رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الخمسون
أدهم ده مين؟ سيبك منه وخليكي في المهم، صالح ابن عمك طلب إيدك. كانت هذه آخر جملة سمعتها نانسي قبل أن تغرق داخل دوامة من التفكير حتى أنها لم تعد تسمع صوت والديها ونقاشهم الحاد على الرغم من إنخفاض صوت كلاهما لكن كالعادة لجأت والدتها إلى الإنفعال والمشادة الكلامية بدلًا من التحدث بهدوء وعقلانية كوالدها وهنا برز سبب إنفصالهم من الأساس.
ها يا نانسي قولتي أيه؟ العريس بتاع أبوكي ولا العريس بتاعي.
ده بجد؟ أنتوا الإتنين متقدملكوا عرسان؟
احترمي نفسك. قالت والدتها وهي تصفع يدها لتتأوه نانسي قبل أن تقول:
بفكر يا ماما بفكر هو ده موضوع يتاخد فيه قرار مرة واحدة كده؟
خدي كل الوقت اللي محتاجاه يا حبيبتي وصلي استخارة كمان، ومتشليش هم حاجة حتى لو حسيتِ إنك مش مرتاحة لأي حد فيهم.
قال والدها بتفهم شديد وقد نمت على وجهه ابتسامة داعمة لتبادله نانسي الإبتسام، ذمت والدتها شفتيها بإمتعاض واضح فلقد كانت ترى بلا شك أن صالح عريس لقطة ميتفوتش بالطبع كونه ابن أخيها كما أنه ورث قدر من المال لا بأس به وسيضمن لإبنتها حياة لا تخلو من الإنتعاش الماضي لكنها وللأسف الشديد لم تتعلم ولو شيء واحد من تجربتها مع والد نانسي ولم يستوعب عقلها قط أن المال وحده لا يصنع السعادة وأن أموال العالم لن تجلب لها الإستقرار والود.
أدركت نانسي أنه وللأسف الشديد يتوجب عليها أن تتخذ قرارًا، لطالما تمنت أن يكون بإمكانها الاختيار بين عدة أشياء لتحظى بأفضلهم لكنها لم تكن تعلم أن الحيرة لعنة وهي الآن يتوجب عليها الاختيار من بين ثلاثة، أدهم، صالح، أو اللا شيء والبقاء وحيدة لحين إشعار آخر ولكن ما لم تكن نانسي قادرة على إدراكه هو أنها تخاف الوحدة، تخشاها للدرجة التي تجعلها تقع في أحضان أول من تلتقي به فقط كي لا ينتهي بها المطاف وحيدة.
لربما كان الموضوع أكثر يسرًا في الاختيار لو كان أدهم شخص جيد من البداية ولم يتلاعب بعواطفها أو ربما لو لم يعاود الظهور في حياتها لقامت بإختيار صالح في لمح البصر لكن في الوقت ذاته لقد كان دائم ذكر ريتال وكأنها لم يستطع تجاوز ما حدث بينهم أو ما لم يحدث بينهم بمعنى أوضح، لقد كان الموقف كارثي وكل اختيار سيتم دفع ضريبته ولم تعلم هي أي الأوضاع أفضل، هل تستمع لنداء قلبها؟ أم لتلك الشياطين التي تهمس في أذنها؟ أم العقل والمنطق؟ لقد وضعت نانسي في مواجهة مع أكثر الوحوش رعبًا ذلك الذي لن يدعها تنام في سلام لحين اتخاذ قرار، عقلها!
قضت نانسي الليلة بأكملها في التفكير دون القدرة على النوم وبالطبع ودت لو تهاتف ريتال لتُخبرها بذلك الأمر لربما استطاعت مساعدتها على اتخاذ قرار لكن ذلك لم يكن فعل صائب فمثل هذا القرار يجب أن ينبع من داخل نانسي بغض النظر عن أي عوامل خارجية، هكذا كانت تظن ولم يمر سوى بضع دقائق قبل أن تهاتف ريتال لتقص عليها ما حدث ولحسن الحظ كانت ريتال ما تزال مستيقظة.
مش عارفة أقولك أيه يا نانسي بصراحة، موقف لا تحسدي عليه.
بس أنتِ يا ريتال مريتي بنفس الموقف قبل كده وسبحان الله كان صالح برضوا، الواد ده لازم يطلع طرف تالت في أي علاقة والسلام.
كلامك صح نسبيًا بس خلي بالك من نقطتين، أولًا أنا وقتها كنت اتأكدت فعلًا من مشاعري تجاه تليد وإنه حب بجد أما شعوري تجاه صالح كان حب عيال وتعلق علشان كبرت لاقيته قدامي، ثانيًا بقى صالح قرر ياخد الخطوة الجريئة بعد ما كنت أنا وتليد في حياة بعض بشكل شبه رسمي وكانت حتى مشاعري الطفولية ناحية صالح أختفت تمامًا ومبقاش فيه غير صلة قرابة وبس لكن أنتِ بقى يا نانوسة هل فعلًا لسه بتحبي أدهم ولا تخطيتيه وبقى عندك مشاعر تجاه صالح؟
كانت ريتال قد تعلمت بعد تجاربها العديدة والمريرة كيف لها أن تُدير مثل هذه الحوارات الحساسة والهامة بل والأهم كيف تطرح الأسئلة الصحيحة ذات المغزى والتي بمجرد تلقي الإجابة الصادقة عنها ستكون قد توصلت إلى حل لأي مُعضلة، لقد دعست ريتال على أوتار نانسي الحساسة دون أن تقوم بجرح شعورها أو زيادة حيرتها بل قامت ببساطة بتوجيهها نحو البحث داخلها عن الأجوبة.
بصراحة يا ريتال أنا مش عارفة، أو علشان أبقى صريحة معاكي أنا عارفة بس مش قادرة أوصل للقرار الصح، أنا مشاعري تجاه صالح زمان كانت شبطان مش أكتر، شايفاكي معجبة بيه فعايزة أخده منك والسلام لإني كان عندي اقتناع تام إن أنا ممكن أخلي أي ولد يحبني لكن تليد قلش مني طبعًا فكده واحد صفر لصالحك.
تحدثت نانسي بجدية لدقائق قليلة قبل أن تُنهي حديثها بسخريتها المعتادة وكأنها وسيلة دفاعية من عقلها للتخلص من الشعور بالحرج والتوتر، مازحتها ريتال لكن سريعًا ما دفعتها نحو مجرى الحديث الصحيح مرة آخرى.
المهم إني لما قابلت أدهم وبعد التجربة البشعة اللي مريت بيها قبلها مع حد بنفس الإسم شكل العيب في الإسم عامة بس أنا اللي مخدتش بالي، أدركت إن شعوري ناحية أدهم حب حقيقي، أول لما بدأت أتخيل حياتي معاه، بيتنا وولادنا وعائلتي وعائلته، حاجات عمري ما كنت بتخيلها ولا كانت بتشغل بالي من الأساس ولما لاقيته فعلًا بيخاف عليا وبيدعمني حسيت إن هو ده،.
لحد ما جرحك بالتصرف اللي عمله.
بيقول مبررات كتير مش مقتنعة بيها، ماشي هو سابها وندم وعرف إنه غلط ومش هيقدر يكمل في الغلطة دي باقي حياته لكن طب وأنا؟ قلبي اللي اتكسر وثقتي اللي اتهزت في نفسي بعد ما صدقت إني بنيتها، كانت تتحدث نانسي بسرعة شديدة، صدرت كلماتها غاضبة تحوي في طياتها آلم الخذلان لذا كان على ريتال أن تتحدث إليها بهدوء أكثر.
بيقولوا إن اللي بيحب بيسامح، بس أنا عن نفسي شايفة إن مش كلنا عندنا نفس القدرة إننا نعمل ده.
اللي يشوفك كده ميقولش إنك أنتِ نفس الإنسانة اللي سمحت باباها بعد كل اللي حصل منه. صدرت تلك الكلمات الجارحة من نانسي دون وعي، صُعقت ريتال من مرارة كلماتها لكنها عقبت على جملتها على الفور وبثبات شديد كأن تلك الكلمات لم تخترق قلبها.
أنا وأنتِ مش واحد، جرح بابا ليا غير جرح أدهم ليكي علشان كده بقولك مش كلنا عندنا نفس القدرة والموقف بيختلف.
وضحت لها ريتال ليسود الصمت لبرهة وقد شعرت نانسي بالندم على ما نطقت به قبل قليل، إن ريتال تحاول جاهدة أن تقدم لها المساعدة في حين أن نانسي تُثرثر بكلمات جارحة عن غير عمد.
بصي يا ريتال من الآخر كده هل أنا مش قادرة أسامحه؟ اه، طيب هل أنا لسه بحبه؟ أيوا للأسف، طيب هل زعلي منه يخليني أدخل في أي علاقة والسلام علشان أملى الفراغ اللي جوايا؟،.
طرحت نانسي السؤال ولم تجد له إجابة، تبسمت ريتال من الجهة الآخرى برضا حينما شعرت بأنها قد وصلت أخيرًا إلى غايتها، لقد توصلت نانسي إلى السؤال الأكثر أهمية وبالإجابة عنه - بالإجابة الصحيحة - سيقودها ذلك بلا شك الإختيار الصائب وستنهي تلك المسألة تمامًا.
صالح مش إنسان وحش يا نانسي لكن برضوا هو عنده مشاكل علشان لو ده اللي بتفكري فيه وده مش عيب كلنا فينا مشاكل لكن لما تختاري حد متختاريش حد بيعاني من نفس العقد بالضبط لأن لما تقعوا أنتوا الإتنين في نفس الوقت بسبب نفس الحاجة محدش هيبقى قادر يقوم التاني.
شوفي يا ريتال يعني أنا وأنتِ عندنا تروما والدنيا داست على وشنا بس برضوا أنتِ طالعة متعلمة كتير عني.
صدقيني أنتِ في نعيم الجهل، خليكي هناك. علقت ريتال ساخرة وهي تضحك وإن كانت جملتها لا تخلو من بعض المرارة فأجل لقد تعرضت كلتاهما لصدمات وطفولة مريرة إلا أنا ما كان من نصيب ريتال لا يضاهيه أي شيء آخر.
أيوا يا ريتال يعني برضوا مقولتليش أتجوز مين فيهم؟ سألت نانسي لتصرخ ريتال في أذنها قبل أن تقول ريتال بحنق:
يعني بعد كل اللي قولته ده تقوليلي كده؟ بقولك أيه أقفلي يا نانسي أنا غلطانة!
أنهت ريتال مكالمتها مع نانسي لتترك الأخيرة غارقة داخل دوامة من أفكارها وإن كانت أصبحت أكثر تنظيمًا الآن وكونها أدركت أنها ليست بمفردها في هذا العالم بل هناك من يقوم بنصحها بل ويدعمها في أي قرار تنوي إتخاذه.
في صباح اليوم التالي قررت نانسي قضاء اليوم في النادي الرياضي وودت لو شاركها أحد وقتها لكن ريتال كانت في الإسكندرية تهتم بشؤون دراستها وصالح كان في عمله على الأغلب وكذلك والدها أما عن والدتها فلقد هربت نانسي من المنزل خصيصًا للهرب من ضغط والدتها بشأن الزواج من صالح.
تناولت نانسي فطورها أمام المسبح وهي تستمع بأشعة الشمس الدافئة قبل أن تفرغ منه وتذهب للتمشية قليلًا وبينما كانت تستعد لوضع سماعات الأذن خاصتها سبقها صوت آخر.
نانسي، توقفت نانسي عن السير حينما أخترق صوته أذنها، استدارت على الفور قبل أن تُطالعه بصدمة وهي تسأله بإستنكار واضح:
أدهم؟ أنتَ أيه اللي جابك هنا؟
جيت علشانك، جيت أقولك أنا أسف. أردف أدهم بثبات مُفسرًا سبب وجوده، اضطربت معالم وجه نانسي وصعقها إعتذاره بل ووجوده المُباغت في العموم وقبل أن تنبس ببنت شفة سبقها هو متابعًا حديثه قائلًا:.
أنا أسف يا نانسي، أنا بني آدم غبي وأناني مش عارف ازاي عملت اللي عملته ده، أنتِ أغلى وأجمل حاجة صادفتني في حياتي بس علشان أنا جبان سيبتك تضيعي من بين إيدي بس دلوقتي أنا جاي لحد عندك وبقولك أنا ندمان وأسف، أسف على كل شعور وحش حسيتي بيه بسببي وأسف إني مكنتش قد ثقتك فيا، أسف على كل لحظة قضيتها بعيد عنك وعن كل دمعة نزلت من عينك، لو بس تتكرمي عليا وتديني فرصة،.
وقفت نانسي تستمع إليه في ذهول، غلفت الدموع عيناها وهي تستمع إلى كلمات صدرت منه بمشاعر مختلطة، كلمات لم تكن تنتظرها ولم تعلم قط كم كانت في حاجة إليها، لم تعتد نانسي أن تستقبل كل هذا الكم من المشاعر الصادقة لقد كانت عيناه تُقسم بحقيقة ما نطق به لسانه ورجفة يده التي كبحها من الإمساك بخاصتها كانت خير دليل على سيطرة ما يشعر به على كامل كيانه، وقفت تنظر إلى من تسبب رحيله في جرح لا يقل في العمق عن خاصة والده، والدها الذي رحل عنها في أمسية ليلة عشوائية تمامًا كما فعل أدهم.
غادرها هاربًا نحو العدم، طريق مُظلم بارد تاركًا إياها تركض من خلفه حافية القدمين في ليلة شتوية مطيرة لكنه الآن عاد، عاد ليعتذر عن كل سوء أرتكبه في حقها وقد أعترف بكل ذنوبه طالبًا من العفو والغفران وفرصة ثانية لم تكن واثقة حينها أنها قادرة على منحه إياها بهذه البساطة حتى وإن كان إعتذار قد أثلج نيران قلبها.
ساكتة ليه يا نانسي؟ بتعاقبيني بسكوتك؟ طب قولي أي حاجة، عاتبيني، اتخانقي معايا، أي حاجة بس متبصليش والدموع مغرقة عيونك كده وتسكتي أرجوكي،.
أنتَ وجعتني أوي يا أدهم، أنتَ عملت اللي محدش في الدنيا قدر يعمله خليتني أحب نفسي وأحب حياتي واجتهد، طلعت أحسن نسخة مني وفي الآخر مشيت وسيبتني من غير حتى ما تودعني وكأني ولا حاجة،.
صدرت كلماتها بإنكسار شديد أشبه بأنين طير شريد كُسر جناحه وجُرحت قدماه فأصبح لا يقوى على سير ولا طيران، أمتزجت دموعها بنزيف كلماتها التي قطعها شهقات صدرت منها، كانت أكثر ما تبغضه نانسي هو البكاء أمام أي شخص لقد كانت تعتبره دربًا من الضعف لكنها فعلت الآن بكل بساطة وكأنها تقف أمام نفسها، ولم لا أليس من نحب جزء منا؟
استمع لها أدهم في صمت وهو يلعن نفسه داخليًا، يتلقى كل التوبيخ والصراخ بل وكان يريد منها أن تزيده من الشعر بيتًا وتفصح عن كل ما كتمته داخل قلبها المكلوم بسببه...
سيبتني كأنك متعرفنيش، كأنك مبصتليش بعيون مليانة حب، كأنك مسمعتنيش أحلى كلام سمعته في حياتي، كأنك مكنتش مصدر أمان ليا في وقت ضعفي، خروجك من حياتي من غير وداع كانت أسوء حاجة عملتها فيا يا أدهم، أسوء حتى من إنك تخطب واحدة غيري،.
وقف صالح مستندًا على الحائط يراقب ما يحدث من مسافة تسمح له بسماع ما يدور بينهم دون أن يكشف عن وجوده، كان قد حضر إلى هنا وفي نيته أن يُفاجئها ويصطحبها إلى تناول الغداء بالخارج لكن على ما يبدو أن ذلك الأدهم قد سبقه إليها! لم يعلم صالح من أين توصل أدهم إلى موقعها أو لربما كانت نانسي قد أصطحبته إلى النادي الرياضي من قبل لكن كل ذلك لم يهم الآن...