قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السادس والثلاثون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السادس والثلاثون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السادس والثلاثون

مع السلامة يا تليد، مع السلامة يا أغلى حد في حياتي،.

للمرة التي لا تدري ريتال عددها أُجبرت ريتال على توديع شخصًا تُحبه، للمرة مجهولة العدد كان عليها أن تسمع بأذنيها صوت تحطم قلبها أثناء رحيل أحدهم بجزء منه ليتركها ناقصة، فارغة، بلا هوية، تُرى كم رحيل سيتحمل قلبها قبل أن يتوقف تمامًا؟
في تلك اللحظة حان موعد الغروب، غَربت الشمس عن السماء مندثرة داخل أحضان المياه الباردة وغابت شمس ريتال برحيلها بعيدًا دون أن تعلم متى سيحين موعد شروقها مرة آخرى...

ألقت بجسدها على أحد المقاعد حيث أن قدمتها أصبحت أضعف من أعواد القش ولم تعد قادرة على حملها، هرولت والدتها نحوها وحينما رأت الفجعة والكَدَر على وجه ابنتها ضمتها إلى صدرها في عناقٍ قوي وللمرة الأولى تقريبًا لم تستطع ريتال أن تبكي بحرقة كما كان متوقعًا منها أن تفعل في مثل هذا الموقف العصيب.

لقد كانت هناك دمعة واحدة حُبست داخل عيناها ومنعتها هي من الهطول وكأنها تعاقب نفسها وتمنع السبيل الوحيد للترويح عن ما في مكنونها لأنها هي التي وضعت نفسها في مثل هذا الموقف...

هي التي سمحت لذكر بالإستيلاء على قلبها والإيقاع به وجعلها تشعر بقيمتها ويرفعها ألى أعلى قمم السماء ليرحل بدون مقدمات ويدعها تسقط بسرعة البرق إلى الأرض السابعة لينكسر عنقها وكبرياءها في الوقت ذاته، لقد أخذت عهد على نفسها بألا تثق في أي ذكر/ رجل/ فتى/ شاب منذ أن تعرضت للخذلان من والدها وصالح من بعده لكنها نكثت ذلك العهد من أجل تليد وفقط من أجل تليد لكنها الآن ندمت وإن كان الندم لن ينفع...

يلا يا ريتال نروح عالبيت، يلا يا حبيبتي. طلبت منها والدتها لتنظر إليها بأعين شاردة قبل أن تومئ بحركة بطيئة وكأنها إنسان آلي.

لا تعرف ريتال كيف مرت عليها تلك الليلة ولا التي تليها ولا التي تليها، كانت تظن ريتال أن كل ذلك مجرد كابوس، بالتأكيد تليد لن يرحل عنها والأمر لن ينتهي على هذا النحو البأس الحزين، هو سيهاتفها مجددًا ليخبرها بأنه تراجع عن قراره وأنه قد ألقى بفكرة السفر خارج رأسه وقرر البقاء إلى جانبها أو هكذا كانت تظن أن هذا ما سيحدث قبل أن تصدمها صور تليد من مطار القاهرة برفقة عائلته وياسين وهو يودعهم مصحوبة بصورة ألتقطت من الخريطة توضح المسافة بين مصر وإنجلترا تليها صورة قد إلتقطها تليد بجانب شرفته بالطائرة، الآن باتت في أكثر المراحل قسوة، مرحلة إدارك الأمر الواقع؛ لقد رحل تليد عنها وانتهى الأمر.

الآن باتت في قبضة برودة التأقلم مرة آخرى وقسوة الوحدة وجحود الغدر والإختفاء، لماذا؟ كان السؤال الذي يدور في رأسها أكثر من أي شيء آخر ليس لماذا غادر أو لماذا تخلى عنها أو لماذا كان على الأيام أن تُفرقهم بهذه الطريقة الموجعة بل لماذا ظهر في حياتها البائسة تلك من الأساس ليُضيئها لبعض الوقت ثم يرحل وقد أخذ معه كل بصيص أمل وذرة من الضوء؟ لماذا جاءها ببيتٍ دافئ يضم قلبها اللاجئ ليتركها من بعده شريدة ضائعة؟ لم تجد قط إجابة مقنعة على سؤالها وكان عزائها الوحيد أنها مرت بتجارب أكثر وحاشة وقسوة وقلبها مايزال ينبض لم يُميتها كثيرة الحزن بعد...

في الأيام القليلة الأولى كانت ريتال تتحاشى التحدث مع أي شخص، تجلس في حجرتها وحيدة وكانت بالكاد تتناول الطعام وترتشف رشفتين من الماء ولقد لأحظ جدها ذبول وجهها ونحافتها التي ازدادت زيادة ملحوظة في وقتٍ قصير حيث كانت ريتال من الأشخاص الذين يخسرون الوزن سريعًا ويكتسبونه بصعوبة بالغة لذا كل ما فعله جدها في الأشهر الماضية لتحسن حالتها النفسية والجسدية قد ذهب سُدى...

أما عن تليد فبمجرد أن خطت قدمه أرض المطار في تلك الدولة التي لا يعرفها جيدًا شعر بالتغير في الطقس والبرودة على الرغم من أن المكان مغلق تقريبًا ولم يدرِ إن كان ذلك الشعور حقيقي أم أنه مجرد هاجس لكونه في مدينة الضباب، أخذ يسير على مهلٍ وهو يبحث بعيناه عن وجوه يعرفها حتى وجدها، لوجين تقف إلى جانب والدتها في انتظاره، لوح لها تليد بيده ليلفت أنتباهها وبمجرد أن فعل هرولت هي نحوه وقد باغتته بعناقٍ لم يتوقعه هو لذا وقف كالصنم دون أن يُبادلها العناق حتى أنه حاول أن يبتعد سريعًا دون أن يبدو ذلك واضحًا.

تليد حمدلله عالسلامة يا حبيبي.
الله يسلم حضرتك يا طنط، شكرًا.

لا طنط أيه بس، قولي يا ماري على طول. أومئ تليد مجاملًا إياها بإبتسامة صغيرة، كانت تُدعى صديقة والدته المقربة قديمًا وأحد أقربائهم من بعيد بمريم لكنها هنا تستخدم اسم ماري كصيغة تدليل ولأنه دارجًا أكثر في مثل هذا البلد والمجتمع، وقفت تثرثر مريم مع تليد في أثناء نقله للحقائب لتبتسم لوجين ابتسامة مرحة بينما تقول الآتي لترحم أذن تليد ورأسه الذي مؤكد أنه يؤلمه من ثرثرة والدتها: خلاص بقى Enough talking، now it s time to go home يكفي ثرثرة حان وقت الذهاب إلى المنزل.

قالت ليومئ هو مع ابتسامة مجاملة بينما يضع الحقائب داخل السيارة ويدلف إلى الداخل، جلس تليد إلى جانب ماري في المقعد الأمامي بينما جلست لوجين بالخلف، ساد الصمت معظم الطريق بينما يتأمل تليد الطريق بعيناه الشاخصة وعلى الرغم من أنه لم يكن فصل الشتاء إلى أن تليد مازال شعر ببعض البرودة لم يعرف إن كان سببها هو اختلاف الطقس بين مصر وإنجلترا أم أنها برودة الغربة عن بلده الأصلي وعن حبيبته.

حينما وصل تليد إلى المنزل حيث سيبقى شعر بالمزيد من الغربة، المكان لا يشبه بتاتًا حيث كان يقطن في مصر فهيئة البيوت هنا تختلف تمامًا حتى وإن كان يمكث في ?يلا فالتصميم هنا مايزال غير مألوف لعيناه.

دلفوا إلى المنزل من خلال الباب الخلفي المُطل على الحديقة الصغيرة والداخل استقبلته ماري بعناق قوي حاول تليد التملص منه بأظب وهو بداخله يتسأل ما خطب هذه العائلة بالعناق؟ لم يعاملونه وكأنه ابنهم التائه عنهم لسنين.
تليد حبيبي How was your flight كيف كانت رحلتك؟

تمام زي الفل، أنا بس مُرهق شوية لو ممكن بس أطلع أنام.
مش هتاكل حاجة الأول؟

جعان نوم. تمتم تليد مع ابتسامة مجاملة صغيرة لتومئ هي بتفهم قبل أن تطلب من ابنتها أن تُرشده إلى الحجرة حيث سيبقى والتي كانت بعيدة نسبيًا عن سائر الحجرات.

كانت الحجرة متوسطة في الطابق العلوي بداخلها فراش صغير الحجم يكفي لفرد واحد مع وجود مكتب خشبي صغير وبعض الألواح التي تم رسمها يدويًا مُعلقة على الحائط، أخذ تليد يتجول في المكان بعيناه حتى وقعت على الشرفة الصغيرة وقبل أن يستفسر عن ما يجول في باله سبقته هي وهي تقول الآتي:
الأوضة دي كانت بتاعت أخويا الكبير بس هو حاليًا مسافر بيشتغل في مكان تاني بس هنا في England إنجلترا برضوا.

طب هو مش هيتضايق لما يجي يلاقيني قاعد مكانه وفي أوضته؟

هو مش بيجي كتير ممكن مرة كل خمس شهور مثلًا وبيقعد في Hotel فندق كده كده.

ما شاء الله عالترابط الأسري. علق تليد ساخرًا بصوت بالكاد مسموع قبل أن تتابع هي:
في أوضتين كمان فاضيين في البيت بس أحنا اختارنا دي علشان ال privacy خصوصية وعلشان يعني نبقى مفصلويين عن بعض من وجهة نظر ماما. وضحت هي ليطالعها تليد ببلاهة بثوانٍ قبل أن ينفجر ضاحكًا رغمًا عن وسط نظراتها التي تدل على الحيرة.

هو أنا قولت حاجة بتضحك؟

لا لا أنا أسف، أنا بس مرهق جدًا فلما ببقى تعبان ببقى زي ما أنتِ شايفة كده.

تمام ماشي هسيبك بقى ترتاح. قالت بقليل من الضيق قبل أن تغادر الحجرة تاركة تليد وحده والذي ألقى بجسده بإهمال على الفراش.

قضى تليد ما تبقى من اليوم في حجرته، غاص في نومٍ عميق في البداية وحينما استيقظ لم يُرد مغادرة حجرته على الرغم من شعوره بالجوع فهو لم يعتد بعد المكان وصُحبة من فيه.

في صباح اليوم التالي استيقظ تليد باكرًا قبل الجميع على الرغم من أنه من المعتاد أن يستقيظ الجميع باكرًا في مثل هذه المجتمعات، غادر سريره بتكاسل شديد ليذهب للإستحمام بالماء الساخن حتى كاد أن يختنق من الأدخنة قبل أن يلفح نفسه بالعديد من الطبقات من الثياب خشية الإصابة بالإنفلونزا وبمجرد أن غادر دورة المياه فوجئ بلوجين تجلس أعلى سريره وهي مازالت ترتدي منامتها، اضطربت معالم تليد على الفور وعاد خطوتين نحو الخلف وهو يشيح بنظرها بعيدًا عنها بينما يسألها الآتي:.

أنتِ هنا من أمتى؟

مش تقولي Good morning صباح الخير الأول ولا أيه؟

هو ممكن بعد إذنك متدخليش الأوضة من غير ما تخبطي أو أسمحلك، شوية Privacy خصوصية يعني لو مش هيضايقك.

كانت نبرة تليد حادة أمره على الرغم من أن هذا لم يكن منزله وتلك ليست حجرته فعليًا إلا أنه كان يشعر بالضيق وعدم الإرتياح وفي الوقت ذاته كان مدركًا لأهمية الخصوصية بالنسبة لسكان مثل هذه المجتمعات لذا رأى أنه بإحراجه لها حقًا مكتسب ولن يستطيع أحد أن يلومه على تصرفه.

لقد كان تليد يظن أنه شخصًا منفتح إلى درجة مبالغًا فيها حينما كان في وطنه لكنه أدرك الآن أنه على وشك الإنخراط داخل مجتمع أكثر إنفتاحًا وهو أمر لم يعتده بعد وبداخله لم يرد إعتياده.

جلس تليد على طرف فراشه الجديدة بينما يُلقي بالمنشفة التي كانت موضوعه على رأسه بحنق بينما يراقبها وهي تغادر الحجرة والدموع في عينيها، نظر إلى إنعكاسه في المرآة الطويلة المواجهة لسريره قبل أن يسأل نفسه بصوتٍ مسموع:.

أيه اللي أنتَ عملته في نفسك ده بس يا تليد؟ زفر بضيق وهو يُخبيء رأسه بكلتا يديه وكل ما يجول في رأسه هو أنه يشعر بالندم على قراره بالقدوم إلى هنا وترك بلده، حبيبته، شقيقته، خالته وصديقه المقرب بإختصار عالمه بأكمله، لقد غادر عالمه وجاء ليعبث بعالمٍ لا يناسبه.

بالعودة إلى مصر وبالتحديد إلى القاهرة، كانت نانسي تجلس بجانب والدتها التي كانت تقوم بتقطيع بعض الخضروات الطازجة من أجل الغداء بينما تشاهد أحد برامج الطهي المملة لتقطع نانسي تلك الأجواء القاتمة وهي تقول:
ماما عايزة أسافر لريتال أشوفها. تمتمت لوالدتها بينما تتناول قطعة من الحلوى والتي سحبتها والدتها من يدها على الفور خوفًا من زيادة وزن ابنتها قبل أن تسألها بإستنكار:.

يا بنتي والجلسات بتاعتك؟ وبعدين الجامعة قربت تبدأ وبعدين أنتِ اللي لسه تعبانة يعني هي اللي المفروض تجيلك مش العكس. قلبت نانسي عيناها من حديث والدتها الذي كان عبارة عن جمل إعتراضية فحسب قبل أن تجادل مُردفة:
يا ماما ريتال نفسيتها وحشة جدًا ولازم أكون جنبها ده أولًا، ثانيًا بقى أنا ولا تعبانة ولا حاجة أنا بقيت زي القردة والجلسات قربت تخلص أصلًا متكبريش الموضوع بقى.

بس أنا مليش مزاج أسافر بقى.

لا ما هو أنا هسافر مع بابا أساسًا.

تمتمت نانسي بلامبالاة لتعقد والدتها حاجبيها وهي تنظر إليها بقليل من الفزع المنتزج بالغضب فلقد حدث ما كانت تخشاه، لم تعد هي المتحكمة في حياة ابنتها بصورة تامة كما كانت في السابق فلقد انقسمت القرارات الآن بينها وبين زوجها السابق، هي مُدركة تمامًا لكونها والدها من الناحية البيولوجية بلا شك لكنها ترى أنه ليس لسه الحق في التدخل في أيًا من شئون نانسي لغيابه لطيلة تلك السنوات فهو لم يكن سوى مجرد اسم يلتصق بخاصة ابنتها في جميع الأوراق الرسمية وليس إلا.

يعني أنتِ بتحطيني قدام الأمر الواقع؟

حاجة شبه كده، أنا خلاص بقيت بستأذن منك أنتِ وبابا مش منك أنتِ بس يا ماما.

كانت كلمات نانسي صادمة بالنسبة إلى والدتها والآن قد أدركت غادة أنا فقدت السيطرة التامة على نانسي وتصرفاتها وطريقة تفكيرها كذلك فلقد أصبح هناك شخصًا آخر تنتمي إليه ابنتها بدلًا من كونها تنتمي إليها هي فقط، أزعج الأمر غادة كثيرًا لكنها لم تستطع البوح بذلك فلو فعلت لقامت نانسي بلومها مجددًا على السنوات التي فرقتها عن والدتها.

بعد مرور يومان على هذا الحديث طلبت نانسي من والدها الذهاب إلى الإسكندرية والذي رحب بالفكرة وكانت الرحلة ستضمن كليهما فقط أو كان ذلك الذي من المفترض أن يحدث قبل أن يعرف صالح بأمر سفرهم فعرض عليهم أن يذهب برفقتهم.

هتنور يا عم صلوحة، هنقعدك في الكنبة اللي ورا مع الشنط متقلقش.

دمك خفيف أوي، أنا عايز اسأل سؤال بقى، هو أيه سر السفرية الغريبة دي؟ قصدي يعني دي تقريبًا أول مرة تروحي مخصوص علشانها.

هو أنتَ معرفتش اللي حصل؟

خير؟ ريتال تعبانة ولا أيه؟ سأل صالح بأهتمام حقيقي لتبتسم نانسي ابتسامة جانبية قبل أن تُجيبه بنبرة ساخرة:
لا يا عم الحنين، أو ممكن نعتبرها تعبانة، يعني نفسيتها مش متضبطة من الآخر.

ليه؟ ما أنا سايبها آخر مرة زي الفل.

أيه ده؟ أيه ده؟ هو أنتَ روحت شوفت ريتال؟ سألت نانسي بفضول شديد قبل أن تغمز بإحدى عينيه ليحمحم صالح بقليل من الحرج قبل أن يُجيبها قائلًا الآتي محاولًا تغير مجرى الحديث:
اه، يعني بعد ما النتيجة ما طلعت كده، مش ده المهم دلوقتي، أنا عايز أعرف مالها؟ مين ضايقها ولا أيه اللي حصل؟

تليد يا سيدي.

ماله سي زفت ده؟ سأل صالح بفقدان صبر لتأخذ نانسي نفس عميق قبل أن تزف إليه الخبر ببساطة:
سافر، سافر وسابها.

يعني أيه سافر وسابها؟ سافر فين؟

سافر يدرس في لندن باين، ناوي يقعد خمس سنين وساب ريتال، ده اللي فهمته منها يعني وكمان شوفت صوره في المطار، تليد أتخلى عن ريتال وسابها،.

شرحت له نانسي الأمر بإختصار أو على الأقل ما تعرفه هي، أعتلت الدهشة ملامح وجه صالح ولقد كانت تنتظر أن ينظر إليها بسعادة أو شماته حينما يسمع الخبر لكن على ما يبدو أنه كان قلقًا بحق على ريتال ومشاعرها، تنهدت نانسي تنهيدة طويلة قبل أن تقول الآتي بنبرة ساخرة:.

مسم، معرفش البت ريتال ليه موعودة برجالة عرة بتتخلى عنها كده. أتسعت أعين صالح على الفور قبل أن يُطالعها بنظرات ضيق وربما لوم على ما قالته لكن نانسي لم تكترث كالعادة.

طب وهي يعني زعلانة أوي؟ والله ده الحمدلله إنه بعد عنها علشان تعرف تركز في دراستها واللي هي داخلة عليه.

طب طالما أنتَ حنين وخايف على مصلحتها أوي كده ياريت تختفي أنتَ كمان من الصورة وتسيبها تنساك أنتَ وتليد وتبدأ صفحة جديدة في حياتها.

كانت نانسي محقة تمامًا في حديثها ولقد كان صالح يعلم ذلك جيدًا لكنه كان يعلم أيضًا أن الطابع البشري والأنانية التي بداخله لن تسمح له بذلك فهو يريد أن يبقى بالقرب منها الآن أكثر من أي فترة ماضية وهو لا يعلم السبب وراء ذلك أو ربما كان يعرف جيدًا لكنه لم يرد مصارحة نفسه، طالعها بعدم إقتناع لثوانٍ قبل أن يعقب على حديثها قائلًا:.

طب تليد وهتنساه هو ملهوش لازمة أصلًا لكن أنا، أنا قريبها وبين صلة دم فمش منطقي يعني إنها تنساني أصلًا!

حتى لو، المهم متفضلش تنط زي الفرقع لوز كل كام شهر قدامها خليها تعرف تتخطى ولو جزء من الحاجات اللي مرت بيها.

والله أنا مش مصدق إن الكلام ده طالع منك أنتِ بالذات يا نانسي، بقى نانسي خايفة على مصلحة ريتال وحالتها النفسية؟ علق صالح بدهشة واضح وإن كانت قد إمتزجت بقليل من الإستهزاء، على الفور عقبت نانسي على حديثه بنبرة لا تخلو من الإندفاع والضيق وكأنه قام بإتهامها بشيء مهين.

هو ليه كلكوا مقتنعين إن أنا بتمنى الشر لريتال؟ هو علشان مكدبش ده كان حقيقي في فترة، مش بالضبط يعني مكنتش بتمنالها الهلاك يعني بس كان نفسي أكون أحسن منها وأخد إهتمام وحب أكتر منها وطبعًا كان نفسي تجرب نفس الوجع اللي أنا حسيته طول سنين غياب بابا،.

ما هو العين فلقت الحجر يا حبيبتي، عينك جابت طنط زينة وعمو عبدالرحمن الأرض. علق صالح ساخرًا وهو يقوم بفحص حقيبة ظهره للتأكد من إحضاره بكل ما يلزمه خلال تلك الرحلة القصيرة.

يعني مش هو اللي بصباص وبيحب الستات؟ تؤ تؤ عيني هي اللي جابتهم الأرض، على كل حال مش دي قصتنا دلوقتي أنا بكلمك في حاجة أهم.

مش قولتي الكلمتين اللي عندك؟ خلاص بقى ولو مش عايزة تاخديني معاكي في عربية باباكي أنا ممكن أجي في القطر عادي جدًا.

لا وفر فلوسك شنطة العربية فاضية هنقعدك فيها. علقت نانسي ساخرة ليقلب صالح عيناه بتملل قبل أن يشرد لبرهة وهو يتخيل ردة فعل ريتال عندما تراه، مؤكد أنها ستسعد كثيرًا وربما تشعر ببعض الغرابة من الأمر لكن مؤكد أن ستفاجئ بالأمر وهذا ما كان يهم صالح في ذلك الوقت.

بعد مرور ثلاث ساعات ونصف تقريبًا كان ثلاثتهم يقفون أمام عتبات بيت جد ريتال، على الرغم من أن زينة قد هاتفت نانسي وحاولت إقناعها بأن تتم الزيارة في منزلها هي وزوجها إلا أنا نانسي أخبرتها بأنها ووالدها سيشعرون ببعض الحرج في وجود زوجها فؤاد كما أنها لم تُخبرها بقدوم صالح على سبيل المفاجأة.

حينما تسلل صوت جرس الباب إلى أذن ريتال قفزت من مقعدها ووضعت وشاح رأسها بعشوائية مهرولة نحو الباب وقد نمت على وجهها ابتسامة كبيرة سرعان ما تلاشت وتبدلت إلى تعبيرات دهشة حينما لمحت وجهه البشوش وهو يقف خلف نانسي ووالدها وقد كان من السهل رؤيته نظرًا لطول قامته مقارنة بالإثنين اللذان أمامه، توترت معالم صالح من ردة فعل ريتال وشعر لوهلة بأنها لم تسعد برؤيته كان ذلك قبل أن تبتسم هي ابتسامة دافئة بينما تعانق نانسي لثوانٍ قبل أن تفصل العناق وهي تقول:.

أيه المفاجأة الحلوة دي؟ إتفضلوا إتفضلوا حمدلله على السلامة، ليه مجبتوش عطر معاكوا دي وحشاني أوي.

أصل أحنا مكناش مخططين هو صالح شبط يجي معانا فجأة يعني وأشفقنا عليه وقولنا نجيبه معانا.

لا كتر خيرك يا نانسي إنك خدتي ابن أختك معاكي. علق صالح ساخرًا بغيظ شديد وهو يقلب عيناها ليضحك جميعهم، رحبت ريتال بوالد نانسي مرة آخرى قبل أن تذهب لتحضر مشروبًا طازجًا منعشًا من أجلهم وحينما عادت قدمت لهم العصائر قبل أن تقول:.

جدو بيغير هدومه وجاي حالًا، أصله لما عرف إن أنتوا هتزورونا قرر ينزل السوق بنفسه يشتري سمك طازة ووقف يتبله علشان نشوي وكده، أكل جدو حلو أوي أوي على فكرة هتاكلوا صوابعكوا وراه. فسرت ريتال غياب الجد بطريقة لطيفة حتى لا يشعروا بالحرج.

كان يراقب صالح كل تحركاتها ونبرتها السعيدة الحماسية وهي تتحدث عن جدها وكأنها قد وجدت ضالتها في هذه الحياة، لقد كان ظهور جدها في حياتها عوضًا عن قسوة والدها وعن غيابه، بكل تأكيد لا يوجد من أو ما يعوض مكان الأب لكن وجود جدها كان مصدرًا للبهجة والطمأنينة بالنسبة إليها هذا بلا شك.

أهلًا وسهلًا، ألف مرحب البيت نور. قال جدها مستخدمًا عبارات قديمة نسبيًا ليرحب بهم، كان جد ريتال على معرفة سابقة بوالد نانسي فلقد قابله قديمًا حينما تزوج من غادة في بداية حياتهما.

هو جدك يعرف بابا؟ سألت نانسي بهمس لتومئ ريتال بنعم وقبل أن تُفسر سبقها صالح معلقًا بنبرته الساخرة التي أعتادت عليها نانسي مؤخرًا:
مش كان بيقابل باباكي قبل ما ينفصل عن عمتو يا ذكية؟

بس اللي أعرفه إن جد ريتال بقى مكنش بيحب العائلة ومكنش بيرضى يحضرلها مناسبات.

ده حقيقي بس أول فترة وفترة الخطوبة كان بيضطر يعمل كده علشان ميزعلش ماما، ياريته كان زعلها وبوظ الجوازة من الأول،.

لا تدرِ ريتال لما أضافت ذلك الشق الأخير من جملتها لكنها ولسبب ما جعلت صالح يشعر بوخزة في قلبه، فكرة عدم وجود ريتال في هذا الكون أو أنها لم تُخلق من الأساس، ألا توجد ريتال شيء مُحزن وغير مقبول بالنسبة إليه ومجرد التفكير في الأمر جعل الكلمات التالية تنساب من فمه دون أن يحسب لها أي حساب:
منقدرش نعيش من غيرك! أقصد الدنيا، مفيش أي حاجة فيها هيكون ليها معنى لو أنتِ مكنتيش موجودة، ولا أيه يا نانسي؟

حاول صالح تعديل جملته التي خرجت بنبرة حنونة لم يعتادها وقد امتزجت بلمعة في عيناه جعلت ريتال تتوتر على الفور وهي تشيح بنظرها بعيدًا عنه.

اه طبعًا يا صالح نعيش ازاي من غير ريتال؟ ده هي أساسيات الحياة الأربعة معروفين، أكل، شرب، أكسچين وريتال.

أجابته نانسي ساخرة لتبتسم ريتال رغمًا عنها بينما قلب صالح عيناه في غيظ، لمح جد ريتال كم يُطيل صالح تأملها مما جعله يشعر بالغيرة على حفيدته على الفور لذا حمحم بصوتٍ عالٍ جعل صالح ينتبه له قبل أن يطلب منه الآتي:
معلش بقى يا صالح يا حبيبي تيجي تجهز عدة الشوي معايا؟ أصل أنا جبتلكوا سمك لسه طازة من البحر على هنا وهنتغدى كلنا سمك مشوي مع بعض إن شاء الله.

اه طبعًا يا جدو عنيا. قال صالح بقليل من الحرج وهو يتبع جد ريتال نحو المطبخ ومنه إلى الشرفة الكبيرة بينما يلقي نظراتٍ خاطفة نحو ريتال بين الحين والآخر.

والله يا ريتال يا حبيبتي الرجالة دول مفيش منهم فايدة تبقي رهن إشارتهم كده ومستعدة إنك تعملي أي حاجة علشانهم ميعبروكيش وأول ما تنسيهم وتعيشي حياتك تلاقيهم بقوا بطاطا تحت رجليكِ. تمتمت نانسي ببساطة ليطالعها كلًا من ريتال ووالدها بنظرات تنم عن عدم فهمٍ وريبة في الوقت ذاته.

أنا هقوم أساعدهم أحسن. قال والد نانسي وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا بإحباط بينما سحبت ريتال نانسي من يدها نحو حجرتها بينما تقول:
نفسي يا نانسي الكلام يعدي على مخك الأول قبل ما يطلع من بوقك.

ده بابا عادي، أنا وهو صحاب متقلقيش.

حتى لو لازم تراعي كلامك قدامه وتراعي كمان غيرته عليكِ كأب يعني، ما علينا إحكيلي بقى أخبار العلاج الطبيعي أيه بقى؟ سألت ريتال وهي تغمز بإحدى عينيها قبل أن تُلقي بجسدها إهمال على الأريكة الصغيرة في حجرتها.

ما أنا خلصتها من زمان بقى.

أيوا يعني أخبار الجلسات أيه برضوا؟

لا لا مش فاهمة السؤال. قالت نانسي بمراوغة لتقلب ريتال عيناها بتملل قبل أن تصيح بغيظ:
أدهم يا نانسي، أخبار أدهم أيه؟

بس بس وطي صوتك! أجبلك مايك تقولي فيه طيب ولا أيه؟

ما أنا سألت بصوت واطي بس أنتِ بتستهبلي.

كويس أو يعني معرفش أحنا مفيش بينا كلام يعني بس أصل هو عملي يعني فولو وكده على الإنستجرام بس مش بنتكلم هو بيراقب في صمت وأنا نفس الكلام.

