قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث

توقفت على جانب الطريق بعد أن وصلت، تنظر للسائق بخجلٍ بعد أن أخبرته بأن مالها مُنعدم، تتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعها بدلًا من أن تكون في هذا الموقف، ظنته سيغضب أو سيسُبها، لكنها وجدته يبتسم لها بحنوٍ ثم قال بصوتٍ أبويٍ بحت: ولا يهمك يا بنتي، الأرزاق على الله.
طالعته تسنيم بتردد للحظاتٍ، قبل أن تقول باعتذارٍ شديد: والله يا عمو أنا أسفة، أنا والله هديلك فلوسك والله بعد ما يكون معايا واللهِ.

ضحك السائق عاليًا ثم تحدث بنبرة مُمازحة لتخفيف توترها: خلاص يا بنتي متحلفيش مصدقك، أنتِ لسه داخلة الإسلام جديد ولا إيه؟
ضحكت بحرج ثم بررت له قائلة: لأ والله بس...
صمت ولم تُكمل جُملتها عندما وجدته بدأ في الضحك مُجددًا، حكت رأسها وهي تبتسم له بغباءٍ على تسرعها، وبعد أن هدأ قليلًا وجدته يقول بطيبة: أنا مش عايز منك حاجة، ادعيلي بس ربنا يرزقني وأنا كدا هكون خدت حسابي وزيادة كمان، يلا سلام.

انطلق بعدها بسيارته بعد أن رمى لها تلك الكلمات، مظهرها وبكاؤها الذي لم يكف طيلة الطريق جعله يُشفِق عليها، مُتخيلًا ابنته محلها في يومٍ من الأيام، لذلك قرر مساعدتها بدون أي مُقابل ورفع الحرج عنها.

بينما تسنيم وقفت على بداية الشارع الرئيسي تنظر لما حولها بريبة، الجميع يُطالعها باستغراب لهيئتها المُشعثة وخصلاتها الغير مُرتبة بالمرة، ناهيك عن آثار الضرب والتعذيب على وجهها، ابتلعت ريقها بتوجس قبل أن تُقرر المضي قدمًا، نظرت للبيوت بتمعن تقرأ أسماء رباب البيوت علها تجد اسم هارون رضوان من بينهم، ولسوء حظها لم تنتبه لتلك القطعة الزجاجية التي اخترقت نعلها الخفيف لتنغرس في كعب قدمها.

تأوهت بعنفٍ وكادت أن تسقط على وجهها من شدة الألم، لكن يد ما قد أسندتها قبل أن تصل إلى الأرض، جزت على أسنانها تُحاول كتم تأوهها، قبل أن ترفع رأسها لرؤية هوية المُساعِد.
سحبت ذاتها مُسرعة بعيدًا عنه عندما وجدته شاب في منتصف العشرينات تقريبًا، وبتوتر بالغ همست قائلة: آس. آسفة مكنتش أقصد.

أعجبه توترتها؟ بل تلذذ به، دار بعينيه السوداويتين عليها يُطالعها من رأسها لإخمص قدمها، وبنبرة أحست بخبثها تمتم: ولا يهمك يا جميل، أقدر أقدملك أي خدمة؟
ابتلعت ريقها ببطئٍ تُحاول التخفيف من تلعثمها وكبت دموعها من الألم، فرفعت أنظارها المُنهكة تُطالعه بتعب، ثم أردفت بصوتٍ خفيض: ع. عايزة بيت الحَج هارون.

طالعها بصمتٍ لعدة ثوانٍ، ثواني أشعرتها بالقلق والخوف في الوقت ذاته، ودت لو تُهرول من أمامه للهرب من نظراته اللاسعة، أحست بالريبة منه وهي التي لا تعلم هويته، قطع أقكارها بصوته المُتأني أثناء إشارته لأحد المنازل: الحَج هارون بيته اللي وراكِ دا على طول.
حاولت شُكره بطريقة لطيفة، فتصنعت الابتسام أثناء قولها: شكرًا جدًا لحضرتك.

قالتها ثم اتجهت بخطواتٍ بطيئة للغاية إلى المنزل الذي أشار إليه، غافلة عن نظراته المُستذئبة التي يُحدجها بها، رفع أبصاره عنها عندما استمع إلى أحد الصِبية يُناديه قائلًا: يا معلم عُمير؟ الحَج حامد عايزك في المحل.
دلك عُمير مؤخرة عنقه ثم رد عليه وهو يقول: ماشي. جاي أهو.

قالها ثم ذهب خلفه لرؤية أبيه، لكن قبل هذا استدار راميًا تلك الفتاة المجهولة بالنسبة إليه نظرات مُبهمة مُخيفة، ثم أكمل سيره بعيدًا عنها.

بينما تسنيم أكملت سيرها إلى داخل المنزل، ولسوءِ حظها غرزت قطعة الزجاج في قدمها أكثر، أغلقت جفناها وهي تتأوه بألم ودموعها تهبط بصمتٍ على خديها، تحاملت على ذاتها أكثر بعد أن صعدت الدرج بتروٍ حتى وصلت أمام باب المنزل، وصدرها يعلو ويهبط بنهيج، رفعت إصبع سبابتها وضغطت به على جرس المنزل، لتنتظر قليلًا حتى فُتِح الباب أخيرًا.

وما إن فُتِح الباب، حتى وجدت شهقة عالية مُنصدمة تأتي من سيدة كبيرة في منتصف الخمسينات تقريبًا، وعلى وجهها تظهر معالم الهلع والصدمة معًا، وتلك السيدة كانت هي حنان، والتي ما إن رأت تسنيم بخصلاتها المُشعثة ومظهرها المُثير للشفقة، حتى صاحت بتغبط: أنتِ، أنتِ مين؟ ومين اللي عمل فيكِ كدا؟

لم تتحمل تسنيم الألم أكثر وأجهشت في البكاء، أسندتها حنان بسرعة بعد أن كادت أن تقع وأدخلتها لتجلس على الأريكة، أغلقت الباب من خلفها ثم اتجهت نحو الداخل وغابت لثوانٍ، وبعدها أتت وهي مُمسكة لكوب من المياه الباردة لتُهديء من روعها، وقفت بجانبها ثم بدأت بسقيها الماء مُربتة على ظهرها بحنان، حنانٌ افتقدته منذ زمن بعيد وبعده عانت الزلات والويلات.

وضعت حنان الكوب على الطاولة ثم جلست بجانبها وهي تسألها بشفقة: أنتِ مين يا حبيبتي؟
لَم تُجيبها، بل استمرت تبكي بكل عنفوان، وكأنها تُخرج كل الألم الذي بداخلها، سواءٌ أكانت آلامها الجسدية أو النفسية، خرجت في تلك الأثناء بدور من غرفتها وهي مُقطبة الجبين، تنظر للتي تجلس بجانب والدتها بتعجب شديد، اقتربت منهم أكثر حتى باتت على مقربة منهم، ثم تسائلت باستغراب: مين دي يا ماما؟

حوَّلت حنان أنظارها الدامعة نحو ابنتها، ثم هزت رأسها بجهلٍ وهي تعود تنظر ل تسنيم بحزنٍ: والله يا بنتي ما أنا عارفة، لقيتها بتخبط عليا وبتعيط مهانش عليا أسيبها كدا.

رمشت بدور بأهدابها عدة مراتٍ أثناء تحديجها لوالدتها ببلاهة! انتقلت بأبصارها نحو تسنيم المُنهمرة في البكاء وطالعتها بريبة، أيُعقل بأنها مُحتلة وجائت لسرقتهم والتخلص منهم؟ لذلك عبَّرت عن مكنونات صدرها وأخرجت ما تكتم وهي تقول بحنق: هو مش أبويا قالك قبل كدا يامَّا متدخليش حد غريب غير لما تعرفي هو مين وجاي من طرف إيه؟

تنغض وجه حنان بالضيق وهي تُجيبها: يعني عايزاني أسيبها في حالتها دي؟ يا شيخة دا حتى يبقى حرام عليا!
تنهدت بدور بضيق من أفعال والدتها الطيبة، لن تُنكِر بأن تلك الفتاة قد آثرت شفقتها حقًا ببكائها الذي يُقطع نياط القلب، لكنها تشعر بالريبة تجاهها أيضًا، اقتربت منها بحذر وعلى مهل ثم جلست بجانبها على الأريكة وهي تتسائل: مين اللي جابك؟ ومين اللي عمل فيكِ كدا؟

لم تكن تسنيم بحالة تسمح لها بإجابتها، لكنها ردت على سؤالها الأول وهي تقول بنحيب: ب. بدران.
كان من المفترض أن تُكمِل بكائها، لكنها انتفضت بفزع هي و بدور عقب صراخ حنان وضربها على صدرها بشهقة: يالهوي؟ ابني؟ بدران يعمل كدا؟ يا خرابي؟ يادي المُصيبة، يادي المصيبة.

توقفت تسنيم عن البكاء مُطالعة إياها ببلاهة وعدم فِهم، وكادت أن تفتح فاهها للتحدث، لكن قاطعتها بدور التي قالت بدورها: يا نهار أحمر! أبويا لو عِرف هيطربق الدنيا فوق نافوخنا كلنا، شكل حد شرَّبه حاجة أصفرة لحد ما اعتدى عليها وخلاها بالمنظر دا.
والآن اتضحت الرؤية أمامها كُليًا، ليتشنج وجهها بحنق ازداد عندما تسائلت بدور بهلع: هنعمل إيه يامَّا؟

ردت عليها حنان بنبرة باكية: لازم يتجوزها، لازم يداري الفضيحة دي، أنا قولت كدا برضه، مُستحيل بدران ابني يكون سادة كدا ومحترم على طول، بس متوصلش للدرجة دي! الله يسامحك يا بدران. الله يسامحك يابني.
وهُنا قررت تسنيم التدخل، لكن رغمًا عنها خرج صوتها مُتحشرجًا ببكاء وهي تعترض: لأ يا طنط مش...

استدارت لها بدور ثم جذبتها لأحضانها غصبًا، وبكفيها معًا ضربت على ظهرها وكأنها تواسيها مثلًا، لكنها في الحقيقة كانت تتعامل معها كقطعة عجين سهلة العجن، ثم قالت: لأ الحاجات دي مفيهاش اعتراض، دا شرفك.
همت تسنيم بالحديث بعد أن توقفت عن البكاء كُليًا، ثم تحدثت بوجهٍ مُمتعض وبصوتٍ مكتوم: شرف إيه بس أنتِ فهمتي غلط.

لم تهتم حنان بكل ما تقوله، بل اتجهت نحو هاتفها وأمسكته، ثم عبثت به تزامنًا مع حديثها الباكي: الحَج هارون لازم يعرف، وكمان لازم أقول ل يعقوب وعمران وحمزة ومصعب وبادر وبدير.
فرغت تسنيم فاهها بعدم تصديق، ثم تسائلت وهي تنظر إليهم بريبة: إيه الرجالة دي كلها؟ انتوا عايزين تخطفوني صح؟
وفي اللحظة التي تلتها كانت تصرخ بفزع عل أحدهم يأتي وينقذها من تلك العصابة!

‏عَيناكِ لَذّة حُسن يُستطابُ بها، وكفى بالحُسن أنها عَيناكِ.
جالسة بعيدًا عن العالم، تبكي بقهرٍ على ما آلت إليه أمور حياتها، تخشى أن تسوء الأحوال أكثر ولا تقدر على الثبات، العالَم ظالِم بحقها، وهي الشريدة التي تمشي تائهة بين طرقاته.

كانت نرجس تقف على سَطح منزلهم ودموعها تهبط على خديها الأحمرين، لقد تفننت زوجة أبيها اليوم في تعذيبها، كم من مرة فكرت في الابتعاد والهرب! لكن تُغلق جميع الطُرق أمامها عندما تتذكر أنها وحيدة في تلك الحياة، وكأن الدنيا تبصقها باشمئزاز، كآفة سامة أو أفعى مُميتة!

استدارت بفزع عندما استمعت لصوتٍ آتٍ من خلفها، اتسعت حدقتاها بعدم تصديق عندما لمحت أحدهم يقفز من أحد المنازل على منزلهم، وازدادت دهشتها أضعافًا عند رؤيتها للفاعل، إنه ذلك المُتسلط الذي يُلاحقها في كل مكان، ليس جسديًا، بل يُتابعها بعينيه دائمًا، فآهٍ لو تعلم بأنه يُلاحقها بروحه أيضًا!

اقترب منها رائف بابتسامة خافتة على ثُغره، حاملًا في يده حقيبة بلاستيكية سوداء انتبهت لها عينها، نظرت حولها بفزع خوفًا من أن يلمحهما أحد، ثم عادت بأنظارها إليه تُطالعه بشراسة عكس ما كانت عليه منذ قليل، وبعدها أردفت بصوتٍ خافت حاد: وصلت بيك الجُرأة إنك تيجي لحد هنا؟ أنت عايز مني إيه يا جدع أنت؟
تجاهلها وأردف بهدوء: غطِّي شعرك واعدلي حجابك.

وبسرعة عدَّلت من وضع حجاب رأسها ثم عادت لتسأله: مجاوبتش على سؤالي!
لم يُبالي بحديثها المُتعصب، بل ضرب به عرض الحائط وهو يسألها بابتسامة مُتسعة: عاملة إيه يا وردتي؟
قطبت جبينها بتعجب من كلمته تلك، فشرح لها دون أن يُمهلها فرصة للحديث: نرجس معناه زهرة صفرا اللون، فبدل ما أقولك يا صفرا قولتلك يا وردتي أحسن، إيه رأيك؟

إلتوى ثُغر نرجس بابتسامة ساخرة، قبل أن تُجيبه بتهكم: لأ كتَّر خيرك والله، مش عارفة أودي جمايلك دي فين الحقيقة.
أجابها رائف بلامبالاة وهو يهم بفتح الحقيبة: متقوليش كدا، مفيش جمايل بين واحد ومراته.
ثانية. واثنان. وثلاثة. ولم يستوعب عقلها حتى الآن كلمته الأخيرة، لتسأله بتشنج يشوبه السخط: بين واحد وإيه؟
كان يُخفِض رأسه لرؤية محتويات الكيس، فرفعها مُكملًا لجُملتها بابتسامة واسعة: ومراته.

احتل الضيق صدرها خاصةً بأن وجودهما معًا لا يصح بالمرة، فتسائلت بوجوم وهي تُطالعه بحدة: أنت عايز مني إيه؟
أجابها ببساطة: عايزك.

حديثه كان كفيلًا ليصدمها، وكالعادة تجاهل صدمتها، وقام بإخراج محتويات الكيس البلاستيكي وهو ينُاولها بين يديها: دا بسكوت بالفراولة لأحلى فراولة في حياتي، ودا شيبسي بالجبنة لأجلك ولأجل مزاجك، ودي شيكولاتة، وطبعًا منسيتش اللب والبيبسي، دا بقى عصير مانجا لأجل عيون وحلاوة المانجا، وخُدي الفشار طبعًا مش هنساه، وبالهنا والشفا على قلبك يا جميل.

كان يتحدث أثناء وضعه لمحتويات الكيس على يدها وهي تُمسكه أثناء مُطالعتها له بصدمة ظهرت جلية على محياها، غمزها بمُشاكسة أثناء عودته بخطواته إلى الخلف، ثم أردف: سلام يا. يا صفرا.
لاحظ وجود وجهها بضجر، فتعالت ضحكاته عاليًا على ردة فعلها، وبعد أن خفتت ضحكاته؛ تمتم بصوتٍ حنون ممزوجة بالحب: سلام يا وردتي.

سار خطوتين مُبتعدًا عنها، لكنه توقف واستدار لها أثناء قوله الحنون: متزعليش عشان خاطري، وخلي بالك من نفسك لحد ما أجيلك تاني، سلام.

لم تكن تعلم بأنها تبتسم إلا عندما بقيت وحدها بعد ذهابه، نظرت لأثره المُختفي بحيرة وعقلها لا يكف عن التفكير، ماذا يُريد منها؟ لِمَ يُلاحقها؟ هل يهمه أمرها؟ وإن كان كذلك، متى وكيف؟ أسئلة كثيرة تدور داخل رأسها وكالعادة لم تجد لها إجابة، كانت تظنه كأغلب الشباب، يُغازل للتسلية لا أكثر، لكن قدومه كل يوم من أجل رؤيتها فقط كان أمر مُحير للغاية.

تنهدت بعمقٍ ثم عادت بأنظارها لرؤية ما جلبه لها، وتلقائيًا ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، اهتمامه به يُدغدغ شعورها، وهي تحتاج لمن يهتم لها ولحزنها، لكن مهلًا! من أين عَلِم بأنها حزينة؟
مهما بلغت شرور نفسك كرهًا، ومهما طال الزمان على جريمتك، ومهما ازدادت ذاتك غرورًا، تأكد أن الجحيم آتٍ وعقابك ستأخذه، فالداين مُدان.

ثورة عارمة تلبسته فور أن علم بمهرب تسنيم ابنة عمه، أطاح حسن بكل ما أمامه بغضبٍ جامح حتى أصبحت الغرفة تنقلب رأسًا على عقب، ارتفع صدره صعودًا وهبوطًا بنهيج، وبشر أخاف رجاله الماثلين أمامه تحدث بحقد: اقلبولي الدنيا عليها، عايز أعرف هربت فين ومين اللي هربها في أسرع وقت، يا إما وقسمًا بالله ما هيطلع عليكم نهار.

أومأ له الرجال بخضوع، ليصرخ بهم في اللحظة التي تلتها بغضب: واقفين تعملوا إيه؟ يلا غوروا دوروا عليها.
انطلق الأربعة رجال من أمامه يُهرولون للخارج، يعلمون تمام العلم غضب سيدهم كيف يكون، فهو كالثليج في بروده، وكالبركان في غضبه، تركيبة عجيبة لكنها غريبة ومُهلكة.

وفي أوج غضبه وخضم ثورته، تحدث إسلام والذي كان الطبيب المُشرف على حالة تسنيم، قائلًا بنبرة متوترة: يا، يا حسن بيه إهدى وأكيد هنلاقيها، هتروح فين يع...
قطع حديثه على بغتة عندما أحاطت كف حسن الغليظة بعُنقه يضغط عليها بقوة كادت أن تخنقه، وبفحيح مُرعب تحدث أمام وجهه قائلًا: عارف أنا لو ملقتهاش النهاردة هعمل فيك إيه؟ هعمل نفس اللي كنت بتعمله مع المرضى بالظبط، هعذبك لحد ما تجيب أخرك مني.

ارتعش جسد إسلام بأكمله وطالعه برعب، هو في الأساس جاء ليأخذ أمواله منه، لكن وصله خبر هروب تسنيم من المشفى بأكملها وعدم وجود أي أثرٍ لها، اختنق حتى بات وجهه يتلون باللون الأحمر، فحاول التملص منه وتهدأته بقوله المكتوم: ه. هدور عليها في كل مكان. بس. بس سيبني أبوس إيدك.

وبالفعل تركه دافعًا إياه بعيدًا وكأنه يشمئز منه، والآخر سقط أرضًا يلتقط أنفاسه بعنف، لا يُصدق بأنه كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت أيدي هذا المُختل، رفع عيناه يُطالعه بأعين دامعة نتيجة لإختناقه، عقب حديث حسن المُهدد: معاك تمانية وأربعين ساعة عشان تلاقيها، تمانية وأربعين ساعة ودقيقة لو ملقتهاش؛ اعتبر نفسك في عداد الموتى.
أومأ له إسلام يُوافقه وهو يهمس برعب: حاضر. حاضر.
يلَّا غور من وشي.

نبس بها حسن باشمئزاز، فتوقف إسلام بصعوبة بعد أن استند على كفيه، ثم هرول مُسرعًا من أمامه، تاركًا الآخر ينظر لأثره بحقدٍ مُتصاعد.
نفخ بضيق عندما أبصر سكرتيرته الخاصة تدخل عليه بخطواتٍ مائعة مُتدللة، فاستدار سائرًا بضعة خطوات إلى مكتبه حتى ارتمى عليه بانهاك، اقتربت منه أكثر حتى باتت مُلتصقة به، ثم تحدثت برقة مُصطنعة وهي تسأله: مالك متعصب يا حسن باشا؟

زفر حسن ساخطًا وهو يُبعدها عنه بقوة: مفيش يا ساسو، اخرجي وسيبيني لوحدي دلوقتي.
لم تُبالي بحديثه مُقتربة منه مرة أخرى وتوقفت خلفه، ثم رفعت كفيها وبدأت بتدليك كتفه ببطئٍ جعلت أعصابه المُشتدة تلين تدريجيًا تحت يديها، مال برأسه يُريحها للخلف أثناء إغماضه لعينيه براحة، فعادت هي لتتسائل مرة أخرى بنبرة ماكرة: مش هتقول ل ساسو حبيبتك إيه اللي مزعلك برضه؟

عادت أعصابه تشتد مُجددًا، فزادت هي من ضغطها على موضع كتفه تُدلكه أكثر، وبعد مدة من الصمت وجدته يتحدث بامتعاض وهو يقول: تسنيم بنت عمي هربت من المصحة.
استمع إلى شهقتها المُنصدمة، تبعه صوتها المُتسائل بدهشة: إيه؟ هربت؟ طيب هتعمل إيه دلوقتي؟ دي الجلسة فاضل عليها أسبوعين.

امتعض وجهه وكاد أن يُجيبها، لكن صوت انفتاح الباب بحدة جعلها تبتلع بقية حديثها برعب، حدجها طارق بنظراتٍ مُشمئزة من اقترابها المُبالغ من ابنه، وبعصبية أمرها: اطلعي برا واقفلي الباب وراكِ.
لم تنتظر لثانية أخرى واتجهت بسرعة نحو الخارج، بينما حسن توقف في مكانه واتجه نحو أبيه وهو يقول: بابا أنت...
قاطعه أبيه مُمسكًا إياه من تلابيبه يهزه بعنف وهو يصرخ به: هربتها؟ هِربت من تحت إيدك يا فاشل يا حيوان؟

تنغض وجه حسن بسخط وهو يرد عليه: هوصلها في أقرب وقت ومش هسيبها.
فرد عليه طارق في المُقابل بعصبية مُفرطة: وهتوصلها إزاي إن شاء الله؟ دا لو مكانتش طِلعت من المستشفى على البوليس على طول عشان تبلغ عنا.
أخفض حسن يد والده عنه بصعوبة، ثم نفى حديثه بثقة قائلًا: لأ مش هتعمل كدا، تسنيم حالتها متسمحش لكدا من الأساس، أنا متأكد إن فيه حد ورا هروبها دا.

رفع طارق إصبع سبابته أمام وجهه، ثم حذره بصوتٍ قاتم: إسمع يا حسن! لو موصلناش لبنت عمك في أقرب وقت كل اللي عملناه هيضيع في الأرض، عايزك تقلب الدنيا لحد ما تلاقيها، أنت سامع ولا لأ!
أومأ له حسن بالإيجاب ومقته وسخطه يزداد أكثر، ثم تشدق مُؤكدا: حاضر يا بابا متقلقش.
تركه طارق واتجه بخطواتٍ غاضبة نحو الخارج، بينما حسن أمسك بقطعة فخار ثم رماها أرضًا بغضب، وهو يلعن ويسب تسنيم بأفظع الألفاظ والشتائم.

وبالخارج.
اطمئنت ساسو من عدم وجود أحد في مُحيطها، فاتجهت مُسرعة نحو الهاتف وطلبت إحدى الأرقام وانتظرت قليلًا، وبعد ثوانٍ أتاها الرد من الجهة الأخرى، لتتحدث بسرعة وبهمسٍ خافت: آلو يا باشا؟ بنت عمه هِربت وقالب عليها الدنيا هنا.
إن كنت تُحاول أن تكون ذكيًا كالعلماء، فأود أن أُخبركَ أمرًا، كُف عن المحاولة، فالأغبياء يظلون أغبياء حتى وإن انقلبوا كالقرود.

أطلقت تسنيم صرخة عالية في نية لجذب السُكان لإنقاذها من تلك العصابة المُتوحشة كما كانت تظن هي، في تلك الأثناء دلف بدران الذي أتى لتوه مُهرولًا وهو يتسائل بقلق: إيه فيه إيه؟ بتصوتي ليه؟
استدارت تسنيم لمصدر الصوت فوجدته هو، مُنقذها الذي أبعدها عن الهلاك، لانت ملامح وجهها تدريجيًا وهي ترسم بسمة سخيفة على وجهها، ثم تسائلت بترقب: إيه دا هُما دول أهلك؟

تشنج وجه بدران باستنكار وهو يُجيبها: مش أنا إديتك العنوان وقولتلك أمي هتستقبلك هناك؟
وهُنا استمع لصوت حنان التي تحدثت بشهقة: يقطعني! هي دي البنت اللي قولتلي عليها قبل ما تمشي؟ دا أنا كنت مفكراك اغتصبتها.
اتسعت حدقتي بدران بذهول وهو يُردد كلمتها الأخيرة بعدم تصديق: اغتصبتها؟ إيه الكلام اللي بتقوليه دا يامَّا؟

تدخلت بدور في الحديث والتي تحدثت وهي تُشيح بيدها أمام وجهه وبكلماتٍ ذات مغزى: أومال إيه اللي مبهدلها كدا ياخويا يابن أمي وأبويا؟ إيه كنت بتحطلها قطرة واتزحلقت منك؟
حدجها بدران باشمئزاز والذي أردف بسخط: اسكتي أنتِ يا غلطة وإطلعي منها.
احتدت عيني بدور بحدة وصعد صوتها بتهديد: بقى كدا؟ طيب والله لهقول لأبويا وهو اللي هيجيبلي حقي.

أشاح بيده أمام وجهها ثم استدار جهة تسنيم التي تُتابع الجميع بخجل من تصرفها المُتهور، وبعدها تسائل بانتباه وهو ينظر لقدمها الدامية: مالها رِجلك؟
عضت على شفتيها بخجل وهي تُجيبه بصوتٍ خفيض: دوست على إزازة عورتني.
امتعض وجهه بشفقة قبل أن ينبس بهدوء: طيب اقعدي متفضليش واقفة.

كادت تسنيم أن تعترض، لكن حنان لم تملهلها فرصة للتحدث، بل أسندتها من ذراعها وأجلستها على الأريكة بحذر، ثم نظرت ل بدور قائلة: روحي يا بدور هاتي علبة الإسعافات من دولاب أبوكِ جوا.
أومأت لها بدور وولجت للداخل بسرعة لجلب ما طلبته والدتها، بينما بدران نظر لوالدته وحنانها بحبٍ شديد، تلك المرأة حقًا تُبهره دائمًا بعطفها اللامُتناهي، وكم يُريد أن تكون زوجته مثلها تمامًا!

قاطع تفكيره صوت أبيه الذي أتى لتوه ومعه يعقوب وبدير، وبعد أن ألقى هارون السلام وأجابوه، نظر للفتاة الغريبة عنه وتسائل بابتسامة هادئة مليئة بالوقار: مش تعرفونا على الضيفة!
إحمرت وجنتي تسنيم بحرج من وجود كل هؤلاء الرجال معها في وقتٍ واحد، لكنها فضلت الصمت في وجود بدران الذي رفع عنها الحرج بكلماتٍ مُبهمة فهمها هارون سريعًا: دي الضيفة اللي حكيتلك عنها الصبح يا حَج.

أومأ له هارون بهدوء وعاد لينظر إلى تسنيم الصامتة، وتحدث بابتسامة صغيرة: أهلًا بيكِ يا بنتي، البيت نوَّر بوجودك.
أجابته بخفوتٍ حَرِج: منور بأهله وناسه يا عمو.
اقترب هارون حتى جلس قبالتها على المقعد الوثير المُقابل للأريكة التي تجلس عليها، بينما يعقوب مال على بدران وتسائل بهمسٍ خبيث: والحلوة جاي من وراها مُصيبة ولا أورديحي؟

نظر له بدران ثم همس بنفسِ الخُبث: مصيبة من العيار التقيل زي ما بتحب يا حبيب أخوك.
اعتدل يعقوب في وقفته مُتمتمًا باستمتاع: دي شكلها هتحلوّ أوي.
وفي المُقابل، بدأ هارون حديثه بقوله الرزين: بدران حكالي كُل حاجة حصلت معاكِ في المصحة.

طأطأت تسنيم رأسها في أسى بالغ، فيما أكمل هارون حديثه بعقلانية: ودا شيء لا يعيبك ولا يقلل من قيمتك، كُلنا بنمر بإبتلاءات وأنتِ ربنا إبتلاكِ ونجدك، وابني بدران كان مُجرد سبب ربنا بعته ليكِ، وأنا عارف دلوقتي كل الكلام اللي بيدور في دماغك، وعارف أنتِ عايزة تقولي إيه، وواثق إن أول جُملة هتطلع منك إنك هتمشي من هنا بعد ما تلاقي مكان مُناسب ليكِ.

طالعته تسنيم بانبهار أضحكه، فاستطرد حديثه: الدنيا تجارب وأنا مريت بكل التجارب، كل اللي عايز أقولهولك إنك هتفضلي هنا لحد ما مِحنتك تخلص بالسلامة، فيه دور تحت هو صغير بس هيفي بالغرض، هتعيشي فيه عشان تكوني على راحتك بعيدًا عن ولادي، هتكوني زيك زي بدور بالظبط، وأنا أوعدك إن ولادي مش هيتعرضولك أبدًا.

نظرت تسنيم للأوجه من حولها، فوجدت حنان وبدور يُطالعونها بانتباه، بينما الرجال يُحاولون بقدر الإمكان تحاشي النظر لها، عادت لتنظر إلى هارون بنظراتٍ مُمتنة، ثم أردفت بشكر:
حقيقي أنا مش عارفة أقولك إيه يا عمو، بس بجد أنا بشكرك من كل قلبي.
ابتسم لها هارون بحنوٍ وهو يقول: مفيش شُكر ما بينا، أنا قولتلك إنك زيك زي بدور بنتي.
الغلطة.

تفوه بها بدير مُعدلًا حديث أبيه وهو ينظر بشماتة ل بدور التي كادت أن تنفجر من الغيظ.
قهقه هارون عاليًا ثم أعاد حديثه قائلًا بضحك: زيك زي بدور الغلطة.
ضجرت بدور التي تحدثت بحنق: يوه بقى يا بابا؟ على فكرة دا ظُلم ولن أسمح بهذا خلي في علمك.
متسمحيش يا حبيبة أبوكِ، يلا خُدي الضيفة وخليها تاخد دُش يهدي أعصابها وإديها هدوم من عندك.

أومأت له بدور وهي تنظر لأشقائها بسخط، ثم ذهبت إليها وأسندتها لتذهب بها إلى المرحاض، بينما حنان استدارت لزوجها وتسائلت باهتمام: كنت فين يا حَج؟
أجابها هارون بتنهيدة طويلة: كنت قاعد على القهوة تحت مع أخويا عوض، حكيتله اللي حصل وقالي لو حصل أي عوق من الواد هيظبطه.
وقبل أن تتحدث حنان بكلمة واحدة، تحدث يعقوب قائلًا: محدش هيظبطه غيرنا يابا، إحنا مش عايزين مُساعدة خارجية.

طالعه هارون بيأس وهو يهز رأسه بقلة حيلة، فرفع أنظاره إليهم مُتحدثًا بتذكر: آه صحيح نسيت أقولكم إني عزمت رؤوف صاحبي عشان يجي عندنا هو ومراته وولاده، لسه جاي إمبارح فلازم أوجب معاه.
ضيقت بدران عيناه باستغراب وهو يتسائل: صاحبك مين دا يا حَج؟ أول مرة نسمع الإسم دا منك.

أجابه هارون بقوله: رؤوف دا كان صحبي من زمان أوي، أنا وهو كُنا في مدرسة واحدة، بيته اللي لازق في بيتنا دا، بس ربنا كرمه ووسعها في رزقه ونقل لمكان تاني، وأهو جِه إمبارح.
تحدثت حنان بابتسامة هادئة: ينورونا يا حَج، هقوم أنا أجهز العشا قبل ما هما ييجوا.
أمسك هارون بكفها ثم قبَّله بحنوٍ، ثم تمتم قائلًا بحب: تِسلم إيدك يا حنان.

ورغم مرور كل تلك السنوات، احمرت وجنتي حنان خجلًا وهي تُجيبه بصوتٍ خافت: الله يسلمك يا حَج.
تفوهت بها ثم أسرعت بخُطاها نحو المطبخ لتُخفي خجلها الواضح خلف الجدران، بينما هارون تابعها بأعين مُلتمعة تعكس الحب القابع داخل فؤاده لتلك المرأة الحنون.
قرر يعقوب العبث معه وتحدث بمُشاغبة: عيب يا حَج هارون إحنا واقفين.
هبَّ هارون من مكانه ثم طالعه هو إخوته باشمئزاز مُعلقًا: جتكم البلا.

تشنج وجه الثلاثة رجال بسخط، فيما أكمل هارون حديثه وهو ينظر تجاه بدير الصامت: وشوفوا أخوكم مخبي إيه عشان لو عِرفت إن فيه مُصيبة معمولة من ورايا هطين عيشتكم كلكم.
قالها ثم اتجه نحو غرفته ليرتاح بها قليلًا، بينما يعقوب وبدران نظرا نحو بدير التي تحدث بخفوت: أنا هقوله النهاردة واللي يحصل يحصل.
يا أعدل الناس إلا في مخاصمتي!

تفوهت روان بتلك الكلمات بعد أن دخلت على رئيس الجريدة مكتبه الخاص، خلع نظارته الطبية عن عينيه ثم أردف بنبرة مليئة بالتشاؤم: يا ستار استر يارب؟ الدخلة دي أنا عارفها كويس.
تصنعت روان الحزن وهي تقترب منه حتى وقفت أمام مكتبه، قائلة بضيق زائف: أنت مش واثق فيا ولا إيه؟ دا أنا المرادي جيبالك خبر بألف جنيه.
إلتوى ثغر الآخر بابتسامة ساخرة وهو يقول بتهكم: ألف جنيه مرة واحدة؟ طيب وريني الأول وأنا أحكم.

أخرجت روان المقال من حقيبتها السوداء بعد أن طالعته بغرور، وبعنهجية شديدة أعطته ما دونته من أخبار هامة للغاية وبدأ هو بقراءة ما كتبته، فيما تحدثت هي قائلة: اتفضل يا أستاذ، وخلي بالك أنا مش هقبل أقل من أسبوع إجازة بسبب مجهوداتي العظيمة ومخاطرتي بروحي عشان أجيبلك المعلومات دي، بس عشان خاطر حضرتك عطوف أنا ممكن آخد يومين إجازة بس، ودا لأني عارفة إنك بتمر بفترة عصيبة مُثيرة للشفقة، ولذلك. أُقر أنا روان إسماعيل إن...

انتفضت من مكانها بفزع بعد أن صرخ بها، وهبَّ من مكانه بعصبية أخافتها وهو يقول: إيه اللي أنتِ منيلاه دا؟ مساجين إيه دول اللي بيتغذوا على الكُفتة؟ يا شيخة حرام عليكِ، أرمي نفسي من الشباك عشان أريحلك مني وأخلص؟ أتبرى منك طيب ولا أقتلك؟ أنا قولتلك تروحي تجيبي معلومات تستحق القراءة وتعمل إثارة جدل مش إثارة ضحك!

ضجرت روان من كل هذا وأشاحت بيدها وهي تقول بنبرة ساخطة: يوه بقى يا بابا؟ ما أنا جايبالك معلومات مُفيدة أهو من ظابط مهم هناك في القِسم؟
تحدث إسماعيل مُتهكمًا: ظابط مهم؟ دا هتلاقيه شافك هبلة قُدامه قال إما أجاريها، أنا عايز أفهم حاجة واحدة بس! هما نجحوكِ من الكُلية إزاي؟
طالعته روان بطرف عينيها وهي ترد عليه بحنق: قُر عليا بقى قُر، ما قرك دا هو اللي جايبني ورا.

رمى إسماعيل الأوراق على المكتب بحدة، ثم أشار بإصبع إبهامه للخارج وهو يقول بعصبية: إطلعي برا يا روان، إطلعي برا ومش عايز أشوف وشك هنا تاني، روحي شوفي جريدة تلِمك بقى.
ضربت روان بقدميها في الأرض وهي تتسائل بغضب: أنت بتطردني يا بابا؟
أجابها إسماعيل بنفس الغضب مُؤكدًا على حديثه: آه بطردك.
لترد عليه بتوعد: طيب والله لهقول لماما.

قالتها ثم انصرفت من أمامه بخطواتٍ غاضبة، مُتمتمة ببعضٍ من الكلمات الغير مفهومة، بينما إسماعيل إرتمى على المقعد وهو يهمس بانهاك: روحي يا شيخة منك لله، موتي هيبقى على إيدك يا بعيدة يا بنت البُعدة.
جاء وقت المواجهة، قد أتت اللحظة الحاسمة، لمُقابلة أبناء هارون وأبناء رؤوف.

استقبل الحاج هارون ضيوفه باستقبالٍ حافل، وذلك عندما عانق رؤوف باشتياق، وبادله رؤوف ذلك أيضًا، ربت على ظهره بقوة وهو يقول: ياه يا هارون؟ واحشني ووحشتني قعدتنا سوا أوي.
أجابه هارون بسعادة وهو يبتعد عنه: وأنت كمان واحشني يا رؤوف، أخبارك إيه محدش بيسمع عنك حاجة!
رد عليه رؤوف بتنهيدة ثقيلة: الحمد لله أهي ماشية.
لأ دا باين حكايتك حكاية، على العموم لينا قعدة طويلة لسه.

وبالقرب منهم، مالت ذكرى على أذن إلياس تهمس له بتهكم: شايف أبوك وهو طيب؟ ألا الطيبة دي مش بتظهر معانا إحنا ليه؟
طالعها إلياس بطرف عينه وهو يُجيبها: أبوكِ دا تركيبة عجيبة، أوقات تحسيه طيب ومفيش في غُلبه، وأوقات تانية تحسيه جبروت.
سخرت ذِكرى قائلة: والجبروت دا مبيظهرش غير معانا إحنا.

نظر إلياس لشقيقته مُطولًا دون إجابتها، يشعر بألمها المدفون أسفل حديثها الساخر، يعلم بأنها تشتاق لحنان والدها، هو وحده لا يكفي، تنهد بيأس ومن داخله قرر التحدث مع أبيه ولو قليلًا، سيطلب منه مُعاملة شقيقاته بطريقة أفضل حتى لا يتجهن إلى كُرهه أكثر من ذلك!
عاد رؤوف خطوتان للوقوف بجانب ابنه، ثم أشار إليه مُعرفًا إياه: دا ابني الكبير إلياس، عنده تمانية وعشرين سنة.

ابتسم إلياس للجميع بمُجاملة، بينما انتقل رؤوف لفتياته مُعرفًا إياهم قائلًا: ودي بنتي الكبيرة ذِكرى عندها ستة وعشرين سنة، واللي جنبها رضوى عندها أربعة وعشرين سنة، والصغيرة جنة عندها اتنين وعشرين سنة، ودي مراتي صفاء.
رحب كل من هارون وحنان بالفتيات بود، بينما حمزة مال على أذن عمران مُتسائلًا بتفكير وهو يُشير لإحداهن: هي مش دي رضوى الرقاصة؟
اتسعت حدقتي عمران بدهشة أثناء قوله المُنصدم: رقاصة؟

أكد له حمزة بهمس: أيوا، جَت مع جدها هِنا مرة وهي صغيرة وكانت بترقص لولاد الشارع.
قطب عمران جبينه باستغراب وهو يتسائل بتعجب: وأنت إيه اللي عرفك؟
رد عليه الآخير بابتسامة بلهاء مُتسعة: ما أنا كنت بتفرج معاهم.
كتم عمران ضحكته بصعوبة، قائلًا وهو ينكزه في جانبه بخفة: طيب اسكت اسكت الله يخربيتك.

فيما بدأ هارون بتعريف أبناءه بالترتيب: دا ابني الكبير يعقوب تلاتين سنة، واللي بعده عمران تسعة وعشرين سنة، وبعده بدران تمانية وعشرين سنة، و حمزة سبعة وعشرين سنة، و مصعب ستة وعشرين سنة، بعده بادر خمسة وعشرين سنة، والأخير بدير أربعة وعشرين سنة، وفيه جوا بدور تلاتة وعشرين سنة.
مالت جنة على ذِكرى مُتحدثة بضحكة مكتومة: ما شاء الله، الحَج فيه صحة مش فيا.

لترد عليها ذِكرى بضحك: ومراته الله يكون في عونها، أرنبة من العيار التقيل.
تبادلوا التحية والسلام، فتحدثت حنان بمزاح وهي تنظر ل ذكرى بضحك: الوحيدة اللي فاكراها هي ذِكرى ، كانت لما تيجي هنا مع جدها تضرب يعقوب لحد ما يرجع معيطلي من برا.

تحولت جميع الأنظار تجاه ذِكرى التي تُطالع المدعو يعقوب بتفكير، تُحاول أن تتذكر أي شيء عن تلك الطفولة المُشردة، لكن لا شيء، ضحك هارون عاليًا ومعه ضحك رؤوف وصفاء، فأكمل رؤوف الذكريات بضحك: والمرة اللي فتحت فيها دماغه، تقريبًا كان فيه بينه وبينها طار إحنا مش عارفينه لحد دلوقتي.

وتلقائيًا رفع يعقوب كفه ليتحسس به رأسه مكان جرحه، وبدون قصدٍ طالعها بشرٍ وكأنه يتوعد لها على ما فعلته به في طفولتهم! ابتسمت له ذِكرى بغباء علها تُخفف من حدة الموقف، لكن والدتها زادت الطين بلة مع قولها الأخير: كانت بتسرق فلوسه وتثبته على أول الشارع، ومكانتش بتدهاله غير لما يلعب معاها لوحدها.
أخفت ذِكرى وجهها عن الجميع وهي تُتمتم بغيظ: الله يخربيتكم، محبكش تفتكروا ذكريات طفولتي النتنة غير دلوقتي؟

قرر هارون الرأفة بها، فتحدث ضاحكًا وهو يُشير نحو الداخل: اتفضلوا يا جماعة اتفضلوا.
دلف الجميع نحو الداخل وعلى أفواههم ترتسم ابتسامة واسعة لما حدث منذ قليل، عدا يعقوب، الذي تذكر طفولته المُنتهكة ومُعاناته على يد تلك السليطة!
جلس الجميع حول سُفرة الطعام مُرتصين بجانب بعضهم البعض، ليستأذن إلياس باحترام من حنان قائلًا: لو سمحت يا طنط عايز أدخل الحمام أغسل إيدي.

اتفضل يابني، هتلاقيه ورا الستارة اللي في وشك دي.
ابتسم لها إلياس بمُجاملة، ثم اتجه نحو المكان الذي أشارت إليه بخطواتٍ مُتريثة، فتح صنبور المياه ثم قام بغسل كلتا يديه جيدًا، وبعدها خرج مُجددًا، لكنه توقف فجأة عندما كاد أن يصطدم بفتاةٍ ما، وقد كانت بدور، ضيَّق عيناه يُحاول تذكُرها ومتى رآها، حتى فتح عيناه بذهول قائلًا بدهشة استعجبت لها: سِت حلويات؟
تشنج وجهها من حديثها فاستفسرت مُستنكرة: إيه؟

استفاق إلياس لذاته وتمتم بخفوت: لأ. لأ مفيش حاجة، عن إذنك.
قالها ثم هرول من أمامها مُسرعًا واتجه للجلوس معهم، ورغمًا عنه لم ترتفع أنظاره من عليها، تهزمه عيناه في كل مرة، وفي كل مرة تتجه نحوها.
قضوا سهرتهم بوقت جميل يتذكرون فيه طفولتهم وحكاويهم، تعرفت العائلتان وخاصةً إلياس وعمران تفكيرهم مُشابه إلى حدٍ كبير، لذلك تفاعلوا معًا.

بعد ساعة تقريبًا، رحل رؤوف مع عائلته وهُم يودعون إياهم، وفي تلك الأثناء زهراء هبطت زهراء من الأعلى، تبحث بناظريها عن يعقوب بأعين مُتلهفة، والتي ما إن رأته حاى اتسعت ابتسامتها بشدة وهي تُنادي عليه بصوتٍ جذب أنظار جميع الرجال: يعقوب؟
استدار لها يعقوب بملل مُجيبًا إياها: نعم يا زهراء؟
أخفضت زهراء رأسها بخجل وهي تسأله بصوت خافت: عامل إيه؟
أجابها بنفاذِ صبر قبل أن يتركها ويرحل تمامًا: أحسن منك.

تطلعت إلى أثره الراحل بدهشة ارتسمت بوضوح على محياها، هي لم تفعل شيء ليمقتها بتلك الدرجة، ذنبها الوحيد أنها أحبته، رفعت أنظارها الشاردة تجاه هارون الذي تحدث بصوتٍ جاد: اطلعي بيتك يا زهراء ومتنزليش تاني الوقت اتأخر.
ابتلعت الأخيرة ريقها بصعوبة، وببحة خرجت واضحة من صوتها أجابته: ح. حاضر يا عمي.

دلف هارون لداخل منزله بعد أن ألقى عليها نظرة الأخيرة ومعه الجميع، عدا بدران، الذي طالعها بنظرة مليئة بالألم، نظرة تُشبه خاصتها تمامًا وكأنهما تشاركا الألم! هو يحبها، وهي تحب أخيه، وأخيه يصدها من أجله، جميع الأطراف ليست على ما يُرام، الجميع يُعاني والقلوب مُتشققة من الحُزن.

وها قد مر يومٍ جديد، دون وجود أي خسائر، فقط هي بضعة آلام في الفؤاد، تقل عندما نُغمض أعيننا وننام، صباحٌ جديدٌ مُشرق قد سطح، وتحدي جديد اصطدم بوجوههم فور استيقاظهم.

يُقال أن حرب النظرات أكثر خطورة من الاشتباكِ بالأيدي، وها هي الحرب تنشب بين كليهما، يعقوب ابن الحاج هارون و عُمير ابن الحاج حامد العوضي، الصمت يعم المكان لكن الأجواء مُتوترة للغاية بين أهالي المنطقة الذين يُتابعون ما يحدث بأعيُن مُتفتحة، حتى قرر عُمير الخروج عن صمته أخيرًا مُتحدثًا بغلاظة:
اِخلص يا يعقوب بدل ما أقسم برب العزة هخليك تندم، اخلص أحسنلك.

جاءه الرد من يعقوب يُجيبه بكل برودٍ واستهزاء: اَخْلَص دا إيه! هو أنت على ذمتي؟
نشبت النيران بصدرِ عُمير من بروده وهدوئه المُستفز، ليرد عليه بنبرة مُهددة: البضاعة سِعرها مش هيقل عن السوق، يا إما مش هيبقى فيه بضاعة من الأساس.
ارتسمت ابتسامة جانبية ساخرة على فم يعقوب الذي اقترب منه خطوتان ثم تحدث بصوتٍ مليءٍ باللامبالاة: يعقوب هارون رضوان مش بيتهدد يا عُمير، والبضاعة سعرها هيقل بمزاجك أو غصب عنك.

اشتعلت عينيّ عُمير غيظًا ثم همس من بين أسنانه بفحيح: متخلينيش أوريك وِش مش هيعجبك.
أكتر من كدا؟ يعني فيه بشاعة أكتر من وشك دا؟
قالها وهو يُشير باشمئزاز نحو وجهه مما جعل صبر الآخر ينفذ، ليرفع يداه المُمسكة بعصى غليظة في نية لضربه بها أثناء قوله الصارخ: أنت اللي جنيت على نفسك.

وبسرعة البرق أمسك يعقوب بالعصى قبل أن تهبط على رأسه ثم همس من بين أسنانه بشر: أنا كنت مُحترم معاك لحد الآخر، لكن المثل بيقولك اللي ميجيش معاك بالحنية، ياخد على عينه بالبونية.
أنهى جُملته ثم سدد له لكمة قوية استقرت على عينه اليُسرى مما جعل الهرج والمرج ينتشر في الأرجاء.

في تلك الأثناء تعالت صوت الصيحات من الرجال، والصرخات من النساء وباتت المنطقة أشبه بساحة الحرب، وعَلت الصيحات أكثر عندما انضم كُلًا من مصعب وعمران وبدران إلى شقيقهم للدفاعِ عنه.
بينما بدير وقف بعيدًا عنهم أمام المقهى يُنادي بصوتٍ عالي: واد يا ريشة!

جاء إليه المدعو ب ريشة مهرولًا فوجده جالسًا على المقعد الخشبي واضعًا قدمًا فوق الأخرى وهو يقول بعجالة: هاتلي ياض الشاي باللبن بتاعي ومعاه البسكوت بسرعة قبل ما الخناقة تخلص.
سقط فاه ريشة الذي أشار نحو المعركة حيث أخواته وهو يقول ببلاهة: بس يا معلم بدير إخواتك هُما اللي بيتخانقوا.
رد عليه بدير بغباء: أيوا ما أنا عارف، انجز بس هاتلي اللي قولتلك عليه ومتتأخرش عشان أحلق أقيَّم مجهودهم.

هز الآخر كتفيه بجهل ثم ذهب ليجلب له طلبه، فتلك هي حالته عندما يدخل أحدًا من أخواته في شِجارٍ ما؛ يأتي مُهرولًا إلى المقهى ليجلس عليها ويُتابع العِراك باستمتاع!
وعلى الجانب الآخر، أمسك عمران بأحد رجال عُمير ولكمه في وجهه أثناء قوله المُعاتب: هو إحنا مش قولنا مليون مرة كدا كِخ؟ مش بتسمعوا الكلام ليه ها؟

تأوه الرجل الذي سقط على أحد مقاعد محل الجِزارة بقوة أدت إلى تحطمه، بينما مصعب أمسك برَجلٍ آخر وكالعادة تنمر عليه قبل أن يضربه بقدمه في معدته: بطنك دي ولا مخدة فايبر؟
جز الآخر على أسنانه بألم، فأمسك به مصعب من كتفيه يُثبته أمامه، وبعدها لكمه في وجهه مُسقطًا إياه أرضًا بجانب الرَجُلين اللذان ضربهما كُلًا من عمران وبدران.

شهق بدران بصدمة مُصطنعة وهو ينظر لأخيه عمران، ثم أردف بعتابٍ زائف: إيه اللي أنت عملته في الراجل دا يا عمران ياخويا؟ هو إحنا برضه فينا من القساوة دي كلها؟
ولم يكد عمران أن يفتح فمه لإجابته، حتى وجدوا عُمير يسقط بجانب رجاله بوجهٍ مُتورم، وصوت يعقوب يصدح بحزن: انتوا خليتوني أستعمل أسلوب وِحش وأنا مش بحبه، إخس عليكم إخس!

استدار مُسرعًا عندما شعر بحركة عنيفة تأتي من خلفه، فهبط عندنا كادت أن تطالعه إحدى العُصي من أحد الرجال، ثم أمسك به ولكمه عدة لكمات بعنفٍ على وجهه دون أن يرحمه الآخر، ليصرخ الرجُل مُستنجدًا: إلحقوني.
ضربه يعقوب في معدته بقوة ثم تشدق بتهكم: هيلب يور سيلف يا روح أمك.
قالها ثم رماه بين عمير ورجاله على الأرض، فأصبحوا عِبرة لمن يُعتبر.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة