رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والخمسون
حُكم الإعدام كان المفروض يتنفذ النهاردة بس مختار هِرب.
بضعة كلمات نطق بها العميد مغازي أدت إلى اشتعال النيران داخل فؤاد قاسم الذي احتدت عيناه بغضب جامح، نظر حوله حيث الأوجه التي تُحيطه فوجد كل منهم مُنشغلًا بالشيء الذي يخصه، ترك الجميع ثم اتجه نحو الشرفة حتى بات يقف وحده وبعدها تشدق بغضب دون أن يعي لمكانة المُتحدث: يعني إيه هرب يا سيادة العميد هو لعب عيال؟
قطب مُغازي جبينه بضيق ثم أردف بصوتٍ حاد: اتكلم عِدل يا قاسم ومتنساش أنت بتكلم مين، أنا مقدر إن أنت مش في وعيك لكن مش هسمحلك بأي تجاوز.
نفخ قاسم بغضب أثناء جذبه لخصلاته بعنف، حاول العودة إلى ثباته من جديد فتحدث قائلًا باعتذار: بعتذر لحضرتك يا سيادة العميد، بس حضرتك عارف معنى إن مختار الأرماني يهرب يعني إيه؟ يعني كل عيلتي دلوقتي كلها في خطر.
كان معه حق في كل كلمة صعدت من فاهه مئة بالمئة، فهدأ العميد قليلًا ثم تحدث بصوتٍ رزين: عارف يا قاسم، وعشان كدا أنا بعتلك قوة هتوصل بعد نص ساعة بالظبط هتراقب بيتك، لإن احتمال كبير مختار يبعت حد من رجالته ليكم.
ازدادت نبضات قاسم بعنف خوفًا على كل فرد بعائلته، شعر بالهواء يُسحب من حوله وعاد بأنظاره للداخل يُطالع وجوههم السعيدة وضحكاتهم التي تملأ المكان، حوَّل أنظاره مرة أخرى إلى اللاشيء ثم تحدث قائلًا بوعيد: صدقني يا سيادة العميد لو فكر مجرد التفكير إنه يقرب لحد من عيلتي أنا هنسى كل الإتفاقات اللي كانت ما بينا وهقتله المرادي ومحدش هيمنعني، حتى القانون مش هيعرف يمنعني إني أحمي عيلتي.
طمئنه مغازي بقوله الهاديء: متقلقش يا قاسم، أنا اللي بوعدك إن عيلتك هتفضل في أمان لحد ما نقدر نوصل ليه من تاني.
أومأ له قاسم بصمتٍ ثم أغلق الهاتف معه بعد أن استأذن منه، كَوَّر قبضته بغضب ثم ضربها بعنف على سور الشرفة وهو يسب مختار بأفظع الشتائم، لم يرى في حياته مَن هو أقذر منه، ظن بأنه قد تخلص منه للأبد حينما تم الحُكم عليه وهو وأخويه بالإعدام شنقًا، كما تم الحُكم على حاتم والطبيبين بالسجن المؤبد، وكذلك صوفيا حُكِمَ عليها بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا، لكن يبدو أن تلك العائلة ورغم ما بها من آفات لا تصمت أو تُعلن استسلامها، بل تُكمِل قذارتها حتى النفس الأخير.
شعر بيدِ غليظة تُوضع على كتفه، فاستدار بوجه نصف استدارة ليجد شقيقه يقطب جبينه بتعجب، ثم تسائل باستغراب: واقف لوحدك كدا ليه؟ ومالك ضارب بوزك شبرين قدام؟ فيه حاجة حصلت؟
تنفس قاسم بعنف قبل أن يُجيبه بصوتٍ مكتومٍ غاضب: مختار الأرماني هِرب.
صُدم صهيب مما يُقال ففتح عينيه بعدم تصديق وهو يُردد: إيه هرب؟ هرب إزاي؟
نفخ قاسم بغضب مُجيبًا إياه وهو يهز رأسه بالنفي: معرفش. معرفش يا صهيب، المهم دلوقتي محدش يخرج من البيت نهائي لحد ما يتقبض عليه تاني، الخطر محاوطنا كلنا دلوقتي.
رفع صهيب كفه يحك جبينه بغضب، فحاول التحكم بذاته وهو يقول ببعضٍ من الحدة: هو مش المفروض الزفت دا يتعدم النهاردة؟ أنا نفسي أعرف عِرف يهرب إزاي؟
طالعه قاسم بشرود لعدة ثوانٍ قبل أن يُجيبه بتفكير: مش عارف، أكيد فيه حد بيساعده واللي بيساعده دا من الداخلية نفسها وعارف هو بيعمل إيه كويس.
قاطع حديثهم قدوم آلبرت بملامح مُتعجبة والذي تسائل باستغراب: في إيه مالكم واقفين كدا؟
أخبره صهيب بما حدث بوجهٍ واجم، لتتسع أعين آلبرت بصدمة قبل أن يصرخ في قاسم بفزع: مراتك نزلت يا قاسم من شوية.
استدار له قاسم بصاعقة وهو يصرخ بعدم تصديق: بتقول إيه؟ يعني إيه نزلت؟
رد عليه آلبرت الذي أخرج سلاحه تلقائيًا: كانت جاية وراك بس لقيتها خرجت تاني ودخلت أوضتكم وبعد كدا نزلت بسرعة، أنا بحسبكم متخانقين علشان كدا جيت أسألك.
اتسعت حدقتي قاسم بفزع والذي ما إن استمع لحديث آلبرت، حتى اتجه مُسرعًا إلى غرفته وفتح درج الكومود وهو يدعو من داخله أن يكون ما يُفكر به ما هو إلا خيالات من عقله، لكن توقفت أنفاسه عندما وجده فارغًا، وخاصة من سلاحه!
ثار جنونه واشتعلت النيران داخل فؤاده وهو ينطق اسمها بجنون مُمتزجًا بالهلع عند مُناداته لاسمها: أهلة.
حل الصمت على جميع مَن بالمنزل، فتحول من منزل مليء بالضحكات والتهليلات السعيدة إلى منزل صامت يحل عليه الخوف والتوتر، اتجه قاسم مُسرعًا خزانته ثم أخرج منها سلاحه الآخر وهرع للخارج مُجددًا، رأى وجوه الجميع المُرتسم عليه القلق والفزع، فنظر إلى رائد وسيف آمرًا إياهم بقوة: رائد أنت وسيف خليكم هنا مع البنات ومحدش يخرج من البيت مهما حصل، سامعين؟
اقترب منه رائد وتسائل بقلق: في إيه يا قاسم إيه اللي حصل.
رد عليه قاسم بصوتٍ غاضب: اسمع اللي بقولك عليه يا يحيى، محدش من البنات يخرج إلا وعلى جثتكم انتوا سامعين؟
أومأ له رائد دون التفوه بكلمة أخرى، يبدو أن الأمر كبير وهذا ما يظهر على أوجه جميع الرجال الآن، بينما قاسم نظر إلى آلبرت طالبًا منه بسرعة قبل أن يهبط إلى الأسفل مُهرولًا: خَلي اتنين من اخواتك مع البنات احتياطي يا آلبرت.
أومأ له آلبرت بوجهٍ جامد قبل أن يستدير إلى أخواته الذين تجهزوا بأسلحتهم تلقائيًا: إيغور وفور ابقوا هنا.
اعترض فور بغضب: لكن يا أخي لن أترككم وحدكم.
حاول آلبرت التحكم بأعصابه فاقترب من أخيه أكثر مُربتًا على كتفه بقوة، ثم تشدق بجدية: فور زوجتك تحتاجك الآن، كما أن السيدات كثيرات وكُلًا من رائد وسيف وحدهم لن يستطيعوا حمايتهم إن حدث شيء سيء.
دار فور بأنظاره على أوجه الجميع حتى توقفت حدقتاه على وجه زوجته التي تُطالعه بقلقٍ بالغ، تنهد بأسى قبل أن ينفخ بضيق: حسنًا أخي سأظل معهم.
ربت آلبرت على ذراعه قبل أن يرحل هو وأخواته الأربعة خلف قاسم، بينما حبيبة جلست بجانب حياة وهي تتسائل بخوفٍ بالغ: أهلة فين يا ماما؟
دارت حياة بأنظارها في المكان ثم تشدقت بقلق وهي تُجيبها بجهل: والله يا بنتي ما عارفة، هي كانت هنا من شوية مش عارفة اختفت وراحت فين.
ازداد القلق داخل فؤاد حبيبة أكثر ووقفت حائرة تبحث عن شقيقتها في أرجاء المنزل، بينما لوسيندا وضعت كفها على معدتها وقد شعرت بتقلصها بسبب التوتر الذي حل على الجميع، تشنج وجهها بألم فانتبهت لها مهرائيل التي سألتها بقلق: مالك يا لوسيندا؟
استمع كُلًا من فور وإيغور إلى سؤال مهرائيل فهرولا إليها بقلق بالغ، أجلسها إيغور بتريث على الأريكة ثم تسائل بانتباه: بِمَ تشعرين زوجة أخي؟ هل أُحادث الطبيب لفحصك؟
هزت لوسيندا رأسها بألم وهي تقول بالروسية: لا إيغور أنا بخير، فقط بعض التقلصات تأتي لي من الحين للآخر.
أمسك فور بكأس المياه ثم قربه منها فمها جاعلًا إياها ترتشف القليل، وبعدها سألها بقلق: هل أنتِ بخير الآن؟ إن أردتِ سأُهاتف چون ليأتي وأذهب أنا بدلًا منه.
ردت عليه لوسيندا هامسة: لا تفعل فور أنا بخير لا تقلقه.
وقفت چيهان من مضجعها ثم ذهبت تجاه لوسيندا وتشدقت بحنان: تعالي يا حبيبتي ادخلي ارتاحي في أي أوضة جوا.
وافقتها لوسيندا لحاجتها إلى التمدد والراحة قليلًا، فساعدتها في ذلك كُلًا من نبيلة وحياة اللتان دلفا معها إلى الغرفة لمساعدتها، وبالتأكيد دخلت معهم مهرائيل حتى لا تترك شقيقتها وحدها، بينما محروس هب من مكانه ونادى ابنه بصرامة: رائد تعالى معايا عايزك.
قطب رائد جبينه بتعجب، لكنه اتبع والده إلى أحد الأركان لرؤية ما يريد، وقف محروس بعيدًا عن التجمهر العائلي الكبير ثم سأل رائد بحدة: أنا عايز أعرف كل اللي بيحصل هنا من غير كدب، مسدسات داخلة ومسدسات خارجة وقلق وتوتر، هو في إيه بالظبط؟
هز رائد كتفه بجهل مُجيبًا إياه بحيرة: والله يا بابا مش عارف محدش قال حاجة، بس متنساش إن إخوات جون وفور ظباط فطبيعي يكون معاهم مسدسات يعني متقلقش، شوية كدا وهكلم قاسم وأفهم منه إيه الحكاية.
طالع محروس ابنه بعدم اقتناع، لكنه وبالرغم من ذلك أومأ له ورحل عنه مُتجهًا إلى مقعده على الأريكة مرة أخرى، بينما رائد نظر لأثره بحيرة وهو يُفكر في سبب الجلبة التي حدثت منذ قليل وخوف قاسم المُفاجيء وركضه للخارج بسرعة.
وقفت حبيبة تبكي بأسى في أحد الأركان عندما أيقنت أن تلك الجلبة التي حدثت منذ قليل خوفًا على شقيقتها أهلة، لاحظتها يمنى فاتجهت إليها ثم عانقتها بحنوٍ وهي تُربت على ظهرها بحب: متخافيش عليها والله أهلة قوية وهتعرف تاخد حقها بإيديها.
وبحديثها هذا كانت تقنع ذاتها أولًا قبل أن تُقنع حبيبة، تموت خوفًا من أن يُصيب شقيقتها أي مكروهٍ بسبب تهورها، انسحاب الرجال من بينهم بتلك السرعة أخافها وبث الهلع داخل فؤادها، لكنها تُحاول أن تدعم مَن حولها حتى تُخفف من قلقهم وتوترهم ولو قليلًا، وهذه هي عادتها منذ أن كانت صغيرة!
وعلى الجانب الآخر، ارتعش كفيّ سهيلة بتوتر وهي تهمس ل ملك: مش قادرة أسيطر على إيدي عمالة تترعش.
نظرت ملك لكفيها فوجدتهما يرتعشان بالفعل، جففت أهدابها المُبتلة ثم سألتها بصوتٍ مُتحشرج: بتترعش من إيه، أنتِ تعبانة؟
هزت سهيلة رأسها بالنفي قبل أن تُجيبها بأنفاسٍ غير مُنتظمة: لأ متوترة، وأنا أعصابي بتسيب لما بخاف أو لما بتوتر.
أحاطت ملك كفيها تضمها لخاصتها، ثم تنهدت بيأس وبدموعٍ خائفة: متخافيش، أنا مش عارفة إيه اللي حصل بس أنا مش عايزة غير أختي ترجعلي سليمة.
قالت كلمتها الأخيرة ثم هبطت دمعة شاردة من داخل مقلتيها، لا تريد أن تستشعر مرارة الفراق والوحدة من جديد، لقد شعرت بالأمان عند وجود أهلة ويمنى معها بهذا المنزل، وفقدها لأي منهما قد يُصيبها بالانهيار، تحول الاحتواء من ملك إلى الأخرى، وتلك المرة عانقتها سهيلة بحنان وهي تقول بكلماتٍ مطمئنة: هترجع أنا واثقة من دا، وبعدين قاسم مش هيسمح لأي حد إنه يأذيها متخافيش.
استكانت ملك بين ذراعي سهيلة، وتمنت من كل قلبها أن يُعيد لها الله شقيقتها سالمة دون وجود ما يُصيبها، وبعد دقائق استقرت بجانبهما كُلًا من يمنى وحبيبة وبات أربعتهم يدعمون بعضهم البعض بكلمات هادئة، وبعدها هبوا من مضاجعهم واتجهوا نحو الغرفة التي تمكث بها لوسيندا وشقيقتها للإطمئنان عليها.
وفي الشرفة.
تجمع كُلًا من إيغور، يونس/فور، رائد، وسيف، أخرج إيغور جهاز الحاسوب الذي أتى به لهنا خصيصًا ثم تحدث بابتسامة ماكرة: لنرى ما علينا فعله الآن.
وعلى الجانب الآخر.
انطلق قاسم بسيارته بسرعة جنونية وأنظاره مُثبتة على الهاتف الذي يُظهر إليه خط سير زوجته من خلال ال Gps الموصل بين جهازيهما، شدد بقضبته على مقود السيارة وعيناه تحتدم بغضب جحيمي، لماذا خرجت بسرعة دون إخباره عن شيء، هل يُعقل بأنها استمعت لحديثه وذهبت لمواجهة رفعت الأرماني؟ وإن كان هكذا. لمَ تسلك ذلك الطريق المهجور والمنطقة الصحراوية إذًا؟
طالع صهيب شقيقه بهلع وهو يراه يكاد يطير بالسيارة حتى يُواكب سرعة زوجته ثم صرخ به بغضب: ما تهدى شوية يا قاسم هتموتنا قبل ما نوصل.
ضرب قاسم بقبضته على المقود الذي أمامه ثم صرخ باهتياج: متقوليش إهدى، أنت عارف لو كانت فعلًا رايحة ل مختار الأرماني ممكن يعمل فيها إيه؟
نفخ صهيب غاضبًا ثم أردف وهو يجز على أسنانه بضيق: االفكرة هي إزاي عرفت مكانه، أو هي هتستفاد إيه أصلًا لو راحتله.
وبحقدٍ أجابه قاسم بكلمة واحدة: هتقتله.
فتح صهيب عيناه على مصرعهمها وهو يُردد بعدم تصديق: إيه؟
أسرع قاسم من سيارته أكثر مُجيبًا شقيقه بقنوط: خدت المسدس بتاعي من الدرج وخرجت، مفيش إجابة تانية غير إنها سمعت كلامنا ودخلت خدت المسدس وراحتله عشان تقتله.
تسلل القلق داخل فؤاد صهيب أكثر، وبدلًا من طلب الإبطاء منه أردف مُسرعًا: طيب سرع شوية خلينا نلحقها بدل ما تعمل حاجة.
وفي السيارة التي تُلاحقهم حيث آلبرت وأخواته العفنين كما سبهم منذ قليل.
دفع چون أخيه آندريه وهو يتحدث بحنق: ابتعد واللعنة! أنت مُزعج حقًا.
تأفف آندريه بانزعاج وعلى بغتة قام بلكم چون في وجهه وهو يصرخ بغضب: تأدب يا حقير أنا أكبرك سنًا.
وضع چون يده على وجهه مكان لكمته مُطالعًا إياه بنظرات حارقة، ثم دفع الأدوات التي يحملها على قدمه وهب من مكانه لاكمًا أخيه عدة لكمات على وجهه أثناء قوله الحانق: اللعنة عليك وعلى سنك الحقير.
صرخ آندريه أسفل يده طالبًا النجدة: أنقذوني من هذا الحمار أيها المَعاتيه.
نظر إليه جميع إخوته بنظراتٍ قاتمة، فحمحم بتوتر بعد أن ابتعد عنه چون حينما انتهى من ضربه، ثم تشدق بابتسامة غبية: أنا أمزح يا إخوتي.
استدار له ستيفن والذي كان يجلس في الأمام بجانب آلبرت، وبعدها تحدث بسخرية: عزيزي آندريه لم أجد كائن بمثل حماقتك صدقني.
ربت آندريه على صدره بفخر وكأنه مدحه للتو، ثم أجابه بابتسامة مُتأثرة: شكرًا لك أخي، وأنا أيضًا أُحبك لا داعي لقسمك.
طالعه ستيفن بتشنج قبل أن يُغيد نظره للطريق مرة أخرى أثناء تمتمته لبعضِ الكلمات، يبدو بأنه يسبه وظهر هذا واضحًا على معالم وجهه الساخطة، بينما ليونيد نكز آندريه وهو يقول بابتسامة سعيدة أثناء نظره لهاتفه: انظر! بربك ألم تكن جميلة اليوم؟
نظر آندريه إلى ما يُشير إليه، فوجده يأتي بصورة ل لواحظ في أحد الأوضاع والذي التقطها أثناء عقد القِران الخاص بشقيقه، انمحت ابتسامة آندريه وهو يقول بتشنج: ما هذا؟
رد عليه آندريه وهو يهز كتفه ببساطة: لقد التقطت بعض الصور ل لواحظ، تلك الفتاة جميلة حقًا.
وتلك المرة تدخل چون بقوله الساخط: فتاة؟ بربك أخي تلك عجوز، وقد أنجبت رجل أولاده على وشك الزواج!
طالعه ليونيد بطرف عيناه بحقد قبل أن يصرخ به مُوبخًا إياه: اصمت يا عديم الأدب! تحدث بطريقة أفضل من هذه على لولو وإلا قتلتك.
لولو؟
رددها كُلًا من جون وآندريه بتشنج، ليؤكد لهم ليونيد حديثه قائلًا بتفاخر: أجل لولو، لقد علمت للتو بأنها أنهت خطبتها منذ عدة أشهر، أوه يا رجال أنا سعيد للغاية حقًا.
لم يُجيبه أحد من الجالسين بجانبه، بل صعد صوت آلبرت الغاضب الذي انتهى صبره منهم جميعًا وهو يصرخ بهم: أقسم إن لم تصمتوا سأقتلكم جميعًا أيها الحمقى.
وبالفعل صمت الجميع ولم يجرؤ أحد منهم على التحدث بعد تحذير شقيقهم المُستبد لهم.
بعد مرور عشر دقائق، وصلت أهلة إلى المكان البعيد النائي التي مازالت تتذكره حتى الآن، تتذكر فيه جميع أيامها ولهوها وكذلك حزنها صراخها، منزل ضخم ضم طفولة قذرة إن صح القول، هبطت من السيارة لكنها لم تنسى انتشال السلاح ثم أمسكت به جيدًا، كان استماعها لكلمات زوجها عن هروب مختار الأرماني كالشعلة التي اشتعلت داخل فؤادها، لتُقرر تلك المرة بعدم تركه يمرح حرًا كما يشاء، بل قررت الإنهاء عليه كُليًا.
دلفت إلى الداخل وبالطبع لم يكن هناك حرس، مما سهَّل لها مهمة الدخول والتسلل كيفما تشاء، كان الباب مُواربًا وذلك لحسن حظها، قامت بفتحه تمامًا فأصدر صريرًا مُزعجًا انتشر صداه في المكان، في تلك الأثناء كان مختار مُتمددًا على الأريكة بإنهاك ووجهه مليءٌ بالكدمات، لكنه انتفض بفزع عندما استمع إلى صوت فتح باب منزله وازداد فزعه عندما شاهد السلاح الذي تُمسكه تلك الغريبة بين يديها، رفع كفه أمام وجهه قائلًا بصعوبة: أنتِ. أنتِ مين؟ وعرفتي مكاني هنا إزاي؟
صوبت السلاح نحو وجهه وعلى ثغرها ارتسمت ابتسامة ساخرة مُحملة بالألم، وبعدها تشدقت بسخط: وهو فيه حد بينسى المكان اللي قضى فيه أسوأ سنين عمره يا مختار؟ إيه كنت فاكر إن محدش عارف المكان دا غيرك ولا ايه؟ نسيت إنك بتاخدني معاك وأنت بتخلص صفقاتك القذرة؟
أنزل مختار يده أثناء مُطالعته لها بعدم تصديق، شلت الصدمة جسده ومنعته من إبداء أي ردة فعل، بل ينظر إليها بصاعقة وكأنها كائن غير بشري هجم عليه للتو! وبعد ثوانٍ من الصمت نطق لسانه اسمها دون وعي: أهلة؟
ابتسمت أهلة لكن ابتسامة أبعد ما تكون عن السعادة، وكأنها قادمة من أعماق النقطة السوداء التي بفؤادها، ثم أجابته بغل: أه أهلة يا مختار، اوعى تكون نسيتني والله أزعل منك يا جدع!
ابتلع مختار ريقه بصعوبة وهو يعود للخلف ببطئ، ثم تسائل بعدم تصديق: إزاي؟ أنتِ موتي.
أخرجت صوتًا ساخرًا من فمها ثم تصنعت الأسى وهي تنفي حديثه: للأسف مموتش، عارف مموتش ليه؟ عشان أخلص عليك أنا الأول.
هز مختار رأسه بهستيريا ومازالت قدماه تأخذانه للخلف، وهو يقول بصوتٍ مُرتعش: لأ. أكيد مش هتعملي كدا صح؟
أطلقت أهلة العنان لضحكاتها الصاخبة بالصعود حتى أدمعت عيناها، لكن دموع عينها لم تهبط من كثرة الضحك، بل من مرارة المشاهد التي مرت بذاكرتها الآن، اقتربت منه أكثر ثم تحدثت ساخرة: غريبة! متأكد إني مش هعملها ليه؟ سيبتلي ذكرى واحدة حلوة أفتكرك بيها، سيبتلي أيام كنت مرتاحة فيها؟ سيبتلي أمي اللي ماتت من كُتر المنومات اللي كنت بتحطها ليها؟ ليه مُتأكد إني هخليك تعيش؟
لم يجد مختار إجابة واحدة على كل الأسئلة التي قالتها، استطدم بطرف الطاولة مما أدى إلى سقوطه على الأرض بقوة، فصرخ بخوف وفزع: مكنتش في وعيي، والله العظيم مكنتش في وعيي.
وأنا كمان دلوقتي مش في وعيي.
قالتها ثم أطلقت النيران عليه، طلقة استقرت في كتفه مما أدى إلى علو صرخاته المُتألمة بقوة، هبطت دموعها بكثافة ثم أطلقت رصاصة أخرى في الكتف الآخر، ومع كل طلقة تتذكر والدتها الجميلة وهي مُكفنة بغطاء أبيض كبير من رأسها لإخمص قدمها، كانت تصرخ بهم بأن يتركوها لكن كانوا يُطالعونها ببرود ولم يرأفوا بحال تلك المسكينة، وصمتت صرخاتها كُليًا عندما رأت التراب يحتضن جسد والدتها، لقد تركتها والدتها مع ذلك القاسي المُتجبر ليفعل بها ما يشاء!
في تلك الأثناء اقتحم قاسم والشباب المنزل ليُصدموا بذلك المشهد الذي صنمهم في أماكنهم، كان أشبه بالجلاد والقاضي رغم أن أهلة بعيدة كل البعد عن هذا التشبيه، لكن عيناها كانت معمية، لا ترى سوى أسوأ فترة في حياتها، صعد صدر بنهيجٍ حاد وقررت إنهاء حياته، لكن صوت قاسم الصارخ أوقفها عن فعلتها المشينة والتي قاربت على فعلها: أهلة لأ.
توقف إصبع أهلة عن الضغط على الزناد، ثم طالعته بأعين مُمتلئة بالدموع، وبصوت ضعيف هزت رأسها بالنفي وهي تقول: لأ. هقتله. هقتله زي ما قتلني زمان وهحسره على كل حاجة.
قالت جُملتها الأخيرة وهي تعاود النظر نحو مختار بأعين مُتحدية حاقدة، وكأنها كانت مُقررة من قبل حتى ان تأتي، استعدت للإطلاق لكن تلك المرة ستصوب على قلبه مُباشرةً لتُنهي حياته كُليًا، وللمرة الثانية يوقفها قاسم الذي قرر الدخول لها عبر ثغراتها: وهتكوني عايزة ربنا يزعل منك؟
تزعزع ثبات أهلة كُليًا عقب سؤاله، رمشت بأهدابها عدة مرات قبل أن تنظر إلى السلاح الذي بيدها بتعجب، ونظرة أخرى سددتها نحو مُختار الذي يتألم بسبب إصابة كتفه، ارتعشت شفتيها ببكاء قبل أن تُجيبه وهي تنهمر في البكاء المرير: أنا مش عايزاه يعيش، أنا بكرهه، لأ مش هخليه يعيش، هيموت زي ما قتل ماما وحرمني منها.
وبتروٍ اقترب منها قاسم ثم تحدث بحنان: هيموت والله، هيتعدم النهاردة وهترتاحي.
وصل إليها وعلى بغتة انتشل منها السلاح الذي أمسكته، رماه بعيدًا ثم جذبها يحصرها بين ذراعيه بقوة، وهي تركت العنان لشهقاتها الحادة بالصعود، صرخاتٌ مُمتزجة بالبكاء المرير، لقد شعرت بضعفها الآن، هي هشة وليست قوية كما يظهر، أدمعت عينيّ قاسم بقوة فدفن وجهه بين ثنايا عنقه أثناء محاولته لتهدأتها، رمى إليها بعض الكلمات المُطمئنة، قُبلاته الحنونة كان يُغرقها بها حتى هدأت تمامًا.
كان الجميع مُنشغلًا عنهم، لقد أتت قوات الشرطة وتم القبض على مختار الأرماني مُجددًا، لكن تلك المرة بإصابتين في كتفيه، لم يُشفق أي منهم على حالته المُثيرة، بل طالعوه باشمئزاز جلي وكأنه حشرة لا قيمة له.
ابتعدت أهلة بوجهها عن قاسم قليلًا ثم جففت وجهها في ثيابه، كتم قاسم ضحكته بصعوبة ثم تسائل بصوتٍ مكتومٍ: بتعملي إيه يا هولا؟
أجابته بصوت مُتحشرج ووجهٍ واجم: بمسح وشي.
لوى شفتيه ساخرًا وهو يتسائل: في هدومي؟
مسحت وجهها كاملًا من دموعها ثم ابتعدت عنه قائلة بملامح حانقة: مش عايزة منك حاجة.
فرغ فاهه وهو يُطالعها بصدمة، لكن عاد القلق يحتل محياه مُجددًا عندما تشكلت الدموع بمقلتيها مرة أخرى، تقدم منها ثم أحاط وجهها بقلق وهو يتسائل بحنان: مالك يا حبيبي زعلانة ليه؟
نظرت لثيابها ثم تشدقت بحزن: الفستان بتاعي باظ، مسك في باب العربية وأنا نازلة.
مسح دموعها بأصابعه ثم اقترب طابعًا قبلة صغيرة على خدها وهو يقول بحنان: هجيبلك أحسن منه متزعليش.
رفعت عيناها له تسأله بترقب: بجد؟
ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه وهو يُوميء له بالإيجاب، لتنفي برأسها بضجر قائلة: لأ مليش دعوة عايزة اتنين.
أحاط بكتفها ثم سار معها نحو الخارج أثناء سؤاله المُتعجب: حاضر يا ستي هجيبلك اتنين، عايزة حاجة تاني؟
صمتت لثوانٍ تعد على أصابعها بتفكير، وبعدما انتهت رفعت أنظارها إليه قائلة بابتسامة مُتسعة: عايزة تمانية.
تشنج وجه قاسم وهو يسألها بعدم فهم: تمانية إيه لموأخذة؟
تمن فساتين، اتنين ليا عشان أنا مراتك وبتحبني، وستة لإخواتي البنات و لوسي ومهاميهو وهايلة.
دفعها في السيارة بقوة طفيفة ثم استدار ليجلس بجانبها على مقعد السائق وهو يقول بسخرية: آه ما أنا قاعد على بنك، ما كل واحدة من دول متنيلة متجوزة أجيبلهم ليه أنا؟
قطبت أهلة جبينها بسخط ثم طالعته متعجبة وهي تتسائل: أنت شكلك بخيل وأنا اتخميت فيك ولا إيه؟
انطلق قاسم بالسيارة أثناء قوله الساخر: بخيل؟ فوقي يا ماما. الفستان اللي أنتِ لابساه دا بألف جنيه، وأنتِ عايزاني أجيب تمانية ب 8000 جنيه يبقى أنتِ عايزة تخربي بيتي.
ربعت أهلة ذراعيها أمام صدرها وهي تُردد ساخرة: مليش دعوة أنا عايزة تمن فساتين.
أوقف قاسم السيارة على بغتة ثم طالعها بنظراتٍ خبيثة قلقت منها، ابتلعت ريقها بريبة فسألته بحذر: بتبصلي كدا ليه؟ واللهِ أصوت وألم عليك الناس ابعد عني.
وحشتيني.
نطق بها بهيامٍ مما جعلها تقطب جببنها بتعجب وهي تقول: أنت بتحاول تقولي كلام حلو علشان تستغلني صح؟
نفى برأسه قبل أن يُقربها منه أكثر ثم ضمها لفؤاده وهو يتنهد بعشق: لأ بجد أنتِ وحشتيني، حاسس إنك كنتِ بعيدة عني أوي وعيني كانت مُشتاقالك.
ابتسمت بحنان فرفعت ذراعيها مُحيطة بعنقه تضمه بقوة بالغة، بينما هو أحاط بخصرها أكثر قائلًا وهو يتنهد بقوة: متعمليش فيا كدا تاني، معنديش استعداد أعيش نفس الدقايق اللي عيشتها دي من جديد.
دفنت وجهها في عنقها تشتم عبقه، ثم أردفت باعتذار: أنا أسفة مش قصدي أخوفك أو أقلقك، أنا كنت مقهورة وعايزة أريح قلبي من قهرته، قلبي كان واجعني أوي.
قبَّل خدها بقوة وهو يقول بحنان بجُملته المُعتادة: سلامة قلبك من الوجع.
ابتسم بعشقٍ بالغ أثناء شعورها بقُبلته التي هبطت فوق جبينها، لكنها دفعته على بغتة قائلة بعنادٍ وهي تُربع ذراعيها مُجددًا: بس برضه هتجيبلي تمن فساتين.
وصل صهيب ومعه الجميع إلى المنزل، فقابلهم الجميع بلهفة، نظرت نبيلة لهم ثم تسائلت برعب: فين أهلة؟ بنتي فين؟
ربت صهيب على كتفها بود ثم أجابها باطمئنان: متقلقيش عليها هي مع قاسم وزمانهم جايين.
تنهد الجميع بارتياح، فذهبت إليه حبيبة تسأله بقلق: هي فين أنا عايزة أشوفها!
قرصها صهيب من وجنتها بمشاكسة أثناء قوله العابث: يوه يا بسكوتة ما قولتلك جاية مع جوزها، تعالي ندخل نقعد جوا عشان ترتاحي.
تقدمت مهرائيل من چون ثم أردفت بوجهٍ قلق حتى كادت أن تبكي: لوسيندا تعبانة وبتقاوح يا چون، عايزين نكشف عليها.
انتفض چون من مكانه والذي جلس ليرتاح قليلًا، نظر حوله في الأرجاء ثم تسائل بفزع: هي فين؟
ابتلعت ريقها بصعوبة ثم أشارت له نحو الغرفة قائلة: هي نامت دلوقتي في الأوضة دي.
لم تكد تُكمل جُملتها حتى هرول هو إلى الغرفة التي تُشير إليها، رمشت بأهدابها عدة مرات تُحاول منع ذاتها من البكاء، فشعرت بمَن يُحيط بكتفها ويتسائل بحنو: ما بكِ جروي الصغير حزينة؟
طالعته مهرائيل بأعين دامعة وبعدها أجابته بخفوت: لوسيندا تعبانة أوي وأنا خايفة عليها، حملها مش سهل.
ضم رأسها إلى صدره ثم تشدق بحنان: لا تخافي ستكون بخير، تلك الشهور الأولى تكون صعبة دائمًا.
كانت قد استكانت بين ذراعيه، لكن عقب حديثه ابتعدت عنه بعنف قائلة وهي تُضيق عيناها بشك: وأنت إيه اللي عرفك إن الشهور الأولى بتبقى صعبة؟
أجابها وهو يهز كتفه ببساطة: أنا أعلم.
لوحت مهرائيل أمام وجهه وهي تُصيح به: لأ كلمني زي ما بكلمك كدا، أنت عارف منين إن الحمل بيكون صعب في الأول؟
ضربها آلبرت على رأسها عدة مرات أثناء قوله المُغتاظ: ما تبطلي غباء بقى! العالم كله عارف إن الحمل سواء في أوله أو في أخره بيكون صعب بس أنتِ اللي هطلة.
طالعته مهرائيل بصمت عدة ثوانٍ، ثم أومأت له وهي تُرجع خصلاتها للخلف بغرور وهي تقول: كنت عارفة إنك هتقول كدا على فكرة بس كنت بختبرك.
طالعها باستنكار، لتُبادله هي بابتسامة واسعة غبية بعض الشيء، ثم اقتربت منه مُمسكة بذراعه ووضعته رغمًا عنه على كتفها ليُحيطه: أيوا كدا يا جدع احتويني، حسسني إن إحنا متجوزين مش كدا.
ضحك بيأسٍ على جنونها الذي لم يقل أبدًا، فهبط على وجنتها يُقبلها بحنان أعقبه بقوله الحنون: مر أسبوع فقط على زواجنا لكن حتى الآن لا أُصدق هذا.
ابتسمت مهرائيل بخفة وهي تُوميء له تؤكد على حديثه، وبعدها تفوهت بتكبر: أكيد مش مصدق إن أنا معاك مش كدا؟
أيد قولها قائلًا: نعم، لا أُصدِق كيف سأتحمل كتلة الغباء تلك مدى الحياة!
تشنج وجه مهرائيل بسخط قبل أن تستدير إليه وهي تتسائل بغضب: ماذا تقصد يا آلبرت ياخويا؟
أردفت نصف جُملتها الاولى بالروسية، وفي النصف الآخر نطقت به بالعربية الشعبية، مما جعل ضحكاته تعلو بصخب قائلًا وهو يهبط على خدها يُقبله بقوة: لا أقصد شيء يا قلب آلبرت.
وعلى الجانب الآخر في الشرفة، جلست سهيلة مُتنهدة براحة بعد أن اطمأنت على الجميع، وفي تلك الأثناء كان فور يجلس بجانبها وهو يرتشف قليلًا من كوب النسكافيه خاصته والذي أعدته من أجله فقط! وبينما هي كانت شاردة في القمر المُتعلق في السماء، كان هو شاردًا في قمره الذي يجلس أمامه، والذي يفوق كل شيءٍ جمالًا ودلالًا.
استفاقت سهيلة من شرودها على شعورها بإمساك أحدهم لكف يدها، كانت إحاطته ليدها حنونة ودافئة، فعلمت من صاحبها، ارتسمت ابتسامة صغيرة على ثُغرها وازدادت أكثر عندما همس بمشاعر جياشة: بحبك.
طرق الفؤاد بين جنبات صدرها، وصاحبه تسلل السعادة لأوردتها، واتساع بسمتها على ثُغرها، ونمو عشقه أكثر داخل فؤادها، فأيقنت أن وجدانه مُترابط بوجدانها، والعشق يهفو على قلبِ كليهما، ومنذ البداية فأقدارهما مُتناسجة مع بعضها.
التمعت عيناها بسعادة وردت قائلة: وأنا كمان.
وضع المشروب الساخن من بين يديه ثم وقف وأوقفها معه، ضمها إلى صدره فاستمعت إلى تنهيدته المُرتاحة التي خرجت من بين شفتيه، تبعه قوله الهامس: انتظرت ذلك اليوم كثيرًا هايلة، اليوم الذي سأضمكِ فيه بكل راحة ويُسر دون خوف.
وضعت رأسها موضع صدره تستمع لضرباته الصاخبة مما أدى إلى اتساع بسمتها، بينما هو استطرد حديثه قائلًا: ذلك الفؤاد التي يعمل كمضخاتٍ ينطق بإسمكِ فقط، أنتِ المرأة الأولى والوحيدة الذي سيطرق من أجلها هايلة.
أدمعت عيناها بسعادة مما تستمع إليه للتو، تشعر بأن الله قد عوضها خيرًا نتيجة لصبرها، وبصوتٍ مُتحشرج هامس نادته بخفوت: فور!
ابتسم بخفة وصحح لها: يونس.
هزت رأسها نفيًا وتفوهت بضحك: لأ اتعودت على فور متجادلنيش.
أومأ لها ضاحكًا: حاضر مش هجادلك، كنتِ عايزة تقولي إيه؟
شددت من ضمها لخصره أثناء قولها العاشق: بحبك أوي.
فتح فاهه ليُجيبها، لكنه شعر بها تبتعد عنه بعنف و رائد يُحيط بها ثم تشدق بغيظ: مفيش لا حب ولا أحضان لحد ما أنا كمان أتجوز، انتوا سامعين ولا لأ.
تشنج وجه فور بسخط قائلًا: دي مراتي.
رد عليه رائد بعناد وهو يضمها إليه أكثر: ودي أختي قبل ما تكون مراتك، ويلا اسرح من هنا بقى وروح شوف أنت رايح فين.
قاطع شجارهم مُناداة چيهان ل سهيلة بقولها العالي: تعالي شوفي صحبتك يا سهيلة.
نظرت سهيلة لكُلٍ من شقيقها وزوجها بضحك، ثم ابتعدت عنهما لتذهب ورؤية مريم التي أتت لتوها، عانقتها مريم بقوة ثم تشدقت بسعادة بالغة: مُبارك يا حبيبة قلبي، فرحانة ليكِ أوي.
ربتت سهيلة بامتنان على ظهرها وهي تُجيبها بحب: الله يبارك فيكِ يا مريومة، اتأخرتي ليه كدا كنت مستنياكِ من بدري!
اعتذرت لها مريم بأسف: أسفة والله ماما كانت تعبانة شوية ومكنش ينفع أسيبها لوحدها.
لأ ألف سلامة عليها، ابقي سلميلي عليها لحد ما آجي أزورها بنفسي.
أومأت لها مريم مُبتسمة بحب: حاضر من عيني.
ذهب سيف نحو رائد المُغتاظ من فور، ثم مال على أذنه مُتسائلًا وهو ينظر ل مريم: بقولك إيه ياض يا رائد؟ هي مين اللي واقفة مع أختك دي؟
نظر رائد حيث يُشير، فصمت لثوانٍ ثم أجابه: دي صاحبة سهيلة، بتسأل ليه؟
أجابه سيف بسخرية قبل أن يبتعد عنه: هطلعلها بطاقة ياخويا.
وبالداخل حيث چون ولوسيندا.
مال چون على معدة لوسيندا التي تُراقبه بحنان، ثم قبَّل بروز معدتها مُتحدثًا لطفله بعتاب: ما بال صغيري يُزعج والدته؟ كُف عن العبث يا مُشاغب.
ضحكت لوسيندا باتساع على حديث زوجها أثناء غرزها لأصابعها بين خصلاته الطويلة، فرفع هو رأسه لها واعتدل جالسًا بجانبها ثم سألها بحنان: هل أنتِ بخير الآن حقًا؟
قلبت عيناها بيأسٍ مُؤكدة له بقولها: والله يا حبيبي أنا بقيت كويسة، أنا بس قلقت عليك مش أكتر فتعبت.
مال على جبينها يُقبله بحنان بعد أن تفوه بحب: حمدًا لله على سلامتك يا قلب چون، أنا لا أُطيقُ تعبكِ ولو لدقيقة واحدة.
مسدت على جانب وجهه وهي تقول بحنان: ربنا يخليك ليا يا حبيبي يارب.
وصل قاسم وأهلة إلى المنزل أثناء حملهم لكثيرٍ من الحقائب، كانت ابتسامتها ترتسم على وجهها باتساع، ليزفر قاسم بانهاك وهو يتحدث بسخرية: على الله الهانم تكون مبسوطة ومرتاحة كدا.
ردت عليه بحماس: جدًا جدًا والله.
سعد لفرحتها، فتحول وجهه للخبث وهو يتسائل: طيب مفيش أي مكافئة كدا ولا كدا؟
نظرت إليه بتعجب، فوجدته يجذبها لأحضانه قائلًا بمشاكسة: تعالي في حضني يا كفاءة حسسيني إني متجوز كدا.
ضحكت بخفة ثم ارتفعت بجسدها وقبلته بخفة على وجنته وهي تقول بمرح: أحلى مُكافئة لأحلى قاسم في الدنيا.
وعلى بُعدٍ آخر، هرولت نبيلة خلف يحيى الذي يصرخ طالبًا النجدة وهي تُعنفه بضجر: بقى أنت عايز تستغل البت يا سافل يا قليل الأدب؟
صرخ يحيى وهو يبتعد عنها: يا حماتي دي بقت مراتي يا خرابي!
تجمع الجميع بمنزل قاسم، كان الجو مليئًا بالحب والألفة، عائلة واحدة تجمعهم صلة الرحم رغم عدم وجود رابط قوي ليجمعهم، لكن الحب كان أقوى من أي رابط، رابط خُلِطَ بين السعادة والشقاء، الفرح والحزن، الضحكات والبكاء، وذلك الرابط كان أقوى شيء جمعهم.
ظهر على التلفاز صوت المُذيعة والتي التقطت خبرًا وصل لهاتفها وكانت أهلة هي المُرسل بينهما، والتي تشدقت بنبرة عملية وجادة للغاية: وها قد جائتنا الأخبار عن هروب رفعت الأرماني والقبض عليه مُجددًا، وذلك بعد أن تم إثبات جميع التُهم عليه بتجارته في الأعضاء البشرية، وتصدير واستيراد الأغذية المُسرطنة، والأدوية منتهية الصلاحية، مختار الأرماني هو واحد من رجال الأعمال الذين يخفون جرائمهم تحت ستار الأعمال الخيرية والجمعيات، وما خفى كان أعظم.
نظر قاسم بفخر نحو أهلة التي تُتابع بشماتة، ثم غمز لها بمشاكسة قائلًا: كفاءة.
بعد مرور شهرين.
استيقظ صهيب على صوت بكاء من حبيبة، فهب من مكانه بفزع وتسائل قلقًا: مالك يا حبيبة بتعيطي ليه؟
أجابته حبيبة وهي مازالت مُتمددة على ظهرها، لكن تلك المرة وهي تشهق بعنف: أنا مش بحب حاجة تتحرك في بطني، أنا عايزة أنزله مش عارفة أنام.
طالعها بعدم تصديق وردد بصدمة: عايزة إيه؟
شهقت ببكاءٍ حادٍ ثم أجابته: عايزة انزل البيبي مش عارفة أنام.
يعني عايزة تجهضي البيبي عشان عايزة تنامي؟
أومأت له وهي تُحاول أخذ انفاسها، فتنهد بهدوء لعلمه بأن هذا ما هي إلا هرمونات قد اعتاد عليها مؤخرًا، كما اعتاد شقيقه أيضًا على وحم أهلة التي جعلته يترك لها المنزل بأكملها بسبب حنقها منه!
مال صهيب على حبيبة مُقبلًا جبينها بحنان، ثم أردف بحب بعد أن مسح دموعها: طيب يا حبيبتي نامي دلوقتي وأوعدك الصبح هنروح ننزل البيبي.
هدأت حبيبة قليلًا وبعدها سألته بحذر: بجد يا صهيب ولا بتضحك عليا؟
بجد يا قلب صهيب، يلا غمضي عينيكِ وارتاحي.
كانت الأيام تسير سريعة للغاية، تزوج الجميع وكذلك حملوا في أرحامهن أجنة صغيرة بدأت بالنمو داخلهم، تزوج كُلًا من يونس، سهيلة و يحيى، يمنى و رائد، ملك، وجميعهن في ليلة واحدة، وها هي كل واحدة منهم تحمل داخل منها طفلها.
علت الصرخات فجأة في المكان، والمقصود بالمكان هي المشفى التي أتى لها الجميع لولادة لوسيندا الذي ضرب الألم بمعدتها فجأة، و حبيبة عندما رأتها في هذا الوضع شعرت بآلام مُفجعة تضرب معدتها بعنف، آلامٌ لا تتحمل، يبدو بأنها تلد هي الأخرى!
وعلى صعيدٍ آخر. علت صرخات التوأمين يعلنون قدومهم لتلك الحياة، لكن الطفلان لم يكونا من تلك العائلة، بل هُم أطفال ريماس الأرماني!
نظرت لأطفالها بدموعٍ كثيفة ثم قبلتهما بحنانٍ وشغف، بكت المرأة التي تجلس بجانبها وهي تُمسد على خصلاتها المُبتلة بحنان، ثم سألتها بخوف: حاسة بإيه يا حبيبتي دلوقتي؟
أجابتها ريماس بنهيج: خلي بالك من ولادي يا ماما ورد، افتحي. افتحي الدرج هتلاقيني كاتبة عنوان وديهم عندهم، هما هياخدوا بالهم منهم.
نفت ورد برأسها وهي تقول بأسى: متقوليش كدا يا حبيبتي، هتكوني كويسة وهتربيهم أحين تربية والله.
أمسكت ريماس كفها برجاء، ثم ابتلعت ريقها بصعوبة وبعدها أردفت بأنفاسٍ ثقيلة: عشان خاطري اعملي اللي بقولك عليه، خليهم يسامحوني واديهم الورقة اللي في إيدك دي، ولادي. خليهم. يسامحوني.
كانت تلك هي الكلمات الأخيرة التي خرجت من فاهِ ريماس قبل أن تصعد روحها إلى خالقها، بكت ورد بعنف وهي تهز رأسها بأسى، ثم نظرت للطفلين على ذراعها قائلة بحزن: يا ترى الدنيا مخبيالكم إيه يا حبايبي؟
قالتها ثم نظرت للورقة التي أعطتها إليها، وبالفعل قررت الذهاب إليهم وإعطاء الأطفال لهم كما كانت وصية والدتهم.