وبعدين بقى؟

ولا أي حاجة بفكر أكسر لعمو عبدالرحمن رقبته ويضطر يعمل علاج طبيعي بقى عنده وخلاص. أردفت نانسي ولكن سرعان ما أدركت أن ما قالته لم يكن مضحكًا بتاتًا وأنه لم يتوجب عليها أن تذكر اسم والد ريتال من الأساس فلم يكن هناك داعي لنزع هذه الأجواء اللطيفة.

جرس الباب بيرن هقوم أشوف مين جيه. قالت ريتال معلنة إنسحابها من المحادثة بحجة جيدة، لعنت نانسي نفسها بصوتٍ أقرب إلى الهمس كان ذلك قبل أن يأتيها من الخارج صوت فتاة تقول:
أيه يا ريتو مش بتردي عليا ليه؟ ولا أنتِ ولا جدو قلقت عليكوا. كانت هذه فريدة والتي اضطربت معالم وجهها فور رؤيتها لنانسي الجالسة على فراش ريتال قبل أن تقول:
اه علشان كده مش بتردي عليا؟

فريدة دي نانسي بنت عمتي أنتِ عرفاها شوفتيها في فرح ماما.

اه عرفها أهلًا يا نانسي نورتي إسكندرية.

منورة بأهلها. أجابت نانسي بإقتضاب وبنبرة تشبه خاصة فريدة، توترت ريتال من الطريقة التي يجري بيها الحديث بين الفتاتين فلقد كان من السهل عليها الشعور بالتوتر الذي سيطر على الأجواء.

فريدة معلشي ممكن تشوفي جدو لو محتاج حاجة عقبال ما أطلع بيچاما لنانسي علشان مش هينفع تاكل سمك باللبس ده.

وماله يا ريتو من عينيا. قالت فريدة وهي تضغط على كل حرفٍ في كلماتها قبل أن ترمق كليهما بنظرات حادة ثم تغادر الحجرة.

من الواضح إن وجودي مش مرحب بيه هنا.

لا لا والله فريدة عسولة جدًا هي بس غيرانة في الغالب يعني، كانت متعودة إن أنا وهي صحاب بس وفجأة أنا وأنتِ يعني، علاقتنا إتحسنت فهي حاسة إنك بتاخدي مكانها.

وضحت ريتال بصراحة شديدة لتومئ نانسي بتفهم، لا يمكنها لوم فريدة فهي بنفسها شعرت بقليل من الغيرة ممتزجة بالندم فلو كانت شخصية جيدة من البداية لكانت ريتال أقرب إليها من أي شخص آخر فلقد ترعرعن سويًا في منزل واحد وقد كانت هذه فرصة ذهبية للحصول على الشقيقة التي لم تحظى بها نانسي قط لكن لا بأس فهي تعمل على إصلاح ذلك الآن.

مر اليوم بسلام شديد بغض النظر عن بعض الجمل السخيفة المتبادلة بين فريدة ونانسي لكن فيما عدا ذلك كان كل شيء على ما يرام، لم تسنح الفرصة لصالح أن ينفرد بريتال ويتحدث إليها قط وكان ذلك جيدًا بالنسبة إليها فهي ليست بحاجة إلى المزيد من التوتر والقلق، ودعتهم ريتال في نهاية اليوم بعد أن شكرتهم للمرة الألف وخمسمائة تقريبًا على زيارتهم.

مرت الأيام التي تلي ذلك اليوم بهدوء بالنسبة لريتال لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى ذلك الشاب المغترب في تلك المدينة الباردة...

يسير تليد بغير هدى وهو يبحث عن وجه ريتال وسط جميع الوجوه، حرارة الجو ازدادت برودة هذا الأسبوع فباتت الرجفة التي داخل قلبه تظهر على كامل بدنه وأسوء ما في ذلك أنه يعلم أنه لا مجال للدفء هنا فالدفء مكانه أرض الوطن حيث الشمس الساطعة ومنزل عائلته وحبيبته...

لقد كان يريد مهاتفتها لكنه يخشى أن يُفسد كل ما كانت تحاول فعله في الأيام الماضية من محاولة للتأقلم على غيابه بل وربما تخطيه تمامًا، كان يشتاق لسماع صوتها لكنه واثق تمام الثقة أنها سترفض التحدث إليه من الأساس وسيكون لها كامل الحق في ذلك فماذا سيقول هو وبماذا ستجيب؟

لقد انتهى كل شيء حينما قرر الرحيل ذلك اليوم دون أن يُطيب خاطرها ودون أن يحاول تهدأتها وطمأنتها بأنه سيعود من أجلها وأنه لا فتاة آخرى قد تشغل باله وعقله سواها لكنه لم يفعل أيًا من ذلك بل رحل بكل عجرفة وإستياء وكأنها هي من اختار هذا الفراق لا هو...

في النهاية قرر مهاتفة ياسين ومحاولة الإطمئنان عن أحوال ريتال بطريقة غير مباشرة سواء عن طريق حنين وعالية أو عن طريق ياسين والذي كان يحاول تليد مرارًا أن يُقنعه بالتحدث إلى فريدة فقط ليصل إلى أخبار ريتال لكن الأخير كان يرفض قائلًا أن لا شأن له بالأمر وأنه لا توجد علاقة رسمية تجمعه بفريدة تسمح له بالتحدث إليها دون وجود سبب قهري أو كارثة.

تليد قولتلك لو عايز تكلم ريتال أو والدتها كلمهم هما بشكل مباشر أنا مليش دعوة وبعدين عايزني أكلم الناس أقولهم أيه؟ صاحبي عايز يطمن على بنتكوا اللي هو سابها وسافر وجرح شعورها؟

بطل سخافة يا ياسين وبطل تقول الكلام ده علشان قولتلك مية مرة بيضايقني ومش مستحمل أسمعه! صاح تليد غاضبًا وإن كان غضبه هو من نفسه لا من صديقه المقرب، تنهد ياسين قبل أن يقول الآتي بنفاذ صبر:
خلاص يبقى أنتَ كمان تبطل تسألني عنها في كل مرة وتطلب نفس الطلب علشان ردي مش هيتغير وبعدين لما أنتَ خايف على مشاعرها أوي كده كل يومين تنزل صورة مع چودي ليه؟ تقدر تقولي؟

چودي مين؟ اسمها لوچي يا عم! لوجين، چودي دي واحدة تانية خالص.

ما أنتَ معارفك السوداء دي كتير، عالعموم أنا لازم أقفل علشان مشغول نكمل كلام بليل إن شاء الله، سلام.

هكذا أنهى ياسين مكالمته مع تليد ليترك الأخير في حالة من الضيق والندم على كل ما حدث لكن لا سبيل للعودة الآن على أي حال فالعالم الدراسي هنا سيبدأ في خلال أسبوعٍ واحد.

في ذلك الوقت في الإسكندرية كانت ريتال جالسة بأعين ذابلة تراقب السلطعون الصغير يسير على أحد الصخور التي قد صفعتها المياه بغضب للتو وكأنها تُعبر عن ذلك الحزن الممتزج بالغضب المحبوس داخل قلب ريتال، مزيج من المشاعر كان قد عصف بها، تبقى أقل من أسبوع على اليوم الأول لها في الجامعة إنها على بعد خطوتين أو أدنى على دخول مرحلة جديدة في حياتها فهي لم تعد تلك الفتاة ذات الضفائر في أحدى المدارس باهظة الثمن نسبيًا حيث يمكنها التباهي بلغتها الإنجليزية أو الفرنسية التي تتميز بها عن بعض أقرانها من المدارس الأقل من خاصتها من حيث المصروفات والإمكانيات.

