قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل المئة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل المئة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل المئة

للمرة الأولى منذ أفاقته يجد ذاته يقف قبالة المرآة، عجبًا لشخص لا يعرف حتى شكل وجهه؟ وقف يتطلع لوجهه المشوه بالكدمات بنظرةٍ حزينة، رأسه كان حليقًا ليتمكن الاطباء من معالجة اصابة رأسه الخطيرة، وجهه عبارة عن خريطة أدمت ملامحه الوسيمة، فلم يتبقى له سوى جمال عينيه الرمادية، يجاهد ليتذكر شكل وجهه ولكنه لم يستطيع فكيف إن رآه أحدٌ من أسرته، ترى هل سيتمكن أحدٌ من التعرف عليه بعد تلك الاصابات القاتلة؟

وضع مؤقت، بعد كده كل ده هيختفي وهترجع زي الفل إن شاء الله.

قالتها الممرضة التي تسانده للفراش، فاكتفى بإيماءة بسيطة من رأسه، وانصاع لذراعيها التي تدفعه للفراش، سكن جسده بوجعٍ كان يعصف بكتفه وببطنه، فحقنت المحلول بوريده، لقد مضى عليه يومين أخرين بتلك الغرفة، ولم يمتنع صابر عن زيارته من الحين للاخر، رغم أن عمله يختص بغرف الافاقة، وقد خرج منها عُمران بالفعل.

مضى اليوم بأكمله حتى تفاجئ ليلًا، بشخص يتسلل لغرفته بمقعدٍ متحرك، يدنو للفراش، بذل عُمران مجهودًا ليرفع رأسه حتى يتمكن من رؤية القادم، ولكنه لم يستطيع.

مال إليه بكمامته وهمس له برعبٍ استطاع نقله إليه: قوم معايا بسرعة.

تعرف عليه من صوته، وناداه ما بين الغفوة والافاقة: صابر!

انتزع كمامته مشيرًا له وهو يراقب باب الغرفة بخوف: أيوه أنا صابر، قووم معايا إنت لازم تمشي من هنا وفورًا.

جسده ارتخى استجابة للادوية المخدرة، فمال على الوسادة يهتف بتعب: هخرج أروح فين؟

منعه صابر من النوم، وضم جسده إليه يحاول سحبه للمقعد بينما يصيح فيه: هخدك عندي، الدكتور ممدوح ناويلك على نية سودة، عايز يستغل فقدان الذاكرة اللي عندك لصالحه، أنا سمعته وهو بيدي للموظفة الاستقبال بطاقة مضروبة وبيقول انها ليك، عايز ياخدك على عيادته الخارجية عشان يعمل عملته الو.

مال عُمران برأسه جانبًا، بعد أن فقد وعيه كليًا، فلم يستسلم صابر، بل سحبه بكل قوته للمقعد، وسقط يلهث بتعبٍ: جسمك تقيل أوي! إنت شكلك رياضي وخرابها جيم!

وتابع وهو ينهض من رقدته: هشوف حد يطلعك معايا الشقة، أنا وسطي كده هيتقطم.

قالها وهرول بيه للخارج من الطريق المعاكس للرئيسي، فوجد رفيقه ينتظره بسيارة الأجرة الخاصة به، وما أن رآه حتى القى سيجاره يدعسه وهو يصيح بضيق: هو أنت مش هتبطل تقلب الشقتين اللي حيلتك مستشفى، جدعنتك دي هتلبسك في مصيبة مع أكك ونسوانك!

استقام بوقفته يراقب الطريق من حوله بينما يشير بنفور تجاهه: ما خلاص يا حمص، ام الكلمتين اللي حافظهم هيحمضوا لو مبختهمش في وشي كل ما أكلمك، مش بتاخد أُجرتك على داير مليم، عايز أيه بقى!

صعد بمقعده وأشار له: متبقاش تتصل بيا تاني طول ما معاك قتيل، أنا مش ناقص مصايب يا عم، أنا متمرمط الصبح في محل الجزارة وبليل على التاكسي عشان أكلها بالحلال.

سدد له صابر نظرة ساخرة، وهتف فيه مستنكرًا: واللي بتعمله ده أيه الحرام اللي فيه معلش! شايفنا بنهرب هيرويين ولا سيجارتين بفرة! لم لسانك وسوق خلينا نوصل الحي سلام، مش ناقصة تناكة على المسى!

زود من سرعة السيارة، ومال برأسه للخلف يقتبس نظرة تجاه الراقد على الأريكة الخلفية فاقدًا للوعي، ثم تطلع لمن يرمقه بغضب، وقال: مش الاسطا موسى منبه عليك ترجع بايدك فاضية من المخروبة دي، هتعمل أيه معاه المرادي بقى؟

زفر وهو يضم زواية عينيه بنفاذ صبر: وإنت مالك يا عم، أنا وهو صحاب وعشرة عمر، هنتصافى واللي بينا بينا، بتحشر منخيرك ليه؟

زم شفتيه بسخطٍ وقال: انا بقولك بس عشان تأخد بالك، مهما كان الشقتين بتوعك إيجار في بين الاسطا موسى، وممكن ببساطة يطردك من البيت إنت وأمك ونسوانك.

صاح بعنفوان وهو يلكز ذراعه بحدة: نسوانك، نسوانك في أيه يا عم، ما تلم لسانك بدل ما أقطعهولك.

ضحك المدعو حمص حتى قهقه بشدةٍ، وقال بنزق: خلاص ما تتحمقش أوي كده، مهو مفيش شاب صغير وحليوة زيك كده يوقع نفسه في جوازتين مرة واحدة!، ده اللي متجوز واحدة بيلطم وبيرمي نفسه من فوق قبة جامع الحي على المصاريف المنيلة اللي غرز نفسه فيها، تقوم تعمل في روحك كده، بتجيب طولة بال منين إنت!

صاح بعصبية وقد أخرجه ببروده عن مرقد هدوئه: جرى أيه يا حمص، إنت جاي تقر عليا ولا وضعك أيه! خلصنا من أم الليلة دي بأقل خساير ممكنة.

وأضاف وهو يصفع رقبته: طفي كشافاتك عني، أنا اللي فيا مكفيني!
وبدل ما انت مركز معايا كده ركز في الجزارة، ده الحي كله معلهوش سيرة غير مغامرات سي حمص مع دبايح الحج وفيق، وكل مرة موسى اللي بينجدك وإنت بتفرفر زي الدبيحة تحت العجل!

حك منخاره يخفي حرجه من الأمر، معللًا: أعملكم أيه يعني، ما أنا قولت للحاج وفيق، يشوفله حد يدبح وأنا أشفي بس هو قالك الشيلة واحدة مش هجيب اتنين، راجل معفن مستخسر أجرة زيادة.

واستطرد وهو يتطلع تجاهه: أنا معرفش بيجيب العتايق دي منين يا أخي، العجل من ده ميرتحش ولا يجيله بال الا لما يسحلني وراه في الحي كله، والمرة اللي فاتت دخل صيدلية الدكتور وهدان دشمل أمها، وكان طالع على عمك عكاشة الحلاق، والراجل أصله عنده القلب ومش متحمل رفسة رجل.

حرك رأسه مستكملًا بحزن اضحك صابر: الله يكرمه الاسطى موسى لولاه كان زمان مستقبل الحي كله اتشرد، أخر ما بيزهق من الهرج والمرج بتاعنا بيطلع يدبحه هو ويجيب الناهية، صحيح بيرميلنا كلمتين في جنابتنا انا والحج وفيق بس لاجل عضلاته نبلعله الزلط.

تمايل صابر من فرط الضحك، حتى كادت دموعها بالانهمار، وشاكسه بمزح: المرة الجاية لو الدبيحة طللت شغل موسى هيعلقك إنت مكانها، خد بالك خلقه كنز وله نهاية، فمن رأيي تكلبش العجل حلو بعد كده بدل ما تتكلبش إنت!

أوقف سيارته، وأشار له بنزقٍ: طيب إنزل ياخويا، وشوفلك حد يطلع الجثة دي معاك.

أغلق باب السيارة بقوةٍ كادت باسقاط بابها، فصرخ الاخير فيه: بالراحة يا عم، بقسط لسه في تمنها.

لف صابر ذراع عمران من حول رقبته، ومال به للاريكة الموضوعة جوار ورشة موسى المُغلقة، ثم اتجه للخلف، ورفع وجهه للأعلى يناديه: يا أسطى موسى، يا اسطااااا.

بأعلى المنزل المكون من خمسة طوابق، وخاصة بالسطح الاخير منه، تذمر ذلك الذي يغفو بآحدى الغرف الأربعة، محتضًا صغيرته بين ذراعيه المفتولة، متمتمًا بانزعاج: الله يقلق منامك، لو وقعت تحت إيدي مش هعتقك.

وعاد يضم صغيرته وهو يحاول تجاهل الصوت الذي عاد أقوى من السابق، ففتح بنيتاه وانتفض عن الفراش بغضبٍ شديد، متجهًا لسور السطوح (بفنلته السوداء الداخلية)، يميل تجاه الذي يصيح قائلًا بانفعالٍ: هو أنا مش هخلص منكم النهاردة، عايز أيه يا زفت؟

أشار له صابر هادرًا من بين أنفاسه: إنزل عايزينك في مسألة حياة أو موت!

أجابه موسى ساخرًا: وإنت بيجي أيه من وراك اللي المصايب، إياكش مصيبة تشيلك من الحتة كلها ونخلص منك ومن اللي وراك.

عبث صابر منزعجًا من وقاحته المعتادة، وهدر: ما تنجز يا موسى، العملية المرادي بطول وعرض، وعضلات، حاجة كده أفرنجي!

لكم المزهرية التي تجاور سطل المزهريات المحيطة بالسطح: آلاه! وأنا مال أمي بعملياتك اللي هتوديك في ستين داهية دي، أنا ورايا بت وعايز أربيها، لكن إنت موركش لا عيل ولا تيل.

وأشار باصبعيه بعلامة تحذير: خدلك راجع عني، ومتبقاش زي الضرس اللي بيزن على خراب عشه، لو خلعتك مش هترجع!

اختار صابر الجلوس على مصطبة الجيران قائلًا بعدم مبالاة: طيب أخرك هاته بقى، أنا مش هتنقل من هنا الا لما تنزل تشيل القتيل ده معايا.

جحظت عيني موسى بصدمة وراح يهسهس له: هوووش يخربيت أمك هتفضحنا، هنتحط في كلبوش واحد يا معفن، آخرس نازلك أهو، بس وديني لأعلقك في الورشة جنب عربية الزبون!

وهرول موسى راكضًا للباب الخلفي، المقابل لمحل جلوس صابر بالتحديد، جذبه من تلباب قميصه الأسود وصاح فيه: الاسطا موسى عُربان مبيتهددش يا تمرجي من غير تصريح، انا قولت لامك بلاش تدخلك المخروبة دي ومسمعتش الكلام، أديك مش جايبلها غير المشاكل والهم.

تلاشت ضحكاته وارتسمت جدية حديثه: هعمل أيه بس يا موسى قلبي الحنين مش بيقدر يستقوى على حد، بيلين أول ما بيلاقي حد محتاج مساعدة.

وضع يديه حول خصره المجسم ببراعة عمله الشاق، ودمدم ساخطًا: عارفه انا ياخويا مش محتاج تعرفني عليه، مهو قلبك المنيل ده اللي وقعك في الجوازة الاخرنية اللي مش جايالي على حجر ولا بالعها، ولولا الصحوبية اللي بينا كنت طردت مراتك الاخيرة دي بعفشها برة البيت، بس أنا سايبك تفوق بمزاجي، بكره تعرف إنت خسرت أيه وروحت لمين!

واستدار يراقب الشارع من حوله، هادرًا بانفعال: فين القتيل بتاعك خلينا نخلص من أم الليلة السودة دي!

أشار له بغضب: عند الباب التاني، جنب ورشتك.

ركله بساقه بغضب يفوقه: كمان! إنت هتقف حالي أكتر مهو موقوف، إتجر قدامي لما نشوف مصيبتك المرادي شكلها أيه؟

فتحت مايا عينيها بتعبٍ شديد، انقضت أيامها بالمشفى كالاعوام الثقيلة بدونه، تحاول فيها التماسك قدر المستطاع، وخاصة بعد أن جلس يوسف برفقتها، وأوضح لها خطورة حالتها وحالة جنينها.

وضعها أمام خيار فقدان جنينها وبين الصبر والصمود لاجل حياة صغيرها، حياة من بات أخر ذكرى من معشوقها، لذا صمودها كان مرهونًا لأجله، أُجبرت على تناول الطعام والأدوية، أجبرت على حبس حزنها داخل أعماقها، حتى يتوقف نزيف الدماء التي ستنتهك حياة صغيرها.

وبالرغم من تحسن حالتها الا أن على أصر على بقائها بالمركز تحت إشراف يوسف والممرضات، حتى يضمن أنها تخطت مرحلة الخطورة باجتيازٍ.

وها هي تستعيد وعيها الآن، فتميل برأسها باحثة عن فاطمة، فوجدتها تتمدد على الأريكة ويدها متصلة بكف على الذي يغفو على المقعد المجاور لها، بينما يميل تجاه رأس زوجته، وكفيه مغموس بين أصابعها.

تهاوت الدموع على وجه مايا، وقد ارتسم لها ذكرياتها المرافقة لزوجها، في كل مرة افاقت فيها بالمشفى وكان هو لجوارها، كانت تراه يغفو على الأريكة، أو جوارها على المقعد الملحق لفراشها.

حاولت كبت شهقاتها بصعوبة، ولكنها انفلتت عنها، تجعد جبين علي وبدأ بفتح عينيه، وفور أن تسلل له صوتها انتفض يهرع لفراشها بلهفةٍ: مايا!

شعل الاضاءة الخافتة المجاورة لفراشها، يتفحصها بدقةٍ، وما ان لمح دموعها حتى قال: حاسة بحاجة؟ أكلم يوسف؟

رددت من بين شهقاتها وهي تميل تجاهه: مفيش أي أخبار عنه، فات أكتر من عشر أيام، معقول محدش قدر يعرف حاجة عنه؟

تهدلت معالمه بحزنٍ، وتحرك يجذب احد المقاعد ويضعه جوارها، جلس يتطلع إليها بشفقة وحزن على حالها، الوحيدة التي لم تستسلم أن أخيه قد فارق الحياة، استمد صبره المعتاد وقال بصوته الرخيم، الهادئ: مراد مش ساكت، أكيد لما يوصل لحاجة هيبلغنا يا مايا.

حاولت رفع رأسها إليه، فأسرع يرفع الزر الجانبي للفراش حتى تمكنت من الجلوس براحة، طالعته بنظرة متوسلة: يعني فعلًا مالقتهوش يا علي، ولا إنت مخبي عليا؟

ضم شفتيه معًا يعتصرهما بوجعٍ، وبالكد سيطر على دموعه: لا يا مايا ملقناش حاجة، ممكن بقى تبطلي تشغلي دماغك بالموضوع ده، إنتِ سمعتي بنفسك يوسف قال أيه.

واضاف وهو يمنحه نظرة حثتها على سماع ما سيقول بإنصاتٍ: عُمران عايش جواكِ، وباللي بتعمليه ده بتقتليه، متخيلة هتوصلي نفسك لفين بحالتك دي؟

حركت رأسها بصدمة قوله، وضمت بطنها المنتفخ بحمايةٍ تامة، بينما تزيح دمعاتها النازفة وترسم ابتسامة اختلجت قلب علي: لا أنا عايزاه وهحميه لأخر نفس خارج مني، هبطل أسالك تاني، أنا عارفة وواثقة إنه حي وهيرجعلي، هي بس مسألة وقت مش أكتر.

قالتها وزحفت بساقيها للاسفل، حتى تتمدد باسترخاء، خطف على دمعة من على وجنته يزيحها بسرعة قبل أن تراها، ونهض يعيد السرير لوضعه المريح، ثم جذب الغطاء يداثرها، بينما يعود لمقعده المجاور لفاطمة بصمتٍ قاتل.

استقبل هاتفه رسالة، جعلته ينهض وهو يراقب مايا باهتمام، فما ان وجدها تنام بعمق، حتى خرج من الغرفة يجيب: عملت أيه يا عمي؟

اتاه صوت أحمد المتعصب يجيبه: مفيش فايدة فيه يا علي، عثمان دماغه فوتت واتجن، مصمم يجي المركز ويأخد مايا من هنا على سويسرا متخيل!

احتدت معالمه بغضب كالجحيم: قبل ما إيده تطولها هكون كسرهاله، لو عُمران مش موجود فأنا هنا، ومش هسمحله ينفذ اللي في دماغه أبدًا، الظاهر إنه استهون بكلامي وكل فكرته عني الطيبة والاخلاق، بس تمام خليه يجي هنا وأنا هقابله.

مش عايزين مشاكل يا علي، كفايا اللي بنمر بيه يابني، فريدة حالتها صعبة واللي قاله الحيوان ده النهاردة زود حزنها وخوفها.

=قال أيه يا عمي؟

ارتبك أحمد قبالته وحاول خداعه: مفيش، ما أنت سمعته أول ما وصل مصر، جالنا القصر وقال إنه عايز يرجع بنته معاه، ولولا وضعها الصحي مكنش سكت وآ.

قاطعه بحزمٍ: قال أيه النهاردة يا عمي، كل ده أنا عارفه وحاضره، قولي اللي بتحاول تخبيه عني!

زفر بضيق وقال: اتجنن رسمي، وقف قدام فريدة وقالها أن خلاص عمران مات وبنته مينفعش تعيش هنا تاني، عايز ياخدها بره وبيقول أنه هيآآ، هيجوزها.

صعق على من سماع ما قال، وكأن هناك أحدٌ قذفه بصاروخ مزق البقعة التي يقف بها، تمايل على السور الحديدي وقال: بتقول أيه يا عمي!

=زي ما سمعت كده يا علي، الحقير ده شكله كان معبي من عمران في شيء، ما صدق سمع الخبر وجيه عزى وتاني يوم جيه يقول عايز بنته وهو أصلًا مكنش بيسأل عليها ومايا كذه مرة شكيالي أنا وفريدة منه، ودلوقتي لما اتخانقت معاه وقولتله اننا في ظروف صعبة، ومايا حالتها الصحية متسمحلهاش بالسفر، ولو هو حابب يكون جنب بنته زي ما بيقول يخليه هنا، رد وقالي أنها كده كده هتسافر معاه لانها بعد ما تولد هيجوزها على طول، شكله كده حاطط عينه على حد من كبار رجال الاعمال، ما انت عارفه طول عمره بيدور على مصلحته، وسكاته عن اللي كانت بتمر بيه مايا مع عمران لان عمران له سلطته ووزنه، فعشان كده مكنش مهتم باللي بتعيشه بنته معاه.

تحرر عن صمته حينما هدر بانفعال: ده اتجنن رسمي، يجوزها إزاي! وهي بالوضع ده، مايا لو قعدت 100سنة بعد عمران مش هتفكر ترتبط بحد، وبعدين ازاي يفكر أصلًا بالموضوع ده وأخويا دمه لسه مبردش، ده احنا حتى مش عارفين ندفنه!

رد عليه احمد بقلق من عصبية المريبة: اهدى يا علي، إحنا مش هنسكتله ولا هنسمحله يعمل كده، المهم خد بالك على مايا ومتعرفهاش حاجة، هي مش ناقصة، كفايا اللي هي فيه.

أعاد خصلاته الطويلة للخلف بعنف، ورد عليه: لا طبعًا عمري ما هقولها حاجة، بس أنا اكيد مش هسكت على اللي بيحصل ده، وردي مش هيعجب الباشا.

قالها وأغلق الهاتف ثم اعاده لجاكيته بينما يميل للسور الخارجي، يتطلع للاشجار والحديقة الشاسعة بنظرة خاوية، بينما يهمس بدموع تكتلت على وجهه: لو حالي ده يرضيك زيد في فراقك عني، بس خليك عارف إن أخوك مات في اليوم اللي أنت إختفيت فيه، أنا روحي ماتت واتحبست جوه جسم بيتحرك وبيتمنى الموت يحوم حوليه عشان يقربه منك.

ومال برأسه على كفيه، ناطقًا ببكاء: أرجوك متبعدش عني أكتر من كده، صبري نفذ يا عُمران!

اشتد جسده حينما لامسه كف رقيق، يعلم مصدره، فرفع قامته الطويلة، يزيح دموعه، ثم استدار للخلف، فوجد فاطمة تراقبه بأعين دامعة، ابتسم فور رؤيتها ومال على كتفها، ربتت على ظهره وقالت: إرمي عليا كل وجعك وأنا والله ما هشتكي ولا هقولك كفايا، إعمل كل اللي إنت عايز تعمله بس بلاش اللي بتعمله في نفسك ده يا علي، أنا موجوعة عشانك!

تحركت به للاريكة الجلدية السوداء، جلس برفقتها وراقبها بنظرات غامضة، بينما تتشبث هي بكفه وتتطلع له بحبٍ وجرحًا ينزف وجعًا عليه: على إنت لو حاسس إنك محتاج تستريح إرجع البيت ومتخافش أنا هنا مع ميسان، هفضل معاها ومش هسيبها، روح إنت ارتاح.

واستطردت وهي تمسد عليه: أنا آسفة لو انشغلت عنك الايام اللي فاتت، بس كل المشاريع اللي عُمران كان عايز يعملها اتعطلت ومكنش ينفع تقف أكتر من كده، وبصراحه يا على أنا مش هسكت الا لما أحققله كل اللي كان بيتمناه، المشاريع كلها هتتنفذ مهما كان التمن.

وأضافت وهي تتعمق برمادية عينيه: بس أنا هحتاج ليك تدعمني وتقف جنبي، بشمهندس جمال بطل ينزل الشركة من وقت الحادثة، وفي حاجات واقفة عليه، حاول تكلمه إنت يا علي، دي ضربتنا الوحيدة اللي هتشفي صدرنا قدام الكلاب دول، إن بعد اللي عملوه متقصرناش ولسه صامدين وهنفذ مشروع عُمران وكأنه موجود.

اتسعت ابتسامته وعينيه لا تنحل عنها، فتعجبت وقلقت من صمته المطول، فاذا بها تتساءل: إنت مبتردش ليه يا علي؟

طالعها ببسمةٍ خافتة، استغربت لاجلها، بينما يضم وجهها بين يديه وبفرحةٍ نطق: تعرفي إنك اتعافيتي بشكل كامل، ومبقتيش محتاجة لدكتور على الغرباوي خلاص، بقيتي قوية وب100 راجل زي ما بيقولوا.

وبعشقٍ لمع برماديتاه فاض لها: أنا فخور بيكِ يا فطيمة.

طبعت قبلة عميقة على باطن يده التي تضم وجهها، قائلة بمشاعرها النابعة من داخلها: وأنا فخورة بيك يا علي، إنت دكتور عظيم وأنا من ضمن إنجازاتك ونجاحاتك، مكنتش أتخيل إني هقدر أتخطى كل ده، كنت حاسة إن نهايتي مصير إجباري عليا ولازم أرضى بيه، لحد ما اتبدل بيك، أنت نصيبي الحلو بعد مرارة اللي اتعرضت ليه يا علي.

جذبها إليه يضمها بكل حبًا، فابتسمت ومالت على كتفه تخبره على استحياء: أنا عارفه إن الوقت مش مناسب على اللي عايزة أقوله، بس أنا مش قادرة أخبي عنك أكتر من كده.

ارتاب من جملتها، وابعدها عنه يطالعها بقلق: تخبي أيه! إتكلمي يا فطيمة في أيه؟

ابتعدت عنه تعبث بحقيبة يدها حتى تخرج له ما تحمله داخل حقيبتها الصغيرة، ثم جذبت الاوراق المطوية وقدمتها إليه، انتشلها منها وهو يراقب ملامحها بقلقٍ، وبينما يقرأ محتوياتها تخبره هي: بزود مسؤولياتك أنا عارفة، بس مش هتأخد بالك من مايا لوحدها بس بعد كده، آآ، أنا حامل يا علي!

سحب بصره عما بيده وتطلع لها بدهشةٍ، بينما ينحني بصره لموضع جنينها، كأنه يتأكد بنفسه، ارتبكت فاطمة بجلستها، وقالت تمازحه: أكيد يعني مش هيبان عليا دلوقتي!

أضاءت السعادة وجهه، فترك ما بيده ونهض يجذبها إليه، ضمها ورفع جسدها تجاهه، فرفعت ساقيها عن الارض وتركته يدور بها بينما يميل على كتفها، هامسًا بفرحة: ألف مبروك يا حبيبتي، الخبر ده نور العتمة اللي بقيت عايش فيها، بجد مش مصدق كرم ربنا عليا في توقيت صعب زي ده.

عاونها على الوقوف باستقامة، بينما يمنحها ابتسامة عاشقة، واختلج بحة صوته بحزن انتشر على وجهه: عُمران كان هيفرح أوي بالخبر ده.

تلألأت مُقلتيها بالدموع تأثرًا بجملته، وقالت بتلقائية: أيوه كان نفسه ربنا يكرمنا بولد أوي.

هز على رأسه بحزنٍ، فقالت مبتسمة وهي تتمسك بكفه الذي يسحبه منها: لو جبنا ولد هنسميه عُمران، أيه رأيك؟

قبع حزنه داخله، زوجته لا ذنب لها أن يقلب ذكرى حملها بجنين منه لذكرى مأساوية بحزنه، لذا منحها ابتسامة مشرقة وقال: الاسم اللي يعجبك أنا موافق عليه وأنا مغمض، وأكيد مفيش إسم أحسن من اللي اختارتيه يا فاطمة.

وانحنى يجذب حقيبتها من على الاريكة، ثم حاوط خصرها وهو يخبرها: يلا عشان ترتاحي شوية.

ثم أشار للممرضة قائلًا: منة معلشي تطلبي من حد ينقلي سرير إضافي في أوضة مايا هانم، عشان المدام تريح عليه.

أشارت له الممرضة باحترام وبسمة بشوشة: هبلغهم حالًا يا دكتور.

وعاد يجذب فاطمة، ويتجه بها لغرفة مايا، بينما تهمس له باستحياء: مالوش داعي، أنا مرتاحة على الكنبة.

لف يده من حولها وقال مبتسمًا: لا مش مريحة للبيبي يا فطيمة، كويس إنك بلغتيني عشان بعد كده أخد بالي من تصرفاتك كويس.

ضحكت رغمًا عنها ومالت على كتفه بحب، فاذا به يقف جوار باب الغرفة حتى ابتعدت عن أحضانه، فمال يهمس لها قبل أن يفتح الباب: فاطمة أنا عارف أنك عاقلة وعمرك ما هتفهمي اللي هقوله غلط.

ارتابت لامره وتساءلت: في أيه يا علي؟

ابتلع ريقه الجاف، ورد عليها بتأثرٍ: خلينا نتعامل بحدود قدام مايا، مشاعرها أكيد متأذية من فقدان عُمران وأقل شيء هيفكرها بيه، عشان كده أنا هخليكي معاها وهرجع انام في مكتبي، ولو حصل حاجه كلميني على طول.

ربتت على يده بتفهمٍ، وقالت: روح المكتب وأنا معاها اطمن.

مال يقبل رأسها وهو يشكرها بلطفٍ: أكيد لازم أطمن، تصبحي على خير يا حبيبتي.

وتركها وغادر بينما تودعه بابتسامة حزينة، على ما أصابهم جميعًا بفراق عُمران!

خلى صابر شقته الصغيرة، بعد أن أصرف زوجته الثانية لشقة والدته التي تقطن بها زوجته الاولى، ووضع عُمران على الفراش بمساندة موسى، الذي وقف يراقب وجه عُمران بفضول لم يستطيع منعه، بقوله المتعجب: هو أيه اللي حصل معاه يا صابر؟ وليه جبته هنا؟

أجابه صابر وهو يتطلع على عمران الذي يغفو بتعب شديد: مش عارف يا موسى، حكايته غريبة وتحير، المفروض إنه كان من الباص الكبير اللي اتقلب في البحر، بس كتفه في طعنه بسكينة واصاباته خطيرى بشكل تحير.

وسحب الكيس البلاستيكي الذي بحوزته، ثم أخرج منه بنطاله وحذاء عمران وساعته، وحزمو الدولارات: بص من حاجته باين أنه مش شخص عادي، مهو مش معقول واحد من توبنا يلبس ساعة تخشلها في 200ألف ج، ولا يمشي بالمبلغ ده.

راقب موسى محتويات الكيس، بنظرة شاملة، ثم قال: طيب هو مفاقش ولا قالك هو مين؟

ضم شفتيه بشفقة: مش فاكر حاجة، والزفت ممدوح كان عايز يستغل ده.

تساءل موسى بعدم فهم: يستغله ازاي مش فاهم؟

رد يجيبه وهو يتجه للاريكة البلدية الموضوعه أسفل النافذة: كنت طالع أديله الشاي وسمعته بيحاول يقنع الدكتور عماد إنهم يضحكوا عليه ويدوله 50ألف ج عشان يتبرع بكليته لواحد من الاكابر، وإنهم لو رفض هيبنجوه وهيعملوله العملية بردو، مهو واحد قدامهم، مالوش أهل، وفاقد الذاكرة، عايز يستغله!

وأضاف وهو يشرح له: وطالعله بطاقة مضروبة باسم واحد تبعه، وخلص اجراءات المستشفى، كاتبله على خروج عشان ياخده يستفرض بيه بعيادته، أنا سمعتهم من هنا وجريت هربته من هنا، الحمد لله اني خفيت الفلوس دي وحاجته من ممدوح ده دكتور طماع وفيه العبر، معرفش أمته المستشفى هتنضف منه ومن أشكاله، ده مبيحرمش.

من كام يوم حاول يقنع راجل على قد حاله إنه يتبرع بكليته بردو، والراجل وافق عشان يجوز بنته، اغراه بالمبلغ ومضاه على الورق ودخله عمليات وقدام ادارة المستشفى داخل يعمل الزايدة، الراجل مات تحت ايده ولا همه، منه لله.

جلس موسى جواره على الاريكة، وقال بغضب: وأيه اللي يسكتك على الجزار ده ما تبلغ ادارة المستشفى عنه.

ضحك وهو يخبره: ومين هيصدقني طول ما أوراقه سليمه، مهو مبيعملش العمليات دي غير بموافقة المريض، بقولك عامل زي الشيطان بيختار ضحاياه كويس أوي، بيغريهم بالفلوس ودول غلابة يا موسى.

واستطرد بوعيدٍ قاطع: بس أنا مش هسكت، هحاول أجمع أي دليل ضده وهبلغ عنه الحكومة.

ربت على كتفه بشجاعة رجلٌ يرتدي جلباب وعمة الرجولة: هات ضده دليل واحد وهطلع معاك على المركز نبلغ عنه، متخافش انا معاك وفي ضهرك يالا!

ربت على كفه وقال: عارف إنك مجدع ودايما جنبي، المهم هعمل أيه عشان أوصل لاهله.

اتجهت نظرات موسى تلقائيًا لعمران وقال بحيرة: مش عارف، ملامحه كلها متدمرة من الضرب اللي أخده، بس ممكن نصوره وننزل صوره على جروب بلدنا يمكن حد يعرفه مع اني أشك ان حد يتعرف عليه وهو متدمر كده، الاحسن تستنى لما جروحه تخف ووشه يبان شوية.

هز رأسه باقتتاعٍ، بينما نهض الاخر يخبره بنوم: هطلع انام والصباح رباح، لو احتجت حاجة تاني ناديلي.
وأضاف وهو يشير بسخرية تجاه الشقة المقابلة لهم: ده لو عرفت تنام النهاردة بعد ما زنقت النار مع البنزين في شقة واحدة، هيولعوا في أمك جوه!

ضحك وهو يشير له على المفتاح الذي يحمله: ولا أعرفهم، هقفل على نفسي بالمفتاح وهما يحلوا أمورهم مع بعض، العملية مش ناقصة فرهدة ووجع دماغ.

أشار بلايك ابهامه بتشجيع: إثبت على موقفك، يلا هخلع انا وادعيلي الأبله متقفشنيش على السلم تقطم من معنوياتي على درجات البت قمر، شكلها كده هتشيل كحك كتير، والابلة كل ما النتيجة بتطلع بتيجي تحاسبني أنا تقولش أنا اللي بمتحن!

ضحك بملء ما فيه، وقال: لا مستحيل الابلة صباح تبقى سهرانه لحد دلوقتي، خصوصًا انها كانت بالوحدة عندنا النهاردة عشان أدوية الكلى بتاعت الحاجة صفاء والدتها.

عاد يهبط إليه ويسأله بحزن: صحيح يا صابر هي حالتها ميؤس منها فعلًا.

رد عليه بملامح تشاركه الحزن: بصراحه الست اتبهدلت أوي يا موسى، ولازم تعمل العملية دي في أقصى سرعة، بس مينفعش تعملها هنا، لازم تروح مستشفى متخصص ولو عملولها هتتكلف فوق ال250 ألف ج.

تنهد بقلة حيلة وقال: لو معايا الفلوس دي أقسم بالله ما أحوشهم عنها، إنت عارف جوزها الله يرحمه كان صاحب أبويا الروح بالروح.

ربت على كتف صديقه، وقال مبتسمًا: كفايا إنك مبتخدش منهم ولا مليم إيجار الشقة، إنت جدع يا موسى وبتحاول تساند على قد ما تقدر.

أجابه ببسمة ساخرة: برد جزء من جمايل الابلة صباح على قمر بنتي، مع إن لسانها معايا وبور جاز بس هنعمل ايه البت قمر بتحبها ومبتتنقلش من عندها، وهي كمان بتحبها بصراحه، وبتهتم بغيارتها ومذكرتها وكل اللي يخصها، ربنا يجعله في ميزان حسناتها ويشفيلها أمها.

رد بحبور: . اللهم آمين.

تركه موسى وقال: يلا هشوفك بكره، هبقى أجي اطمن على القتيل اللي عندك ده.

ضحك وهو يهز رأسه بينما يعود لغرفة الاطفال الخاصة بشقته، يتأكد ان المحلول الذي علقه لعمران يعمل بشكله الصحيح.

غردت الشمس على غصون السماء لاستقبال يومًا جديدًا، ومازال يتبع خطوات قائده الجديد، فمنذ أن تولى تدريبه وهو يختص وقته الليلي برفقته، ويعود لمنزله قبل الصباح ليكون جوار زوجته.

نزع رحيم قفازات يديه السوداء. وهو يراقب آدهم يغير ملابسه ليعود لمنزله، بينما يخبره بفخرٍ: الصورة اللي طبعتها عنك كانت في محلها، قوة تحملك وصبرك هتخليك تتقن أي تدريب تخش فيه.

مال رأس آدهم صوب صوت قائده، وقال مبتسمًا: أكيد لازم أكون صبور قدام خبرة حضرتك، ولازم أكون ذكي وأستغل كل لحظة في التمرين معاك، عدد قليل اللي كان محظوظ بالتدريب على، إيد الاسطورة، فأكيد بردو مش هفوت فرصتي دي.

إتجه إليه يطالعه بزيتونته بثباتٍ: ذكي وبتعرف تختار ألفاظك، بس دول لوحدهم مش كفايا يا سيادة المقدم.

نهض يتجه برأسه صوب محله وكأنه يراه، ينفذ تعليمات رحيم وما بذله برفقته طيلة الايام الماضية ببراعة: أنا جاهز عشان أكون على المستوى اللي حضرتك تختاره ليا.

منحه ابتسامة صغيرة ونظرة غامضة: هنشوف، يلا إرجع بيتك وبليل هنتقابل في نفس معادنا.

أدى تحيته بصدرٍ رحب، وما أن استمع لصوت مغادرة خطواته، حتى عاد يستكمل تبديل ملابسه ببراعة، ولحق بثبات خطواته بشكلٍ يجعل جميع من بالجهاز يستدرون تجاهه بتعجبٍ، لقد كان يعهد خطواته وكأنه يرى كل شيء، يتعامل بشكلٍ طبيعيًا للغاية.

اجتاز آدهم المكاتب، حتى وصل لجناح مراد، وبخبرة اجتازاها من تدريب رحيم، كان يعد خطاه حتى وصل للمنشود، ولج الشرطي يبلغ الجوكر بمن أتى لبابه كصباح كل يوم، فابتسم وهو يخبره: قولتلك لما آدهم يجي تدخله على طول.

أدى التحية العسكرية وخرج يخبره: الباشا في انتظارك يا سيادة الرائد.

صحح له مراد من خلفه: سيادة المقدم.

أومأ الشرطي برأسه ومال للاخر يحيه بينما يخبره آدهم ببشاشة بسمته: بسيطة.

تعمد مراد أن يقف بمحل غير مكتبه، أراد أن يختبر تدريب أخيه، فقد كان يأتي آدهم لرؤيته كل صباح قبل عودته للمنزل.

مال رأس آدهم تجاه قاعة الاجتماعات بالرغم من أن صوت مراد كان يأتي من صوب مكتبه، فعلم بأنه غير محله عن عمدًا، إتجه إليه وقال: غريبة، حضرتك مش بترتاح غير على مكتبك!

ابتسم مراد وهو يرنو إليه، فانتظر جلوسه ومال تجاهه يسأله بشكٍ: علاج دكتور عمر شكله جاب نتيجة معاك.

نزع نظارته السوداء ليرى الجوكر ثبات نظرة آدهم باتجاه آخر بينما يجيبه: أنا لسه بادئ علاج معاه من أربع أيام، فأكيد ملحقتش يعني، بس اللي نقدر نقوله ده بعد تدريب مضاعف من حضرتك ومن الاسطورة.

مال يستند على كفيه ويخبره: طيب عظيم أوي، كده رجوعك للجهاز قرب وقرب أوي كمان.

قال بابتسامة غامضة: لا أنا عايز أطول في مدة راحتي كمان.

ضحك مراد وهتف ساخرًا: تقصد مدة تدريبك مع رحيم.

ابتسم وهو يشير له: عارف إن حضرتك فاهمني، انا فعلا حابب أكمل مع الباشا شوية، حاسس إني اتغيرت وبقيت لاماح أكتر، لدرجة إن الاغلب بقوا بيشككوا إني أعمى!

تحررت ضحكاته الرجولية وهو يستمتع بحديثه رفقته، وشاكسه بمرح: لا باين فعلًا عليك، بقيت واثق في نفسك أكتر وداخل محدد مكاني بالتحديد من غير ما اتكلم أو أحط برفيوم ريحته قوية.

اتسعت ابتسامة آدهم، وقد بترها الجوكر فور أن استطرد: بس متحلمش تطلع مهمات معاه بردو، أخره معاك تدريب وبس.

تذمر كالطفل المشاكس، وهدر وهو يحبس اعتراضه: اللي تشوفه يا باشا.

كبت ضحكاته على مظهره المضحك وقال: تعجبني وإنت مطيع وبتحترم كلام القائد بتاعك.

وأضاف بمكرٍ: الذكاء إنك تميز بين القائد المؤقت والقائد الدائم ليك يا حضرة الظابط، ثم إنك مش لازم أخلاقك تنحدر مع شخص زي رحيم، طول ما أنت معايا فتأكد إن عندك قلب، هتروح معاه هتدوس فوق قلبك ومشاعرك وبعدها قضية خلع على طول، مهو المدام مش هتتحملك بعد كده.

تمردت ضحكات آدهم رغمًا عنه، وتساءل بفضول: باشا انتوا اخوات ازاي!

هز كتفيه بحيرة مضحكة: والله يا ابني ما أنا عارف!

ضحكوا معًا، ونهض مراد يتجه للبراد الصغير قائلًا: هجبلك عصير برتقان.

وانحنى يجذب علبتين من عصير البرتقال الطازج والليمون، ثم عاد للطاولة مجددًا، يضع كوبًا أمامه وأمام آدهم، كاد مراد أن يسكب البرتقال من أمام آدهم، ولكنه ابتسم بخبث وهو يسكب الليمون، ويعود لمحله ساكبًا البرتقال بخاصته، ثم جلس يراقبه بنظرات صقرًا ماكرًا.

ابتسم آدهم وهو يدرس كل تفصيلة قبالته، وأنفه يلتقط الرائحة، أمسك كوبه وقربه من مراد قائلًا: باشا إنت اتلخبطت وحطتتلي ليمون، مش قولت هتديني برتقان!

سحب الكوب منه ووضع خاصته أمامه بينما يطالعه ببسمة واسعة: أنت عارف آني متلخبطتش.

ضحك وقال: عارف بس محبتش أسقط في الامتحان.

ضحك الجوكر رفقته، بينما يرتشف آدهم من عصيره، وضعه جانبًا وقد تجهمت معالمه فجأة بشكل استرعى انتباه مراد، وخاصة حينما سأله آدهم بوجع: هو مفيش جديد عن عُمران يا باشا؟

ترك مراد كوبه ومال تجاه آدهم الذي نبضت عينيه بكم الوجع والحزن، فتنهد بضيق وقال: في يا آدهم بس أنا مخبي اللي وصلني عن علي، مش حابب أزرعله أمل كاذب وأكون السبب في انهياره من تاني.

كاد بأن يتساءل بلهفته الصريحة لمراد ولكنه أوقفه قائلًا: مستعد أبلغك بالتفاصيل اللي وصلها الفريق، بس بعهد مهنتك إن التفاصيل دي متطلعش بره حتى لزوجتك.

هز رأسه بكل تأكيد، فقال مراد برزانة وهيبة لا تليق سوى به: مصادرنا الخاصة توصلت لحادث كبير حصل في قرية جنب المكان اللي حصل فيه حادث عُمران، الحادث كان ضخم ونتج عنه 34 حالة ما بين اصابات ووفيات، وطبعًا إنت عارف إن الوحدات مش مجهزة بشكل كامل عشان تتعامل مع الاصابات الخطيرة، فالعدد ده اتوزع بشكل عشوائي على مستشفيات سوهاج.

وأضاف بعملية باحتة: احتمال وصول جثة عمران للمكان ده متتعداش ال20في المية، واحتمال وصوله حي للمكان ده فوق ال50في المية، فلو افترضنا إنه اتحدف من على الكوبري حي وقدر يعوم باتجاه الموج يبقى بأكدلك مليون في المية إن عمران حي.

ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه آدهم، وسأله بلهفة: طيب وهنتأكد ازاي؟

أجابه وهو يجذب الاكواب بعيدًا عن ذراع آدهم الذي بات مرتبكًا لسماع ما قال: انا كلفت مجموعة سباحين تباعنا تدور في نفس المكان اللي وقع فيه الباص، ومجموعة تانية بتدور في الوحدات والمستشفيات العامة، ولو حد فيهم توصل لحاجه هيبلغني فورًا، متقلقش أنا متابع الموضوع بس مش موصل لعلي حاجة رأفة بمشاعره.

هز رأسه بتفهمٍ، وقال: بس لو وصلت لحاجة بلغني يا باشا، أنا مستني منك أي خبر يطمن قلبي وقلوبنا كلنا عليه.

منحه ابتسامة هادئة: اطمن يا آدهم.

إتجه علي لمكتب يوسف فور أن علم من الممرضة بأنه بالمركز منذ ساعتين، دق باب مكتبه وترقب سماع صوته، ولكنه لم يستمع، فولج للداخل يرسم بسمة زائفة: صباح الخير يا يوسف.

لم يأتيه اي ردًا منه، وكأنه لم يستمع دقات الباب وصوت علي، اقترب يتطلع لما هو شارد به، فإذا به يتطلع للصورة الموضوعة على مكتبه، والتي كانت تحوي عُمران وجمال ويوسف، الثلاثة يجلسون على مقدمة آحدى السيارات التابعة لعمران، ويتشاركون قطع البيتزا.

اعتصر على جفنيه ألمًا، ومال يهز مقعد يوسف، فانتبه له وأزاح دموعه سريعًا، راسمًا ابتسامة فاترة: علي!

واشار للمقعد الذي يقابله بحرج: معلش مخدتش بالي منك، اتفصل إرتاح.

استند على سطح مكتبه، وقال: لا أنا مش جاي أقعد، انا عايزك تيجي معايا بيت جمال، أنا مش فاكر طريق بيته.

نهض عن مقعد مكتبه يجيبه بحزن: بس جمال مش في بيته، من وقت الحادثة وهو في الشقة اللي عمران كان مشتريها من إيثان، بالرغم من إن عمران ماقضاش فيها غير يوم واحد الا أن جمال مش راضي يفارقها.

وتنهد بوجعٍ وهو يشكو إليه: جمال انطفى، لا راضي يأكل ولا يشرب، وتقريبًا خس النص، والدته ومراته كل يوم بيكلموني عشان أحاول أخليه يرجع بيته بس مفيش فايدة مش راضي يسمع مني ولا يسمع لحد.

تساقطت دمعة خائنة من عيني علي، ازاحها وقال بصوت متقطع من البكاء: قوم يا يوسف نروحله.

نهض يجذب مفتاح سيارته وأتبعه دون أن يضيف كلمة واحدة.

نهض يونس من نومه فوجد فارس يغفو على ذراعه، ابتسم وهو يطبع قبلة على رأس صغيره، بينما تتجه فيروزته لزوجته التي مازالت تغفو جواره باسدال صلاتها، متعمدة أن تضع صغيرهما بينهما، وكلما حاول يُونس نقله لغرفته كانت ترفص بشدةٍ، فتلمس من حججها تهربها الصريح من بقائها بمفردها برفقته، ومع ذلك تركها تفعل ما يحلو لها، على أمل أن تختار قربه بارادته.

نهض يتجه لخزانته، جاذبًا قميصه وبنطاله، ثم خرج للغرفة الاخرى يرتدي ملابسه دون أن يزعج أحدٌ منهما، فاذا برائحتها المميزة تتسلل إليه، استدار فوجدها تقف خلفه تعدل من حجابها وتخبره ببسمتها الساحرة: إنت نازل؟

تألم قلبه لفعلتها، فتغاضى عنها واستدار يكمل ارتداء ملابسه وهو يجيبها: إيثان مشغول في الجيم، فانا بنزل بدري عن كل يوم.

هزت رأسها بتفهمٍ، وقالت وهي تتجه للخروج: هعملك الفطار قبل ما تنزل.

تركها تغادر ولم يعلق، وخرج يجلس بانتظار ما ستقدمه له.

عادت تحمل صينية مستديرة، تحمل الشطائر الجبن واللبن الساخن إليه، مازالت تحفظ كل ما يريحه عن طيب خاطر، وذلك يعرضه لمأزقٍ يجد فيه تصرفات تعارض أفعالها.

خطف نظرة سريعة لها، فوجدها مازالت تجلس جواره على السفرة، أراد أن يريح قلبه النازف، فتسلل بكفه يضم كفها، ارتعش كفها بين كفه ومع ذلك تركته رهين بين قوة مسكته.

جذبها يونس لتنهض عن مقعدها وتتجه جواره، ارتبكت من فعلته، فطوال تلك الايام الماضية لم يبذل أي مجهود ليقربها منه، وكأن الصبر قد تمزق عنه كليًا.

رفع يُونس يده يحرر حجابها ومازالت عينيه رهينة نظراتها، بينما يعاتبها: ليه حرماني أشوف حتى شعرك يا خديجة؟

ارتبكت من قربه وابتعدت قليلًا بتوترٍ: بتعمل أيه يا يونس؟ فارس آ.

ترك كفها وتطلع للامام بضيقٍ، متعمدًا الضغط على حروفه: فارس نايم يا خديجة، بطلي تتحججي بالولد عشان تبعدي عني!

قالها ونهض يغادر دون أن يتذوق الطعام حتى، وما أن أغلق الباب حتى سقطت دموعها، ويديها تنضمان على وجهها بانكسارٍ وقهر، يتمزق قلبها حزنًا على حاله، فمنذ زواجهما وهو تعيسًا، تستطيع رؤية ذلك بوضوحٍ، ولم تمتلك سوى عجزها الشاهد عما مضى من حياتها.

هبط من الاعلى، يراقب شقتها القابعة بالطابق الذي يقع أسفل السطوح بطابق واحد، عقد موسى العزم حينما وجد الهدوء يخيم على الطابق وحمل نفسه وهرول سريعًا قبل أن توقفه سليطة اللسان، وما أن تخطى طابقها حتى استعاد اتزانه واستكمل هبوطه بابتسامة واسعة، تلاشت حينما وجدها تنتظره أمام الورشة الخاصة به.

تنهد بقلة حيلة، وتحرر صوته الخشن يهتف: اصطبحنا واصطبح الملك لله.

منحته نظرة هادرة، وهبطت من سيارتها ذات الطرز القديم للغاية، بلونها الاحمر الباهت، تصيح فيه: أيه شوفت عفريت قدامك يا أسطى!

لوى موسى شفتيه هادرًا من بين اصطكاك أسنانه: ودي تيجي يا أبلة، ده حتى العفريت بيكون له صرفة وبينصرف، لكن إنتِ ما شاء الله مفيش آية في القرآن كله هتنفع معاكي!

والقى المنشفة التي يحملها تجاه الصبي الذي أتي يناوله بكوب الشاي فور أن رآه، ثم قال: خير يا أبله، واقفة تستنيني تحت ليه؟ وبور التهزيق المرادي هيحدف في أي إتجاه؟

شملته بنظرة مغتاظة من الفاظه، بينما تعدل حجابها الأبيض على فستانها الأسود الفضفاض، قائلة: العربية مش عايزة تدور، مع أنك لسه عاملها آمبارح، أنا قولتلك قبل كده إنت متنفعش في الشغلانه دي مش بتصدق، بتصلح العربية النهاردة وبتعطل تاني يوم.

استدار يكبت جُم غضبه بشكلٍ أرعب الصبية اللذين يعملون رفقته، فهرولوا للداخل فرارًا من غضبه الذي سيطول لليوم بأكمله.

صاحت صباح بغضب: إنت بتديني ضهرك ليه؟ مش بشتكيلك أنا من العربية؟

لف لها يطالع عينيها الواسعة بضيق، ثم قال: يا أبلة أنا قولتلك ألف مرة إن العربية دي عايزة تترمى في الخردة لا مواخذة، وإنتي مش مقتنعة ولا مصدقاني، أعملك انا أيه يعني عشان أقنع دماغك!

وأضاف بسخط: وأخرتها بتشككي في شغلي اللي مفيش راجل في الحي يستجري ويعملها معايا، أساسًا إنتي تحمدي ربك وتبوسي ايدك وش وضهر إني قدرت أخليها تتحرك من مكانها، إكسبي فيا ثواب وبعيها وهاتيلك اي عربية نص عمر حتى، أو أقولك بلاها الفشخرة الكدابة دي وروحي المدرسة مشي زي بفيت مخاليق ربنا، فكك من رفعة المناخير دي بدل ما تتسحلي بيها على الأرض، خدي مني ومترجعيش ورايا.

انتفضت بوجهه تصرخ بغضب: ما تتكلمش على عربية أبويا كده، أنا مستحيل هبعها ولا هفرط فيها ساااامع، وبعدين إنت مش لاقي شماعة تعلق عليها فشلك غير شماعة إن العربية قديمة!

ضحك بملء ما فيه، وقال: قديمة! يا أبلة صباح العربية دي ياما أبويا صلحها قبل ما يتكل، والحمد لله جابت أجله، وشكلها هتجيب أجلي انا كمان، دي عربية تُراثية من أيام الخديوي توفيق، وعُكاشة أنور!

إحمرت بشرتها القمحاوية بغضب، ورفعت اصبعها تحذره: إنت ابتديت تتمادى ياسطى، وبعدين بدل ما انت نافش ريشك كده فوق لدرجات بنتك، تقدر تقولي بنتك جابت كام؟

ارتبك قبالتها، وقال وهو يتصنع انشغاله بتأمل سيارتها: جابت اللي جابته بقى، حمدينه وشاكرين فضله حتى لو جابت درجتين تلاتة، أنا وقمورتي مُتصالحين جدًا مع بعض، بس اخرجي منها إنتي يا أبله.

كادت بأن تسدد جبهته بحديثها، ولكنها ابتلعته فور ان انطلق سكان الحي يهرعون من أمامهم، ومن بينهم شاب يصرخ بفزعٍ: الدبيحة هربت من حمص يا رجالة!

ارتابت صباح من محلها حينما لمحت المدعو حمص يهرول ركضًا ومن خلفه تركض بقرة ضخمة، ذات جسدًا ضخمًا مخيفًا، ابتلعت حدة صوتها وركضت تختبئ خلف جسد موسى الضخم، الذي أخفاها وكأنها لا تزن نصف وزنه.

خطف موسى نظرة خلفه يطالعها بسخرية: مالك يا أبلة؟ متخافيش دي مبتعملش حاجة غير النطح، وأنتوا الاتنين شبه بعض، هي بتنطح برجليها وإنتِ بلسانك.

منحته نظرة حادة، وصرخت بوجهه: لسانك ده عايز قطعه، إياك أشوفها دايسة عليك وناطحة نفوخك يا بعيد.

عبث ببراءة لا تمت له بصلة: آلاه! بقى دي أخرتها!

وأضاف بمقتٍ: ولما انا اتنطح هتعمل هي معاكي أيه؟ ما أنا اللطخ اللي متصدر في الوجهة.

ضحكت بانتصارٍ وقالت: كويس إنك عارف إنك لطخ.

احتقنت بنيتاه وهدر فيها يحذرها: لمي لسانك وخديلك راجع عني يا أبله، والا هميل مع الشباب في الورشة وهسيبك منك ليها!

تطلعت من خلف كتفه، فوجدتها تركض صوبهما، فصرخت فيه وهي تستنجد به: إلحق دي جاية علينا يا موسى!

تذوق نطق اسمه منها لأول مرة دون ألقاب، بات يراقبها بهيامٍ، بينما تصرخ فيه أن يرى تلك التي تركض تجاههما.

صعد حمص فوق السيارة يحاول الهروب، فصعدت البقرة بحوافرها تجاه الزجاج الامامي، الذي سقط ومال دون أي مجهود منها.

باتت السيارة كالخرقة البالية، بينما تصرخ صباح بصوت يصمم الآذان: لاااااا عربيتي!

منع موسى ابتسامته من الانبلاج، لقد تكبد عناءًا في اصلاح السيارة كل يومين تقريبًا، ولاول مرة يشعر بالامتنان تجاه أحمق الحي، فمال يسحب الحبل المسكوب حول رقبته، وبكل قوته أحكم سيطرته عليها بقوة تتناسب مع جسده، ثم صاح بصوته الغليظ: السكينة ياض!

هرع حمص تجاهه، وتعاون الشباب بالامساك بها، بينما يذبح موسى البقرة، التي تناثر دمائها على السيارة وعلى صباح التي تحاول انقاذ سيارتها.

وفور ان انتهى حملوا الرجال البقرة للجزارة الواقعه بالقرب منه، بينما يهدر في حمص بغضب: بقولك ايه مش كل يوم ليك منكش كده، أتلم إنت ومصايبك مش ناقصة هي.

ورفع صوته مداعيًا حزنه الشديد: مانتش شايف عربية المرحوم بقت عاملة ازاي، الابلة هتروح مننا بسبب غباوة أمك يالا!

ربت على صدر موسى بخوف من غضبه: حقك علينا يا اسطى، بعد كده هكتفها حلو قبل ما أدبح!

منحه السكين الضخم وقال: طيب يلا انصرف من هنا قبل ما الابلة تعكشك، هي لسه في حالة الافاقة من الصدمه اللي خدتها، انصرف بقى بسحنتك دي.

ركض حمص يفر من غضب تلك الفتاة المعهود عنها قوة شخصيتها، وتحجر رأسها الذي لا يلين، بالرغم من انها على وشك تخطي الثلاثين من عمرها الا أنها ترفض كل شباب الحي بلا استثناءات، تنصب كل اهتمامها بعملها بمدرسة الحي كمدرسة اللغة الانجليزية، وعلى السنتر الخاص بها لتعيل والدتها بعد وفاة والدها.

إتجه إليها موسى يناديها بقلقٍ من صمتها الغريب: أبله إنتِ حلوة ولا نظامك أيه؟ لو كده أخدك في التوكتوك للوحدة؟

اتجهت عينيها الدامعة إليه وقالت برجاءٍ: العربية معتش ينفع تتصلح صح يا أسطى؟

رق قلبه الحجر لها، فحك ذقنه النابتة وقال وهو يتطلع حالة السيارة بنظرة شاملة: هتأخد وقت ومجهود بس هعملها متقلقيش.

واشار يحذرها: بس ملقكيش كل يوم نطالي في الورشة، أنا هخلصها وهبعتلك البت قمر تناديلك لما هخلص، أنا ماليش في دوشة النسوان والرغي بتاعهم أنا!

عاد الغضب لمُقلتيها بينما تهتف باستنكار: نسوان! إنت لسانك ده أيه مبرد!

تأفف بغضب وعاد يصيح: يا ابله الله يهديكِ آطلعي غيري هدومك وأتكلي على الله ورانا مصالح ومش فاضيين إحنا.

تخصرت بيديها بينما ترنو إليه، فتراجع للخلف بخوف جعله يميل على مقدمة السيارة جالسًا: ألالالاه، أيه يا آبلة في أيه؟

صاحت بوجهه كالقنبلة: وأنت مالك بلبسي يا محترم! أيه صدقت نفسك وعايشلي دور بطل الحي ولا أيه؟

رمش باهدابه بصدمة وقال ببسمة واسعة: حقك عليا انا، اتكلي على الله إلحقي مدرستك أنا غلطانلك.

تركته وخطت للامام وهي تخبره بعنجهية: طبعا هروح المدرسة أمال هقف أتكلم معاك طول النهار!

وتركته وخطت بطريقها، فخبط كفًا بالاخر وهو يقول: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، دي لاسعة منها خالص!

قالها واتجه للداخل ليبدأ عمله اليومي، وما مر سوى نصف ساعة ووجدها تهرول للمبنى، فضحك على مظهرها بعد ان تيقن أن احدهما أخبرها بالدماء التي تغرق وجهها وملابسها، فرفع صوته الساخر: كده شباب الحي كلهم طلع عندهم نخوة! مطلعتش أنا لوحدي اللي غيور!

استدارت تلقفه بحقيبة يدها، فتعالت ضحكاته بعدم تصديق لما تفعله، بينما يهمس بصدمة: دي لاسعة لاسعة يعني مفيش كلام!

أشرقت جفنيه عن رماديته الساحرة، فمال برأسه يتفحص المكان الذي انتقل إليه برفقة صابر، ذلك الشاب الخالوق الذي لم يتركه طوال تلك المدة التي قضاها بالمشفى اعتاد على وجوده، فكان له الأهل والرفيق، حتى حينما وجده يخرجه فجأة منها، كان يحمل خوفًا غامضًا عليه.

إتجه عُمران للاريكة بخطواته المتهدجة، جلس يراقب صابر الذي وضع من أمامه صينية الطعام المعدنية، قائلًا ببسمته المشرقة: خليت الجماعة حضرولك لقمة خفيفة كده، قبل ما أنزل المستشفى.

زوى عُمران حاجبيه باستغرابٍ: جماعة!

ضحك وهو يصحح له مفهوم حديثه: مراتي يعني، بس هنا بنقول الجماعة.

هز رأسه بخفة، وعاد يتمعن فيه بشكٍ، جعله يطرد ما احتبس داخله: أنا من وقت ما جيت معاك هنا وأنا مسألتكش عن الطريقة الغريبة اللي خرجتني بيها من المستشفى، ولا اعرف حتى المكان اللي جبتني فيه، زي ما أنت شايف دي أول مرة أقوم من على السرير فيها، فمحتاج إجابات منطقية للي بتعمله معايا!

ترك صابر شطيرة الخبز وتطلع له بانزعاجٍ، فربع قدميه وقال بوجومٍ: عايز تعرف أيه؟

رد عليه ورماديته لا تحيلان عنه: إنت قولتلي آن ممدوح ده ناويلي على نية!

رد عليه بهدوء: .
بص دكتور ممدوح ده مش تمام، بيعمل عمليات زرع كلى بدون تصريح ولا معرفة حد من الادارة، بيقنع الناس الفقرا بالعمليات دي مقابل مبالغ كبيرة، وفي شخص مهم جدًا عايز يعمل العملية دي بأسرع وقت، فسمعته بيقول إنه هيحاول معاك ولو رفضت هيعملك من غير ما تعرف لانه الوحيد في المستشفى اللي عارف أنك بقيت ميحة.

زوى حاجبيه بدهشة: ميحة!
عدل من حديثه قائلًا: فقدت الذاكرة يعني!
وأضاف إليه: خرجلك ورق باسم آشرف شعبان عشان الدنيا تبان طبيعي، وأنا مملكش ضده دليل واحد عشان كده هربتك.

تطلع له عُمران بنظرة غامضة، وسأله: وساعدتني ليه وإنت متعرفش عني حاجه؟

التقط قطعة من الخبز ومضغها قائلًا: متعودتش أشوف الغلط وأسكت عليه، ولا أسيب حد محتاج لمساعدة، وبصراحه من جوايا حاسس انك شخص كويس.

ابتسم له وقال بسخرية: إذا كان انا نفسي معرفش إذا كنت شخص كويس ولا لأ!

نهض صابر يتجه للكومود، سحب الكيس البلاستيكي، وقدمه له قائلا: لا، شكلك شخص كويس، وابن ناس أوي على فكرة.

تفحص عُمران ما بالكيس هاتفًا ببسمة هادئة: يعني الدورلات دي اللي بتأكدلك إني ابن ناس! أنت يا طيب أوي يا ساذج أوي يا صابر.

ضحك رغمًا عنه، وقال ببساطة: سواء كنت طيب أو ساذج المهم اني أنقذتك.

ارتسم الحزن والألم على ملامحه، وقال: مكنتش هتفرق صدقني، يمكن الموت يكونلي رحمة عن اللي أنا فيه، أنا حتى اسمي مش فاكره.

ورفع يده إليه يتطلع تلك الدبلة المميزة باستغراب، فتابع صابر نظراته وقال: شكلك يا خاطب يا متجوز.

احتقنت رماديتاه بحزن، وقال: بقالي اكتر من عشر أيام فاقد الوعي، يا ترى عاملة أيه في غيابي، أو ممكن تكون بتفكر في أيه بالوقت ده!

شعر بثقل مشاعره ووجعه، فربت على ساقه وقال: متفكرش في حد غير نفسك دلوقتي، افطر وخد دواك عشان تقدر تقف على رجليك.

اكتفى بايماءة من رأسه، وبدأ يتناول طعامه. بينما يشاركه صابر، حانت من عُمران نظرة للغرفة، ثم قال: إنت عايش هنا لوحدك؟

ابتسم وهو يجيبه: لا انا والمدام، بس انا بعتها عند أمي في الشقة اللي قصادنا عشان تأخد راحتك.

حرك رأسه بتفهمٍ، وقال: طيب أنا مش حابب أفضل هنا كتير، لو ممكن تشوفلي فندق قريب من هنا.

اندهش وهو يطالعه، ثم قال: فندق وهنا أنت بتحلم ولا أيه؟

وضحك وهو يضيف: أنا هكلم موسى يديك أوضة من الأوض اللي فوق السطوح، هنفرشهالك وتنقل فيها لحد ما ربك ييسيرها وتفتكر أي حاجة عن نفسك.

جحظت عيني عُمران في دهشة: اوضة فين؟ لا طبعًا انت بتهزر ولا أيه؟

ضحك صابر رغمًا عنه وقال بشك: زي ما قولتلك شكلك ابن ناس، بس لو فكرت فيها هتلاقيني بتكلم لمصلحتك، الاصابات اللي عندك بتأكد إنك متعرضتش لحادثة عادية، دي محاولة قتل، كمان مفيش فندق هيقبل بيك من غير بطاقتك ولا أوراقك، وبعدين انت متعرفش حد دلوقتي غيري فهتكون قريب مني وتحت عيني.

حرك رأسه بخفة واستكمل تناول طعامه حتى دق جرس الباب، فانتفض صابر بلهفة: ده أكيد موسى.

قالها وهرول يفتح الباب، فولج يحمل الأكياس، ووضعها على المقعد قائلًا: جبت للقتيل شوية عصير يرموا عضمه.

أشار له صابر بضيق: اسكت يا موسى، هيسمعك.

استدار يسأله باسترابة: هو فاق؟

هز رأسه بتأكيدٍ، فولج للداخل يتطلع له بانبهارٍ بعدما تمكن من رؤية ملامحه بوضوح جعل عمران يراقبه باستغراب، بينما يميل تجاه صابر وقال بصوتٍ مسموع لعمران: ده عينه رمادي وشكله قالب على خواجات أوي، أنت متأكد أنه مصري، شكلك هتلبسنا مصيبة يلا!

ضحك صابر وقال له: امال لو شوفت لون شعره واحنا بنحلقه، شعره بني أوي، وشكله فعلا خواجه بس لسانه مصري أصيل!

زم شفتيه بسخطٍ وهو يراقبهما، لم يجد شيئًا جذاب بملامحه المشوهه، فما بال هؤلاء يتطلعون له وكأنه وسيمًا!

تنحنح موسى ودنى يهتف: يا رب يا ساتر.

ضربه صابر بسخط: داخل على واحدة ست، إنت مش واخد بالك من العضلات!

لكزه بكوعه بغضب: اتنيل بقى خليني أتعرف على القتيل قبل ما يفلسع مننا!

جذب مقعد السراحة وقربه من عمران الذي يتطلع له بثباتٍ طاغي، وبنبرة باردة قال: متقلقش مش هموت وأسيبك ميت من فضولك عشان تتعرف عليا!

برق موسى في دهشة، حتى صابر تعجب من قوة رده، رسم موسى بسمة صغيرة وقال: شكله فعلًا مصري يا واد يا صابر، قال قولي يا حبيبي هو إنت مش فاكر ماما ولا بابا ولا حد من عيلتك بصحيح!

تشربت دماء عمران بجرعة جعلته فجأة يستحضر داخله شخصًا لم يكن يتخيل أنه يحمله داخله: لا مش فاكر غير طولة لساني مع الأشكال اللي تستاهل يتقل منها يا آآ، قولتلي اسمه أيه يا صابر؟

ابتلع صابر ريقه بارتباك، وبدى حائرًا بين فرسين كلاهما أشرس من الآخر، وإن بدى أن بهدوء عمران وثقته قد يحقق أكثر من معركة أمام موسى الذي طالعه بغيظٍ، وقال: أممم، شكلك لسانك طويل؟

ابتسم عمران وقال: مش عارف، بس معاك هكتشف حاجات معرفهاش عن نفسي!

ابتسم موسى رغمًا عنه، وردد بمشاكسة: يبقى لسانك الطويل ده سبب الدشمالة السودة اللي إنت فيها دي، وأكيد وقعك مع جتت مقدرتش تصد ولا ترد قدامها.

لم تتعصب ملامحه أبدًا، بل حرك كتفيه بحيرة: أعتقد إني من النوع اللي مبيسبش حقه، وإذا كنت فلت منها عايش بأكدلك أني خصمي ميت لا محالة!

سحب صابر موسى الذي يطالع عمران بغيظ، وهمس له: مش كده يا موسى، الراجل تعبان وشكله معلم، فبلاش ترهقه وترهق نفسك، تعالى نطلع نظبطله الاوضة اللي فوق عشان هو مش حابب يفضل هنا.

سحب يده منه وصاح بغضب: أوضة مين ده أنا هرميك إنت وهو من هنا؟

واجهه صابر بعدما لمس ما قد يجعله يلين: كل ده عشان قصف جبهتك العالية، ده إنت طلعت حقود يا جدع.

جذبه من تلباب قميصه وصاع بغضب: مين ده اللي قصفني يالا! ده انا أعمل من لسانه فرقلة!

جذب عمران العصير المعلب يرتشفه وهو يطالعه ببرود جعل موسى يصعق من تعامل هذا الرجل الذي بدى أستاذًا ورئيس قسم، بينما يحاول صابر اقناعه، فصعد برفقته على مضض ليحضر له الغرفة التي تقابل غرفته، حيث كان يقسم السطح ويضع طاولة بالمنتصف، والتلفاز على خزانة قديمة، بينما يحيط بالسطح زهريات من الازهار تزينه بشكل مريحًا للعين.

فتح يوسف باب الشقة باستخدام مفتاحه الخاص، اتبعه على لاحدى الغرف حيث يوجد جمال، يتمدد على الفراش بتعبٍ، فتح على مصباح الغرفة وولج يقترب من الفراش قائلًا بحزن: وأخرتها يا جمال، هتفضل على الحال ده لأمته؟

مال برأسه جانبًا تجاه محل جلوس علي، يتطلع له بصمتٍ يذبح الفؤاد، بينما يتطلع على لصواني الطعام الموضوع جواره.

صاح يوسف بعصبية بالغة: بردو مكلتش! إنت عايز تموت نفسك بالبطيء صح؟

وجذبه ليستقيم بجلسته بالفراش: قوم كلمنا، عايز توصل لأيه؟

رد بارهاق تام: للموت، يمكن بعدها أرتاح من كل أوجاعي.

طالعه على بشفقة، وقال بهدوء استرعى انتباه جمال: وهو ده الحل يعني يا جمال؟ معقول استسلمت وقبلت تخلي دم عمران يضيع بالسهولة دي، حبك ليه المفروض تخليه داعم ليك مش يدمرك بالشكل ده، تخليه يقومك باصرار وعزيمة إنك تكمل اللي عماه عمران مش تهد اللي كان بيعمله.

عبث بعدم فهم، وتساءل: قصدك أيه يا علي؟

رد عليه بقوة وشموخ: المشروع اللي اخويا وصاحبك دفع تمنه حياته إنت لازم تكمله وتحققله حلمه، مفيش غيرك يا جمال اللي يقدر يعمل كده ويساند فاطمة وعمي، ولو على فلوس التمويل فأنا متكفل بكل المصاريف، لحد ما المصنع والمشروع كله يكتمل.

وأضاف بوعيد وكره ناطق: عايزك تحرق دم الكلاب دول، وتعرفهم إن مفيش حاجة هتهدنا، مهما حصل هنقف من تاني وهنكمل.

وتطلع إليه يسأله بقوة: مستعد تكمل وتحقق حلم صاحبك اللي مكتملش يا جمال؟

هز رأسه دموعه تتساقط دون توقف: مستعد يا علي، أوعدك إني هعمل كل اللي أقدر عليه عشان انفذ خطة مشاريع عمران كلها، حتى لو كان التمن حياتي.

أزاح يوسف دمعة خائنة من عينيه، وقال يدعمه: الاول تأكلك لقمة، وتحلق دقنك دي وبعد كده هنوصلك في طريقنا للشركة، واحنا هنقضي معاك اليوم كله النهاردة عشان نتأكد إنك هتشتغل مش هتروح تنام هناك.

اضاف على لحديث يوسف: كلم آيوب يروح الشركة، جمال هيحتاج وجوده بالفترة دي!

صعد عمران برفقتهما للاعلى بصعوبة، بعد أن أصر على بقائه بالاعلى بعيدًا عن شقة صابر، مال يستند على باب الغرفة بينما يتجه موسى ليحرر نافذة الغرفة.

تطلع عمران للغرفة بنظرة ذهول، بينما يعاونه صابر على الجلوس على الفراش البالي، تردد منه سؤالًا مندهش: هو مفيش تكيف هنا؟

تطلع صابر إلى موسى الذي ضحك وهو يسخر منه: شكلك هتطلع ابن ذوات، أنا قولت كده من أول ما لمحت خلقتك.

تجاهل حديثه وتطلع لصابر مرددًا: صابر أنا مش هعرف أنام من غير تكيف!

ذم شفتيه بتفكيرٍ، بينما تتعالى ضحكات موسى وهو يخبره: مفيش عندنا هنا غير مروحة سقف، تفضل تزن فوقك لحد ما عداد الكهربا يفصل أو تقع فوق دماغك بقدرة قادر.

قوس حاجبيه بغضب، وهدر بنبرة مندفعة: أنا مالي بتجارب أمك إنت، ثم أنك بتتكلم معايا على أنهي أساس، ولا عشان ما أنت صاحب البيت هتشوف نفسك عليا، إنت يعتبر عملت اللي عليك لما وصلتني هنا، أتفضل بره الأوضة عشان وجودك ساحب الاكسجين من الاوضة أكتر مهو مسحوب.

وأضاف وهو يضيق رماديتاه بنظرة انتصار: صابر يا حبيبي، باين عليك طيب وحنين مينفعش تصاحب الاشكال دي، هتخلي لسانك أطول منك صدقني!

استعد موسى ليهجم عليه، لقد انقضى عنه صبره كليًا، سحبه صابر للخارج وهو يصيح فيه: اعقل يا موسى الراجل تعبان ومش حملك.

أشار على الغرفة بغضب: ده مش حملي! ده حمل مديرية، لسانه عايز قصه، سبني عليه اللي معرفلوش إسم ده، أوعى ميل!

كبت صابر ضحكاته وعاد يلوي ذراعيه بحديثه: إنت مقهور عشان بيصد كلامك أول بأول، حقدك هيعميك وهينسيك الاصول، ده راجل تعبان ومتصاب يا أسطى!

زفر بعصبية، ودفعه عنه، ثم اتجه للدرج قائلًا: أنا نازل الورشة لاصورلك قتيل هنا انهاردة.

راقبه صابر حتى اختفى من أمامه، وعاد للغرفة يتطلع تجاهه، كان عمران يستند على الحائط ويتطلع من النافذة بشرود في هذا الحي البسيط جدا، بداخله شعورًا قويًا أنه لا يمكن أن يكون ينتمي لهذا المكان أبدًا.

قصفت جبهة الاسطى موسى عُربان بذات نفسه، عملتها ازاي دي؟

قالها صابر وهو يكاد يسقط من فرط الضحك، فاستدار ببطء إليه وهو يضم كتفه المصاب بتعب: صاحبك الا لسانه سابقه، وأنا محبتش أسلوبه ولا طريقته، اللي يحترمني أحترمه واللي يفكر يسخر مني أخليه مضحكة أدام نفسه قبل اللي حوليه!

تبسم صابر وقال: شكلك شخصيتك قوية ومالكش كاسر، ده باين من ثقتك في نفسك.

أخفض رأسه للاسفل وقال: مش عارف كلامك صح ولا لا، أنا حاسس إني ورقة بيضة مفهاش ولا سطر واحد ينفع يتقرأ.

ربت على كتفه السليم وقال: هتفتكر كل حاجة واحدة واحدة، بس خد ادويتك بس وارتاح.

رفع رأسه له ومنحه ابتسامة أشرقت وجهه المصاب: شكرًا على كل اللي عملته عشاني يا صابر، ممنون ليك وبتمنى أقدر أرد جزء بسيط من جمايلك عليا.

اجابه وابتسامته لم تفارقه: متقولش كده، انا من أول ما شوفتك حبيتك وربنا اللي يعلم، يلا هسيبك وانزل شغلي بقى، وهطل عليك بليل يلا سلام.

وتركه وغادر بينما يجلس هو بحزن على فراشه، مضت به الساعات وشعر فيها بالملل، فدعم جسده الذي يتآوه من شدة اصاباته وخرج للسطح.

انتعش وجهه المتعرق من الحرارة بنسمات الهواء القوية، جذبته الاجواء بشدةٍ، وخاصة تلك الاريكة المتطرفة للسور الخارجي.

جلس عليها يراقب البيوت والورود المندثرة من حوله، حتى افاق على صوتًا يهتف باسترابة: أنت مين يا عمو؟

استدار عُمران للخلف، فوجد فتاة صغيرة تقف قبالته، تمتلك جدلتين ينحدران على أذنيها، تراقبه بخضرة عينيها الساحرة، وتنتظر سماع ما سيقول، ابتسم رغمًا عنه وقال: اعتبريني الساكن الجديد هنا، إنتِ بقى تبقي مين يا جميلة؟

ابتسمت وأجابته: أنا كمان ساكنة هنا وإسمي قمر.

اتسعت ابتسامته وقال: أنتِ فعلًا قمر، إسم على مسمى.

ضحكت وهي تخبره بطفولية: بابا دايمًا بيقولي كده.

تحررت ضحكة منه وقال: عنده حق، باباكِ بيفهم جدًا.

تلاشت ابتسامتها وقالت وهي تراقب جروح وجهه بحزن: التعويرات دي بتوجعك؟

زوى حاجبيه بعدم فهم: ال أيه؟ مش فاهم.

أشارت على وجهه، فابتسم وقال: يعني مش أوي.

دنت إليه تتطلع لعينيه قليلًا، ثم قالت: عد يوم ويوم ويوم وهي هتمشي وهتبقى حلو يا عمو، هو إنت اسمك أيه؟

وخز قلبه من سؤالها، ورد عليها؛
مش عارف، قوليلي يا أنكل وخلاص. أقصد عمو زي ما بتقولي.

هزت رأسها بخفة وأخرجت له الحلوى التي تحملها قائلة: تاخد توفي!

تعجب من كلماتها، ولكنه التقط واحدة مما تحملها قائلًا: شكرًا يا صغنن.

وأضاف وهو يبتسم لها: تعرفي إني كنت حاسس بملل لحد ما ظهرتيلي بجمالك ده، قوليلي بقى إنتِ في سنة كام؟

ردت عليه وهي تضحك: المفروض إني داخلة تالتة ابتدائي، بس أنا مش حليت كويس وحاسة إني هرجع تانية تاني يا عمو.
شاركها الضحك وقال: عوضيها المرادي وذكري كويس، مفيش مشكلة تُذكر يعني!

هتفت بحنق: مش بحب الانجليزي، صعب أوي.

اجابها بتلقائية:
On the contrary، it is very easy and fun
(بالعكس ده سهل وممتع جدًا! ).

مش قولتلك ابن ذوات!

قالها موسى وهو يتابع حوارهما منذ بدايته، وقد راق له تعامله اللطيف مع ابنته، فوضع ما يحمله على الطاولة، ونادى ابنته: تعالي يا قمر يلا، هاتي معالق من جوه عما أفرش الأكل.

ركضت الصغيرة صوب المطبخ الصغير، بينما يشير له موسى: يلا عشان نتغدى ما بعض.

هز رأسه بهدوء: شكرًا ليك، بس أنا ماليش نفس.

اتجه موسى إليه، وقال بجدية تامة: زعلك على اللي فات إركنه، إقبل باللي ربنا كتبه وعليك، وهو أكيد هيرشدك للصح.

رفع رماديتاه له، ووجد ذاته يشكو له: مش سهل إنك تصحى في يوم تلاقي نفسك مش فاكر أي حاجة عن نفسك، وكل اللي بيربطك بحياتك مجرد دبلة في ايدك، أنا حتى اسمي مش عارفه!
وأضاف وهو يتطلع لكتفه واصابة جنبه الايمن: الله أعلم أنا اتعرضت لأيه، جايز أكون واحد من اللي الدنيا جت عليه، وجايز اكون أنا اللي جيت عليها، كل اللي أنا حاسس بيه هو الخوف من اللي فات ومن اللي جاي.

حزن موسى لاجله وقال: أوعى تفكرها دايمة لحد، دي واخدانا على حجرها، بتمرجح فينا لحد ما تغربلك وتجيب أجلك، ولو مكنتش همجي وعارف تجاريها هتجيب هي وهتحط عليك!

تطلع تجاهه وشعر بارتياحٍ غريب إليه، فأشار له موسى حينما وجد ابنته تعود: يلا قوم عشان نتغدى وبعد كده نكمل كلامنا.

واضاف وهو يسانده للمقعد: بص نص الشعب المصري إن مكنش أغلبه اسمهم يا أما أحمد يا أما محمد، فنتوكل على الله ونناديك محمد، ولا أيه رأيك يا بت يا قمر؟

قالت الصغيرة بعد تفكير: لا أحمد حلو.

هز رأسه باقتناعٍ وناداه قائلًا: هات ازازة المية اللي جنبك دي يا محمد!

تعجب عُمران من الاسمين وشرد بهما، شعر بأنه لم يقبلهما البتة، فعاد يناديه بالاسم الآخر ظنًا من انه لم يرغب بهذا: هات المية يا أحمد.

لم يستجيب له عمران وسبح بشروده، كأنه يجاهد لايجاد اسمه من بين كل الاسماء التي تهاجم رأسه، فاذا بموسى يناديه بقلقٍ وبتلقائية شديدة: خواجة!

عند ذلك الاسم ورفع عمران رأسه له بدهشة تامة، فضحك موسى وقال: والله شكلك مش هتطلع ابن ذوات بس، لا هتطلع من بلاد بره وصايع معانا هنا، خلاص هناديلك خواجه مدام لافتة انتباهك.

رد عليه وهو يحاول تذكر أي شيء: معرفش، بس حاسس إن الاسم مش غريب عليا، حاسس إني اتناديت بيه قبل كده!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة