
خلاص يعني كلنا بقينا مرضى نفسيين ومحتاجين نتعالج؟ طيب حلو شوفيلنا حد يعالجنا بقى أظن أنتِ خبرة في الموضوع ده. أنهى جملته بكلمات تفتقر إلى الذوق جارحًا مشاعر ريتال دون ذرة رحمة وفي البداية لم يُدرك مدى قسوة ما تفوه به حتى رأى تعبير وجه ريتال.
وماله مش عيب على الأقل أنا كنت شجاعة كفاية وعندي وعي وثقافة تخليني أبقى مُدركة إنها مش حاجة عيب ولا تكسف الدور والباقي عالناس الجاهلة اللي شايفة حاجة زي دي مادة للسخرية.
وبخته ريتال دون أن تبذل أدنى مجهود في البحث عن الكلمات المناسبة فلقد أغضبها كثيرًا ما قاله للدرجة التي جعلت الكلمات تتدفق من فمها دون حتى أن تدرك، طالعها صالح في مزيج من الصدمة والحرج فهو لم يتوقع مثل هذا الرد أن يصدر من ريتال، تلك الفتاة الخجولة التي تخشى إبداء رأيها أصبحت قادرة على إفحامه أو كما يقولون قصف جبهته بكل سهولة.
أنا أسف مكنش قصدي، أنا،.
مش فارقة يا صالح بس نصيحة مني دور على دكتور نفسي في أقرب وقت، صدقني الموضوع هيفرق معاك جدًا. قالت ريتال وهي تستقيم من مقعدها متجهة نحو المطبخ حيث تجلس جدتها لكن أوقفها صوت صالح وهو يقول الآتي جاعلًا موقفه أسوء بكثير:
أبقي قولي لتليد يجي يتقدم بقى ما خلاص كل حاجة أتحلت وعمي مطلعش عليه قضية.
مش قولتلك محتاج تتعالج.
بصقت ريتال كلماتها قبل أن تتركه بمفرده غارقًا في أفكاره المبعثرة البغيضة، يشعر بالضيق لأن ريتال صفعت الحقائق في وجهه وتحرقه نيران الغيرة لأنها لم تعد ترغب فيه، لم تعد تراه كما كانت تراه في السابق لقد خسر كل شيء وربح تليد والآن لقد واجهته بأفعال والده نحوه لقد كان دائمًا ما يحاول إخفاء أثر ما يفعله والده ولقد كان دائم الدعم لريتال لنانسي بحيث يسرق أعين الجميع بعيدًا عن جراحه وعن تلك الخدوش التي خلفتها كلمات والده القاسية وحرمانه من والدته - رحمها الله - عندما كان ما يزال صغيرًا وأنه أصبح مُجبرًا على تحمل مسئولية عطر كي لا تُصبح مثله في يوم من الأيام...
في صباح اليوم التالي استيقظت ريتال باكرًا وذهبت لمساعدة جدتها في إعداد الإفطار قبل أن تبدل ثيابها سريعًا إستعدادًا لزيارة والدها، تجنبت توجيه الحديث إلى صالح فيكفي ما قاله كلًا منهم للآخر ليلة أمس فلا داعي لإفساد الأمر أكثر من ذلك.
لو أنتِ وجدك جاهزين نفطر وأوصلكوا بالعربية للمستشفى في طريقي.
لا شكرًا هناخد تاكسي. أجابت ريتال بإقتضاب لتُطالع نانسي كلاهما بحيرة شديدة وقبل أن تسأل سبقها صوت صالح وهو يقول لريتال بحدة:
بلاش جو عيال وقمص وبعدين ده مش علشانك ده علشان جدك، مش كفاية جايبة الراجل على ملى وشه من إسكندرية لهنا كمان هتمرمطيه في مواصلات؟ كان أسلوبه غير مقبولًا بالنسبة إلى ريتال التي أتسعت عيناها على الفور قبل أن تصفع الطاولة بيدها بينما تصيح في وجهه مُردفة:.
هو أنتَ ازاي تتكلم معايا بالإسلوب ده؟ مين إدالك الحق أصلًا؟
بس بس أهدوا في أيه؟ تيته وجدو هيسمعوا، أيه اللي حصل لكل ده؟
شوفي ابنك خالك علشان شكله كده أتجنن، لما تتعلم تتكلم بإسلوب كويس أبقى كلمني يا صالح!
قالت ريتال بوجه مكفهر قبل أن تغادر المكان، صفع صالح يده عدة مرات على الطاولة وهو يراقبها بضيق شديد، حاولت نانسي أن تتبع ريتال لكنها وجدتها تقف مع جدها لذا لم تقترب كل لا يشتعل الشجار أكثر، عادت إلى صالح لتجده يجلس بوجه متجهم يسب نفسه أسفل أنفاسه.
غبي، غبي!
ممكن تفهمني أيه اللي حصل؟
بدل ما أخليها تقرب مني بخسرها أكتر بغبائي يا نانسي، فهمت متأخر إن أنا عندي مشاعر ناحيتها بعد ما كل حاجة راحت وبعد ما هو ما ظهر، نطق صالح بإنكسار وهو يتحاشى النظر إلى أعين نانسي، لقد انتظر منها أن تُظهر ولو قليلًا من التعاطف نحوه لكنها لم تفعل بل طالعته بإحتقار قبل أن تقول بنبرة حادة لم تصدر منها من قبل:.
أول مرة أعرف يا صالح إنك أناني بالشكل ده، بدل ما توقف جنبها في المصيبة اللي هي فيها داخل سبق مع تليد، البنت أبوها كان هيبقى رد سجون ودلوقتي بين الحياة والموت وأنتَ كل اللي فارق معاك هي بتحبك ولا لا؟
أنا، لا أنتِ فاهمة غلط مش ده قصدي أكيد،.
لا قصدك يا صالح، وياريت تبص لنفسك في المراية بطل تعمل فيها الملاك البريء شوية.
شوف مين بيتكلم، نانسي أنتِ طول عمرك بتغيري من ريتال ودلوقتي تلاقيكي هتتجنني علشان أنا وتليد بنحبها لكن،.
لكن أيه؟ ما تكمل؟ مش قولتلك محتاج تبص لنفسك في المراية يا صالح. حطمت كلمات نانسي ما تبقى من كبريائه، أخذت تُطالعه بإزدراء شديد قبل تغادر المكان تاركة إياه غارقًا داخل دوامة من الأفكار السوداء القاتمة التي مُزجت بشعور بالذنب.
في تلك الأثناء كانت ريتال وجدها في طريقهم إلى المستشفى، حاولت ريتال أن تُحافظ على هدوء أعصابها قد الإمكان فلا مجال لنوبات الهلع هنا يكفي ما تسببت به من ضغط نفسي وجسدي لجدها في الأيام الماضية.
خليكي هنا يا ريتال هشوف الدكتور اسأله عن حالته وهشوف لو ينفع ندخله.
ماشي يا جدو.
قالت ريتال وهي تجلس على أحد المقاعد في انتظار جدها لكن ما لم تكن تعرفه هي أن سالي كانت هنا، تقف بالقرب من فراش والدها تُطالعه بإزداراء شديد فلقد سُمح لها بزيارته نظرًا لكونها قريبته من الدرجة الأولى بشرط ألا تُطيل الزيارة.
ازيك يا عبدالرحمن؟ سألت سالي بسخرية وهي تنظر إلى حاله ولتلك الأجهزة من حوله، بالطبع لم تجد إجابة غير الصمت لذا أخذت ترمق جسد زوجها الممدد على الفراش دون حراك قبل أن تتابع حديثها البغيض مُردفة:
كنت فاكر إني مش هقوم منها مش كده؟ أديني قومت وشوية وهخف وهبقى أحسن لكن أنتَ، قالت وهي تُشير إليه بإحتقار قبل أن تتابع:.
أنتَ لو قومت هتفضل مقضي حياتك على كرسي متحرك عارف ليه؟ مفاجأة، الدكتور قال إن غالبًا هيبقى عندك شلل كامل أو نصفي في أحسن الظروف يعني.
تحدثت سالي بشامتة وغِل شديد ناجم عن حقد دفين لم يُعرف له سبب، لقد كانت سيئة ولقد كان سيء ولقد بدأت هي في إلحاق الضرر بمن حولها قبل أن يطولها الضرر وحتى زوجها نفسه لقد قامت بإهانته عدة مرات والمرة الأخيرة فقد أعصابه فكاد أن يقتلها ويُلقي بنفسه إلى السجن مدى الحياة، بعد بضع دقائق غادرت سالي الحجرة مع ابتسامة مستفزة نمت على ثغرها.
أنتِ بتعملي أيه هنا؟ سألت ريتال حينما رأت وجه سالي تغادر حجرة أبيها بالعناية المركزة، ابتسمت سالي ابتسامة ساخرة قبل أن تقول:
إلعبي بعيد يا شاطرة.
مش مكفيكي اللي عملتيه؟ جايه تعملي أيه هنا؟ عايزة تموتيه؟
هو كده كده ميت ولو عاش هيبقى مشلول، أنا بس جيت أبص عليه أيه مش من حقي؟ مش جوزي برضوا ولا أنا غلطانة؟
حسبي الله ونعم الوكيل فيكي، حسبي الله ونعم الوكيل مش هقولك غير كده. صاحت ريتال في وجهها بأعين دامعة من فرط القهر والغيظ، طالعتها سالي ببرود قبل أن تُطلق ضحكة رنانة غير مُبالية بما تقوله ريتال.
بعد أن غادرت وقفت ريتال تُراقب والدها من خلال الزجاج الشفاف، جسده الهزيل المُمدد أعلى الفراش محاطًا بمختلف الأجهزة الطبية، صاحب ذلك الجسد كان قويًا يومًا ما، كان ذو جبروت جعله يدهس أقرب الناس إليه والآن ها هو ذا بلا حول ولا قوة، بدلًا من أن تبكي ابنته أسفل قدميه وتدعو له من قلبها وقفت عاجزة تراقبه ويعجز لسانها عن النطق بالدعاء له، لقد حطمها للدرجة التي جعلتها تقف في المنتصف جريحة لا تدري إن كانت تُحبه أم تكرهه، إن كانت تتمنى له الخير أم الشر، كفكفت دموعها حينما لمحت جدها يأتي من بعيد وحاولت رسم ابتسامة على ثغرها.
أيه يا جدو.
أيه يا حبيبة جدو، الدكتور قال مش هنقدر نشوفه في حد سبقنا ودخله زيارة النهاردة. قال جدها بخيبة أمل لتومئ ريتال بتفهم فلقد كانت تتوقع ذلك الرد فلقد رأت من قام بزيارته قبل قليل.
جاهزة نمشي؟ هنيجي تاني آخر الإسبوع يكون خرج من العناية إن شاء الله.
إن شاء الله يا جدو، تعباك معايا يا حبيبي.
لو مش هتعب لحفيدتي حبيبتي هتعب لمين بس يعني؟ سألها بلطف لتطبع ريتال قبلة على يده ذات التجاعيد قبل أن يصحبها معه إلى خارج المستشفى، لم تُخبر ريتال أحدٍ عن الحوار الذي دار بينها وبين سالي بل لم تخبر أي شخص بأنها قد رأتها وكأن ذلك اللقاء لم يحدث من الأساس.
حينما عادت ريتال إلى الإسكندرية كانت في حالة يرثى لها فحالتها النفسية كانت أسوء ما يكون، أولًا رؤيتها لوالدها في تلك الحالة ومن ثم مقابلتها لسالي وبالطبع لا ننسى شجارها مع صالح وكأن الكون بأكمله يتأمر ضدها، في تلك الأيام القليلة خسرت ريتال ما يقرب من السبعة كيلوجرامات من وزنها فعاد وجهها شاحبًا مرة آخرى وقد برزت عظامها.
ريتال كنت عايز أقولك على حاجة.
أتفضل يا جدو.
فريدة كلمتني وبتستأذني يعني أخليكِ تخرجي معاها هي وخطيبها بكرة، أخوها هيكون معاكوا طبعًا و كمان، تليد كلمني استأذن يقابلكوا هو كمان وأنا وافقت.
بجد يا جدو؟
بجد بس أنا طبعًا هاجي معاكوا، هقعد على ترابيزة جنبكوا كده تكون عيني عليكوا، هو كان عايز يقابلك يعني قبل ما يسافر وعلشان كده أنا وافقت تشوفوا بعض. وضح جدها السبب وراء زيارة تليد للإسكندرية مرة آخرى، اضطربت معالم وجهها لبرهة حينما أدركت أن ذلك اللقاء لن يكون سوى وداع لكنها سرعان ما ألقت بتلك الفكرة إلى مؤخرة رأسها فإن كان جاء لتوديعها فليودعها وهي تبتسم بسعادة لا وهي تبكي حزنًا.
ربنا يخليك ليا يا أحلى جدو. قالت ريتال وهي تطبع قبلة على جبهة جدها قبل أن تذهب إلى حجرتها بحثًا عن شيء مناسب لترتديه في يوم الغد.
استيقظت ريتال باكرًا لتستعد لتلك المقابلة ولقد كانت تعلم أنها الأخيرة حتى وقتٍ غير معلوم لكنها أرادت أن تبقى محفورة داخل ذاكرة كلاهما كمقابلة سعيدة لا تخلو من الضحكات والمزاح حتى تصبح تلك الذكرى عقار مُسكن لقلب كلاهما حينما يشتد عليهم آلم الفراق.
لقد كان موعدًا مزدوجًا كما يقولون، لقد جاء ياسين لزيارة خطيبته وزوجته المستقبلية ولقد رافقه تليد الذي جاء لتوديع ريتال قبل أن يعاود السفر إلى الخارج مرة آخرى، تمت المقابلة في أحدى المطاعم المُطلة على بحر الإسكندرية اللامع النقي، ولقد رافق ريتال وفريدة شقيق فريدة الأصغر.
جلست ريتال مقابلة لتليد وإلى جانبها فريدة، أما عن جدها وشقيق فريدة فلقد جلسوا على الأطراف، بدأت الأحاديث العشوائية تلوح في الأفاق والتي لم تخلو من سخرية تليد المعتادة مع مزاح لم تتوقع ريتال أن يصدر من ياسين ذو العقل الراجح، ساد الصمت لبرهة قبل أن يبدأ ياسين الحديث عن زواجه من فريدة والخطط التي وضعها في باله.
نفسي لما نتجوز وربنا يكرمنا نجيب شقة صغيرة هنا علشان في الأجازات تيجي تقضيها مع عائلتك براحتك وكمان في الشتاء، إسكندرية حلوة أوي في الشتاء.
إن شاء الله بس نخلص شقتنا في القاهرة الأول وبعدين نشوف القصة دي وبعدين كده كده بيت جدو موجود ويسع من الحبايب ألف.
قالت فريدة مطمأنة زوجها المستقبلي فهي لا تريد أن ينشغل رأسه بألف موضوع وموضوع، هي تعلم أنه يرغب في عمل المستحيل فقط لإسعادها وإرضاءها ويعلم جيدًا أنه لن يكون من اليسير عليها ترك المحافظة حيث ترعرعت وقضت أغلب حياتها لذا يحاول فعل أي شيء كي لا تشعر بالحزن والغربة بعد أن يتم الزواج.
فريدة عندها حق على فكرة، بصراحة كل ما بتخيل إن فريدة هتتجوز في القاهرة وتسيبني ببقى عايزة أضرب نفسي بالجزمة إني كنت سبب في الخطوبة دي.
طب وليه قطع الأرزاق بس يا ريتال؟ ده يا بخت من وفق رأسين في الحلال، ما تقول حاجة يا عم تليد ولا أنتَ جاي تسبل بس؟
مستنيها تخلص علشان أقولها لما نتجوز إن شاء الله هجيبلها شقة جنب شقتكوا وهجيب شقة كبيرة دورين في اسكندرية علشان نقعد كلنا في الإجازات. قال تليد مع ابتسامة مراوغة وهو يغمز لريتال بإحدي عينيه، قهقهت بخجل لتخيل الفكرة قبل أن تقول:
تخلص دراستك الأول بس بالسلامة إن شاء الله يا دكتور تليد وبعدين نبقى نشوف القصص دي.
ماشي يا ستي.
فريدة تعالي نقوم نتصور شوية ولو ينفع يعني أخوكي يصورنا بعد إذنه طبعًا!
اه يلا يلا. قالت بحماس شديد ليستقيم ثلاثتهم من مقاعدهم وأما عن جدها فلقد جاءته مكالمة هاتفية إنشغل بها، ابتسم تليد ابتسامة واسعة وهو يعتدل في مقعده ليجلس براحة أكثر بينما يقول:
أخيرًا؟ ده أنتَ عيل لازقة أنتَ وخطيبتك.
تليد!
أسف أسف، قوليلي بقى عايزة تقولي أيه؟
عرفت منين إني عايزة أقول حاجة؟ سألته وهي تبتسم ابتسامة مراوغة لتنمو واحدة جانبية على ثغره قبل أن يُجيبها ممازحًا:
عينيكي فيها كلام كتير.
دي زي عينيكي فيها حزن كده؟
ده لي?يل أعلى بقى، سمعيني عايزة تقولي أيه؟
بصراحة كده أنا كنت مقررة لما أشوفك هلومك وهعاتبك حتى عارف كنت بفكر مردش عليك خالص ولا أنطق معاك بكلمة علشان أوجعك أكتر زي ما وجعتني لما سبتني وسافرت،.
للدرجة دي البعد كان هيخليكي تقسي عليا؟ ده الحمدلله إن أنا رجعت.
يوم ما ودعتني وأنتَ مسافر حسيت إن روحي أتسحبت مني، آخر ذرة أمل جوايا حطيتها جوا شنطة سفرك وخدتها معاك، كنت فاكرة لما أشوفك هتخانق معاك، هعيط وهزعق وهحكيلك عن كل اللي حصل فيا وأنتَ مش هنا،.
أفصحت ريتال عن مشاعرها وهي تتحاشى النظر نحوه، دمعت عيناها حينما تذكرت شعورها ذلك اليوم حينما رحل عنها وشعرت بأن عالمها بأكمله قد تعرض للإنهيار، لاحظ تليد تعبيرات وجهها والدموع في عيناها ليمنحها منديلًا ورقيًا بينما يسألها بلطف:
ولما جيت؟
لما جيت لاقيت إن مفيش وقت نضيعه في لوم وعتاب، أنتَ كده كده هتغيب تاني وهتختفي زي ما أختفيت قبل كده قولت لنفسي مفيش داعي تبقى الذكريات القليلة اللي بينا فيها زعل.
عندك حق، أنا أسف على كل مرة زعلتك فيها يا ريتال وصدقيني عمر ما كان قصدي أعمل حاجة تضايقك أنتِ غالية عندي أوي، غالية لدرجة إن أنا كنت بشتغل مع الدراسة علشان أحوش فلوس وأوفر من الفلوس اللي أهلي بيبعتوها، وعلشان أبعد عن، عن أي حاجة غلط ممكن أقع فيها،.
كان حديث تليد صادق مُشبع بمشاعر حب حقيقية، لم يتحدث بوضوح عن ما يقصده في نهاية حديثه لكنه كان يقصد تلك الفتاة التي حاولت إغوائه، تلك التي أحبط محاولاتها وقام بإبعادها عنه لأنه يخشى الوقوع في إثم كبير ويرفض خيانة حبيبته.
أخبار البنت اللي أنتَ قاعد في بيتها أيه؟ سألت ريتال بغيرة واضحة لم يراها تليد من قبل، تحدثت بنبرة حادة وهي تتحاشى النظر إلى عيناه بينما تعبث في الشاليمو الموضوعة في الكوب خاصتها، ابتسم ابتسامة جانبية خبيثة قبل أن يقول ممازحًا:.
بتغيري؟ بتغير، بتغير عليا يا جماعة! صاح تليد بحماس شديد غير مباليًا بمن حولهم، لفت صوته انتباه الكل وأخفت ريتال وجهها بكلتا يديها بحرج شديد، لمح تليد سيدة في منتصف الخمسينيات تطالعه بتعجب ليوجه حديثه لها مُردفًا:
مفيش حاجة يا طنط متقلقيش أنا بس أكتشفت إنها بتغير!
بس بس يا تليد أيه الفضايح دي؟ ولما جدو يخلص تليفون ويقوم يضربك هتتبسط؟
آخر فضيحة بقى قبل ما أسافر وكده. قال تليد ممازحًا لتقهقه ريتال حتى دمعت عيناها قبل أن تصمت لبرهة وهي تتأمل ابتسامته قبل أن تسأله بنبرة جادة لا تخلو من الحزن:
هترجع تاني يا تليد؟
تاني وتالت ورابع وعاشر، مهما مشيت هرجعلك تاني يا ريتال. قال تليد بنبرة صادقة وهو ينظر إلى عيناها لتتحاشى هي النظر إلى خاصته.
عاد ياسين وفريدة وشقيقها في تلك اللحظة ليجلس جميعهم معًا لتناول الطعام، كانت فريدة قد أخبرت تليد بأن ريتال أمتنعت عن تناول الطعام أو بمعنى أدق كانت تأكل كميات قليلة بعد ضغط شديد من الكل بعد معرفتها بمصاب والدها لذا قام تليد بطلب ثلاثة أصناف مختلفة من الأطعمة التي تفضلها.
تليد هو أيه كل ده؟ هو في حد تاني جاي ياكل معانا؟ بيتزا ومكرونة وكوردن بلو، خير في أيه؟ سألت ريتال بتعجب ليبتسم تليد ابتسامة واسعة قبل أن يُجيبها بكل سهولة قائلًا:
دول علشانك.
كل دول علشاني لوحدي؟ حد قالك إن أنا مفجوعة ولا أيه خير؟
أنا وأنتِ يعني هناكل سوا، ما أنا لو كنت سألتك كنتِ هتقولي مش جعانة أصلي لسه واكلة عجل قبل ما أجي والجو ده فقولت نختصر يعني الوقت ولا أيه يا معلم؟ قال تليد موجهًا حديثه إلى ريتال التي ابتسمت خجلًا لمعرفته الجيدة بها، لقد حفظ ردودها وعلم ما ستقوله، كانت الجملة الأخيرة موجهة إلى شقيق فريدة الذي يصغرها بما يقرب من الأربع سنوات والذي كان مرافقًا لها أثناء ذهابها للتنزه برفقة ياسين.
إلتقط تليد صورة جماعية معهم قبل أن يحين موعد الذهاب، غابت الشمس وحان موعد غياب شمس ريتال لقد كان يتوجب على تليد الرحيل متجهًا إلى القاهرة لجمع أغراضه وتوديع عائلته ليعود إلى لندن مرة آخرى.
أنا مبحبش لحظات الوداع دي ومبحبش أشوف دموع في عينيكي، أنا يمكن مش عارف هرجع أمتى بالضبط بس أوعدك إني راجع تاني وإن عمري ما هسيبك في حياتي يا ريتال. نطق بها تليد وهو يستند على سيارته، حاولت ريتال منع نفسها من البكاء لكنها لم تستطيع.
خلي بالك على نفسك يا تليد،.
وأنتِ كمان، خد بالك عليها يا جدو دي أمانة عندك لحد أما أرجع وأنفذ اللي اتفقنا عليه. قال تليد موجهًا حديثه إلى جدها الذي ابتسم ابتسامة حنونة قبل أن يقول:
تروح وترجع بالسلامة يا ابني.
في تلك اللحظة أنطلق تليد بالسيارة ليغيب عن أعين ريتال مرة آخرى ولكن ليس عن قلبها، لم تستطع النوم في تلك الليلة حتى اطمأنت أن تليد قد وصل بأمان إلى وجهته.
أما عن تليد فحينما عاد إلى المنزل الصغير حيث يقيم هو وشابين من أصدقائه رحب بهم قبل أن يذهب إلى حجرته الصغيرة، قام بتفريغ أغراضه قبل أن تقع عيناه على ذلك الإناء الزجاجي الشفاف الذي لُصقت عليه ورقة ملاحظات صغيرة كتبها هو بخط يده وقد كُتب فيها الجملة الآتية:
علشان أتجوز ريتال.
هانت يا ريتو، شوية شغل كمان وسنة دراسة وإن شاء الله أرجعلك علشان نبقى مع بعض بجد بقى المرة دي.
أردف متحدثًا إلى صورتها الفوتوغرافية الصغيرة التي قام بطباعتها من الصور التي أُلتقطت في حفل خطبة ياسين وفريدة، وضعها داخل برواز زجاجي كان قد إبتاعه ووضعه بجانب سريره وبداخله أخذ يدعو أن تبقى سالمة، سعيدة، مطمئنة لحين يعود إليها مرة آخرى.
مرت بضع أيام هادئة نسبيًا، لم تزور ريتال القاهرة مرة آخرى بل كانت تُتابع أي تطورات بشأن والدها من خلال مهاتفة نانسي، لم تتحدث إلى صالح منذ شجارهم الأخير ولم تأتيه الجرأة لمهاتفتها أو مراسلتها وفي الوقع لم تكن تعلم ريتال أن صالح يستطيع أن يكون بهذه القسوة لكنها قد تعلمت أن كل شيء ممكن، عليها توقع أي شيء من أي شخص مهما بلغت درجة قرابته وأهميته في حياتها.
بدأ الفصل الدراسي الثاني وعادت الحياة للوتيرة الطبيعية خاصتها أو التي كانت كذلك قبل الأحداث الكارثية الأخيرة، في المحاضرة الأولى لها في أحد المواد قابلت مجموعتها من الفصل الدراسي الماضي لتُلقي عليهم التحية.
أنتِ اختفيتي فين فترة الأجازة؟ ولا كنتِ بتنزلي صور ولا بوستات ولا حتى بتردي على أي حاجة في جروب الدفعة. صدر هذا السؤال من ندى لتبتسم ريتال ابتسامة حزينة قبل أن تُجيبها قائلة:
كان بابا تعبان شوية وبنت خالتي كانت بتتخطب يعني كنت مشغولة في كذا حاجة.
ألف سلامة عليه طيب بقى كويس دلوقتي؟ سأل مازن لتومئ ريتال بعد أن تنهدت محاولة إخفاء حزنها قبل أن تقول الآتي:
الحمدلله بقى أحسن دلوقتي.
هو عنده أيه؟ سألت ياسمين بفضول ليُطالعها الكل بنظرات حادة حينما لاحظوا ردة فعل ريتال على سؤالها لتتراجع على الفور قائلة:
أنا بس بتطمن يعني.
كان عنده جلطة في المخ. أجابت ريتال بهدوء تام وكأنها تتحدث عن إصابته بالأنفلونزا أو نزلة برد ليُطالعها الكل في ذهول.
ألف سلامة عليه وعلى فكرة أنتِ مكنتش محتاجة تقولي ولا تفسري حاجة. قال مازن قاصدًا دعمها وإحراج ياسمين الفضولية، ابتسمت ريتال بإمتنان قبل أن تقول:
تسلم على ذوقك شكرًا، شكرًا يا جماعة على سؤالكوا. تمتمت ريتال قبل أن تسحب نفسها من وسطهم وتذهب للجلوس بمفردها تحت أنظار مازن التي كانت تتابعها.
هي مالها دي؟ سألت ياسمين بغيظ ليرمقها مازن بنظرة حادة قبل أن يقول:
ما تخليكي في حالك أيه رأيك في الموضوع ده؟
وأنتَ مالك أنتَ كمان؟ هو أنتَ الحارس الشخصي بتاعها ولا أيه؟
سألته ياسمين بغيظ شديد وكاد أن يبدأ بينهم شجار، كان صوتهم مسموع بالنسبة إلى ريتال والتي توترت معالم وجهها على الفور فهي لا ينقصها المزيد من المشكلات وخاصة هذا النوع فهي لن تخوض تلك التجربة مرة آخرى لذا جذبت حقيبتها وأنسحبت من المكان مغادرة المبنى بأكمله غير مكترثة بالمحاضرة التي قامت بتفويتها قبل قليل.
تبعها مازن نحو الخارج لكنه بمجرد أن أقترب من ريتال بضع خطوات ابتعدت هي وقبل أن ينطق بكلمة سبقته هي:
لمصلحتك يا مازن خلي في مسافة بينا، أنا ولا أنفع صاحبة ولا أي حاجة تانية، لو سمحت أحنا مجرد زمايل مش أكتر وأنا مش ناقصة مشاكل.
بس أنا مكنتش عايز أعمل مشاكل والهبل اللي قالته ياسمين ده سيبك منه.
لو سمحت يا مازن أحنا بمجرد زمايل في دفعة واحدة ولا أكتر ولا أقل، أنا أصلًا مبحبش أختلط بالولاد ياريت تحترم رغبتي.
حاضر، أنا أسف لو ضايقتك وهحافظ عالمسافة بينا من دلوقتي.
شكرًا. تمتمت بها ريتال قبل أن ترحل من أمام عيناه تاركة إياه يقف في حيرة من أمره.
لقد حدث كل شيء بسرعة فائقة، لقد نالت تلك الفتاة إعجابه وقبل أن يخطو خطوة نحو ذلك الأمر لقد غُلقت في وجهه جميع الأبواب، لقد رأت ريتال أنها أحسنت التصرف لقد كان عليها إنهاء ما يحاول مازن بدأه من قبل أن يبدأ فلا داعي لإضافة المزيد من التعقيدات إلى حياتها ولا داعي لجعل نفسها تشعر بعدم راحة مضاعفة أثناء وجودها في الجامعة لذا قررت أن تُزيد من حصونها وأن تبتعد عن الكل، لا مجال لتكوين الصداقات أو المزيد من العلاقات المعقدة في حياتها على الأقل في الوقت الحالي.
عادت ريتال إلى منزل جدها لكنها لم تجده بل وجدت والدتها وزوجها وابنته الصغيرة يجلسون في الصالون لترحب بهم ريتال بإبتسامة مرهقة، كانت والدتها قد أزدادت في الوزن ولقد كان من اليسير رؤية ذلك الأنتفاخ الذي يحوي طفلها.
ازيك يا ماما عاملة أيه؟
ازيك يا ماما؟ لسه فاكرة؟ ده أنتِ ولا بتكلميني ولا بتسألي فيا نسيتي إن عندك أم ولا أيه يا ريتال؟ سألتها زينة بنبرة لا تخلو من لوم لن تتحمله أعصاب ريتال في الوقت الحالي وقبل أن تحاول الدفاع عن نفسها سبقها صوت زوج والدتها:
زينة! مالك في أيه؟ براحة عالبنت مش شايفاها لسه راجعة من برا؟
فؤاد لو سمحت متتدخلش بيني وبين بنتي.
دي بنتي أنا كمان يا زينة! أردف فؤاد لتبتسم ريتال رغم الآلم فلقد شعرت للمرة الثانية أن لها أبٍ يمكنه حمايتها والدفاع عنها.
أنا أسفة يا ماما، حضرتك عايزة تقوليلي حاجة تانية ولا ممكن أدخل أرتاح؟
اه يا ريتال في حاجات كتير عايزة أقولك عليها، داخلة في شهر من وقت خطوبة فريدة وأنتِ مش هنا ولا بتسألي فيا ولا بتكلميني غير كلمتين، رايحة جاية على أهل أبوكي وأنا ولا في دماغك. صاحت زينة موبخة ريتال دون أن تمنح نفسها الفرصة للتفكير في السبب وراء كل تصرفات ريتال الفترة الماضية، طالعتها ريتال بصدمة شديدة لا تستطيع إيجاد الكلمات المناسبة للدفاع عن نفسها.
خلاص بقى أبوكي أهم مني؟ سايباني حامل وتعبانة ولا فارق معاكي، شكلك نسيتي اللي حصل فيكي منهم واللي كانوا بيقولوه عليكي.
كفاية يا زينة أنتِ اتجنتتِ ولا في أيه؟ صرخ فؤاد في وجهها في حين أن ريتال راقبت والدتها في صمت دون أن تنطق ولو بحرف واحد.
لا متجننتش بس ريتال بتجري ورا أبوها مرة لما كان هيموت مراته ومرة لما دخل المستشفى وكل ده بعد ما خبت عليا اللي عمله فيها! أنا بس نفسي أعرف أنتِ بتفكري ازاي؟ دماغك دي فيها أيه؟ استقام فؤاد من مقعده وقام بإجلاس ابنته في أحدى الغرف ومنحها الهاتف خاصته كي تلتهي في أحد الألعاب قبل أن يعاود الخروج لإنهاء ذلك الشجار القاسي الذي لا داعي له.
أنا أسفة يا ماما.
أيوا وبعد أنتِ أسفة يعني؟ وبعدين يا ريتال؟ هلاقيكي برضوا آخر الإسبوع ساحبة جدك معاكي على القاهرة مش كده؟ مش صعبان عليكي جريه وراكي في السن ده؟
حاضر يا ماما مش هاخد جدو معايا تاني. كانت ريتال تحاول إرضاء والدتها والموافقة على كل ما تنطق به فقط لتنهي ذلك الجدال، نبضات قلبها أخذت تتسارع ورؤيتها أصبحت مشوشة قليلًا لكن والدتها لم تلاحظ فلقد أعمى الغضب بصيرتها.
كفاية بقى يا زينة ما هي بتقولك هتسمع كلامك عايزة أيه تاني؟
عايزاها ترجع بنتي بتاعت زمان عايزاها ترجع بعيدة عنهم وتركز بقى في حياتها، هتدمر حياتها علشان ناس متسواش مش كفاية اللي عملوه فيها ونفسيتها اللي زي الزفت؟ مش ده أبوكي اللي كان بيضربك؟ وجدتك اللي بتجري عليها دي مش دي اللي كانت بتميز نانسي عنك؟ نسيتي يا ريتال؟
لم تتحمل ريتال سماع كلمة آخرى من فم والدتها، ثارت كل خلايا جسدها وشعرت بنوبة غضب ممتزجة بنوبة هلع تحتل كيانها، لقد قادتها كلماتها والدتها إلى حافة الجنون لم تعد تدرك الكون من حولها ولقد فقدت السيطرة على جسدها...
عايزاني، أعمل، أيه؟ عايزاني أعمل أيه يا ماما؟ قوليلي يا ماما أنتِ طلبتي مني أيه يا ماما وأنا معملتوش؟ صرخت ريتال في وجه والدتها حتى كادت تتقطع أحبالها الصوتية، صُعقت زينة من ردة فعل ابنتها قبل أن تُتابع ريتال قائلة:
كان مطلوب مني أيه ومعملتوش يا ماما؟ أموت نفسي يا ماما؟ أموتلك نفسي علشان تتبسطي؟
ضجَّ المكان بصوت صياح ريتال ممتزجًا بصوت شهقاتها نتيجة إصابتها بإنهيار عصبي وفي لمح البصر وقبل أن يُدرك من حولها ما تنوي فعله جذبت ريتال عنق زجاجة وقامت بتحطيم نهايتها في طرف الطاولة الخشبية، نزعت حجاب رأسها قبل أن تُقرب الجزء الحاد من عنقها وتضغط ليبدأ السائل الأحمر في اللزج الدافئ في التدفق ببطء وسط صرخات والدتها ونظرات الهلع في أعين فؤاد...