هي الآن كأي طالبة أو طالب في تلك الجامعة وذلك التخصص ولربما كانت أقل منهم من ناحية الذكاء سواء العلمي أو الإجتماعي، تخشى كثيرًا ألا تداوم على تفوقها الذي استمر لسنوات دراسية طويلة فتحصيل الدرجات النهائية أو القريبة منها في الجامعة هو أمر ليس باليسير قط، أخرجها من دوامة الشرود خاصتها صوت فريدة وهي تقول الآتي بمرح شديد بينما تجلس إلى جانبها وتناولها عصير البرتقال الطازج الذي تعشقه ريتال.

الجميل سرحان في أيه؟ خدي بقى أشربي العصير الفريش الجميل ده وروقي أعصابك خالص كده.

كل حاجة أشتغلت عليها وتعبت علشانها لشهور راحت يا فريدة. نبست ريتال بإنكسار شديد لتعانقها فريدة عناق جانبي قبل أن تقول الآتي بنبرة مطمئنة:
مفيش حاجة راحت ولا حاجة، مامتك وجدو وأنا جنبك والظروف المادية مستقرة الحمدلله وبالنسبة للجامعة أحنا خلاص جاهزيين مش ناقص غير نشتري كوتشي وجزمة جديدة على اللي عندك.

نفسيتي يا فريدة بتكلم على نفسيتي، كل حاجة أشتغلت عليه الفترة اللي فاتت أتهدت فوق دماغي، رجعت أحس بحزن كبير مخليني مش عارفة أتنفس وبقى يجلي Panic attack نوبات هلع تاني بعد ما كانت قلت أو شبه وقفت خالص،.

عارفة كل ده ليه؟ علشان أنتِ كنتِ معتمدة على تليد من ضمن خطة العلاج وكأنه هو دواء من ضمن الأدوية اللي كانت بتضبطلك كيمياء المخ ودماغك وده مكنش صح علشان كده أول ما بعد بدأت تظهر أعراض أنسحاب ومعاها أعراض المرة الأصلي اللي كنتِ بتعاني منه.

تفتكري؟ تفتكري يعني إن بعده عني فيه فايدة ليا وأنا مش واخدة بالي؟ سألت ريتال بنبرة جادة وكأنها تتمنى أن تتفوه فريدة بشئ مقنع لعل ذلك يُهدئ من حزنها وآلمها، أخذت فريدة نفس عميق قبل أن تقول الآتي:
أوقات البعد بيبقى ليه فوائد كتير بس أحنا مش بنقدر نشوفها أو بنرفض نشوفها علشان بنبقى متأثرين بالتجربة وده مش غلط أو عيب لكن اللي المفروض نعمله بعد فترة إننا نبدأ نشوف الجانب الإيجابي ونستفيد منه.

وأيه الجانب الإيجابي في بعد تليد عني وكل اللي حصل مش فاهمة؟

هتبطلي تعتمدي عليه في حل مشاكلك واللجوء ليه علشان تهربي، هتواجهي نفسك أخيرًا بكل حاجة كنتِ رافضة تعترفي بيها، ريتال أنتِ كنتِ بتحبي تليد أو معجبة بيه جدًا أو متعلقة بيه سميها زي ما تسميها مش مهم لكن المهم إنك تعترفي بده لنفسك وبطلي تتهربي، لما تبقى معترفة بالوجع ومدركة وجوده هتقدري تتعافي أسرع.

كانت فريدة تتحدث بجدية وبنبرة لا تخلو من الحدة وإن كان الهدف من وراء ذلك هو تشجيع ريتال وجعلها قادرة على مواجهة حقيقة الأمور ورؤيتها من زاوية أكثر إتساعًا من تلك التي أعتادت أن تنظر من خلالها، تنهدت المستمعة تنهيدة طويلة وهي تعيد ضبط وشاح الرأس خاصتها قبل أن تقول الآتي بإحباط وحزن واضح:.

أنا حاسة إن جالي عقدة يا فريدة، أي ولد أو راجل في حياتي بيطلع زي ما أنتِ شايفة كده، بابا وعمي، صالح وتليد، كلهم بيتخلوا عني في النهاية أو بيكونوا وحشيين أصلًا على طول الخط، مفيش أي مُذكر في الدنيا دي قابلته كان سوي.

وبالنسبة لجدو؟ عمو فؤاد جوز زوزو؟ أبويا؟ هو أنتِ اه مش بتشوفيه كتير بس لما بتيجي عندنا بيضبطك ويجبلك فاكهة ولب وعصير وحاجات. كان حديث فريدة جاد في البداية قبل أن تنهيه بسخريتها المعتادة في محاولة منها لتلطيف الأجواء وأخذ المحادثة إلى منحنى آخر، تنهدت ريتال تنهيدة طويلة قبل أن تقول الآتي بإستياء:.

عندك حق، غالبًا أنا ببص للدنيا كلها من الجانب السوداوي ومش بعرف أحكم عن الأمور بطريقة صح زي ما ماما دائمًا بتقولي.

أحنا محتاجين بس نشتغل على نظرتنا للأمور وكل المشاكل هتتحل وعلى فكرة يا ريتال أنتِ فعلًا أتحسنتِ وصلحتي حاجات كتير اللي فاضلك شوية حاجات بسيطة هنضبطها مع بعض.

ربنا يخليكي ليا يا فريدة معرفش من غيرك كنت هعمل أيه بجد.

قالت ريتال بإمتنان حقيقي لتحاوطها فريدة بعناقٍ دافئ لثوانٍ قبل أن تفصله حينما يصدر صوت رنين من هاتفها، لقد كان رقم غير مسجل لذا استقامت فريدة من مقعدها وابتعدت قليلًا لتُجيب لعله كان رقم أحد عيادات الأسنان التي قامت بتقديم طلب للعمل فيها بدوام جزئي كمساعدة لحين تخرجها لكنها حينما ضغطت على زر الإجابة لم تسمع أي صوت في الجانب الآخر...

ألو، حضرتك سامعني؟ ألو، ألو؟ أخذت تتمتم بهذه الكلمات لكنها لم تجد إجابة قبل أن تزم شفتيها وتنهي المكالمة وتعاود الجلوس إلى جانب ريتال.

مين؟

مش عارفة، بقول ألو محدش بيرد.

تلاقي مفيش شبكة أو ممكن حد صغير كان بيلعب يعني خلاص فكك. تمتم ريتال لتومئ فريدة بقليل من الحيرة وكأنها غير مقتنعة كثيرًا بما قيل.

في اليوم الجامعي الأول لريتال، كانت تسير داخل الحرم الجامعي بحالة من التيه وبعض التوتر وإن كان خفف من حدتها وجود فريدة إلى جانبها والتي أمسكت بيدها لتطمئنها وفي الوقت ذاته لترشدها، أخذت فريدة تثرثر قليلًا وهي تُخبر ريتال بأماكن تواجد كل شيء وإن كانت ريتال كانت تستمع بنصف عقل حيث كانت شاردة في هذا العالم الكبير الذي خطت خطوتها الأولى نحوه قبل قليل والذي يحوي عددًا هائل من الطلاب.

بصي يا ستي، أنتِ أول سكشن عندك هيكون في المبنى ده الدور التاني، أنا عندي محاضرتين وغالبًا هقعد مع صحابي في الكافتيريا ومش هحضر فأنتِ لما تخلصي أول سكشن رني عليا وأستنيني تحت هنا هاجي أخدك تمام؟

تمام يا فريدة شكرًا،.

بطلي عبط يا ريتال وجود لاك يا دكتورررر. صاحت فريدة بحماس شديد وهي تنكز ريتال في كتفها بخفة بينما تدفعها نحو داخل المبنى.

أخذت تبحث ريتال عن المعمل المذكور في جدول المواعيد التي تم إرساله في المجموعة الخاصة (بالدفعة الجديدة) بكلية طب الأسنان على أحدى تطبيقات التواصل الإجتماعي، بعد قليل من المعاناة استطاعت التوصل إلى (المعمل والسكشن) المنشود.

سألت أحد الفتيات للتأكد من وجودها في المكان الصحيح قبل أن تخطو خطوتها الأولى نحو الداخل، كان المعمل متوسط الحجم، كان المكان مقسم إلى أربعة صفوف تشبه الطاولات من السيراميك وقد توسط كلًا منها حوض وصنبور مياه بالإضافة إلى مساند خشبية لوضع الأدوات والمستلزمات، وضعت مقاعد خشبية بدون مسند على كلتا الجهتين والتي كانت تتسبب في تيبس في العمود الفقري بلا شك بعد الجلوس عليها لمدة تزيد عن العشرة دقائق.

لم تُرد ريتال الجلوس في المقدمة ولا في النهاية تمامًا حتى لا تلفت الإنتباه بأي شكل من الأشكال بل قامت بإختيار مقعد توسط الطاولة لتشعر بقليل من الطمأنينة حينما يجلس الجميع من حولها لتندثر بينهم أو هكذا كانت تظن لكن ما لم تحسب حسابه أن يجلس في الجهة المقابلة لها شاب وعلى يمينها كذلك لتشعر بعدم الراحة مرة آخرى على الرغم من وجود مسافة كافية بين المقاعد.

حاولت ريتال أن تتجاهل كل العوامل التي تجعلها تشعر بالتوتر وأن تصب كل حواسها على ما سيتم عرضه وشرحه من معلومات علمية هامة ومثيرة للإهتمام من وجهة نظرها، وعلى غير المتوقع مر اليوم بسلام تام دون أن تتعرف على أي شخص.

في الأيام القليلة التالية كانت بدأت في التعرف على وجوه وأسماء بعد الطلاب أو الزملاء بمعنى أدق لكن بالنسبة إليهم بقيت هي مجهولة الهوية لفترة ليست بقصيرة، لقد حفظ البعض ملامحها الهادئة اللطيفة دون أن يعرفوا عنها أي شيء سوى اسمها الثنائي الذي يتم ذكره في أثناء قيام المحاضر بتفقد الحضور وعلى الرغم من أنها لم تتعرض إلى التنمر المباشر إلا أنها قد حصدت ألقاب كثيرة سخيفة دون أن تتدري مثل البنت الخرساء، متوحدة، معقدة، البنت اللي شايفة نفسها لكن نظرًا لأنها لم تكن تعلم أيًا من ذلك فلم يؤثر ذلك عليها بتاتًا.

في الأسابيع التي تلي الأسبوع الأول كانت قائمة أولوليات ريتال تتألف من الآتي، أولًا علاقتها بربها يليها علاقتها بعائلتها الصغيرة أو بمعنى أدق والدتها وجدها وخالتها وابنة خالتها ومن ثم محاولة اللحاق بالمناهج الدراسية التي كانت تسبقها، لم يكن لصالح أو لتليد ترتيب في قائمة أولوياتها هذه المرة.

لقد كانت (الدفعة) خاصتها تنقسم إلى مجموعات منذ اليوم الأول، مجموعة من الفتيات وحدهم أو مجموعات متنوعة بين فتيات وفتيان، في الأيام القليلة الأولى في الجامعة تعرفت إلى بضع فتيات أو هن قد تعرفن إليها بمعنى أدق فهي كانت منطوية كعادتها تجلس في أحد الأركان تتابع ما يتم شرحه أو عرضه على الشاشة وبمجرد انتهاء الشرح كانت تهرول نحو الخارج لتنزوي على نفسها بعيدًا عن الجميع أو تقضي بعض الوقت برفقة فريدة إن تلاقت المواعيد خاصتهم.

حاول ثلاثة من الفتيان تقريبًا التعرف إلى ريتال في أيام متباعدة لكنها كانت تنوي عدم الاختلاط مرة أخرى فلقد ندمت كثير في المرة الاخيرة، لقد اخطأت حينما منحت تليد الفرصة من قبل وانتهى الأمر بجرح غائر تحاول الهرب منه بإشغال عقلها طيلة الوقت هربًا من مواجهة ما حدث ورحيله.

كانت تظن ريتال أنها على ما يرام، كل شيء بخير والأيام تمر بوتيرتها المعتادة حتى جاء ذلك اليوم حيث كانت تسير داخل الحرم الجامعي كعادتها وفي يدها الأدوات خاصة المعمل داخل الصندوق وعلى ذراعها يوجد المعطف الطبي وبينما تسير لمحت شاب يقف برفقة أصدقاءه طويل القامة، يملك خصلات شعر بنية ناعمة مُلتفة بلفائف مميزة، يسرد شيء إلى رفقاه لم تسمعه هي لكنها تعلم تلك الحركات المميزة.

تسارعت نبضات قلبها ودون أن تدري ساقتها قدمها نحوه رغبة في رؤية وجهه وعيناه الرمادية لكن حينما توقفت أمامه لم تجد سوى أعين سوداء ضيقة تطالعها في حيرة لتشعر بغضة في حلقها وحرارة في وجهها نتيجة شعورها بالحرج من فعلتها المُريبة تلك قبل أن تهرب بخطواط سريعة إلى أحد الأركان الهادئة المخفية.

جلست ريتال على السور البارد ودون أن تُدرك غلفت الدموع وجنتيها وفي الواقع لم تكن تدري ما سبب ذلك تحديدًا هل الموقف المُحرج التي وضعت نفسها فيه قبل قليل أم شعورها بالتيه أم لأنه خُيل إليها أنها ترى تليد ولوهلة خدعها عقلها منصاعًا لأوامر قلبها وجعلها تعتقد أن تليد قد عاد بمعجزة ما وأنها تراه لكن في النهاية صفعتها عين الفتى الغير مألوفة على وجهها لتُعيدها إلى أرض الواقع، تليد قد رحل ولن يعود ولقد انتهى الأمر.

انهمرت الدموع رغمًا عنها لتمسحها عن وجهها بعنف قبل أن تسب نفسها بصوتٍ عالٍ قائلة الآتي:
غبية، غبية! كنتِ فاكرة إنه هيرجع؟ فاكرة إنه لسه فاكرك أصلًا؟ تليد خلاص نسيكي زي ما كل الناس بتنساكي، تخلل حديثها صوت شهقاتها بغير إرادة منها ودون أن تُدرك أن صوت بكاءها قد لفت انتباه أحدهم فهي لم تشعر بنظرات تلك الأعين السوداء الواسعة التي تراقبها عن بعد.

في تلك الأثناء وفي منطقة بعيدة نسبيًا كان فؤاد الطبيب المرموق يركض بتوتر شديد داخل أروقة أحدى المستشفيات التي يذهب إليها لمتابعة بعض الحالات، أقتحم باب أحدى الحجرات دون تكبد عناء طرق الباب.

مالك يا زينة أيه اللي حصل؟ سأل فؤاد بهلع حقيقي وهو يقوم بفحص زينة سريعًا، يرى إن كانت عيناها زائغة ويفحص رأسها إن كانت قد صدمتها حينما فقدت الوعي، أبعدت هي يداه بلطف لتغطيها بخاصتها قبل أن تقول:
أهدي بس يا فؤاد مفيش حاجة حصلت.

مفيش حاجة ازاي بس؟ الممرضة دخلت قالتلي إنك تعبتي في الشغل وجابوكي على هنا والدكتورة طلبت تحليل وحاجات تانية طمنيني في أيه؟ ولا استني أنا هشوف الدكتورة واسألها بنفسي. كان يتحدث بسرعة غير معهودة بالنسبة إلى زينة فلقد إعتادت أن يتحدث بهدوء وتأني، هربت ضحكة من زينة قبل أن تُردف الآتي:
يا حبيبي استنى بس ثواني، هو في حاجة كده هما شاكين فيها.

قولي يا زينة وقعتي قلبي!

أنا حامل. زفت زينة الخبر وهي تقضم شفتها السفلى بمزيج من التوتر والخجل فهي لا تدري ماذا ستكون ردة فعله على خبر كهذا!

ده بجد؟ زينة الحاجات دي مفهاش هزار!

عملت اختبار في البيت 3 مرات وكنت ناوية أجي أعمل تحليل دم بعد الشغل لكن البيبي كان ليه رأي تاني غالبًا وخلاني أعمله في نص اليوم.

يا حبيبتي ألف ألف مبروك. قال فؤاد وهو يجذبها في عناق لطيف بينما يتمتم بكلماتٍ لم تسمع زينة معظمها قد أمتزجت بصوت ضحكات كلاهما قبل أن يفصل فؤاد العناق ويبتعد عنها بضع خطوات وهو يعيد خصلات شعره نحو الخلف ومازالت الدهشة والسعادة تعتلي ملامحه قبل أن يُردف:
أنا مش مصدق نفسي حاسس إن أنا بحلم! يعني أنا هبقى أب؟

يا روح قلبي وهو أنت مكنتش أب قبل كده؟

هبقى أب لبنتنا أو ابننا، بيبي منك أنتِ ده شعور مختلف تمامًا عن كوني أب لأولاد أي ست تانية.

كانت كلمات فؤاد صادقة نابعة عن حب وعشق حقيقي، لم يعلم كم سعدت زينة بمثل هذه الكلمات فلقد كانت تخشى ردة فعله ليس أنه لن يسعد أو شيء من هذا القبيل لكنها توقعت ألا يعطيها ردة الفعل تلك لأنه ليس طفله الأول كما أنه كان يعشق زوجته السابقة لكن اليوم لقد تأكدت زينة من مقدارها في قلبه ومع تلك الكلمات الحنونة قررت ألا تضع نفسها مرة آخرى في مقارنة مع امرأة قد فارقت الحياة.

لقد أحب فؤاد زوجته السابقة من كل قلبه لكنها لم تعد هنا الآن لكن ذلك لا يلغي كونه وفي لذلك العشق القديم لكنه كان مدرك تماماً أن حب الشباب الطائش المختلط باللهفة والولع يختلف كليًا عن الحب الناضج المتوج بالدفء والإستقرار والرغبة في البقاء برفقتها إلى آخر دقيقة من حياته.

كانت زينة في تلك اللحظات تشعر ببعض التوتر فهي لا تدري كيف ستكون ردة فعل ريتال حينما تعلم بهذا الخبر لكن فؤاد حاول أن يطمئنها قائلًا أن ريتال فتاة عاقلة ومتفهمة وأنا بكل تأكيد ستسعد كثيرًا بأنها ستحظى أخيرًا بأخٍ أو أخت من الأم نفسها.

أقترح فؤاد أن تُخبر زينة فريدة ونانسي كذلك قبل إخبار ريتال بحيث لو شعرت الأخيرة بالإستياء أو عدم الراحة عند معرفة الخبر سيكون في مقدار كلًا من الفتاتين جعلها تشعر ببعض التحسن وبالفعل زينة ذلك المقترح وبعد نصف ساعة تقريبًا تلقت نانسي مكالمة هاتفية من زينة حيث أعلنت عن مفاجأتها.

يا نهار أبيض يا زوزو! بتهزري ألف ألف مبروك، ريتال هيبقى ليها أخوات أخيرًا، أوعى بقى تميزي بينهم والجو ده ريتال هي الأصل برضوا،.

أيه يا صالح في أيه ها؟ في أيه؟ سألت نانسي بفضول وهي تُلقي أكياس الحلوى على الأريكة بإهمال بينما تقترب من صالح بفضول محاولة الحديث الذي يدور وإلى من يتحدث من الأساس، أبعد الهاتف عن أذنه وهو يُجيبها قائلًا:
طنط زينة حامل! أجاب صالح بسعادة حقيقية وهو يضحك قبل أن تنهال التهاني والمباركات على المستمعة في الجانب الآخر.

حماس غير متوقع إجتاح كلًا من نانسي وصالح ربما لإنضمام فرد جديد إلى العائلة، ربما سعادة لأن الحياة ابتسمت لريتال مرة آخرى وبكل تأكيد حماس وسعادة لرؤية زينة تقوم ببناء أسرة جديدة خاصة بها بعد أن قضت الكثير من الوقت في التخلص من بقايا أسرتها السابقة التي هُدمت فوق راسها.

لم يكن يعلم أيًا من صالح أو نانسي أنا هناك من سمعهم، عبدالرحمن، زوج زينة السابق، في تلك اللحظة سمع عبدالرحمن صوت تحطم قلبه وإن لم يكن يعلم أن لذلك الشعور صوتٍ مسموع من قبل، لقد أندثرت كل أمنيه ضئيلة لديه في عودة زينة أنها الآن سعيدة بين أحضان رجلًا آخر وتنتظر مولودها الأول منه والثاني في حصيلة أطفالها في العموم...

لم يكتفي فؤاد بأن يأخذ دوره ويصبح أبًا لريتال بل سيصبح أبًا بكل ما تحمل الكلمة بمعنى لذلك الطفل الذي تحمله زينة في أحشائها، هربت دمعه من عيناه رغمًا عنه ولم يتكبد عناء مسحها فلقد سمح لدموعه بالأنهمار كما كان يترك عيون زينة تذرف آلاف الدموع في غيابه وبسبب قسوته، كلما مر الوقت أدرك مدى فداحة خسارته وقيمة ما خسره والذي وإن قضى ما تبقى من عمره بالكامل يبكيه لما كان ذلك كافيًا...

توجه عبدالرحمن نحو الخارج بخطواتٍ متثاقلة ليجلس على درجات السُلم القاسية الباردة وهو يبكي كطفلٍ شريد فقد أمه، كتم صوت شهقاته بصعوبة بينما أنهمرت الدموع من عيناه كان ذلك قبل أن يجد يدٍ حنون تُربت على ظهره وحينما رفع رأسه وجدها أمه العجوز التي جذبته في عناق لينفجر من البكاء داخل أحضان والدته، لقد سُلب كل شيء في هذه الحياة عدا ذراعي والدته الحنون...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة