رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل السابع
المكان: كوكب جليزا.
«لقد قتلناها سيدتي». قال رئيس الحرس للملكة فيكتوريا الجالسة على عرشها الضخم بفستانها الذهبي الأنيق وشعرها البني المائل إلى الأحمر مرفوعًا بمشبكٍ ذهبي. كان الجميع يتعجب من أمرها فقد كانت تعطي لمركزها أهمية أكثر من أي شيءٍ آخر لتكون مستعدة للاهتمام بمظهرها الأنيق تحت أي ظرف.
«وأين الطفلتان؟ هذا ما يهمني». نظرت إليه رافعةً إحدى حاجبيها باستخفاف جعله يشعر بالارتباك فهو لا يعرف حقًا عواقب ما سيقوله بعد دقائق قليلة.
«لم نستطع سيدتي». تمتم بتوتر ثم أردف: «لم نستطع أبدًا إيقاف المركبة لقد كانت كبيرة وقويةً كذلك وأيضًا كانت على وشك دخول كوكب الأرض، عندما عجزنا عن إيقافها واتباعها لم يكن منا سوى أن أطلقنا الرصاص على تلك الخادمة». قال محاولًا الحفاظ على نبرة صوته القوية والمقنعة.
أشاحت الملكة فيكتوريا بنظراتها الغاضبة نحوه بعد أن أخذت نفسًا عميقًا وكأنها لم تتنفس منذ فترةٍ طويلة جدًا.
قالت بنبرة هادئة بعدما سمحت لملامحها بالارتخاء ولكن لم يكن هذا مطمئنًا جدًا لرئيس الحرس.
«ولماذا لم تتبعوا المركبة إلى كوكب الأرض؟».
عم الهدوء لحظات قليلة ولكن ما لبثت أنفاس رئيس الحرس المضطربة أن هدأت حتى ضربت فيكتوريا يد مجلسها براحة يدها واشتعلت عيناها بنار الغضب ثم صرخت به قائلة:
«أنتم عديمو النفع ستنالون مني أقسى العقوبات فأنا لا أخلف وعدي».
ارتعد رئيس الحرس ودقات قلبه تتعالى مع كل كلمة تنطقها فتلك المرأة لا تردد كلامًا فارغًا فقط أو توعدات كاذبة.
«سيدتي، صدقيني لم نستطع كالعادة». قال متلعثمًا محاولًا إنقاذ نفسه من براكين غضب فيكتوريا.
«لو أحرقتم أحياء كان عليكم اللحاق بهم». قالت فيكتوريا وهي تضغط على أسنانها بغضب.
«سيدتي، لقد حاولت المركبة التي كانت بالقرب من مركبتهم اتباعهم ولكن ما إن وصلت حتى انفجرت وتناثرت بقاياها في الفضاء وعندئذٍ تراجعنا».
عقدت حاجبيها باستغراب ثم قالت: «إذًا كيف استطاعوا هم الدخول؟».
«لا أعرف سيدتي».
غرقت من جديد في شرودها والغضب يجتاحها فقد فوتت فرصة لن تتكرر بالعودة إلى الأرض، لقد بذلت جهدها ولكن تلك الخادمة جاءت لتفسد كل شيء وكل ما حصلت عليه كجزاء هو الموت الرحيم. أسندت رأسها على كف يديها بعد أن شعرت بالإعياء والتعب من كثرة التفكير والتخطيط لتصل جميع جهودها إلى الفشل الذريع.
المكان: كوكب الأرض.
هناك على كوكب الأرض حيث كتبت إحدى القصص سطورها الأخيرة، كانت مادلين والطفلة ما زالتا على تلك المركبة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد أن ارتطمت بالأرض وبدأ الدخان يتصاعد منها. بين أغصان أشجار تلك الغابة كان رجلان وأمرأة يجولون الغابة لغرض الصيد للتسلية بينما سمعوا صوتًا قويًا وشعروا ببعض الرجات على العشب الخضراء.
همست امرأةٌ عشرينية لأحد الرجلين قائلة بينما تحدق بهما باستغراب:
«هل سمعتما هذا الصوت؟».
«نعم سمعت، سأذهب لأطلع على مصدر هذه الضجة». قال أحدهما وهو يحدق بعيدًا حيث تمتد الغابة المظللة بأوراق الأشجار الشاهقة.
هم متجهًا نحو المصدر لكنها أوقفته عندما أمسكته من ذراعه ثم قالت: «لا تذهب أخاف أن يصيبك مكروه». نظرت إليه بعينيها الخائفتين ليبتسم لها ابتسامةً مطمئنة.
«ابقي مع زوجك ولا تقلقي على سأعود حال إطّلاعي على مصدر الصوت». قال لها بنبرة هادئة مطمئنة جعلتها تحرر ذراعه وهي تشاهده يمضي بين الأشجار الخضراء.
فتح باب المركبة التي تصاعد منها الدخان إلى السماء وقد دهش حقًا عند سماعه لصوت بكاء طفلة صغيرة يتعالى كلما اقترب من الدخول إلى المركبة. أخيرًا وقعت عيناه على تلك الطفلة الجالسة على الكرسي الصغير وقد وضع حزام الأمان فوقه، تقدم أكثر نحو مكان كرسي القيادة ليتراجع إلى الوراء بخطوات ضعف التي تقدمها وقد ظهرت على ملامحه علامات الخوف. رؤية جثة مادلين الهامدة جعلته يتراجع بخوف ونظر إلى وجهها الملطخ بالدماء وقد تلطخ فستانها الرمادي ببقعة دماء كبيرة حيث اخترقت الرصاصة قلبها لتطرحها جسدًا بلا روح. لم يعرف الشاب ما عليه فعله بالضبط فقد سيطرت عليه مشاعر التوتر والصدمة ليخرج هاتفه ومن ثم ينقر عليه عدة أرقام بأصابع مرتجفة. اتصل من بين بكاء الطفلة الصاخب طالبًا من سيارة الإسعاف والشرطة القدوم حالًا حيث موقعه. أرسل رسالةً إلى أخته ليخبرها عما حدث ليجدها بعد بضع دقائق تتقدم بسرعة هي وزوجها نحوه وقد ظهرت علامات التوتر على وجهها. لم يمر الكثير من الوقت حتى عج المكان بصفارات سيارة الإسعاف وسيارات الشرطة وقد أخرجوا الطفلة وجثة مادلين.
«ماذا تعرف عن تلك المركبة سيد، ». قال المحقق الجالس أمامه ليرفع نظره نحوه سائلًا.
«ألبرت، اسمي ألبرت».
«إذًا سيد ألبرت أنا أسمعك». قال ثم رفع نظره نحوه ببرود.
«لا يوجد أي علاقة أبدًا». أجابه ببساطة.
رفع المحقق حاجبيه باستنكار ثم ابتسم بسخرية ليجيبه بنبرة مهددة:
«سيكون من الأفضل لك حقًا أن تعترف بسرعة وإلا أخشى أن يحصل ما لا ترغب به».
«أهذا تهديد أم نصيحة منك يا حضرة المحقق الفاضل؟». سأله بسخرية مماثلة لسخريته بعد أن استنكر تهجمه ذاك.
حاول الماكث أمامه بأن يسيطر على غضبه ليجيب ببرود:
«يمكنك اعتبارها كما تريد ولكن لتتذكر أنني أخبرتك، كذلك أنصحك بانتهاز فرصة الاعتراف دون أن تهدر كرامتك دون فائدة».
«هل تريدني الاعتراف بشيء لم أقترفه أو أعرف عنه شيئًا حتى، أهذا جزاء من يقوم بعمل الخير؟ لماذا سأبلغكم عن شيء أنا متورطٌ به؟». أجابه ألبرت بحنق شديد بعد أن استعجب من أسلوبه معه.
«مشكلتك حقًا أنك لا تدرك قدر خطورة الشيء الذي اقترفته». قال المحقق بينما كان يرمقه بنظرات ساخرة استفزت ألبرت كثيرًا.
«ومشكلتك حقًا أنك تحدثني بنبرة المذنب كأنني فعلًا ارتكبت جريمة كما هُيئ لمخيلتك». أجابه ألبرت متهجمًا وقد ظهرت ملامح الغضب على وجهه بعد أن شعر بنفاذ صبره.
نظر إليه المحقق نظرات مخيفة وقد ضغط على سيجارته المنطفئة في الصحن الزجاجي أمامه بغضب ثم قال بعد أن ارتفعت نبرة صوته عما كانت عليه: «هل تعتقد بأن مثل هذه المسرحية قد تنطلي على السلطات العليا بهذه السهولة التي تتصورها؟». قال وقد ارتفعت نبرة صوته عما كانت عليه.
«وهل يفترض بي أن أعترف بشيء لم أقترفه؟».
زفر المحقق بنفاذ صبر ثم صرخ بالضابط الواقف خارجًا ليدخل منتظرًا أوامره بينما أردف قائلًا بعصبية: «خذه فلا فائدة من الحديث معه». قال موجهًا كلامه إلى الضابط الواقف أمامه ثم حول نظره نحو ألبرت قائلًا:
«لا تنس أنني حذرتك».
في إحدى طوابق الأبنية الشاهقة حديثة البناء في مدينة مختلفة ومعاصرة، كان اجتماع أهم المسؤولين على بعد دقائق قليلة. وقبل أن تطأ قدم أحد المسؤولين غرفة الاجتماع شدته زوجته من ذراعه ليلتفت نحوها متسائلًا بنظراته لها عن ما تريده.
«لا تنس ما خططنا له». قالت له وعيناها تترجى كل حواسه بالإنصات لها.
تأفف وقد نفذ صبره وسحب ذراعه بغضب من بين أصابعها فقالت له:
«أرجوك الفريد، هذه فرصتنا الوحيدة افعل هذا من أجلي».
«أنت تطلبين المستحيل ساندرا». قال الفريد بعد أن ضغط على أسنانه بغضب وهو يطالعها بحدة.
بدأت الدموع تتلألأ في عينيها ثم قالت بصوت متهشم وهي تحاول معه لآخر رمق:.
«أرجوك الفريد هذه فرصتي الوحيدة لأشعر بالأمومة التي حرمت منها، أنت يمكنك الزواج بامرأة أخرى ولكن أنا سأبقى منبوذة طوال عمري وقلبي يحترق في كل يوم على عدم القدرة على إنجاب طفل يملأ الفراغ داخلي. هذا سيكون آخر أملٍ لي وإن لم يتحقق فسأنهي حياتي فمهما كنت تحبني لن تستطيع أن تعيش طوال حياتك دون أن تسمع كلمة أبي من طفلك بينما أنت قادرُ على تحقيق تلك الرغبة. صدقني الحب ينتهي هنا ولا مجال للتضحية في هذا الموضوع وبعد أن تحقق أنت مبتغاك سأبقى أنا في منزلي بلا فائدة بلا أمل يدفعني إلى العيش، منبوذةٌ حتى آخر العمر». قالت بصوت مبحوح باكية.
حاول عدم النظر إليها حتى لا يضعف ولكن جاءت نبرة صوتها الباكية لتحرك كل حواسه وتكسر صموده وقوته. وضعت أناملها على وجهه الموجه إلى الجهة الأخرى وقد لاحظت تجنبه النظر إليها. أدارت وجهه نحوها ومع هذا تجاهل النظر إليها.
«الفريد أرجوك انظر إلي». قالت له بينما دفع نفسه إلى النظر نحوها دون أن يظهر لها ضعفه.
«لا أستطيع ساندرا، لا أستطيع فعل ما تريديني أن أفعله أبدًا فهذا سيدمرنني الآن أو لاحقًا ومهما مر الزمن سيأتي ذلك اليوم الذي أشهد فيه نهايتي الشنيعة».
اختفى بريق الأمل في عينيها وقد حل اليأس بدلًا عنه لتصاب ساندرا بفقدان كل دافع لديها لتستمر في هذه الحياة بينما أدارت جسدها راحلةً بعيدًا عنه، تألم وهو يراها ترحل مكسورة الخاطر وصورة عينيها الدامعتين علقتا في مخيلته كلعنة ستلاحقه حتى يخضع لرغبتها.
مشى نحو الممر الطويل متجهًا نحو غرفة الاجتماع بينما كان جميع المسؤولين جالسين على الكراسي الفخمة المحيطة بالطاولة الطويلة الرخامية ليجلس هو بينهم بهدوء.
«لا داعي للمقدمات فجميعكم يعرف لماذا نحن مجتمعون الآن، تعرفون أنه يتوجب علينا إيجاد حل للفضيحة التي انتشرت كالداء في الأنحاء وقد كسر هذا كل حرصنا على إخفاء موضوع وجود الحياة على الكواكب الأخرى خارج كوكب الأرض». قال أحد أكبر المسؤولين والذي كان جالسًا في مقدمة الطاولة وقد تصدرها.
«سيد برنالد أرى أن الحل الوحيد هو إبادةُ تلك الإشاعة بالقوة لن تضيع جهودنا بحجب الماضي عن السكان بموضوع تافه كهذا، تعرفون جميعكم مدى خطورة الأمر ومع حرصنا الشديد على حجب كل شيء إلا أن عددًا من السكان رغم قلته وعدم تشكيله واحد بالمئة من السكان، استطاعوا مغادرة الكوكب ونحن نجهل حقًا ماذا يخبئ لنا المستقبل من مصائب أخرى وما هذه سوى البداية». قال الجالس بجانب أكبر المسؤولين برنالد: «جورج».
«لا أجد القوة حلًا جذريًا فالناس لن تنسى ما حدث أبدًا فما هذا الحل سوى بدايةٌ لمشكلة جديدة». قال شخص آخر من بين الحضور.
«إذا قطعنا أصول تمرد الناس بالقوة فلن يجرؤ أحدٌ على الاعتراض أبدًا وإن اضطررنا إلى اللجوء إلى العنف معهم فلا مشكلة». أجابه جورج وقد كان الشرر يتطاير من عينه بينما بدت ملامح الكره على وجهه واضحة.
«هل تريدنا أن نطلق العنان لشلال الدماء ونكتب نهايتنا بأيدينا». قال أحدهم معترضًا على ما قاله.
«إذًا لنقتل كل شاهدٍ على هذا الحدث ومعهم الطفلة وهكذا ننتهي من هذه المشكلة». اقترح أحدهم.
كان ألفريد شاردًا وهو يستمع إلى اقترحات بعضهم الغبية، تذكر ما قالته زوجته وتذكر قولها بأنها ستنهي حياتها إن لم يفعل من أجلها ما طلبته ولم يكن حقًا يستبعد إمكانية تنفيذها لذلك التهديد فلطالما كانت المرأة الانتحارية والمجنون في نظره. لم تغب صورة عينيها الدامعتين ورحيلها مكسورةً عن مخيلته وقد آلمته هذه الذكرى كثيرًا. قطع برنالد شروده بسؤاله المفاجئ وقد لاحظ عيناه اللتان تراقبانه منذ البداية: «الفريد لم نسمع رأيك بما تم اقتراحه، هل لديك اقتراحات أخرى؟ أشك أن شرودك يخبئ حلًا جذريًا لقضيتنا».
حول الفريد نظره نحو برنالد بينما أطلق العنان لما كان يخطط له ليرضي زوجته ويخرج بأقل الخسائر فليس لديه أي حلٍ آخر فهو يحب تلك الإنتحارية حد الجنون.
قال وهو ينظر بثبات وثقة نحو برنالد:
«سيدي الفاضل برنالد اسمح لي بالإفصاح عن حلٍ قد يحوز على رضاكم».
نظر إليه برنالد نظرات ثقة ثم أردف: «كلنا آذانٌ صاغية».
«لماذا لا نحل الموضوع بشكل سلمي دون أن نهدر قطرة دم واحدة؟ لنستطيع إخراس شكوك الشعب والصحافة ونجد حلًا جذريًا لهذه المشكلة، لذلك قررت التضحية بضم تلك الطفلة إلى عائلتي الصغيرة».
نظر جميع الحضور نحوه نظرات استغراب واندهاش متسائلين عن جديته بما يقوله بينما رفع الجالس بجانب برنالد «جورج» حاجبيه باستنكار ثم قال ساخرًا:.
«هل أنت جادٌ بما تقوله؟ ومنذ متى نحل مشاكلنا بسلمية يا سيد سلمي؟».
تعالت أصوات همسات الحضور بعد سؤال جورج ولكن برنالد طلب من الجميع التزام الصمت سامحًا لالفريد إكمال ما بدأ به.
«أعرف أنكم استغربتم من ما قلته ولكن دعوني أعلمكم عن الجزء المتبقي من خطتي. إن أخبرنا الناس بأن تلك الفتاة التي كانت مع الطفلة ليست سوى خادمة كانت تعمل لدي وعندما طردتها لأسباب خاصة قامت بالانتقام وخطف طفلتي لكنها لم تفلح بمغادرة كوكب الأرض». نظر للحضور ثوانٍ ثم أردف بنبرة مقنعة: «وهكذا نسكت الناس ونحذرهم بطريقة غير مباشرة ألا يفكروا بالاطلاع على ما هو خارج هذا الكوكب خصوصًا بعد ظهور الكثير من المتمردين الذين يحاولون غسل عقول الناس بأفكارهم الغبية».
نظر برنالد نحو الفريد نظرات عبرت عن رضاه وموافقته فزال التوتر عنه قليلًا ولكن ما هي إلا ثوان حتى وقف جورج معترضًا وقال:
«وهل تريدنا أن ندع تلك الطفلة تعيش بيننا؟ نحن حتى لا نعرف من أي مستنقع جاءت». قال وقد ظهرت على وجهه علامات الاشمئزاز.
«هذه طفلةٌ لا خوف منها نستطيع توجيهها كما نريد ومن حظنا أن الفتاة الشابة التي كانت معها توفيت» أجابه الفريد.
«قل أنك تريد الطفلة دون تلفيق كل تلك القصة الساذجة». أجابه جورج باستهجان شديد.
ابتسم الفريد له ليستفزه محاولًا إخفاء توتره ثم أردف: «الأمر عائدٌ لكم أنا اقترحت فقط وأرى حقًا أنني أستحق الشكر على هذه التضحية بضم طفلةٍ إلى عائلتي بينما أستطيع إنجاب غيرها بدل أن أهتم بفتاة ليست بابنتي وتعرف جيدًا بأن لا أحد من الحضور يستطيع الإقدام على خطوة كهذه لأن جميعكم تملكون عائلات تشغلكم عن مثل هذه المهمة الصعبة».
«أرى أن حل الفريد هو الأنسب». قال برنالد مقاطعًا جورج عن الرد.
فتح جورج فمه بعدم تصديق ثم قال معترضًا بشيءٍ من السخرية:
«منذ متى ونحن نتعامل بهذه السلمية؟ ومنذ متى نتعامل بحساسية مع إرضاء المواطن الموقر؟ ما رأيكم أن نوفر رحلات منذ غد للسياحة في الكوكبين المجاورين؟ تبدو فكرة رائعة ومناسبة جدًا للديمقراطية التي نتعامل بها، صحيح؟».
م.
ا لبث أن انتهى من حديثه الساخر ذاك حتى رمقه برنالد بحدة ثم أجابه بنبرة صوت مرتفعة: «نتعامل بسلمية سيد جورج منذ أن بدأت الأمور تنفلت من بين أيدينا، منذ أن عجزنا عن الإمساك بزمام الأمور والسيطرة الكاملة. لسنا في العقد الماضي عزيزي نحن هنا حيث بدأت الأمور تتعقد وكل شيءٍ يخرج عن سيطرتنا تدريجيًا أم أنك تريد أن ينتهي أمرنا بأسرع ما يمكن».
صمت جورج قليلًا ثم اتبع بسخط قائلًا: «هذه ترهات والأمور ما زالت، ».
«كفى لا أريد سماع أي كلمة أخرى منك لقد قررنا وانتهى وإذا أردت الاعتراض فغادر المكان فورًا قبل أن تواجه براكين غضبي». قال برنالد عاقدًا حاجبيه بغضب وهو يرمق جورج بنظرات تهديد وسخط.
كان جورج يتمنى أن تنشق الأرض وتقوم بابتلاعه بدلًا عن تلك الإهانة التي تعرض لها أمام الجميع، كان يحترق من الداخل غضبًا وغيظًا.
وافق جميع الحضور على اقتراح الفريد وأثنوا على ذكائه إلا جورج كان رافضًا للفكرة تمامًا وهو يتمتم: «ستدفعون ثمن هذا القرار المتهور».
«ولكن سيد برنالد، ماذا سنفعل بأمر ذلك الشاب المدعو ألبرت؟». قال أحدهم مقاطعًا.
«أطلقوا سراحه». أجابه برنالد.
«ولكن سيدي لقد تعرض للتعذيب في اليومين الماضين لكي يعترف».
قال برنالد بغضب:
- «وهل اعترف بشيء؟».
- «لا أصر على أنه لا يعرف شيئًا عن الأمر».
- «إذًا هذا يعني أنه فعلًا لا يعرف شيئًا، أطلقوا سراحه وأعطوه تعويضًا ماليا ملائما».
«هل ما زلت مصرًا على أنك لا تعرف شيئًا؟ يا سيد».
صمت قليلًا وكأنه يتذكر شيئًا ثم أردف: «نعم تذكرت سيد ألبرت». همس المحقق بأذن ألبرت بنبرة ساخرة وابتسامته المستفزة تعلو وجهه.
«قلت لك ألف مرةٍ من قبل أنني لا أعرف شيئًا». صرخ ألبرت بوجه المحقق بغضب بعد أن أصبح صوته يضرب على وتره الحساس.
زفر المحقق بنفاذ صبر ثم أشار للضابط القابض على رقبة ألبرت ليضع رأسه تحت المياه ولكن قاطع عمله دخول أحد الضباط بسرعة ليهمس في أذنه بضع كلمات ثم يتبعه إلى الخارج.
تنفس ألبرت محاولًا الحصول على أكبر قدر من الأوكسجين فلقد بات الحال هكذا منذ يومين وهو يتحمل أصناف العذاب الذي يتعرض لها. تمنى أن يخرج هذا المحقق فلا يرى وجهه من جديد ولكن ما هي إلا فترة قصيرة قد عاد يرمقه بنظرات اشمئزاز وغضب وقد طلب من الضابط أن يصطحبه إلى إحدى غرف الممر الطويل.
جلس ألبرت على إحدى الكرسين المتقابلين منتظرًا ما سيحدث له بعد كل هذا لا بد أن تلك المركبة خطيرة جدًا حتى اتخذوا أنفاقًا تحت الأرض سجنًا له ومكانًا للتحقيق معه. كان قلقًا على أخته كثيرًا فلا بد أنها تكاد تجن لاختفائه خاصةً أنه واثقٌ بأنهم لم يخبروها عن مكانه أو حالته ومع هذا يفضل ألا يراها الآن وهو على هذا الحال وقد كان متأكدًا أن تعذيبهم المستمر له ترك معالمه على وجهه كما هو على جسده. فتح أحد الضباط باب الغرفة مفسحًا لبرنالد بالدخول وقد تقدم وجلس خلف الطاولة وألبرت الجالس أمامه على الكرسي يحدق به باستغراب فهل الموضوع كبيرٌ لهذه الدرجة حتى يحضر أكبر المسؤولين أمامه؟ دخل المحقق بعد ثواني ومعه الضابط نفسه وجلس أمام ألبرت على الكرسي المقابل. حدق ألبرت بالمحقق بغضب شديد وقد كان الآخر يرمقه بنظرات مهددة. عم السكون بينهم، كانت وحدها نظراتهم تتكلم حتى قطع ذلك السكون برنارد آمرًا الضابط بأن يفك قيود يديه. بقي ألبرت يحدق بالمحقق الذي كان ينظر نحوه ببرود وقد كان الضابط خلفه يفك قيوده وشريط الذكريات الأليمة يعيد نفسه من جديد أمام عينيه وكل جزء من جسده يرتجف إثر تلك الذكريات فلقد تعرض للآلام النفسية أكثر بأضعاف مما ترك علامات على جسده. وما إن انتهى الضابط حتى استقام ألبرت وقد حرر غضبه وسدد لكمةً قويةً نحو وجه المحقق بغضب حتى سقط مع الكرسي إلى الخلف ولكنه لم ينته عند هذا الحد فهم لضربه أكثر لولا أن أمسكه الضابط خلفه حتى دخل عدةُ ضباط إثر صوت الشجار. حاول ألبرت التحرر من بين قبضات الضباط الذين حاوطوه محاولين منعه ولكنه كان كالأسد الذي تحرر من قفصه لتوه. رغم أن قواه كانت خائرة والتعب يهتك بجسده الذي لم يحظ سوى ساعاتٍ نوم قليلة جدًا لثلاثة أيام متواصلة وقد كان الإرهاق حليفه إلا أن الضباط عجزوا عن تقييده، استقام برنالد ووقف أمام ألبرت وقد طلب من الضباط تحريره ثم سأله محاولًا تهدئته:.
«ماذا تريد الآن؟».
«أريد أن أبرح هذا السفيه ضربًا». قال بأنفاس مرتجفة من شدة الغضب والتعب في آن واحد.
«هذا مستحيل ولكن لك أن تطلب شيئًا آخر». أجابه برنالد.
«إذًا أريده أن يختفي من أمامي». قال والشرر يتطاير من عينه وهو يرمق المحقق بحقدٍ شديد.
رمق برنالد المحقق طالبًا منه المغادرة ولكنه أشاح بنظره نحو ألبرت موجهًا إليه نظرات الاستخفاف والاستحقار نفسها فما كان منه سوى أن بصق على وجهه وقد عاد إليه جنونه من جديد. كان وجه المحقق محمرًا وقد اعتراه الغضب من كل هذه الإهانات التي سمح بها برنالد بأن توجه إليه دون عقاب ولكن برنالد استعجل المحقق بالخروج من فوره هو والضباط، أغلق الباب وعاد ليجلس مكانه. كان ألبرت ما زال واقفًا وأنفاسه تتصاعد بينما بدأ العرق يتصبب من كامل جسده، لقد أخذ الغضب ما تبقى من طاقة جسده الهزيل. أشار له برنالد بالجلوس، حتى عم الصمت بينهم. كان التوتر سيد الموقف حتى بادر برنالد بكسر ذلك الصمت الطويل ليتكلم موجهًا نظره إلى ألبرت الذي ما زال غاضبًا.
«هل تعرف لو كان هذا حدث أمام عيني مع شخص آخر غيرك لعلقت مشنقته من فوري». قال ببرود ثم نظر نحو الجالس أمامه باحثًا عن أي رد فعل أو خوف في عينيه أو ملامحه ولكن لم يجد أيًا من هذين فلقد كان ألبرت فاقدًا لجميع التعابير والمشاعر بعد ما مر به وقد بات لا يشعر بالخوف من كلماتهم المهددة.
«أنا لا أسمح لأي شخص كان بأن يهين أحدًا من ضباطي أو العاملين في مراكز الحكومة فهم يضحون من أجل أن تعيشوا بأمان». أردف برنالد.
رفع ألبرت حاجبيه باستنكار ثم قال ساخرًا:
«حقًا، وهل تسمح سيدي الفاضل بأن يدوس أولئك المضحون المساكين على رؤوس شعبك؟».
راقب برنالد نظراته الساخرة بغضب وقد استفزه هذا كثيرًا ليقول من فوره بسخط:
«لو كان أسلوب جميع عامة الشعب كأسلوبك فلن أعاتب الموظفين بالمراكز الحكومية دوسهم على رؤوسكم أبدًا».
ابتسم ألبرت بسخرية بينما كان يطالع القيود التي رسمت علاماتها على معصميه والخدوش التي ملأت ذراعيه ثم أردف بالنبرة نفسها:
«في الحالتين ستفعلون».
حاول الماكث أمامه السيطرة على غضبه الجنوني وكان يكبح رغبته بالقضاء على ألبرت دون أن يرف له جفنٌ واحد ولكنه مضطرٌ لمسايسته:
«لا بد أن ذلك المحقق ضاق ذرعًا من وقاحتك». قال كلماته وهو يلاحظ نظرات ألبرت المخيفة والغاضبة التي تحولت نحوه لكنه أردف دون أن يكترث: «على كل حال ليس هذا موضوعنا».
قاطعه ألبرت قائلًا:
«إن كنت ستسألني عن علاقتي بتلك المركبة فسأريحك من هذا العناء وأجيبك أن لا علاقة لي بها أبدًا ولك حرية التصديق كذلك لأن ذلك المحقق السفيه قد استهلك آخر ذرة صبر لدي».
فكر برنالد بينه وبين نفسه إن كان هذا الشاب وقحًا هكذا أم أن بطش المحقق وتعذيبه هو ما جعله بهذه الوقاحة والبرود.
«لن أسألك عن أي شيء يخص هذا الموضوع بل جئت لأخبرك بأننا سنطلق سراحك فقد تبين بأن تلك الشابة التي كانت على المركبة ما هي إلا هاربة لصة حاولت الهرب بطفلة أحد كبار المسؤولين ولولا أنك بلغت الجهات المختصة فورًا لقضت الطفلة نحبها على تلك المركبة لذلك قررنا تعويضك بمبلغ مالي وأن نقدم اعتذارنا عن ما تلقيته من ذلك المحقق ولكن لا تنسَ أن هذا هو عمله ومع ذلك سمحت لك بإهانته وإهدار كرامته أمام أولئك الضباط دون عقاب».
عقد ألبرت حاجبيه بغضب وقد اندفعت الدموع إلى عينيه دون إرادته ولكنه تأكد من عدم إظهارها أمام الماكث أمامه فقال محاولًا تفادي ظهور بحة صوته: «وهل المال سيعوضني حقًا؟». ابتسم بأسى وقد استصعب تقبل كل تلك المهانة على نفسه.
«اطلب ما تريد». جاءه صوت برنالد ليطلق العنان له بأن يستغل آخر فرصة له باستفزازهم.
«أريد أن أحصل على مرتبة اجتماعية عالية». أجابه من فوره.
«أي مرتبة تريد؟».
«أريد الحصول على رتبتك نفسها أو حتى سأقبل ربما بمشاركتك». قال ألبرت محاولًا استفزازه بأكبر قدر ممكن.
تعالت حمم الغضب الخارجة من أنفاس برنالد وقد شعر بنفاذ صبره فاستقام وضرب على الطاولة أمامه ثم قال مهددًا:
«لقد تجاوزت حدودك بمراحل وأنا ما زلت أحترمك يا هذا».
لم يكترث ألبرت لغضبه أبدًا وقد أستمر باستفزازه فقال: «أنت مجبرٌ على تحملي خوفًا من الفضيحة التي أستطيع إشعالها في أرجاء الأرض فكما تعرف وقاحتي لا مثيل لها».
«صدقت فعلًا لم أكن لأجد أحدًا بوقاحتك أبدًا، هل تعرف بأنني أستطيع دفنك هنا دون أن يعلم أي شخصٍ عنك؟».
ابتسم ألبرت ثم أجابه قائلًا:
«نعم أعرف فأمثالك يفعلون أكثر من هذا سيد برنالد».
«اسمع يا هذا سأعطيك فرصة أخيرة لاختيار المكانة الاجتماعية التي تريد الحصول عليها ما عدا مرتبتي طبعًا». قال وهو يرفع سبابته في وجهه مهددًا.
«وهل أنا مجنون حتى أعيش بحظيرة للحيوانات بمحض إرادتي وما زلت أملك عقلًا داخل رأسي؟».
حاول برنالد كبح غضبه الشديد فلم يسبق أن تمادى عليه أحدهم كما فعل ألبرت فقال بنفاذ صبر: «إذًا ماذا تريد؟».
رفع نظره نحوه ثم أردف قائلًا:
«أريد أن أعرف مصير تلك الطفلة بين أيديكم».
كان هذا حقًا ما أراده منذ البداية فهو يعرف أن تلك القصة ما هي إلا كذبة حتى يسكتوا بها أفواه الصحافة. أراد في البداية أن يستفز برنالد وأن يستغل حاجته إليه فقتل برنالد لألبرت يعني إشاعات جديدة من السكان والصحافة ويعني مشكلة جديدة مع إسكات الناس والإبقاء على حياته دون أن يكفلوا صمته يعني مشاكل جديدة كذلك وفشل مخططاتهم، ببساطة هم يريدونه حيًا بفمٍ مغلق.
لم يناقشه برنالد ولم يحاول اختلاق قصص جديد فقد علم أن كل شيء بات واضحًا له تمامًا منذ البداية.
«مصير تلك الفتاة أفضل بكثير مما تتوقع، مصير لم تكن لتحلم به تلك الفتاة، للأسف ستعيش بيننا لتنعم بحياة كريمة وباذخة». أجابه برنالد فختم تلك المهمة وحقق رغبة ألبرت.
كان هذا أكثر ما أثار اهتمام ألبرت فقد كان يعرف أنهم مضطرون لفعل هذا، لكن ترى ماذا سيكون مصيرها بالمستقبل بينهم؟ فهو يثق بأن ذلك لن يستمر طويلًا.