قصص و روايات - قصص خيال علمي :

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثامن

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثامن

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثامن

المكان: كوكب كيبلر.

فتح جون عينيه وقد بدت الرؤية مشوشة أمامه، أغلق عينيه مجددًا ثم فتحهما فظهرت الرؤية أكثر وضوحًا «سقفٌ رمادي مهترئ». عقد حاجبيه باستغراب، كان يجهل أين هو بالضبط. حاول النهوض لتفحص المكان حوله ولكنه لم ينجح في المرة الأولى فقد أحس بثقل جسمه وصعوبة شديدة بالنهوض. كان جسده متآكلًا من التعب حتى شعر بأنه عاجزٌ عن النهوض ولكن مرةً تلو الأخرى من محاولات مستمرة حتى استطاع استجماع قوته ومن ثم النهوض. كان مستلقيًا على الأرضية وعلى شماله حائط مهترئ.

حرك وجهه إلى جهة اليمن فشاهد قضبانًا حديدية صدئة أمامه. أحس بالدوار بمجرد محاولته لتذكر ما حصل معه، كان يجهل تمامًا سبب وجوده هنا في سجن مظلم. كان يرى انعكاس الشمس على القضبان أمامه، فأدار وجهه باحثًا عن مصدر الضوء حتى رفع رأسه فلمح طاقةً صغيرة عبر الضوء من خلالها. بعد فترة من محاولته جمع ذكرياته المشتتة محاولًا الوصول إلى طرف الخيط فقط وفجأة لمع في ذهنه سؤال واحد أيقظه من ضياعه وبفزع تذكر.

«أين الطفلة؟».

وضع كفه على جبينه محاولًا تخفيف الصداع القوي الذي داهمه بينما كان يحاول استخدام كل قدرات عقله لتذكر ما حصل. تذكر آخر ما حصل معه عندما اصطدمت مركبته فكان يعرف أن هذه المركبة تفقد سيطرتها عند الهبوط لأنها لم تكن مهيئة كما يجب ولكن هل يا ترى مركبة مادلين تعرضت لحادث أيضًا؟ بدأ القلق يتسلل إلى عقله من كل النواحي، على ماذا يقلق؟ أيقلق على مادلين أم على الطفلة أم على مصيره المجهول وراء قضبان هذا السجن المظلم؟ لم يفكر جديًا بالخطوة القادمة بعد وصوله إلى كوكب كيبلر ولكن هل يضع الفشل والموت على رأس قائمة توقعاته؟

«مولاي، هناك قضيةٌ مستعجلة». قال أحد الخدم حانيًا رقبته إلى الأسفل احترامًا للرجل الجالس على عرشه الضخم أمامه. رجلٌ في العقد الرابع من عمره ذو بشرةٍ بيضاء وشعرٍ بني داكن ولحيةٍ تتخللها بعض الشعيرات البيضاء.
حدق بالخادم الواقف بنظرات سخط ثم قال:
- «ماذا؟ ألم ينتهِ هذا اليوم ومشاكله بعد؟».

- «آسف مولاي ولكن الموضوع مهم وإن أجلته فستعنفني في ما بعد». قال الخادم محاولًا تخليص نفسه من هذه المسؤولية.

«حسنًا، ماذا حدث؟». أجابه متأففًا وهو يسند رأسه إلى يده.
«مولاي الحراس يقفون خارجًا ينتظرون إذنك بالدخول».

«دعهم يدخلون». قال بعد أن تنهد بانزعاج.
دخل اثنان من الحرس برفقة امرأة في منتصف العشرينات. لم تكن ملامح وجهها واضحة فقد تعرضت للضرب وكانت بالكاد تستقيم على قدميها من شدة ما تعرضت له من ضرب مبرح.

«ما بالها هذه المرأة ثانيةً؟». صرخ بغضب.
«مولاي لقد جلبها زوجها إلى هنا على عجل وقد طلب أن تحاكمها أنت بنفسك». قال أحد الحرس.

«وهل أنا متفرغ لمشاكله المستمرة مع زوجته؟ أخرجوها من هنا ليس لدي وقت». عقد حاجبيه بغضب وقد تردد صدى صوته في أرجاء قصره الضخم.
«لقد ارتكبت ذنبًا لا يغفر مولاي». قال الحارس.

زفر الجالس على عرشه الفخم بنفاذ صبر ثم أردف بغضب: «قل بسرعة ما عندك ليس لدي وقت أضيعه».

«مولاي لقد قال زوجها بأنها أقرت بكون ولدها ذي الست سنوات ليس بولده الحقيقي وهو بحالة انهيار ولولا أن خلصها جموع من الرجال للفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه». قال الحارس حانيًا رأسه احترامًا.
انتفض فور سماعه لجملة الحارس وفتح عينيه على مصراعيها مدركا عظمة ما اقترفته تلك المرأة الماثلة أمامه على بعد أميال قليلة.

«هل هذا صحيح يا هذه؟ أم أنك تحاولين استفزاز زوجك لا أكثر». قال محاولًا الحفاظ على نبرة صوته الهادئة.
«لقد سئمت من هذا الذل الذي أعيشه بينكم، بين حكومة ذكورية لا تعطي الأنثى أي حقوقٍ بل تضطهدها وتنفي حقوقها. لقد سلبت الكثير ولم يبق لدي ما أضحي من أجله حتى ولدي هو الآخر لم يسلم من شروركم. افعلوا ما تشاؤون بي لم يعد يهمني». صرخت بصوت مبحوح من كثرة البكاء والنحيب.

نظر إليها متعجبًا من جرأتها ووقاحتها في آن واحد، كيف تجرأت على رفع صوتها في حضرته وهي على خطأ؟ احمر وجهه من شدة الغضب وشعر ببركان داخله على وشك الانفجار حتى استقام بهدوء ومشى يجر ردائه الأحمر الطويل ورائه. تقدم نحوها وهمس لها بكلمات بالكاد استطاعت سماعها: «كيف تجرؤين على رفع صوتك في حضرتي؟».
هذا ما همس لها به ثم جاءتها منه صفعةٌ قوية أطرحتها أرضًا.

«سأجعلك عبرةً لمن لا يعتبر ولكن قبل أن أمسح بك كل بلاطةٍ من بلاط عرشي وقصري الضخم أريد معرفة من والد هذا الطفل؟». قال لها بغضب عارم.
كانت تتحسس منطقة الصفعة بألم وقد عادت الدموع تنهمر من عينيها وهي عاجزةٌ عن إجابته ولكن الواقف أمامها لم يتردد بالانحناء وسحبها من شعرها الطويل لتستقيم أمامه متألمة.

«قولي قبل أن انهي حياتك حالًا». قال مكشرًا بغضب وحقد.
تلقت الكلمات بكل برود دون اعتبارٍ لتهديداته فالموت لم يعد يخيفها أبدًا لتقول له غير مبالية:
«افعل ما تشاء فالواقفة أمامك لا تخاف من شيء».
اشتد غضبه حتى استعاد هدوءه فهمس لها:.

«لا يا عزيزتي لن أقتلك بسهولة سأقتل ولدك الذي لم تخافي على مصيره أمام عينيك ثم أدعك تعيشين بالذل لتتذوقي مرارة كل يوم حتى يجيئك الموت على قدميه». قال وابتسامة تعلو ملامحه ثم أردف: «لن تصلي إلى الموت عزيزتي لا تخافي سأحميك منه».

سالت دموعها على وجنتيها بألم وحرقة وقبل أن يطرح عليها السؤال نفسه مجددًا تعالت أصوات طرقات الباب في أرجاء الحجرة الضخمة. حرك رأسه آمرًا الحراس بأن يفتحوا البوابة حتى ظهر من ورائها الخادم نفسه.

«مولاي لقد أفاق الغريب وقد أحضره الحراس كما أمرت». قال الخادم منتظرًا أوامر جوزيف.

«دعهم يدخلون». أجابه على الفور بينما حرر شعر المرأة من بين يديه ثم قال لها متوعدًا: «لم ينت حسابك بعد لكن كوني واثقة بكوني سأجعلك تندمين على كل أفعالك الشنيعة».

ما هي إلا دقائق قليلة حتى دخل حارسان برفقة جون.

«أهلًا بالغريب». ضحك الإمبراطور جوزيف ساخرًا بينما حدق به جون باستغراب.

قاطع ذلك اللقاء صوت المرأة التي كانت تنظر نحو جون كأنها وجدت ضالتها فأردفت قائلةً: «إنه هو. ذلك الرجل، إنه جون».

نظر جون نحو الصوت الذي نطق اسمه، كان مألوفًا له، حدق بالواقفة أمامه فميز ملامحها الحقيقية وراء الضرب المدمي الذي تعرضت له ثم همس بصوت خافت: «إلين».

ابتسم الإمبراطور جوزيف ثم قال بلهجةٍ ساخرة: «أخيرًا اجتمع الأحبة».

حدق بها جون باستنكار، لقد حضر إلى قدره بنفسه ولكنه حاول الإنكار بينما قاطعه جوزيف بسؤاله لإيلين: «هذا هو والد ابنك؟». فهزت رأسها موافقة.

حدق بها بنظرات ترجي طالبًا منها التراجع عما قالته لعله ينجو من تلك المصيبة ولكنها بقيت مصرة على ما قالته كأنها تجعله يدفع ثمن تخليه مجبرًا عنها.

«أنت هو والد ابنها إذًا، هل عدت إلى مصيرك بقدميك؟ أم أن الشوق قتلك لرؤية حبيبتك وابنك؟ وتصورت بتفكيرك الساذج أنك ستجدهم ينتظرونك وسيقيمان الأفراح عند عودتك». قال ساخرًا وقبل أن يجيب على أسألته الساخرة أردف مكملًا: «ولكننا قمنا بالواجب وأحضرنا حبيبتك لاستقبالك». ضحك بهستيرية ساخرًا من جون.

«هذا كذب أنا لا أعرف هذه المرأة ولا أعرف عن ماذا تتحدث». قال جون متوترًا محاولًا إنكار ما وقع به من مصيبة.

«انظر إلى جيدًا ألا تعرف من أنا، إن لم تتعرف على وجهي المشوه أفلا تذكر نبرة صوتي التي ادعيت أنك لن تنساها مهما تقدمت السنين. أنا التي تزوجتها قبل أن يتم ترحيلي إلى كوكب جليزا بأربعة شهور وقد كنت أتأمل بالخلاص من تلك المصيبة وطلبت منك الاعتراف للسيدة فيكتوريا بأمر زواجنا ولكنك طلقتني وتخليت عني حينئذٍ».

«لا أذكرك ولا أعرفك، ألم تجدي غيري لتوقعي عليه مصائبك». قال لها بغضب محاولًا نفي هذه العلاقة.

«أراك جيدًا وأنت تتحدى الجميع ليفوز حبنا، هل نسيت كلماتك؟ أم ظننتني لعبةٌ تتسلى بها؟ ثم تلقي كلماتك الساذجة لي في عرض البحر وتدعي عدم معرفتي. إذا كنت نسيتني فأنا حفظت ملامحك بحذافيرها ولن أخطأ أبدًا بالتعرف عليك». قالت له لتجعله يدخل دوامته من جديد، لم يكن يحبها يومًا ولكنها أحبته ورضخ لحبها بسهولة وقبل الزواج منها والآن يدفع الثمن غاليًا. هي من كذبت عليه وأخفت أمر اختيارها للرحيل إلى كوكب كيبلر، كانت تحاول الخلاص بأي طريقة ولكنه طلقها ثم اختفى حتى لا تصرح بأمر زواجهم.

«لقد سمعت ما يكفي منك». قال جوزيف موجههًا نظراته الساخرة إلى إلين ثم أردف آمرًا حرسه: «خذوها وضعوها في أظلم سجون القصر حيث لا يصل لها ضوء الشمس حتى، كنت لأرسلك إلى كوكب جليزا لتلقي عقابك هناك ولكن لا ففكتوريا ستتهاون معك من أجل صورتها العامة أما أنا لا أكترث أبدًا وسأجعلك عبرةً للجميع».

جرها حارسان من ذراعيها وسط مقاومتها وصراخها باسم جون محاولةً أن تحرك شيئا داخله نحوها عساه ينقذها من مستقبلها الأسود ولكن ماذا تنتظر؟ أن يقف أمام شخصٍ جبار كجوزيف باسم الحب الذي طالما أحست بسخف هذه الكلمة بالنسبة له وقد خدعت نفسها بأنه يبادلها مشاعرًا كمشاعرها، ولكن هل مشاعرها حقًا هي السبب وراء زواجها به؟ هي تعرف في قرارة نفسها بأنها تزوجته في المقام الأول للخلاص ولكنها كانت غبية حقًا.

أحس جون بحرقة وألم فمهما كانت مشاعره نحوها مصطنعة جدًا فقد أنبه ضميره على ما آلت إليه بسبب رضوخه لحبها والذي جعلها تصدق بأنه سيكون الفارس الذي ينقذها.

فتح الباب فجأة فأطلت من ورائه شابةٌ جميلة جدًا بفستان وردي مزركش وشعر كستنائي منسدل ولكن لم تأخذ تلك الشابة الكثير من وقته في التحديق بها حتى تعرف عليها من فوره فاتسعت حدقتا عينيه بصدمة كبيرة. همس لنفسه: «إنها هي، لا شك في هذا». لا شك أنها إليزا، وكيف يخطئ وهي تحمل ملامح شقيقها البريئة والجميلة في آن واحد؟ إنها هي إليزا شقيقة إدوارد، ولكن كيف لم يجدها عندما قصد كوكب كيبلر باحثًا عنها؟ كيف يجدها وهي تعيش مع إمبراطور هذا الكوكب؟ وهذا الشيء لم يخطر بباله أبدًا.

«عزيزي جوزيف، ما بال تلك المرأة من جديد؟». قالت بعد أن رفعت عينيها نحو الواقف أمامها.

اقترب منها مسحورًا بجمالها ثم قال:
«لا تشغلي بالك جميلتي مواضيع تافهة لا تستحق أن تأخذ من تفكيرك حيزًا ولو كان صغيرًا».

كان المشهد بالنسبة لجون مقززًا، أهذا ما كانت إليزا تطمح أن تصل إليه بعد أن هجرت أخاها الذي كاد يجن بعد غيابها؟

حول جوزيف نظره نحو جون الذي ما زال يحدق بهما ثم قال ساخرًا:
«أما أنت يا ضيفي العزيز فسأرسلك إلى كوكب جليزا مجددًا فيبدو أن فيكتوريا تريد أن تصفي حسابها معك خاصةً بأنها لن تضطر للتهاون معك».

«أين الطفلة التي كانت معي على المركبة؟». سأله متجاهلًا تهديداته.

نظرت إليزا نحو صاحب الصوت الواقف خلفها فهي لم تلحظ وجوده عند دخولها وقد صعقت من هول الصدمة عندما تعرفت على ملامح الشخص. كانت رد فعلها مشابهة لرد فعل جون عندما رآها وعرف من تكون. حولت نظرها عنه متجاهلةً وجوده فلم ترد فضح نفسها.

«لا أريد أن أناقشك في هذه اللحظة فأنت تفسد لحظات سعادتي فلقد ظهر القمر في وضح النهار ولا أستطيع تضيع الفرصة». قال بينما كان نظره ثابتًا على الجميلة الواقفة أمامه كالمسحور.

«أعيدوه من حيث جلبتموه فلدي مشاغل الآن، فيما بعد سأفكر بأمره».

فتح جون عينيه في الظلام الدامس وقد شعر بحركة قريبة، لم ينم حقًا ولكنه اكتفى بإغماض عينيه محاولًا أن يستمد قليلًا من الطاقة وأن يحصل على قدرٍ بسيط من الراحة. طرقات خافتة على الدرج الحجري في السجن، هذا ما سمعه وظن أنها مجرد تهيُّأت. نهض يطالع الجزء الظاهر من الدرج الحجري اللولبي وقد صار الصوت أقرب إليه. لمح ضوءًا وظلًا على الحائط يظهر أكثر مع اقتراب الصوت وقد تيقن أنه لا يتخيل. وما هي إلا دقائق حتى اقترب صاحب الظل أكثر ووضحت الصورة أمامه «إنها إليزا». صدم لرؤيتها أمامه فلم يتوقع قدومها. ربما جاءت لتعقد صفقةً معه حتى لا يفضحها. كانت ترتدي الفستان ذاته بالإطلالة ذاتها ومع كل خطوةٍ تقترب بها منه كانت أفكاره تتزايد.

اقتربت من القضبان الحديدية ثم أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تهيئ نفسها لدخول مناقشةٍ حادة.

«لماذا جئت جون؟» قالت وكانت نبرة صوتها تحمل شيئًا من العتاب.

«سؤال مهمٌ حقًا» علق ساخراَ وداخله يحترق ألمًا وغضبًا، مشاعر كثيرة راودته مع سؤالها.

«جون لقد اخترت طريقي وسأعيش حياتي كما أتمنى كما اخترت أنت وشقيقي طريقكما». صمتت قليلًا ولم يجبها فقد كان غارقًا في بحر أفكاره المظلمة حتى قطعت هذا الصمت مكملة: «كيف أمكنك فعل هذا؟ وهل أنت مجنون لتعود من جديد لتلقى نهايتك مع فضيحة تلك المرأة؟ هل هذا ما اخترته لنفسك؟».

رفع نظره نحوها وقد عقد حاجبيه باستنكار ثم أجابها ساخرًا:
«أحقًا تسألين! وأنت ماذا اخترت لنفسك؟ أن تكوني فاتنة جمال فارس أحلامك عديم الرحمة ذاك، هل هذا حقًا ما كنت تطمحين إليه؟ لا أصدق حقًا».

عجزت عن الرد عليه فقد كان محقًا بما قاله ولكن كبريائها يجعلها دائمًا ترفض الاعتراف بخطئها ولا تجيد جلد نفسها بعبارات تشكك باختيارها فهي لم تختر أبدًا أن تقف ضد نفسها. لم تكن هذه أحلامها الحقيقية وطموحاتها بل عنادها وحده أوصلها إلى ما وصلت إليه فمن أجل رفضها الحياة على كوكب جليزا كانت المرارة بانتظارها على كوكب كيبلر. اضطرت إلى الاحتيال على جوزيف وجعله يتزوجها فقط تحت إلحاحها المستمر ولكن هذا لا ينفي أنها ما زالت بالنسبة له مجرد لعبة يرميها في أي لحظة حين يسأم منها.

حاولت جاهدة أن تغير الموضوع وللحظة تذكرت شقيقها إدوارد، ترى كيف حاله بعد أن تركته؟ كانت تريد أن تعرف ما وصل إليه بعد سنة من مغادرتها وكانت تتوق حقًا لرؤيته، أردفت بتردد:
«كيف حال إدوارد؟». تعرف تمامًا أن سؤالها ساذج جدًا فقد مرت أيامٌ وأشهر منذ مغادرتها ولم تحاول مرةً التحري عن أخباره مستغلةً مركزها.

حدق بها جون وقد ارتجفت حدقتا عينيه البنيتين، لم يتمنى أن تصل إلى هذا السؤال. كانت الحيرة داءه في تلك اللحظة فلم يعرف ماذا يتصرف، هل يخبرها أم لا؟

بعد أن شعرت بأن صمته قد طال عقدت حاجبيها باستغراب ثم سألته:
«هل تشاجرتما مجددًا؟ في كل مرة تمارسان هذه الحركات الطفولية».

ارتجف عند سماع كلماتها وقد عاودته ذكريات مشاجرتهما الطفولية، ليتهما كانا متشاجرين حقًا ولكن لم يكن الأمر بهذه البساطة. نظر نحوها بعينيه الحزينتين لتشعر بانقباض قلبها وتسلل الشكوك والتوتر إلى قلبها.

«جون تكلم سكوتك يقتلني». قالت له بنبرة صوت مرتجفة ثم مدت ذراعها النحيلة عبر القضبان الحديدية لتضع كفها على كتفه محاولةً حثه على الكلام.

وجد ألا مهرب من الحقيقة وأن من واجبه إخبارها بالواقع دون كذب، فإلى متى ستبقى جاهلةً بما حدث لشقيقها؟

رفع نظره نحوها بملامح حزينة وقال: «شقيقك إدوارد». صمت قليلًا وعيناها المتسعة تناظره بتوتر فأردف متلعثمًا: «توفي منذ حوالي أسبوع».

كانت الكلمات الأخيرة تكفي لجعلها واقفةً كالصنم من غير أن تحرك ساكنًا، كانت فقط عيناها تتحدث بما أصاب قلبها من حزن ولكنها ابتسمت بعينيها الدامعتين ثم قالت:
«جون أنت تقول هذا لتشعرني بالذنب صحيح؟ إدوارد بخير ولكنه غاضبٌ مني». صمتت باحثةً عن إجابةٍ وراء عيني جون الدامعتين.

«قل أي شيء ولكن لا تقل هذا أرجوك سأفعل ما تريد سأعود معك الآن لأطلب العفو من إدوارد إنه طيب لا تقلق سيقبل اعتذاري بسرعة». قالت بنبرة باكية وصوت مبحوح ولكنه لم يجبها ما جعلها تنهار أمامه واضعةً كفيها على وجهها.

«أرجوك لا تقل هذا، جون أرجوك». صرخت باكية ثم أتبعت ناظرةً إليه وقد سالت كحلة عينيها السوداء: «لا تمزح معي، لا تفعل هذا لتجعلني أعترف بخطأي. سأعترف ولكن اسحب كلامك أرجوك». كانت تترجاه بنبرة صوتها ونظرات عينيها المتورمتين.

«ليتها كانت مزحة أو كما ذكرتِ». قال لها هذه الكلمات مكتفيًا بها وقد كانت كافيةً جدًا لتجعلها تصدق أن شقيقها، صديقها، والدها وكل شيء في حياتها رحل للأبد بلا عودة.

«إليزا». همس لها محاولًا إخراجها من حالتها ولكنها لم ترفع نظرها نحوه إلا عندما انتبهت لهمساته كانت تظن أنه سيسحب ما قاله. طالعته منتظرةً سماع ما لديه ولكن قبل أن تسمع ما لديه رأت اتساع عينيه فجأة وخطواته المتراجعة ثم دوى صوت الرصاص ليحدث صدى قوي في أرجاء السجن المظلم. نظرت إليزا إلى جون وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة غير مصدقة ثم صرخت برعب: «جون». التفتت خلفها لتعرف مصدر الرصاصة فوجدت جوزيف بقامته الطويلة يطالعها بنظرات مرعبة فتجاهلته وبدأت تشد القضبان الحديدية بكفيها بجنون وهي تصرخ بصوت مبحوح: «جون، جون لا ترحل أرجوك. هل تسمعني؟».

كان جون يلفظ أنفاسه الأخيرة وألم قوي داهمه، حاول بكل جهده مستغلًا كل طاقةٍ متبقية في جسده المنهك أن يجيب إليزا ولكنه لم يستطع. هناك شيءُ مهمُ يجب أن يقوله لها، كلمات يجيب أن ينطقها مهما كلفه الأمر. من بين صراخها سمعت همساته الأخيرة: «إدوارد، الطفلة». لم تكن تلك الكلمتان كافيتان لجعلها تفهم ما قصده تمامًا.

«هل ظننتني غبيا لهذه الدرجة؟». قال جوزيف مبتسمًا.

طالعته الجالسة أمامه بعينين متورمتين من شدة البكاء فبعد إطلاقه الرصاص على جون وطرحه قتيلًا ويتركها تواجه غضب جوزيف وحدها. كان كالمجنون بعد كشفها مع جون في منتصف الليل معتقدًا أن هناك علاقة بينهما وأنها خدعته طوال الوقت فقد أثرت عليه قصة إلين. جرها من شعرها في أرجاء القصر تحت أنظار كل كبيرٍ وصغير، أذلها كثيرًا ولم يترك في جسدها جزءا سليما من الضرب والكدمات.

«أنت غبي جدًا لأنك ظننت هذه الظنون الباطلة». صرخت في وجهه بغضب.

نظر نحوها ببرود وهدأ فجأة فأدار جسده بعيدًا. تنهدت إليزا لتشعر ببعض الراحة ولكنها لم تكن لتصدق بأن الأمر سيمر بهذه البساطة وما هي إلا دقائق معدودة حتى عاد ليقف أمامها بجنون وأنفاسه المتسارعة تنم عن غضبه الجنوني. أحاط رقبتها النحيلة بيده الضخمة فأحست بالاختناق كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.

«كيف تجرؤين على الصراخ في حضرتي؟». صرخ في وجهها وحدقت بعينيه الحمراوتين بخوف شديد فأردف مكملًا «أنتن النساء تتجرأن على الصراخ في وجهي ولكن لا تقلقن فمن يصرخ لن يهرب من عقابه أبدًا».

شد على رقبتها أكثر وكانت تشعر بأنها تعيش لحظاتها الأخيرة تحت صراخه وصوته الذي كرهته كثيرًا أصبح كابوسًا مزعجًا بالنسبة لها.

«نظراته لك ونظراتك له فضحتك يا غبية وظننت أنني أحمق لا ألحظ المياه التي تجري من تحتي دون علمي، هل كنت حمقاء لهذه الدرجة؟».

سالت دموعها وأغمضت عيناها محاولةً التخفيف من ألمها، تمنت حينئذٍ لو أنها ماتت بين يديه حقًا.

حدق بها بغضب وقد كانت هادئةً بين يديه دون أن تحرك ساكنًا فحرر رقبتها من قبضته. وضعت كفها على صدرها وحاولت أن تأخذ نفسًا عميقًا لتعوض عن الأوكسجين الذي فقدته ولكنها دخلت بنوبة بكاء مفاجأة فتلاحمت مع محاولتها للتنفس. لم يلتئم بعد جرحها السابق فلم تستطع تحمل آلام جديدة.

«قبل أن تتعلمي البكاء تعلمي أن لا تلعبي كالأفعى من وراء زوجك». قال لها بنبرة قاسية ثم أردف: «أكرمتك وخضعت لطلبك بالزواج بفترة قصيرة رغم أنك أتيتِ من حيث لا أدري، أهكذا تعضين اليد التي مدت إليك؟».

نظرت نحوه بعيون دامعة وقد شوشت الدموع في عينيها الرؤية أمامها.

«علاقتي مع جون ليس كما تظن». صرخت بصوت مبحوح ثم أردفت: «إنه صديق أخي وقد ذهبت إليه لأسأل عن حال شقيقي».

نظرت إليه قبل أن تكمل لتفسر تعابير وجهه ولكن كان البرود هو ما اكتسى ملامحه فأكملت:
«ولكنه أخبرني أن شقيقي قد توفي منذ فترة قصيرة». قالت وقد عاودتها نوبة البكاء ذاتها، اقترب منها بخطوات مثقلة بينما تصاعدت ضربات قلبها مع كل خطوة، وقف أمامها ثم انحنى نحوها ليرفع وجهها نحوه ثم قال بنبرة خافتة: «هل تحاولين تلفيق الأكاذيب لتنجي نفسك من العقاب؟».

طالعت بريق عينيه الزرقاوين بيأس فمن الصعب أن يصدقها.

«أقسم لك أنه كذلك لهذا السبب عندما جئت كنت أبكي بجنون».

حدق بعينيها محاولًا أن يقدر مصداقية كلامها من عينيها. كانت نظراتها صادقةً له فقد اكتسب خبرات كثيرة جعلته يعرف إن كان الشخص الذي أمامه صادقٌ أم كاذب ومع هذا لم يشأ أن يبرئها قبل أن يتأكد.

«لم تخبريني من قبل عن شقيقك». سألها بخبث.

تلعثمت قليلًا فقد أصبحت تخاف أن تورط نفسها أكثر ثم قالت بنبرة شبه ثابتة:
«لم يأت وقت مناسب لأخبرك وكنت أحاول نسيانه لأني أعرف أنه كرهني عندما هجرته وأتيت هنا».

مد يده إلى جانب خصره وسحب خنجره الحاد فاتسعت عيناها بخوف وشهقت برعب وتسارعت ضربات قلبها مع خطواته. ظنت بأنها تشهد لحظاتها الأخيرة وما هي إلا ثوان حتى مدد خنجره الحاد أمام رقبتها المرتجفة. شعرت بأنفاسه المتصاعدة تلفح وجهها، أغلقت عينيها وجفونها ترتجف ثم نطقت بصوت مبحوح وأوتار صوتها ترتجف ونبرتها خافتة:
«أقسم أنني لا أكذب». أجهشت بالبكاء الحاد.

كان يطالع ملامحها بكل تفاصيلها ولكن كانت الكدمات والجروح التي سببها لها قد أخفت جاذبها وملامحها الفاتنة ومع هذا ما زالت جميلة. رغم أنه قابل وتزوج الكثير من النساء ولكنها كانت تجذبه على نحوٍ خاص، كانت مختلفة وجذابة بالنسبة له ولكن لم تكن مشاعره لتمنعه عن عقاب من يخطأ بحقه، كان عقله وحده من يحكمه ولا مجال لقلبه بأن يسيطر عليه.

ظل هكذا لفترة طويلة يراقبها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة رويدًا رويدًا جراء الانتظار المميت ونظراته لها زادت من وضعها سوءا. أغمضت عيناها وشهقت تبكي بألم فسحب الخنجر من أمامها وجلس القرفصاء. فتحت عيناها وراقبت الخنجر الذي قربه من قدميها، حبست أنفاسها يخوف ثم عادت لتغلق عينيها. مرر الخنجر بين قدميها فأحست به ولكنها لم تتحرك فقطع الحبال الذي يقيد قدميها. فتحت عيناها ونظرت إليه باستغراب غير مصدقة ثم وقف وانحنى يقرب الخنجر من تحت كتفيها بقليل مكان الحبل فقطعه. وقف خلفها يقطع الحبل الذي يقيد معصميها. شعرت بشعور لا يوصف شعور الحرية الذي تحبه وهو يفك القيود عنها رغم استغرابها وعدم ارتياحها لم تسمح لتلك الهواجس بأن تفسد ذلك الشعور.

عاد ليقف أمامها وقد لمح نظرات السعادة وعدم التصديق في آن واحد في عينيها فقال ليوقظها من أفكارها:
«حررتك الآن ولكن لن تعود الأمور كما كانت قبل أن أتأكد من كل شيء وحتى ذلك الحين ستبقين في غرفتك تحت المراقبة وستخضعين لجميع أوامري دون اعتراض».

«سأرسل خادمةً وممرضة ليساعداك على تضميد جراحك وتغيير ملابسك ثم الذهاب إلى غرفتك لا أريد المزيد من الفضائح».

قال جملته الأخيرة ثم أدار وجهه راحلًا ولكن إليزا قاطعته دون تفكير:
«جوزيف». نطقت اسمه بتسرع راضخةً لما يحتل أفكارها.

التفت نحوها مستغربًا من جرأتها على مناداته باسمه كأن شيئًا لم يكن، هل ظنت بأنه سيعود ليعاملها كالسابق لمجرد أنه منحها حريتها؟

طالت نظراته نحوها دون أن يسألها عن سبب مناداتها له فعزمت على المجازفة والسؤال.

«ماذا ستفعل بالطفلة؟».

رفع حاجبيه متعجبًا ثم سألها تلقائيا محاولًا استدراجها:
«أي طفلة؟».

ارتجفت حدقتا عينيها فقد فهمت ما يرمي إليه ولكنها تشجعت لتنطق متلعثمة.

«الطفلة التي كانت مع جون».

صمت قليلًا يحلل إجابتها التي صنفها على أنها وقاحةٌ منها ثم ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه فبنظره هي عادت لتوقع نفسها في شباك الخطأ وأنها مصرةٌ على التعرض لأقسى العقوبات. طالعته إليزا بتوتر وقد بدأ العرق يتصبب من كامل جسدها تبعه ارتجاف أناملها فخافت من حجز حريتها من جديد وهي لتوها حصلت عليها.

«ما شأنك بما سأفعله؟». قال بنبرة غاضبة لم تستفق إليزا من مفعولها فأكمل سائلًا: «إلا إن كانت تخصك؟». ابتسم ابتسامةً ماكرة جعلتها تدرك أنها وقعت من جديد مع جنونه وغضبه.

لاحظ توترها وقد وقعت عيناه على أناملها المرتجفة فاقرب منها ورفع كفها المرتجف مستشعرًا العرق التصبب منه وبرودته كأنه أمسك قطعةً ثلجيةً بين يديه.

«لماذا أنت متوترة وترتجفين؟ لم كل علامات الخوف والتوتر تظهر عليك؟». قال بينما كان يحدق بها بعينيه الواسعتين الغاضبتين.

راقبت عيناها المترقبتين بخوف ثم حرر كفها من بين يديه بعنف ثم سألها ببرود:
«لماذا لا تجيبين؟».

أخذت نفسًا قصيرًا بصعوبة متهيئةً لحمم غضبه الحارقة ثم أجابت بصوت خافت:
«إنها تخص شقيقي، لا أعرف ما الصلة التي تربطهما ولكنه أوصاني بها ثم». صمتت وشعرت بأنها تعجز عن الكلام أكثر وهو ينظر إليها.

«ثم ماذا؟». سألها بخبث منتظرًا سماع كذبتها كاملة.

عادت لتأخذ نفسًا عميقًا ثم أكملت:
«الطفلة صغيرة جدًا ولا يتجاوز عمرها أسابيع وأنا كنت معك في الفترة السابقة، فكيف أنجبتها إن كانت طفلتي كما تقول؟». رمت بورقتها الأخيرة محاولةً تخليص نفسها من شكوك جوزيف.

فكر جوزيف بينه وبين نفسه، إنه لم ير الطفلة ولا يعرف كم تبلغ من العمر لذلك لا يستطيع الجزم بأنها تكذب بقولها فحاول مسايرتها لآخر لحظة.

«وما المطلوب مني؟».

«أرجوك جوزيف لا تؤذها ولا تعدها إلى كوكب جليزا، أنا لم أفعل شيئًا في حياتي من أجل شقيقي. أريد أن أفعل شيئًا واحدًا من أجله ولا أطلب منك بأن تكون معي ولكن فقط دعها تكون بأمان حيث تحيا حياة طبيعية». قالت محاولةً إقناعه بكلماتها الصادقة التي نبعت من قلبها الجريح الذي يعاني من الندم والحسرة.

حاول أن يتخذ قرارًا سريعًا حول طلبها ثم فكر بأنه لا ضرر من إبقائها على قيد الحياة خاصةً أنها أنثى وهم يعانون نقصًا بالإناث وأنها طفلة وبإمكانه أن يربيها كما يشاء ويرغب. فكرة الرضوخ لطلباتها كانت تغيظه فهمس بأذنها ضاغطًا على أسنانه بغضب:
«لن أؤذي الطفلة ولكن ضعي برأسك تلك الفكرة بأنني إن اكتشفتك تخدعيني أو تلعبين بذيلك وتغدرين بي فكوني على يقين بأنك ستشهدين أيامك في الجحيم».

دب الرعب في قلبها ولكنها لم تجبه بشيء وهي تراقبه يغادر المكان.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة