رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل السادس
«يبدو أنك فضولية جدًا».
أفزعها دخوله المفاجئ عليها حتى أفلتت إطار الصورة من بين يديها ليسقط على المكتب ثم قالت متلعثمة بسبب ذلك الموقف المحرج الذي وقعت به: «لقد أفزعتني».
رفع حاجبيه بسخرية ثم قال: «لا يفزع إلا من يعرف بأنه يرتكب خطأً».
اكفهر وجه مادلين بعدما استوعبت وجودها في غرفته ثم قالت معتذرةً: - «أنا آسفة من تصرفي غير اللائق، أعتذر حقًا».
- «هل تجدين سهولة لهذه الدرجة بالاعتذار؟».
حملقت مادلين به مستغربةً من سؤاله ربما يحاول افتعال مشكلة جديدة معها ولكنها اكتفت منذ الأمس فلقد أصبح الأمر مملًا. لاحظت الهالات السوداء تحت عينيه ووجهه المرهق لا بد أنه قضى ليلة صعبة مما جعلها تعذره على تصرفه.
«آسف لما حصل في الأمس». قال بارتباك بعد أن طال الصمت بينهما.
«لا داعي أتفهم مشاعرك». قالت ثم صمتت قليلًا وقبل أن تسمح لذلك الهدوء الكئيب باحتلال الأجواء أتبعت بمرح: «أحببت الصور الخاصة بك كثيرًا وكذلك أعجبت بالأماكن التي التقطت فيها الصور».
جلس جون على السرير ثم قال: «نعم إنها على كوكب الأرض».
شعرت مادلين بشعور غريب عندما سمعت اسم كوكب الأرض فهل من المعقول حقًا أن يكون ذلك موطنها الأصلي؟ وأن تعود إليه يومًا؟
«هل تعلمين بأنني حققت إحدى أهدافي في هذه اللحظة تحديدا؟».
أدارت مادلين الجزء العلوي من جسدها لتنظر إلى جون الذي يجلس على السرير خلفها ثم قالت: «ماذا تقصد؟».
«لقد أردت أن أرى رد فعل سكان كوكب جليزا عندما يرون شيئًا يخص موطنهم الأصلي وأنت حققتِ تلك الرغبة».
رفعت مادلين حاجبيها ثم ابتسمت بعفوية وقالت: «وماذا استنتجت؟».
«أنكم تكرهونه وتتمنون إحراقه لتتخلصوا منه بدل العودة إلى أحضانه».
اتسعت ابتسامة مادلين وهي تستمع إلى استنتاج جون الذي بدا لها منطقيًا جدًا «وهل تعلم بأنك الآن تفوهت بالحقيقة التي يخاف كل سكان كوكب جليزا أن ينطقوها؟».
شاركها الابتسامة ولقد كانت أول ابتسامة صادقة تراها على وجهه بعيدًا عن الصورة.
أمسكت مادلين الصورة فجأة ثم أشارت إلى الفتاة الواقفة بجانبه وقالت: «من هذه بالمناسبة؟».
اختفت ابتسامة جون التي لم تطل طويلًا ثم تنهد وقال: «شقيقة إدوارد التوأم».
اتسعت عينا مادلين وهي تعود لتدقق في الصورة. كان الشبه واضحًا بينهما فلقد اشتركا بلون الشعر الأشقر والعينين الخضراوين.
«وهل هي هنا معكم؟». سألت مادلين تلقائيًا بينما ما زالت تمعن بتفاصيل الصورة.
«كانت». قال باختصار دون إضافة أي تفصيل ثم أردف بعد أن نهض من على السرير: «يجب أن أعد بعض المستلزمات وأن أجهز لرحلتنا كما عليّ إعداد الحليب للطفلتين».
لم تستوعب مادلين بسرعة كمية الأمور التي ذكرها فقالت: «أي رحلة تقصد؟ وأي مستلزمات».
ضرب جون جبينه بيده ثم قال: «لقد أخذتنا الأحاديث ونسيت أن أعلمك بأن علينا الرحيل فورًا».
شعرت مادلين بالضيق بعد إدراكها بأن رحلة الهروب قد بدأت وأن تلك الأحلام الوردية بحياة هادئة قد ماتت قبل أن تزهر.
«إلى أين؟».
ارتخت ملامح جون ثم بدت معالم الحيرة تظهر على وجهه وهو يقول: «لا أعرف ولكن بعيدًا عن هنا، خارج هذا الكوكب».
حدقت مادلين به ببلاهة وهي تكاد لا تصدق ما يقوله لها، فكيف سترحل بهذه السهولة وتلقي نفسها في اللامكان؟
«من المستحيل أن أغادر معك بعيدًا عن هنا». أجابت مادلين فورًا دون أن تفكر أكثر فشعور واحدٌ يسيطر عليها حاليًا «الخوف».
«ولكننا لا نملك حلًا آخر». قال جون معارضًا.
«لا يهمني حقًا حتى لو ستحضر فيكتوريا هنا بعد خمس دقائق فلن أغادر».
«يجب أن تغادري». صرخ جون بعصبية بعد شعوره بأنه يفقد السيطرة على كل شيء فهو بحاجة لها لعدة أسباب أهمها الاعتناء بالطفلتين فهو يعجز عن تدبير مثل هذه الأمور.
«لن أغادر». قالت مادلين بتحدٍ بعد أن عقدت حاجبيها مستنكرةً جرأته تلك.
أدرك جون ألا فائدة ترجى من الغضب أو الصراخ فهذا قرارها الخاص ولن يستطيع إجبارها.
«أحتاج إليك». قال بعد صمت طويل ثم أتبع: «في كلتا الحالتين الخطر يحيط بنا فما الضرر من المحاولة بدل أن نقف دون أن نحرك ساكنًا أو نتصرف وتذكري وجود الطفلين».
«يمكنك المغادرة وحدك لكن أنا لن أغادر». قالت مادلين حاسمةً الأمر.
«إذن سأبقى هنا أنا أيضًا». قال جون ثم عاد ليجلس على السرير.
صمتت مادلين برهةً وهي تفكر، ما الذي يمنعها من المخاطرة الآن؟ لقد سبق وخاطرت وهربت وتورطت في كل الحالات فلماذا ترفض الهروب لتخسر كل ما حققته؟
تنهدت بقلة حيلة ثم نهضت من على الكرسي وقالت وهي تغادر الغرفة: «سأهتم بالطفلتين وأنت أبدأ بتجهيز أمور الرحلة».
ابتسم جون ابتسامة نصر وهو يسمع بقرارها لقد نجح على الأقل في شيءٍ واحد وهو إقناعها.
خرجت لتشاهده يقف أمام باب الكوخ وقد ظهرت على وجهه علامات الحزن والضيق. كان يبدو حزينًا لترك هذا الكوخ فرغم تظاهره بأن الأمور طبيعية كانت عيناه تفضحان شعوره الدفين والذي أرغم على كتمه أكثر من مرة. أغلق باب الكوخ وكأنه يغلق منفذ عطر الذكريات الذي فاح في وجهه فثارت ذاكرته بإطلاق مجموعة من الصور لأيام قضاها بصحبة صديقه وشقيقته التي غادرت بعيدًا منذ زمن. لقد اعتقد بأنه سيصل إلى هذه اللحظة وقد مسحت من ذاكرته كل تلك الأمور التي بدت له ساذجة جدًا فهذا ليس غريبًا، كل شيءٍ يبدو له كلهو أطفال. كان حتى يعتبر قلبه ساذجًا ومشاعره ساذجة فلو لم يكونا كذلك لما كان بهذا الضعف. أقفل الباب بإحكام ثم حرص على إعادة المفاتيح إلى جيب سرواله وكأنه مسافرٌ لمدة قصيرة وسيعود. تنهد قبل أن يلتفت ويتجه نحو الكوخ المجاور ورأسه يتخبط بالأفكار السلبية واليائسة، كان حقًا يتمنى من كل قلبه أن تداهمه مجموعة من حراس فيكتوريا، رصاصةٌ واحدة فقط كفيلةٌ بإنهاء حياته ليتحرر من كل شيءٍ ببساطة. كانت كل الحياة تبدو كضجيج صاخب بالنسبة له لقد تمنى حقًا لو كان مكان إدوارد فلقد مات الشخص الخطأ في الحقيقة فلطالما كان إدوارد شخصًا متفائلًا رغم كل شيء، كان باستطاعته تحمل كل شيء عدا أن يكون مضطهدًا أو مقيدًا بأي شكل من الأشكال وهذا ما دفعه للتدهور في الواقع. شيءٌ اشتعل في قلب جون ربما كانت بعض الأحقاد قد نتجت عن تفكيره بتفاصيل الواقع، إنّ لصديقه نصيبُ من آلامه الكثيرة فلقد أحب وأنجب ليقع العاتق الآن على كتفيه. ما السبب الوجيه الذي يجعله يدفع الثمن وهو بعيدٌ عن كل هذا. أزاح تلك الأفكار بعيدًا فإذا استمر بالتفكير فسيصاب بالجنون حتمًا. اقترب من المستودع الضخم الذي كان ضعف حجم الكوخ، مبنى مستقر ذو بوابة كبيرة. أخرج مفتاحًا ثم أدخله في القفل الذي يقبع أسفل البوابة الحديدية الكبيرة وما إن فتحه حتى سحبه إلى الأعلى ليصبح ما وراء ذلك الكوخ مرئيًا. ظهر أمام مادلين مركبة ضخمة بدت لها مألوفة بعض الشيء فلقد لمحت أحد المواكب الخاصة بفكتوريا ذات مرة. كانت بيضوية الشكل ذات جناحين ضخمين بلون رمادي ونوافذ زجاجية لم تعكس ما بداخلها بسبب أشعة الشمس. تقدم جون أمامها وضغط على أحد أزرار جهاز تحكم بين يديه وما لبث أن فتح باب المركبة تلقائيًا مخلفًا صوتًا نفاثًا ومن ثم ظهر أمامها درجٌ صغير من الباب حتى الأرضية. صعد جون أدراجها فتبعته هي دون أن يطلب منها ففضولها دائمًا جعلها تتصرف باندفاع دون تفكير. بالفعل هي سبق أن شاهدت شكل المراكب الخارجي ولكن لم يسبق لها أن دخلت واحدة، أصيبت بالذهول وهي تنظر إلى الكم غير المعدود من الأزرار ولوحات التحكم. كان بداخلها أربعة مقاعد، مقعدان أماميان مقابل أجهزة التحكم الضخمة ومقعدان خلفيان وضع فوقهما شيء ما بدى لها للأطفال. طلب منها أن تجلس الطفلتين فوق الكرسيين فنفذت بصمت. جلست بجانبه وقد وضعت حزام الأمان كما فعل، ضغط على بضع أزرار أمامه ليرتفع درجها الصغير ثم يغلق باب المركبة. أحست مادلين باندفاع المركبة إلى الأمام حتى أصبحت خارج إطار الكوخ ومن ثم طويت أرجل المركبة لتبدأ رحلة التحليق بعيدًا.
في قصر كوكب جليزا وفي غرفة فيكتوريا تحديدًا عصر ذلك اليوم الهادئ كما هي العادة هذه الأيام بعد وفاة إدوارد. اقتحم جناح الملكة أحد الحراس وهو يلهث بتعب وقد كانت أنفاسه المتسارعة توحي بأنه كان مسرعًا بلا توقف. التقط أنفاسه ليقول وهو يحاول ملء رئتيه بأكبر قدر ممكن من الهواء.
«سيدتي لقد رأيناهم، رأينا أحد المراكب تغادر الكوكب».
انفرجت أسارير فكتوريا بعد أن أحست بوميض أملٍ بعد أن كادت تفقد عقلها من كثرة التفكير بالموضوع نفسه وما لبثت أن قالت بانفعال للحارس:
«وماذا تنتظرون هيا استعملوا أكبر عدد من المراكب وأسرعها للحاق بهم».
«لقد فعلنا سيدتي، أردت فقط إعلامك بالأمر».
قال ثم هم بالرحيل دون أن يعي الاستئذان بذلك.
«انتظر». قالت ليعود الحارس أدراجه ويلتفت ثم أردفت مكملة بنظرات حاقدة: «احذروا أن تصاب الفتاتان بأذى وكذلك لا تنسوا أنني أريد الخادمة مع مرافقها أحياءً هنا وفي أسوأ الأحوال إذا عجزتم عن إتمام المهمة أريد أن يصلني خبر موتهم المنتظر».
لم تكن الرحلة عبر المركبة الفضائية بالسهولة التي توقعتها مادلين فانعدام الجاذبية في الفضاء كان مزعجًا جدًا بالنسبة لها، شعرها يطير في الهواء دون أن تستطيع جمعه. جلوسها على المقعد لم يكن مريحًا حتى فهي تشعر أنها معلقة في الهواء ربما كان شيئًا فريدًا لتستمع به لكنها لم تكن تحبذ التغيير على الأقل هي لن تقيم في المركبة الفضائية للأبد. لقد مرت عشرون ساعة على مغادرتهم كوكب جليزا وحسب ما تشير الشاشة أمامها تبقى على وصولهم عشر ساعات. زفرت ثمادلين بضيق وهي تطالع الفضاء من النافذة فقط منذ بضع ساعات كانت في حالة من الذهول وهي تراقب ذلك العالم الغريب الجميل بطريقة خيالية رغم ظلمة الفضاء إلا أن توهج النجوم قد أعطى إضاءة فريدة حتى مزيج الألوان المتواجدة كان يعجبها.
ذلك الصمت المطبق الذي يسيطر على الأجواء منذ بدأت رحلتهم كان يشعر مادلين بالملل الشديد فجون يجلس جانبها ويطالع كتابًا ما دون أن يلتفت لها أو يحدثها بشيء.
تنهدت بقلة حيلة وماهي إلا دقائق حتى قفز إلى رأسها أحد المواضيع لمناقشته قالت:
«ألا يوجد كواكب أخرى غير جليزا وكيبلر والأرض؟».
كان من النوع الذي يفضل القراءة عن أي شيءٍ آخر خاصةً إذا كان يرفض معايشة الواقع بأي شكلٍ من الأشكال ولكن ماذا عساه يفعل وقد قُدر له أن يتورط مع فتاة فضولية تحب طرح الأسئلة باستمرار.
أغلق جون الكتاب وقد بدا لها بأنه يتأفف داخله فشعرت بالتوتر من رد فعله ولكنه تصرف بهدوء عكس توقعاتها فأجابها قائلًا: «لا طبعًا هناك كمٌ لا محدود من الكواكب في الفضاء».
نعم هذا ما توقعته فعلًا فلقد لمحت كواكب عدة من بعيد ولكن سؤال آخر يختلج في صدرها فقالت: «إذن ما الذي يدفع الجميع لتفضيل الأرض عن غيرها؟».
«لأن الأرض هي المسكن المثالي للبشر ومنها بدؤوا، أضيفي إلى ذلك سببًا أهم ليس كل الكواكب توفر أساسيات الحياة فبعضها باردٌ حد التجمد وبعضها حارٌ حد الذوبان وهذا كما تعلمين يقضي على أهم أسس الحياة وهو الماء».
أومأت بعد أن شعرت بأنها تجهل الكثير ثم قالت: «هل جميع سكان الأرض مطلعون هكذا؟».
«لا أستطيع الجزم ليس الجميع ولكن هناك عدد لا يستهان به».
في الحقيقة إن أهم معلومة يتم تلقينها للجميع على كوكب الأرض هي أن جميع الكواكب لا توفر مقومات الحياة ولا وجود للحياة البشرية على كواكب أخرى باستثناء الأرض.
«أكاد أجزم بأنك تحدث نفسك كثيرًا دون أن تصرح بأي شيء وهذا مزعج لسبب واحد وهو أنني أشعر بالملل القاتل». قالت مادلين بتأفف.
«دعيني أجزم أنا أيضًا بأنك كدت تطردين من عملك بسبب ثرثرتك». قال بتعابير وجه باردة لم تبدُ لها مزحةً حقًا. هي تدرك شيئًا واحدًا أن هذا الشخص متعجرفٌ بلا شك ومزاجي كذلك.
عوضًا عن مصارحته بكل ما يدور في رأسها ابتسمت وقالت: «ليس تمامًا».
«إذن بما أنك طرحتِ الكثير من الأسئلة ولعبتي دور المتطفلة بما يكفي دعيني أسألك عن السبب الذي جعل فيكتوريا تختارك أنت لتلك المهمة». قال بتهكم.
رمقته مادلين بغيظ ثم أجابت بسخرية: «ربما السبب نفسه الذي جعلني أختار البقاء معك».
لم يستطع جون كبح شبه الابتسامة الذي ظهر على ثغره وسرعان ما تلاشى، هو من بدأ الحرب معها في الحقيقة فكان عليه توقع هذه النتيجة «هزيمةٌ ساحقة».
«عندما تدخل مثل هذا النقاش الحاد فاحذر الخوض مع أنثى».
«نعم معك حق فأنتن تجدن الثرثرة كثيرًا».
ابتسمت ثم قالت بروح رياضية: «تمامًا».
رغم أنه يدرك تمامًا بأنها تزعجه بتطفلها ولكن الحديث معها ممتعٌ إلى حدٍ ما.
حدق جون بالشاشة التي تقبع فوق رأسه بعدة أمتار فاتسعت عيناه ثم قال بتوتر: «تبًا إنهم يتبعوننا».
ارتعدت مادلين حتى بدأت علامات الخوف والفزع تظهر على وجهها الجميل ثم قالت متلعثمة: «من يتبعنا بالضبط؟».
ضرب جون زجاج المركبة بقبضة يده بغضب حتى كاد يحطمه ثم قال مكشرًا: «من غيرهم حراس فيكتوريا».
«ماذا يعني هذا». سألته ببلاهة محاولةً التملص من الواقع الأليم.
«يعني أننا في بداية النهاية لن يتركونا أحياء أبدًا وإن تركونا فهذا أسوأ لأن فيكتوريا لن ترحمنا أبدًا».
اجتاحتها رغبةُ بالبكاء وهي تدرك نهايتها التعيسة وقد شعرت بنبضات قلبها تتسارع مع مراقبتها للمركبة على الشاشة وهي تقترب.
«اسمعي مادلين الحل الأفضل للطفلتين أن يفترقا فلن تستطيع فيكتوريا الوصول إلى مبتغاها بسهولة أو أتمنى ألا تصل أبدًا، أريدك أن تكوني شجاعة لأنني قررت المغادرة بصحبة إحدى الفتاتين إلى كوكب كيبلر أما أنت فيجب أن تذهبي إلى كوكب الأرض سألحق بك فيما بعد». قال وهو ينظر إليها بعد أن أُذيبت برودة ملامحه سابقًا واستبدلت بملامح تحمل الكثير والكثير من المشاعر.
«لا أستطيع البقاء هنا وحدي ولا أستطيع التعامل مع سكان كوكب الأرض كذلك». قالت بخوف هستيريّ وهي لا تكاد تصدق عرضه ذاك وقد ملأت الدموع عيناها.
ضغط جون على بعض الأزرار ثم سحب حزامه وتعلق بالهواء. اقترب منها وقدماه لا تلامسان الأرض.
«أرجوك مادلين ضحي قليلًا من أجل سلامة الطفلتين والبشرية من يدي فيكتوريا، أنا أثق بك ولقد فَعلت نظام التحكم الآلي، ستنجين من تلك المرأة وبالتأكيد ستجدين من يساعدك على كوكب الأرض صدقيني نحن لسنا وحوشا». قال لها وقد تأملت عيناه الصادقتين فشعرت ببعض بالراحة.
هزت رأسها بالموافقة بينما مسحت دموعها وقالت: «لا تتأخر».
ابتسم لها بود ثم نهض بسرعة ليخرج المركبة الصغيرة والتي احتوت على مقعدين فقط. اقترب من مادلين بعد أن جهز المركبة وأجلس الطفلة بالمقعد الخلفي.
نظر إليها نظرات ودودة كانت تراها لأول مرة منذ أن قابلته ثم قال وقد رفع نظره عنها.
«أنت إنسان طيبة وقوية حقًا سأنتظر لقائك من جديد على أحر من الجمر». قال لها قبل أن يسبح في الهواء متجهًا نحو البوابة الخلفية للمركبة.
كانت هي في تلك اللحظة لا تدرك ما يحدث حولها تمامًا فلم تلتفت لقول شيء أو حتى لمراقبته حتى آخر رمق.
حمل الطفلة النائمة بين ذراعيه بحذر وتوجه نحو المركبة الصغيرة التي لا يتجاوز حجمها الربع من حجم هذه المركبة فلقد كانت عبارة عن مقعدين فقط ذات سقف زجاجي تشبه الصاروخ إلى حد كبير. فُتح زجاج السقف عبر جهاز التحكم فقام جون بإجلاس الطفلة في المقعد الخلفي ثم جلس هو. قام بفتح مخرج دائري صغير ثم خرج من بمركبته وأغلق الباب تلقائيًا.
نظرت مادلين عبر النافذة وهي تراقب المركبة الصغيرة تبتعد في اتجاهٍ آخر وقد شعرت بدموعها الدافئة تبلل وجنتيها. هي الآن وحيدة كما اعتادت وفي ظروف أقسى ولكنها تمتمت قائلة بألم محاولةً طمأنة نفسها: «سأنتظرك».
مرت ساعات وهي على ظهر تلك المركبة خائفة تترقب اقتراب مراكب الملكة فيكتوريا منها وقد شارفت على الوصول إلى كوكب الأرض، كان يظهر على الشاشة أمامها خمس وأربعون دقيقة متبقية، ربما يحالفها الحظ وتصل قبل أن يصل لها حراس فيكتوريا. نسبة قليلة هي المرفقة بالنجاة فلقد بدا لها اقتراب المراكب وشيكًا جدًا فلقد كانت أسرع من مركبتها. شيءٌ داخلها يجعلها تشعر بالألم بطريقة أو بأخرى ربما خفقان قلبها عندما تفكر بما سيحدث بعد فترة قصيرة أو بالأحرى التفكير بنهايتها، هل سيكون جون منقذها كما تأمل؟ بإمكانها شطب ذلك السؤال اللامنطقي فهو لا يستطيع حتى مساعدة نفسه، فمن أين له أن ينقذها؟ لماذا يجب أن تنتهي حياتها بتلك البساطة؟ لماذا وهي حتى لم تعش لحظاتٍ سعيدةً بعد؟ لم تبن بيتًا لنفسها ولم تحقق الوعد التي قطعته لوالدتها بأن يجتمعوا جميعًا في يومٍ من الأيام. ستموت دون أن تودع والدتها وحتى دون أن تلتقي شقيقتها التي لم ترها منذ سنوات طويلة تلك التي رحلت بعيدًا مجبرة؟ ربما كان عليها حقًا أن تقدر كم هي محظوظة فعلى الأقل كان بإمكانها أن تلتقي بوالدتها بين الحين والآخر، كان بإمكانها أن تعانقها وتشتكي لها ولكن تلك المسكينة حرمت كل شيء. تذكرت عندما اختيرت أختها عبر تلك القرعة اللعينة، كانت حينئذٍ تبلغ العشرين من عمرها فقط، لقد كانت متصالحة مع قدرها بطريقة لا يمكن استيعابها. عندما عادت إلى المنزل وقد كانت هادئة على غير عادتها ولكن حالما سألتها والدتها عما حدث معها وقد كانت تشعر بتلك المصيبة إلى حد كبير ومع هذا أجابت بهدوء معلنةً عن الخبر ثم ابتسمت بأسى، لم تكن تجيد التمثيل حقًا لذلك كانت دموعها تلك التي حبستها بعينيها واضحة جدًا. كانت سيئة بالتظاهر جدًا إلى درجة أنها أجهشت بالبكاء دون توقف قبل أن تغادرنا بدقائق في الحقيقة لم تكن وحدها فقد انفجرنا جميعًا بالبكاء بهستيرية فقالت لي عندئذٍ:.
«لا تنسيني يا مادلين أحبك».
وغادرت. هجرتني وحطمت قلبي. لم تستطع مادلين كبح دموعها وهي تتذكر شقيقتها التي لم تعد تراها سوى في الصور بعد ذلك ولكن أكبر كذبة كانت الصور التي ترسل لها من كوكب كيبلر ولقد استطاعوا بسهولة اكتشاف أنها التقطت جميعها في الوقت نفسه. اقتربت عدة مراكب من مركبة مادلين وعندئذٍ ما كان من قائدها سوى أن أطلق رصاصات مسدسه لتقتحم الزجاج وتخترق قلبها معلنةً عن نهايتها المقدرة. كان الألم يتفشى في جسدها كالوباء وأنفاسها تتصاعد، تأوهت وهي تضع يدها مكان الرصاصة ثم بدأ جسدها بالارتجاف، والألم يفتك بجسدها الهزيل أكثر فأكثر فأغلقت عينيها باستسلام لتتساقط دموعها الساخنة على وجنتيها ومع أن دقات قلبها كانت تعزف سمفونيتها الأخيرة وأنفاسها تنحصر أكثر كان صوت همس أخير يقرع طبولًا في أذنيها، إنها جملة شقيقتها الأخيرة تتردد من جديد: «لا تنسيني أحبك». كانت تتمنى أن تصرخ بأعلى صوتها قائلةً: «لن أنساك يا ساكنة قلبي». ولكنها النهاية وروحها المتمردة تصارع لمغادرة جسدها. كان آخر ما شعرت به هو هبوط المركبة وقد اختل توازنها وبكاء الطفلة كأنه حلمٌ أخير.