قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني

في خضم معاركك الخاسرة ومُقاومتك للبقاء على قيد الحياة، في ظِل يأسك وسخطك، وفي اللحظة التي تظن بها بأنك لن تنجو، يأتي شعاعٌ من النور ينتشلك من ظلامك الدامس، يُخرجك من الظلمات إلى النور، ليُعيدك للحياة مرة أخرى، فقد. جازف لتتأقلم.

نظرت تسنيم للشخص الذي يتحدث بعدمِ تصديق، قلبها يحثها على الذهاب معه والهرب من الجحيم، لكن هُناك خوفٌ من أن يكون كل هذا بتخطيط ابن عمها لقتلها تمامًا، انتفضت على صوت الرجل الذي يهمس بخفوت: يلَّا يا آنسة بسرعة قبل ما حد يحس بينا.
امتلئت عينيّ تسنيم بدموعٍ خائفة وهي تهز رأسها بالنفي، ثم سألته بارتعاش: مش هتقتلني صح؟

نفى برأسه على الفور وعيناه تدوران على المكان خوفًا من انكشاف أمره، وبإيجازٍ شديدٍ أجابها وهو يسحبها خلفه قِصرًا: لأ متخافيش، فيه اجتماع مهم دلوقتي وكل اللي في المستشفى متجمعين فيه، هخرجك من البوابة الخلفية وأنتِ اجري بسرعة ومتقفيش لحد، روحي مكان بعيد عن هنا وخُدي الورقة دي خَلي أي سواق يوصلك هناك، ومتخافيش المكان هناك أمان.

كانت تستمع إليه بعقلٍ مُشوش وجسدٍ هزيل، لكنها حاولت بكل جهدها التركيز فيما يقوله، جسدها مُتعب بطريقة مُؤلمة لروحها، لذلك رفعت أنظارها له وتسائلت: أنت مين؟
وصلا إلى البوابة الخلفية، وهُناك أجابها بابتسامة خفيفة: أنا بدران هارون رضوان، الورقة اللي أنتِ خدتيها دي فيها عنوان بيتي، أمي هي اللي هتستقبلك هناك متخافيش، وأنا هخلص الإجتماع وهاجي مش هتأخر.

نظرت إليه بتردد شديد لكن ما باليد حيلة، هو أملها الوحيد للخلاص، نبرته صادقة أشعرتها بالأمان، لذلك انتشلت منه الورقة المُدون بها العنوان ثم قرأتها بعينيها، بينما هو أخرج من جيبه قُرص من الدواء ثم فتحه وأعطاه لها قائلًا بإيجاز: خُدي الدوا دا مُسكن وهيساعدك لحد ما توصلي.

وبدون تفكير أخذته مُتناولة إياه، ثم تجرعت خلفه بضعة قطرات من المياه، دفعها للخارج فانطلقت هاربة تركض بسرعة كغزالة شاردة تهرب من مُفترسها، تركض من مصيرٍ محتوم كانت تعلم نهايته، تهرب من هلاكها.
تابعها بعينيه السوداويتين حتى اختفت عن أنظاره، استدار عائدًا للداخل مرة أخرى وهو يجز على أسنانه بغلٍ، ثم همس بوعيد: نهايتكم هتبقى على إيدي يا شوية كلاب.

الأمر كُله بدأ عندما وصلت إليه مكالمة هاتفية من أحد الرجال العاملين بالمشفى، حينما كان عائدًا مع أخيه عمران، بعد جلب متطلبات شقيقته من منزل زوجها، دلف إلى الداخل بخطواتٍ واثقة مُتحدية، واضعًا كفيه داخل المعطف الطبي الذي يرتديه، وبخُطى مُتروية قام بالدخول إلى غرفة المراقبة، هبَّ العامل من مكانه بفزع، لكن ما إن رأى بدران حتى زفر براحة: دكتور بدران!

أشار له بدران بالجلوس وهو جلس أمامه، شمر عن ساعديه ثم سأله بحذر: عطلت الكاميرات يا رجب مُتأكد ولا هتسوحنا؟
رد عليه المدعو رجب بثقة: أيوا طبعًا يا دكتور بدران، استأذنك ثواني أرجع أشغلها تاني.
منعه بدران سريعًا وهو يُمسِك به من ذراعه يمنعه، مُبررًا فعلته بدهاءٍ شديد: لأ خليها شوية، عشان الموضوع يظهر إنه عُطل في كاميرات المراقبة مش خطة عشان نهرَّب المريضة.

اقتنع رجب باقتراحه، ثم عاد ليجلس أمامه مُجددًا، طالعه بدران بنظراتٍ ثاقبة فيما هتف بتروٍ: احكيلي كل حاجة.

اعتدل رجب في مكانه وبدأ بقص كل ما كان يحدث منذ أسبوعان تقريبًا، بدايةً من قدوم تلك الفتاة كمريضة نفسية في أقسى المراحل، حتى حالتها التي كانت تتدهور وتزداد سوءًا يومًا بعد يوم: البنت دي لما جت هنا كانت مش بتتكلم ودايمًا شاردة وسرحانة، النبطشية بتاعتي كانت بتبدأ من الساعة 8 الصبح وبتخلص 8 بالليل، لكن اتغيرت وبقت العكس، يعني باجي بالليل وبمشي الصبح، كل مرة كنت بلاحظ إن البنت دي حالتها بتسوء كل يوم عن التاني، لحد ما عرفت إنها بتاخد جلسات كهربا، في الأول مهتمتش وفكرت إنها مُدمنة وبيعالجوها، لكن سمعت دكتور إسلام في مرة وهو بيتكلم في التليفون وبيتفق مع واحد اسمه حسن إنهم يزودولها الجلسات دي، وبالفعل بدأت رحلة عذابها وكل يوم بيعذبوها بالكهرباء حوالي مرتين تلاتة، ولما يلاقوها أُغمى عليها بيدخلوها أوضتها تاني.

احتل الغضب وجه بدران من بشاعة ما يستمع إليه، لذلك صاح به بدوره وهو يصرخ به: ومقولتش لأي حد في وقتها ليه عشان يخلصوها من تحت إيد الحيوانات دي؟
رد عليه رجب بقلة حيلة: كنت متكتف ومش عارف أبلغ مين في المستشفى، كنت خايف أقول لأي دكتور يطلع هو كمان متفق معاهم وأروح أنا في ستين داهية، بس لما حضرتك اتنقلت هنا قُريب وشوفت مُعاملتك الطيبة مع المرضى قررت أبلغك.

امتلأ صدر بدران بالغضب أكثر، لم يكن ليتخيل أن هُناك بشر بكل تلك البشاعة، العالم مليء بالويلات لكنه مُغطى بستارٍ من النفاق والزيف.

شرد بدران في الفراغ لدقائق معدودة قليلة، قبل أن يعود بأنظاره نحو رجب الذي ينتظر منه أي ردة فعل، ليتشدق بعدها قائلًا: تمام يا رجب، وزي ما اتفقنا متجيبش سيرة لأي حد إنك شوفتني، أنا أصلًا المفروض واخد إجازة النهاردة ومحدش شافني، فلو حد سألك عن حاجة أنت لا شوفتني ولا تعرفني، وبالنسبة للكاميرات فهي كان فيها عُطل ورجعت اشتغلت تاني، عادي بتحصل في كل مكان.

أومأ له رجب وهو يَقول مُؤكدًا على حديثه: حاضر يا دكتور متقلقش.
ربت بدران على كتفه بصمتٍ، لكن عيناه أرسلت إليه شُكرًا صامتًا، ثم استدار للذهاب بسرعة قبل أن يلمحه أحد، ذهب بفؤادٍ مُعبق بالغضب وضميرًا يُقسم بالانتقام، سيُنظف المشفى من أشباه الأطباء هؤلاء، سيجعلهم ينالون عقابهم، لكن ليس الآن، فلكلِ شيءٍ أوان.
لا تحذر من الأبله، لكن عليك توخي الحذر عِند تعاملك مع الغبي.
إحساسك إيه وأنت مجرم؟

جُملة تفوهت بها روان التي تبتسم باتساع بعد أن استطاعت التسلل ببطئٍ والإقتراب من أحد أفراد العِصابة، استدار لها الرجُل بفزع عِند استماعه لصوتها القريب منه مُوجهًا فوهة سلاحه إلى رأسها، فوجدها تمد له يدها بجهاز المُسجل الخاص بها للاستماع إلى شعوره!

طالعها ببلاهة شديدة خاصةً عندما استطردت حديثها الغبي بحديثٍ آخر أغبى: إيه نوع السلاح اللي حضرتك ماسكه دا؟ وهل برأيك تُجار السلاح المصريين أحلى ولا الأجانب!
رمش بأهدابه عدة مراتٍ بعدمِ فِهم، فاستمع إلى صوت زميله يُناديه مُوبخًا إياه: سيبك منها يا عم دي باينها هبلة.

تصاعدت الدماء إلى رأس روان عقب استماعها إلى إهانته الموجهة لها، لذلك أخفض جهاز التسجيل ثم رفعت إصبع سبابتها ووجهته إلى وجهه وهي ترد عليه بحنق: لو سمحت احترم نفسك أنا مسمحلكش، أنا على فكرة متربية وبنت ناس بس لُقمة العيش مُرة.

تسببت له بالصداع، إذن فلتتحمل ما سيحدث لها، جذب زميله مكانه ليتجاذب الرصاصات بين أفراد الشرطة، ثم ذهب إليها وأحاط بها من عنقها، أطلقت روان صرخة فزعة جذبت الأنظار إليها بما فيهم أفراد العِصابة، فتدخل رئيسهم صارخًا به بغضب: أنت بتعمل إيه يا غبي هتودينا في داهية!
رد عليه الأخير وهو يضع سلاحه على رأسها: هناخدها رهينة عشان محدش يقرب مننا وإحنا بنهرب.

جز على أسنانه بغيظٍ ثم ألقى إليه نظرة مُتوعدة، ساببًا إياه في سِره، هذا الغبي سيُفسد مهمتهم التي أتوا من أجلها، وهي تهريب ابن رب عملهم من الداخل.

وبينما هُم مُنشغلون، استغل مُصعب ذلك وتسلل بروية وهو يختبيء خلف السيارات، وتبعه أخيه حمزة حتى لا يتركه وحده في معركته، وصل إليهم مُصعب ووقف خلفهم مُباشرةً دون أن يشعروا به، وعلى بغتة قام بضرب الرجل المُمسك ب روان على رأسه من الخلف، مما أدى إلى تألمه الشديد والتخفيف من قبضته عليها، فسمح لها ذلك بالهرب والإختباء خلفه بخوف.

انتبه أعضاء العصابة للحركة العنيفة التي تأتي بجانبهم، وكادوا أن يأخذوا ردة فعل مناسبة وتوجيه فوهة أسلحتهم إلى مصعب، لكن سبقهم حمزة وزميل آخر معه وصوبوا أسلحتهم تجاههم مُستعملين عُنصر المفاجئة في الهجوم.
انضم إليهم بقية الضُباط حتى باتوا مُحاصرين تمامًا، وهُنا علموا أنها نهايتهم بالتأكيد.

اقترب مصعب منهم وهو يضع كفه داخل جيب بنطاله، وبتهكمٍ ساخر تشدق باستهزاء: عاملي فيها راجل بروح أمك أنت وهو وجاي تهجم على القسم عادي كدا؟
أيده حمزة الذي أردف بدوره: العشم خَدهم أوي ومفكرين إن دخول الحَمام زي خروجه، دا إحنا الحكومة يالا.
أنهى حديثه ثم رفع مقلتاه للعساكر المُرتصين أمامه، وبعدها أمرهم بنبرة صارمة: خدوهم يابني على جوا، وعايز يتوجب معاهم احلى واجب.

أومأ له العساكر بخضوعٍ ثم فعلوا ما أمرهم به، لكن قبل أن يذهبوا، تحدث مُصعب بسخرية وهو ينظر بطرف عينيه ل روان التي تُتابع ما يحدث بأعين مذهولة: ومتنساش الكُفتة يا عسكري عشان صِحة الضيوف.
يارب. يارب توب عليا من الشغلانة اللي تقصف العُمر دي.

هكذا نبس بادر بحسرة أثناء إمساكه لورقة الإمتحان القابعة بين يديه والتي تعود لأحد طُلابه، مسح على وجهه بغيظ ثم عاد لينظر إلى الإجابات التي كادت أن تُصيبه بالشلل بالمعنى الحرفي، دلف عليه في تلك الأثناء بدير بملامح وجه مُتوترة، ثم تشدق قائلًا:
بقولك إيه يا بادر يا حبيبي، عايزك في خدمة أخوية بحتة.

رفع بادر أنظاره يُطالعه بعينيه العسليتين والتي يغلبها الغضب، ثم تحدث بسخط وهو يقول: لأ مش أخويا ومش عايز أعرفك ولا أعرف حد تاني، سيبني في الهَم اللي أنا فيه بقى.
اقترب منه بدير ثم تسائل بتعجب وهو يجلس أمامه: إيه دا مالك يا شيخ بادر؟ مش عوايدك تبقى متعصب كدا!
حدجه بادر بنظراتٍ مُغتاظة، قبل أن يهتف بصوتٍ غاضب مكتوم: أنا هستقيل من التدريس وهاجي أشتغل معاكم في محل الجِزارة.

ازداد تعجب بدير الذي تسائل بدوره: تستقيل من التدريس؟ دا أنت طول عمرك كنت هتموت وتبقى مُدرس كيميا.
رمى بادر وريقات الإمتحان ثم هتف ساخطًا: أهو كِرهت الكيميا على اللي بيدرس كيميا على اللي عايز يتعلم كيميا على مُدرسين الكيميا كُلهم.

علت ضحكات بدير عاليًا ثم مدَّ كفه ليُربت على ظهره لمواساته، حاول كبت ضحكاته قدر الإمكان لكن نظرات أخيه المُغتاظة التي يرميها إليه تُزيد من عُلوها، دفعه بادر بغل وهو يصرخ به غاضبًا: اطلع يالا برا الأوضة ومتخلينيش أشوف وشك دا تاني.
حاول بدير كتم ضحكاته بصعوبة شديدة، وبالفعل قد نجح، ليجلس مكانه مُجددًا وجذب معه بادر وهو يقول ضاحكًا: تعالى بس وقولي إيه اللي مزعلك!

انحنى بادر بجسده ليجذب ورقة الإمتحان لإحدى الطلاب، ثم اعتدل أثناء قرائته لإحدى الأسئلة المطروحة وإجابتها: جايبلهم سؤال في الإمتحان تتكون سبيكة النيكل كروم من: ، . يقوموا هما مختارين الحديد والألمونيوم! أصوت ولا أشد في شعوري يا ناس!
فكَّر بدير قليلًا في إجابة السؤال، ثم قال مُتعجبًا: أومال هي بتتكون من إيه؟ الحديد والنحاس صح؟

إلى هُنا وكفى، حقًا يكفي غباءًا إلى هذا الحد، دفعه بادر بقوة أسقطته على الأرض وهو يقول بحنق: أخرج برا يالا يا جاموسة.
تأوه بدير بقوة بعد أن سقط على ظهره، فطالعه بغيظ وهو يهمس على أسنانه بألم: تصدق بالله إنك حيوان! أنا غلطان أصلًا إني جاي أضيَّع وقتي مع واحدزيك.
قال جُملته الأخيرة ثم اعتدل من مرقده وهو يستطرد حديثه قائلًا: الحق عليا إني كنت جاي أقولك إن (، ).

قال حديثه المجهول هذا وأنهاه تزامنًا مع فتح بادر لمقلتيه بصدمة ظهرت جلية على وجهه، انتفض من مكانه واتجه نحو بدير راكضًا ليوقفه عن الخروج من الغرفة، وقف أمامه أثناء همسته المُنصدمة: أنت بتتكلم بجد؟ قول إنك بتهزر.
نفى بدير برأسه وهو يرسم على ثُغره ابتسامة واسعة سعيدة، ليلطم بادر على وجهه أثناء صياحه المُولول: يا مصيبتي! أبوك لو عِرف هيطردك وهيطردنا كلنا وهو بيتلكك أصلًا!

قطب بدير ما بين حاجبيه بتعجب، قبل أن يتسائل بعدم فِهم: هيطردنا ليه؟ دا بدل ما يفرحلي؟
طالع بادر غباء شقيقه بقلة حيلة، فأردف بنبرة راجية: بلاش يا بدير تجيب سيرة لأبوك بالموضوع دا الله يكرمك، أماله كلها هتتبخر لو عِرف.
تنغض وجه بدير بضيق وهو يُصيح به بعصبية: هو في إيه بقى! انتوا عايزين تحطموني وتحطموا مستقبلي ليه؟ أنا عمري ما هسامحكم، سامعين! عمري ما هسامحكم.

وتزامنًا مع قوله الأخير خرج من الغرفة، تاركًا بادر ينظر لأثره بتشنج قبل أن يهمس: والله أبوك هو اللي ما هيسامحك، دا إحنا جايين ليه تكفير ذنوب في الدنيا.
استدار لينظر داخل الغرفة مُجددًا، فازداد تشنج وجهه فور وقوع عيناه على أوراق الإمتحان التي تُصيبه بالحرقة، وبحسرةٍ همس قائلًا: أنا اللي أستاهل ضرب الجذمة.
أهرب من آلامي نائمًا، فتأتي هي لتُزين أحلامي.

استيقظ رائف بانزعاج على صوت هاتفه الذي يعلو رنينه يصدح في الأرجاء، فتح عيناه بصعوبة بالغة ثم مسد على وجهه يُزيل أثار نومه، نظر حوله بتيهة لثوانٍ لا تُعد قبل أن ينتبه لمَ عليه، وبعدها التقط هاتفه من على الكومود ليرى اسم المتصل، فوجده يعقوب، ليُجيبه بتحشرج: أيوا يا يعقوب؟
وعلى الفور أتاه صوت يعقوب القائل بما جعله ينتفض من على الفِراش: ولا يا رائف! إلحق سجايرك يالا.

وقف رائف من مضجعه كالملسوع ثم تسائل بقلق: مالها في إيه؟
ليرد عليه يعقوب بأسف وهو ينظر أمامه: مرات أبوها من شوية كانت بتضربها في الشارع، ودخلوا البيت بس صوتهم لسه مسمَّع في الشارع.
انتهى من إخباره وانتظر ردة فعل له، لكن ما جاءه هو الصمت فقط، ليُحاول تحسين الأجواء بقوله الرزين: لو عايزتي أتدخل وأروحلها أساعدها هروح.
وفي تلك اللحظة أتاه صوت رائف المُتحدث بشر: لأ متدخلش، أنا جاي.

قالها ثم أغلق وعيناه تلتمع بوميضٍ غريب يمتزج بين الكُره والشر، نرجس في خطر، وردته الشائكة تُعاني، حسنًا، لن ينام الليلة إلا عندما يُبكي مَن أبكاها، تحدث بخفوت وهو ينظر أمامه بشرود: دا انتوا ليلة أبوكوا سودة النهاردة.
همس بها ثم اتجه نحو خزانته مُسرعًا يلتقط منها ثيابًا عبثية لارتدائها، ثم انطلق مُهرولًا للخارج.

انتظر لدقائق قليلة حتى مرَّ من أمامه أتوبيس مُكدس بالرُكاب، فقفز به وأمسك بإحدى المُعلقات الحديدية لتمنعه من السقوط، ولسوء حظه اصطتدم بامرأة عجوز كبيرة من مظهرها يبدو بأنها تخطت الستون، اعتذر منها بوجوم ظاننًا بأنها ستصمت، لكنها صدمته عندما ارتفع صوتها وهي تصرخ به بسباب: يا حيوان يا قليل الأدب، ما تتقوا الله بقى واعملوا لأخرتكم، بتتحرش بواحدة قد أمك يا سافل؟ هو اللي فينا دا من شوية؟ كله من غضب ربنا علينا.

تشنج وجه رائف باستنكار من كلماتها، ولوهلة ظن أن الحديث ليس له، لكن تثبيتها لأنظارها عليه أكدت له شكوكه، فقرر الرد عليها وهو يُشيح بيده أمام وجهها: أعاكس مين يا حَجة صلي على النبي في قلبك! وبعدين أمي مين دي اللي أنتِ قدها؟ يا شيخة قولي ستي. سِت ستي. ست ست ستي، لكن أمي؟

أطلقت عيني العجوز شررًا وبدأ الجميع من الرجال والنساء بمهاجمة رائف لوقاحته، نفخ بضيق من ثرثرتهم التي لم تُؤثر به ولو واحد بالمئة، لطالما اعتاد على مثل تلك الأحاديث فالأمر عاديًا للغاية، وأخيرًا استمع صوت العجوز وهي تقول بغلظة:
تصدق إن أمك فعلًا مربتكش؟
قرر رائف فِعل حيلة تنجح معه دائمًا لإصماتها، ففجأة تحولت معالم وجهه إلى الحزن المُصطنع ثم قال: أمي الله يرحمها.

توقفت العجوز عن السباب ولانت ملامح وجهها بأسى، وانمحى الوجوم من على محياها تمامًا، طالعته بحزنٍ لبضعة ثوانٍ وبعدها رفعت كفها المُجعد تُربت به على كتفه وهي تقول بحزن: يا حبيبي! ربنا يرحمها ويغفرلها.
ليُردد هو بحزن: اللهم آمين.
شعرت العجوز بالخطأ الفادح الذي افتعلته، لذلك تشدقت باعتذار: متزعلش مني يا حبيبي، أنا بس اتعصبت شوية ومخدتش بالي من اللي بقوله.

ابتسم لها رائف ابتسامة صادقة نابعة من فؤاده تلك المرة، وتحدث مُقررًا تخفيف الإحساس بالذنب عن عاتقها ولو قليلًا: مش زعلان يا طنط، بس أنا فعلًا مكنتش أقصد أخبط فيكِ بالطريقة دي، كنت مستعجل.
ردت عليه العجوز بصفاء: معلش يابني فهمتك غلط.
ولا يهمك.

قالها ثم صمت وهي كذلك صمتت، وبقى الضجيج القادم من بقية الرُكاب، نظر في ساعة معصمه باستعجال، يِريد الوصول إليها في أسرع وقت والتخفيف عنها، لكن هذا الزحام اللعين يمنعه من ذلك.

حوَّل أنظاره إلى امرأة أخرى تقف أمامه بمسافة مُناسبة، صوتها مُرتفع أثناء تحدثها في الهاتف، لكن الشيء الوحيد الذي استمع إليه بوضوح هو قولها المُتعصب: ما خلاص يا مديحة! قولت إني نسيت الزفت وراحة أجيبه بسرعة أهو! طيب اقفلي اقفلي أنا مش ناقصة حرقة دم.
قالت جُملتها الأخيرة ثم أغلقت الهاتف بوجه المُدعوة مديحة، وكعادة رائف الفضولية، استدار لها بكامل جسده ثم تسائل بذكاء: سِلفتك دي صح؟

رفعت المرأة عيناها له تُطالعه بتعجب وهي تقول باستغراب شديد: عِرفت إزاي؟
رفع رائف إحدى حاجبيه قائلًا بدهاء: باين إنك مش طايقاها، أنا أمي برضه كانت مش بتطيق مرات عمي وكانت طيبة زيك كدا، أصل مرات عمي دي ولية مُفترية وميقدرش عليها غير ربنا، بس جَت في يوم وجابت آخرها منها ووقفتها عند حدها لغاية ما بقت تحترمها وتعملها ألف حساب.

انتبهت له السيدة أكثر حتى باتت تستمع له بكل جوارحها، لتتسائل بعدها بلهفة: إزاي؟
بقت باردة.
نطق بها تزامنًا مع تجعد وجه الأخرى باستغراب شديد، ابتسم رائف على ردة فعلها المُتوقعة، فأكد لها أكثر بحديثه وهو يوميء لها: أيون، زي ما سمعتي كدا.
سألته بحترم: طيب ودي هعملها إزاي؟

اعتدل في وقفته بحماسٍ ثم بدأ يشرح لها خطته الذكية: تجاهليها وتجاهلي أوامرها، خوفك منها هيخلي ليها سُلطة عليكِ أكتر، بمعنى أصح متخليهاش تتحكم فيكِ، يعني لو طلبت منك تروحي تجيبي حاجة زي كدا دلوقتي قوليلها ما تروحي أنتِ، أنتِ اتشليتي؟
فتحت المرأة عيناها على آخرهما بذهول قائلة وهي تنفي برأسها على الفور: يا نهار فُحلقي؟ دي تفضحني وتتبلى عليا قُدام حماتي، وحماتي للأسف بتصدقها ومش بتتهاون في الغلط أبدًا.

تحدث قائلًا بدهاء: يبقى إعملي زي أمي، واتغدي بيها قبل ما تتعشى بيكِ.
طالعته بأعين مُنتبهة، فسألها هو: اسمك إيه الأول؟
ردت عليه باختصار: إبتسام.
شرح لها خطته بقوله: بصي يا خالة إبتسام، عامل الناس كما يُعاملونك، يعني خليكِ قوية وجبروت ومتخليش أي حد مهما كانت مكانته إنه يجي عليكِ، اللي يقرفك اقرفيه، اللي يزعلك زعليه، اللي يضايقك ضايقيه، خبطي فيهم ولا يهمك.

كان حديثه مُقنعًا إلى درجة كبيرة وأعطاها حافزًا لتُصبح قوية، لكنها تحدثت بقلة حيلة: المشكلة إن هي مُنافقة ومش بيبان عليها عمايلها.
هو يعلم تمامًا تلك النوعية من البشر بمختلف أشكالهم، أشخاصٌ كالأفاعي، يتلوون حسب المكان المُحيط بهم، خُبثهم مُقرف، ونفاقهم مُنفر، وأشكالهم بريئة، وحديثهم المليء بالحقد مُغلف بحديثهم المعسول.

أكد على حديثها بقوله: المُنافق اللي معرف الناس إنه مُنافق أحسن مليون مرة من المُنافق اللي بيدَّعي المثالية.
لتُكمِل على حديثه ساخرة: والاتنين أنتن من بعض.
ابتسامة مُتهكمة تشكلت على ثُغر كليهما، حديثهما صادق والبشر سيئون، وللأسف لا مفر، واصلت حديثها قائلة باهتمام: المهم قولي دلوقتي أعمل إيه؟
امشي.
إيه؟

نطقت بها باستغراب، ليُعيد كلمته ببساطة: امشي وراجعي بيتك ومتجيبيش ليها اللي عايزاه، الحاجة اللي تحتاجها تروح تجيبها هي لنفسها.
تسائلت بحيرة: طيب لو سألتني عن السبب؟

رد عليها بخبثٍ وهو يقول: قوليلها مقدرتش أروح رجلي وجعتني، هتتخانق وهتزعق اتجاهليها وسيبيها وامشي، لو شتمتك روحي اشتكي لحماتك ولو هي حقانية زي ما بتقولي هتجيبلك حقك، موتيها بحسرتها ومتخليهاش تمسك عليكِ حاجة وخُدي حماتك لصفك دايمًا، أشغالها تعملها بنفسها وأنتِ خليكِ برنسيسة.
اشتعل الإصرار داخل عيني ابتسام وإلتمع وميض غريب فيهما، وبعد ثوانٍ من الصمت نبست بصوتٍ عالٍ مليء بالتحدي: على جنب يسطا.

اتسعت ابتسامة رائف أثناء مُتابعته لها تهبط من الأتوبيس بطاقة رهيبة بثت داخل جسدها، فأشار لها بالسلام وهو يقول بصوتٍ ضاحك: سلام يا خالة إبتسام، ابقي طمنيني عليكِ.
قال جُملته وابتسامته تشق وجهه أكثر بعد أن قذف لها ورقة مُدون بها رقم هاتفه للإتصال به، وبعدها نظر لساعة معصمه فوجد أن ربع ساعة مرت تقريبًا، إذن تبقى خمس دقائق ليصل إلى وردته الجريحة ويُداويها هو.

صادق مَن قال أن عائلتك هي جيشك الوحيد، فمنذ أن علم والده بأمر طرده من العمل وهو محبوس بتلك الغرفة خوفًا من أبيه!
ذِكرى . بت يا ذِكرى ؟ هاتيلي صابع محشي قبل ما أبوكِ يجي يا بت.
هتف بها إلياس بهمسٍ مُناديًا على شقيقته من خلف باب الغُرفة، ليأتيه صوت أبيه المُتحدث بتهكم:
أخرج جيبه أنت يا حبيب أبوك، أخرج ومش هعملك حاجة.

نفى إلياس برأسه وهو يُغمض عيناه بإصرار، ثم تحدث بتبجح غير مقصود: لأ أنت غدار يا رؤوف أنا عارفك.
وبعدها بثوانٍ انتفض مُستمعًا إلى طرق عنيف على باب الغرفة التي يختبيء داخلها، تبعه صوت أبيه الصارخ بغضب: أُخرج يا حيوان يا قليل الأدب، مفكر إن الباب دا هيحميك مني يعني؟ مسيرك هتخرج وهعرفك مين الغدار يا حيوان.

ضرب إلياس على رأسه يلعن غبائه، فتحدث بابتسامة مُتوترة أثناء مُحاولته لحل ما فعله: يوه مش قصدي يا بابا والله، روح بس صلي العصر ربنا يهديك.
ليه شايفني مجنون؟ ماشي. صبرك عليا لما تخرجلي يا إلياس، صبرك عليا يا عاق.
ضجر إلياس من صراخ أبيه عليه، فصاح بعصبية في شقيقته الباردة: يا ذِكرى . أنتِ يا زفتة الطين هاتيلي صباع محشي بتنجان من عندك.

ليتها جالسة أو تعبث، بل وظيفتها الآن تُشبه وظيفة سندريلا تمامًا، تمسح وتُجفف الأرضية السيراميكية بعد أن أزالت الغبار من عليها، سخطت من مُناداته عليها في عِز انشغالها فصرخت به بدورها: سيبوني في حالي بقى! اخرج اطفح أنت وأنا مالي؟

أنهت حديثها ثم حملت وعاء المياه المُتسخة واتجهت به نحو الشرفة وهي تُتمتم بكلماتٍ مُقتضبة غير مفهومة، لكن من المؤكد أنها تسب أحدهم، وضعت الوعاء على سُور الشُرفة واستندت بخدها تنظر للمارة بملل، التمعت عيناها بوميضٍ ماكر مُغلف بالخبث، ستعود كما لو كانت طفلة، ستمرح بمشاغبة، لذلك أمسكت بوعاء المياه ثم قذفت نصفه في الشارع ثم اختبأت مُسرعة.

وقع سطل المياه على أحد الأطفال التي كانت تسير دون هوية، لتستمع بعدها ذِكرى إلى ماسورة من السباب والشتائم انفجرت من فمِ الطفل، وضعت يدها على فاهها تكتم ضحكتها بصعوبة، فعلتها تلك ذكرتها بطفولتها العابثة التي قضتها هُنا، وها هي تُعيد تلك الذكرى.
قررت المُجازفة مرة أخرى لكن أتت إليها شقيقتها رضوى مُقاطعة إياها وهي تتسائل بتعجب: أنتِ بتعملي إيه؟

أجابتها ذِكرى بابتسامة واسعة: بقلب المايه على الناس في الشارع.
ابتسمت رضوى بدورها ثم تشدقت بحماس: الله بجد؟ طب هاتي أجرب.
أعطتها ذِكرى وعاء المياه لتأخذه منها رضوى ثم رمت بضعة قطرات ليست بالكثيرة من الشرفة، لكن لسوء حظها لم تأتي على أحد، نفخت رضوى بغيظ ثم قالت وهي تنظر ل ذِكرى : إشمعنى أنا بقى؟
إشمعنى أنتِ إيه؟

تسائل بها شقيقها بتعجب والذي خرج لتوه من الغرفة، فجعدت رضوى ما بين حاجبيها بضيق ثم بدأت تقص له ما يفعلانه ورغبتهما في إعادة طفولتهما القذرة مُجددًا.
نظر لهما إلياس بضيق ثم أردف بتوبيخ: بس اللي انتوا بتعملوه دا غلط وميصحش.
صمتت الفتاتان لوهلة تنظران إليه بتعجب، منذ متى وشقيقهم مُحترم من الأساس، لكنه قاطع سير أفكارها عندما أمسك بالوعاء ثم قذفه بأكمله في الشارع على المارة.

في تلك الأثناء كان يعقوب يخرج من بنايته مُتجهًا نحو محل الجِزارة الخاص به، ليتفاجأ بسطلٍ من المياه المُتسخة يسقط فوق رأسه بعنف، شهق بعدم تصديق تزامنًا مع شهقة ذِكرى المُنصدمة، فلطمت على وجهها أثناء إختبائها خلف سور الشُرفة وهي تهمس بنبرة باكية:
يا مصيبتي. يا مصيبتي. يا مصيبتي!
وبالأسفل.

رمش يعقوب بأهدابه عدة مراتٍ وكأنه يُحاول استيعاب الأمر! الأمر الذي لجمه لدقائق عِدة مانعًا إياه من التحدث، رفع كفيه ببطئٍ وأزال الماء من على وجهه، وبصراخٍ أفزع السائرين والمارة قال: القميص لسه جديد ياللي ربنا يبتليكم بنصيبة.

تنفست ذِكرى الصعداء عقب استماعها لحديثه، مشكلته الوحيدة هي اتساخ قميصه، زحفت على يديها وقدميها حتى لا تقف ويراها حتى وصلت إلى الداخل، رأتها صفاء التي قضبت جبينها بتعجب وهي تقول: أنتِ اتشليتي ولا إيه؟
اعتدلت ذِكرى ووقفت أمام شقيقتها وهي تتنفس بسرعة، ثم قالت بخوف: إلياس قلب جردل الماية على راس واحد في الشارع.
قالتها ثم أشارت للخلف حيث يقف إلياس، لكنها لم تجده! وكأن الأرض انشقت وابتلعته تمامًا!

هزت صفاء كتفها بلامبالاة وهي تقول: عادي الجو حر.
قالتها ثم اتجهت نحو الداخل مُجددًا وتركتها مع رضوى التي تجلس على الأريكة وتدعي الجهل والبراءة معًا.
طالعتها ذِكرى بتشنج قبل أن تستمع لسؤال رضوى المُهتم: أومال فين جنة مختفية فين؟
دارت ذِكرى بأنظارها بترقب لرؤية المكان من حولها فوجدته خالي، ثم عادت لتنظر إلى شقيقتها التي تحدثها باستغراب، قائلة وهي تغمز لها: راحت السيكو السيكو.

ولم تستمع بعدها سوى إلى صوت رضوى التي ضربت على صدرها بصدمة: يالهوي!
لا يغرنك ذلك الهدوء الظاهر، فخلف تلك الشخصية الهادئة ضجيجٌ عالٍ يصم الأذان، تحديًا يُصيبك بالذهول المُخيف، وشخصية حادة تُغطى بطابع رقيق.

ساحة سباق كبيرة وجوانب مُكدسة بالجماهير، سباقاتٌ وتحدي شرس بين المُتسابقين، أفواهٌ تهتف باسم مشجعيها، ونساءٌ يتهاتفن باسم الشباب، وهُنا. حيث تقف هي ببنطال وجاكيت جلدي أسود لامع، نظراتها الحاقدة الممزوجة بالتحدي التي تُرسلها إلى ابن خالتها الخائن أخفتها خلف خوذتها السوداء الكبيرة، وبعدها قفزت على دراجتها النارية ناظرة أمامها بشراسة مُستعدة للسباق.

إنها هي. جنة رؤوف الجداوي، الفتاة الشرسة المخفية خلف قناع الطفولة البريئة، تم خيانتها وهي هُنا للثأر، ميولها مُختلفة قليلًا عن بقية الفتيات، فعادةً ما تميل إلى سباقات الدراجات النارية والسيارات، تعشق السباق والتحدي، لكنها تعشق الفوز أكثر.

انطلقت صوت صافرة الحَكَم ومعه انطلق المُتسابقون بدراجتهم بسرعة عالية، جميعهم يسعوا للفوز، إلا هي. أتت لرد جزء صغير من كرامتها المهدورة وتضميد روحها الجريحة بذاتها، دون أن تنتظر دوائها من أحد.

كان السباق على أهبة الحماس، زادت هي من استهلاك بنزين دراجتها واقتربت من ابن خالتها أكثر، لم ينتبه لها في البداية، لكنه فزع عندما شعر بضربة قوية كادت أن تؤدي إلى انقلابه، نظر خلفه بفزع فوجدها تُحاول الصدام به، نظر أمامه بخوفٍ وهو يلعن تهورها، فحاول أن يُزيد من سرعته للهرب، لكنها ظلت خلفه قاسمة على عدم تركه اليوم.

الأنثى كالبركان في خموده، يُعطيك دفئًا لا مثيل له، يُشعرك بالأمان طالما أنك حنون، لكن احذر البركان عِند غضبه، فإنه يثور مُتسببًا في إحراق الجميع، وتتحول تلك النيران الدافئة إلى نيرانٍ مُهلكة ستقضي عليك لا محالة.

ظلت جنة خلفه تُلاحقه بسرعة عالية حتى استطاعت أخيرًا الوصول إليه، وبضربتين مُتتاليتين منها وقع على رصيف المضمار تزامنًا مع إرتفاع صوت صرخاته المُتألمة، كان المشهد على مرمى ومسمع الجميع، ورغم ذلك لم تهتم، بل أوقفت دراجتها النارية على جانب مضمار السباق واتجهت إليه بابتسامة شامتة لم يراها بسبب خوذتها.

توقفت أمامه مُباشرةً ثم خلعت الخوذة عن رأسها رامية إياها بجانبه، وبعتابٍ مُصطنع صعد صوتها برقة وهي تقول: مش تاخد بالك يا حازم؟
رفع حازم أنظاره إليها ثم جز على أسنانه ساخطًا وهو يُتمتم بغضب: عملتك دي مش هتعدي بالساهل يا جنة، سامعاني؟

أطلقت جنة صوتًا ساخرًا من بين شفتيها ثم قالت: لأ مش سامعة، أنا مش جاية عشان أضيع وقتي معاك بصراحة، أنا جاية عشان أشوف صحبتي وبنت عمي وعِشرة عُمري وهي هنا معاك، كنت شاكة في الأول بس دلوقتي اتأكدت.

دارت حوله بخُطى رتيبة ولأسفه الشديد لم يستطيع مُقاومة ألم قدمه فأطلق صرخة مُتأوهة أخرى تعكس مُعاناته الداخلية، لتتسع ابتسامتها أكثر وهي تقول بكلماتٍ ذات مغزى: وزي ما تقول كدا حلة ولقت غطاها، وخيانتك ليا معاها هي دلوقتي بتعمل زيه بالمللي، بس عارف مع مين؟ مع أخوك. فادي.
طالعها بعدم تصديق ثم صرخ بها باهتياج: كدابة، أنا عارف إنك كدابة وعايزة توقعي ما بينا، بس أنا مش هسيبلك فرصة تعملي كدا.

هزت جنة كتفها بلامبالاة وهي تقول بشفقة مصطنعة: براحتك، أنا بس عملت حساب للعيش والملح اللي ما بينا وجيت أحذرك.
صمتت ثم اقتربت منه خطوتين هامسة له بشر: بس بطريقة مختلفة شوية.

أنهت حديثها ثم استدارت وخطت بثقة، تاركة إياه يُفكر في حديثها الذي شغل خلايا عقله بأكملها، استدار للجانب عندما استمع إلى صوت تالين تهتف اسمه بقلق، وحين وصولها إليها انحنت قليلًا وهي تسأله: عملت فيك إيه الحقيرة دي؟ وكانت بتقولك إيه دا كله؟
نظر إليها حازم بصمتٍ لعدة ثواني قبل أن يهمس بشرود: مفيش. مفيش.

تجمع الجميع بعد أن ارتدوا ثيابهم، تجهزوا على أن الاستعداد وانتظروا قليلًا حتى ينتهي أبيهم، استدارت رضوى لوالدتها ثم تسائلت بتعب: وهو إحنا لازم نزورهم يا ماما؟ إحنا لسه مخلصين الشقة وطالع عينينا.
عاتبتها نعيمة بهدوء: عيب يا رضوى، الحَج هارون متأخرش في مساعدتنا لازم نوجب معاه على الأقل ونزوره هو وعيلته.
تركت ذِكرى هذا الحديث الدائر بين نعيمة ورضوى ومالت على جنة وهي تسألها بهمس: عملتي إيه؟

ردت عليها جنة بهمسٍ مُماثل لها: هحكيلك بس بالليل مش دلوقتي.
أومأت لها ذِكرى فأكدت عليها بقولها الصارم: بس هتحكيلي كل حاجة بالتفصيل، تفصيلة تفصيلة.
ضحكت جنة بخفة ثم هزت رأسها بنعم، فشهقت كلتاهما بفزع عندما وجدتا رأس إلياس ينتصف رأسهم وهو يهمس مثلهم تمامًا: بتقولوا إيه؟
وضعت ذِكرى يدها على صدرها موضع قلبها لتُخفض من ضرباتها، ثم دفعته للخلف بغضب وهي تهتف حانقة: يا شيخ عامل زي الطور قطعتلي الخَلف.

شعرت بعدها بصفعة تهبط على رقبتها من الخلف، تلاه صوت أخيها الحانق قائلًا: احترميني أنا أخوكِ الكبير يا جليلة الحيا.
وجهت له ذِكرى نظرات نارية غاضبة، وبالطبع تجاهلها مُستديرًا إلى جنة مُتحدثًا بلين: رِجلك عاملة إيه يا جنتي؟
ردت عليه جنة بحنو: الحمد لله يا حبيبي كويسة.

ردد إلياس خلفها الحمد واستداروا جميعًا جهة أبيهم الذي خرج لتوه من الغرفة، ثم ساروا خلفه إلى الخارج متجهين إلى منزل الحاج هارون، ها قد حان وقت المُقابلة الشرسة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة