رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وأربعة عشر
غمس أصابعه بين أصابعها، وقبلته تلثم جبينها، فلمستها دموعه الدافئة، تعلمها كيف قضى طريقه ليصل لها، رفعت فريدة رأسها إليه، تتفحصه بقلقٍ، اتبع نبرة صوتها الرقيق: أنا كويسة يا أحمد، والبيبي كمان بخير.
قالتها وأشارت لعُمران بأن يحملها إليه، فإتجه يحمل الصغيرة من الفراش، ثم وضعها بيديه هامسًا له: هتغاضى عن كلابي السعرانة اللي بتتعارك معايا عشان حالتك النفسية الغريبة دي، بس لينا عتاب قاسي وجامد يا أحمد يا غرباوي، وأهي محكمة الأسرة فاتحه كل يوم، هنروح من بعض فين يعني!
ومع وضعه لها بين يديه، ختم قوله بتحذيرٍ قاطع: إتفضل الانتاج الأول والأخير، واخد بالك إنت!
وبإصبعه حذره: ممنوع البوس، أجل مشاعرك لما تكبر سنتين تلاتة.
وتركه يحمل الصغيرة مصدومًا مما قال، لدرجة جعلته لم يركز بملامح الصغيرة، وتابع عُمران الذي مال تجاه والدته التي استسلمت للنوم بعد هذا الإرهاق، قبل جبينها وجذب الغطاء من حولها، بعدم رضا لما ترتديه، بينما يتمتم بسخطٍ وصوتًا مسموعًا للجميع: ومتضايق إني مانع الدكاترة والممرضين يطلعوا هنا، عايزهم يدخلوا ويشوفوا أمه باللبس الغريب ده!
وأضاف وهو يتطلع للممرضة التي تعدل المحلول جيدًا: هو مفيش لبس تاني عندكم غير اللبس ده!
أجابته بدهشةٍ لما يلمح له: ده اللي الهانم اختارته.
هز رأسه بعدم اكتراث، واستدار يشير لأحيه قائلًا: على عايزك لو سمحت.
قالها وإتجه لباب الغرفة القابعة للجناح الطبي المكون من ردهة تحوي على صالون صغير وغرفة خاصة بفريدة، وقف ينتظر أن ينضم له، نهض على من جوار فاطمة التي تشاهد ما يحدث بتسلية.
أغلق علي باب الغرفة، وأتجه يقف قبالة أخيه يطالعه بغيظٍ ومحاولاته جميعها سخرها بالسيطرة على انفعالاته، بينما يتلقى تعليمات عُمران: أنا خارج لمايا، عايزك تشد الحراسة هنا مكاني، أديك شايف أمك نايمة بلبس شبه قمصان النوم!
وأضاف وهو يستخدم أسلوبه التهديدي: عارف لو رجعت شميت ريحة راجل دخل الجناح تاني، هقدم فيك بلاغ أتهمك بتجارة الاعضاء وأهو إثبات الحالة عندي، فريدة هانم خارجة من غير المشيمة، يعني كل شيء هيتكشف ويبان، خاف على المخروبة دي بدل ما أشردك أنت ودكتور الحالات المتعسرة.
واتجه ليغادر ولكنه عاد يخبره: آدهم نفسه ميدخلش جوه، يقعد هنا لحد ما شمس تخرجله، وياريت تشد معاه عمك، وقوله يفكه من أسلوب المحن ده! نازل بوس وأحضان جوه ولا كأننا موجودين معاه، مش مكفيه مصايبه اللي بنلم فيها من الصبح!
أغلق على عينيه ومال على الحائط بجبينه الذي ضربها بصوتٍ مسموعًا، جعل الاخير يعود له، يتفحصه بقلقٍ: مالك يا علي، إنت كويس؟
مال برأسه تجاهه، فاسترسل عُمران حديثه: شكلك مجهد وتعبان، حالًا هشوفلك أي دكتورة نفسية تعالجك، بس دعواتك ألقى دكتورة في أم المخروبة دي، سوري يا على مش هقدر أخالف تربيتي ولا أخلاقي اللي اختفوا عندك فجأة وأسمح بدخول دكتور هنا عشانك، بص عالج نفسك بنفسك ونوفرها عليا بمجهود البحث.
تحرر الجليد عنه بامتيازٍ، فدفعه من تلباب جاكيته الرياضي الأسود على الحائط، بقوةٍ أذهلت عُمران، بينما يتحرر صوت على من بين اصطكاك أسنانه: أنت عايز أيه، أقتلك وتكون دي نهاية علاقتنا المثالية؟ ولا أتعامل معاك كحالة من الحالات اللي بفضل تعبك لاعصابي بطلت أتابعهم!
جحظت عيني عُمران بصدمة، بينما يستطرد علي بصوتٍ كان هادئًا ولكن مضمون حديثه عنيفًا: لو عايزني دكتور ليك فخليني أصارحك بالحقيقة، إنت عندك انفصام بالشخصية يا حبيب قلب أخوك، وأنا جاهز اعالجك منه، كل ما تنفصم هفصل دماغك بأقرب حيطة عشان تفوق وترجع لعقلك كده!
ابتلع ريقه بتوترٍ من انفجار على المفاجئ، فوزع نظراته بينه وبين يده المحيطة له بقوةٍ أدهشته، ثم قال: إهدى وخد نفس بانتظام يا حبيبي، كده وحش على أعصابك، إحنا لينا مين غيرك يا علي، اهدى يا روح قلب أخوك من جوه.
قالها وسحبه لأقرب مقعد، يعاونه بالجلوس، بينما ينزع عنه جاكيته وجرفاته، ويجذب ريموت التكيف، يرفع من درجته ويتابع على الذي يتطلع له بدهشةٍ وتعبًا من التعامل مع هذا الشخص، فماب يضم كفيه على وجهه، ليجده يفرقهما ويطالعه بدقة بجسدٍ منحني إليه، وسؤاله الساذج: أحسن دلوقتي ولا تحب أطلبك دكتور؟!
أجابه وهو يستمد نفسًا طويلًا: إنت كنت رايح مشوار؟
هز رأسه يؤكد له: كنت خارج ورا مايا، كلام فريدة هانم ضايقها فخرجت أصلح الدنيا.
وأضاف بسخطٍ: انتوا عيلة لسانكم استغفر الله، سحليني ألم وراكم مصايبكم، على أساس أني ممسك الادارة لحد وصايع طول اليوم من هنا لهنا.
منحه على نظرة نارية، فمسح على كتفه وقال مبتسمًا: مش بلقح عليك يا حبيبي، وبعدين الاجازة اللي خدتها والصياعه اللي صعتها كانت لأجل مين يعني؟! أنا منساش أي حركة أصيلة تتعمل معايا، وإنت مجدع ورجولة.
مال على يستند على كفه، وتركه يرتب ملابسه حتى انتهى، فنهض عمران يلقي نظرة أخيرة على أخيه، بعدما حرره من ربطة عنقه وجاكيت بذلته الذي اعتاد ارتدائهما بشكلٍ روتيني، فمنحه ابتسامة أخيرة وأثنى على ذاته: كده أفضل.
ومال يقبل رأسه وهو يتمتم: ربنا يهديك ويحفظك بعقلك يا حبيبي، يلا سلام مؤقت.
قالها وغادر على الفور، فزفر على بتعبٍ، وعاد يتجه للداخل، مستقلًا محله جوار فاطمة على الأريكة، فاذا بأحمد يميل تجاهه متسائلًا ومازال الصغيرة: ماله أخوك يا علي؟
زم شفتيه في حزنٍ مضحك: معرفش، من ساعة ما شاف فريدة هانم بالحالة دي وهو طايح في كل البشر، اتجنن تقريبًا.
وأضاف بجدية أضحكت أحمد: أنا كنت خايف عليك منه والله، بس الظاهر خوفك وتوترك خلاه يرأف بيك، بس ده مش معناه أنك فلت، هيجيلك وقت معاه أكيد.
ضحك على حديثه، بينما يتمتم بسخطٍ: يا منجي من المهالك يا رب.
وحينما إنحنى ليطبع قبلة على خد صغيرته، تذكر تعليمات الطاووس الوقح، فاكتفي بتقبيل يدها ودموع فرحته تتراقص بمُقلتيه، فتابعه علي و فاطمة بتأثرٍ، وهو يتأمل صغيرته بسعادة، وعدم تصديق أن من يحملها هي فلذة كبده، من كان يصدق أنه سيحمل ذاك يومًا ابنة من معشوقته، التي حرم منها ومن وصالها طوال تلك الأعوام.
جاور محل جاوسها، بينما تربع يديها أمام صدرها، والغيظ والضيق يتنافسان للبقاء معًا، ابتسم وهو يختطف النظرات لها، فدفع يدها برفقٍ وهو يقول: حبيب قلبه وهو زعلان شكله بيكون مش لطيف أبدًا.
فكت يديها عن بعضهما، وقالت تشكو له: يرضيك الكلام اللي بتقوله فريدة هانم ده، قصدها أيه بكلامها ده، على فكرة أنا زي أي ست حامل، هي اللي مش طبيعية.
حك أنفه ليخفي عنها ضحكته، وتنحنح بخشونة وثبات: عندك حق يا بيبي، وبعدين يا روحي أنتِ متضايقة ليه، أنا اللي بعين وبشيل وعلى قلبي زي العسل، كفايا إنك مش حارمة ابني من حاجة، كل اللي نفسه فيه بيلاقيه.
قال جملته الاخيرة وابتسم حينما وجد حزنها يتبدل لسعادةٍ، وبرمشة عينيها قالت: بجد يا عُمران؟
ضحك بصوتٍ مسموع، وهتف: حلوة قلبة العين دي، رموشك ثبتتني!
وأضاف وهو يجذب كفها، يمرر إبهامه من فوقه بلطفٍ: أنا مبتكلمش الا الجد يا روح قلبه من جوه، وعشان تصدقي إني مش فارقلي شيء، هننزل أنا وإنتي نفطر في الكافيه اللي تحت، أهو فرصة نقييم واجبات المركز، أهو يبقى فيه حاجة عدلة في المكان المخروب ده.
وأضاف وهو يتجه بها للمصعد: يلا اسبقيني تحت وإختاري على مزاجك، وأنا شوية وهحصلك.
أومأت برأسها إليه بسعادةٍ، وافترقوا عند المصعد، بينما صعد عُمران الدرج للأعلى، قاصدًا مكتب رفيقه، فتح بابه وولج للداخل، فوجده يميل على سطح مكتبه، مستندًا على ذراعيه، ناداه ليوقظه بخفة، وهو يحرك ذراعه: يوسف!
فتح عينيه بانزعاجٍ، وحينما وجد عُمران يجلس قبالته، تساءل بقلقٍ: فريدة هانم كويسة؟
تنهد بحزنٍ بدى عليه: ماما كويسة بس إنت اللي مش كويس.
واستطرد باختناقٍ يحاور نبرته: من أول ما سمعت صوتك وانت بتكلم على وأنا واثق أنك فيك شيء، وإتاكدت شكوكي لما دخلت ولقيت سيف حضنك وكان باين عليكم أن في حاجة وكبيرة كمان، أنا محبتش أسالك وسيف هنا، ولا وعلى معانا، فحالًا قولي مالك؟
ابتسم يوسف وقد راق له اهتمامه الدقيق به، كعادته لا تفوته التفاصيل، حتى أصغر الأشياء، ترك مقعد مكتبه وإتجه يجلس قبالته، وأخرج الهواء الثقيل داخله، ليلحق به حديثه: ماما ظهرت من كام يوم وعندها اصرار مش طبيعي إن سيف وزينب ينفصلوا عن بعض، يعني رجوعها ووجودها المزيف سببه إنها تبعدهم عن بعض.
وتابع وقد تلألأ الدموع بعينيه: أنا حاربت نفسي كتير عشان أعاملها باحترام، بس في الاخر مقدرتش، مقدرتش أقف وأتفرج عليها وهي بتهدم حياة سيف يا عُمران، روحتلها وهددتها إنها لو مبعدتش هفضحها في مكان شغلها، بس بعد ما خرجت من عندها لومت نفسي، أنا خايف من عقوق الوالدين يا عُمران، خايف ومرعوب أشيل الذنب الكبير ده بسببها، يعني هي مرأفتش بيا وهي بعيدة ولا وهي قريبة.
سحب علبة المناديل الموضوعة لجواره، قذفها إليه وبأمرٍ متعصب قال: امسح دموعك بسرعة، متخرجش شيطاني عليك، خليه محبوس محتاج أكون هادي شوية.
سحب المناديل يزيح دموعه، بينما يجوب عُمران الغرفة ذهابًا وإيابًا بغضبٍ، ليت شكواه ضد أي شخصًا أخر، يقسم أنه كان ليقتله بكل صدر رحب، لقد جعلت صديقه القوي ينهار، الوحيد من بينهم الذي كان يراه نموذج متقارب من أخيه، فلم يعهد الضعف والحزن يتجسدان بهما، لم يحتمل أبدًا.
مال إليه يحاول سحبه من تلك البقعة السوداء، فمنحه نظرة جعلته يعتدل بمحل جلوسه بارتباكٍ: في أيه يا عُمران، خيلتني!
خطى ببطء ليحتل محل جلوسه مجددًا، واضعًا ساقًا فوق الاخرى بعنجهية: أنت مش واخد بالك أني سبت والدتي وفيروزة هانم وعمي اللي محتاج يتأدب وجيتلك؟
زوى حاجبيه بعدم فهم، ومع ذلك قال: واخد بالي.
تابع وهو يعدل من جاكيته الرياضي: وده ميدكش إحساس بشيء؟
زفر بانزعاجٍ اتبع نبرته: احساس بأيه، مهو أنا مش فاهمك!
اندفع يدفعه للمقعد وهو يصيح بعنفوان أفزع يوسف: إنك مهم عندي يا بجم! هفهمك أكتر من كده أيه؟!
حبس ضحكاته بصعوبة، وقال وهو يحاول أن يحرر يديه من حول عنقه: أووه الباشا عُمران سالم الغرباوي ساب قسم النسا بحاله وجاي ورايا، تصدق عندك حق!
وأضاف وقد انتابته نوبة من الضحك: ده ربنا بيحب الناس اللي تحت، رأف بيهم لما عقلك اتشتت بيا ورحلت.
عاد يجلس محله وهو يزفر بضيقٍ، فأشمر عن ساعديه ولفظ: بص أنا معاك أني كنت عصبي حبتين، بس غصب عني أنا مكنتش متحمل أسمع صوتها وهي بتتألم بالشكل ده، حتى لو سنها كويس ومش كبيرة أوي، بس بردو أنا مش شايفها غير والدتي، فغصب عني جنوني طلعت ومهدتش الا لما شوفتها بخير.
مال إليه يوسف يخبره بجدية تامة: عارف أنك كنت مرتبك ومتوتر، بس حاول تعتذر من الممرضة على الأقل لانك كنت مزودها معاها أوي.
قال دون أن يجادل: أكيد هعمل كده، أنا مكنتش أعرف أصلًا بالتطعيمة دي، غير لما الدكتور دخل وشرحلي.
وأضاف وقد سُلطت رماديتاه إليه، تستهدفه بكل ما سيقول: يوسف أنا متعودتش أشوفك بالشكل ده، إنت أقوى من كده، مش معقول يعني ظهورها المؤقت قدامك هيخليك تخرب حياتك وتدمرها، إحنا ياما اتكلمنا في موضوع العقوق ده مع أكتر من شيخ في لندن وأكدولك أنك مظلمتهاش هي اللي ظلمت نفسها هي وباباك باللي بيعملوه ده، فلو أنت مش مقتنع بده تعالى معايا نصلي العصر بمسجد الشيح مهران واقعد اتكلم معاه، صدقني هترتاح بعدها.
تعمق بكل جملة خرجت منه، لمس فيها تواجده الفعلي قولًا وفعلًا جواره، يتذكر حينما كان يصمد دون أي حديثًا عما يؤلمه، ربما كان يخدع الجميع أنه على ما يرام، ولكنه كان يفشل باقناع عُمران، كأنه بنظرةٍ يعلم ما يخفيه، عاد يتطلع له حينما استكمل حديثه: يوسف سيف بيستقوى بيك، لو شافك كده هيحس فعلًا إنه يتيم الأم والأب، يرضيك بعد ما تعبت وكبرته وعملت كل ده عشان تداويه، تيجي في الأخر وتكسره بايدك؟!
عادت دموعه تلمع بعينيه تأثرًا بحديثه، فازداد عمق الألم برمادية عُمران، حتى اختنق صوته الذي صاح بعنفوانٍ: عارف لو كان اللي مزعلك ده أي شخص تاني، أقسملك بالله كنت طلعت روح أمه، دي دعت عليه في ليلة مفترجة وكلها رعد وبرق وعواصف.
ابتسم على حديثه، فلكزه عُمران وهو يستطرد: وبعدين إنت عايز أيه تاني في حياتك وأنا فيها! متبقاش طماع يالا!
تحرر صوت ضحكاته، مجاهدًا للحديث: أنا فعلًا محظوظ، ربنا رزقني بعبحليم أبو دماغ لاسعة ورزقني بالبلطجي الوقح، هعوز أيه أكتر من كده؟!
مزق شفتيه السفلية بأسنانه، هادرًا من بين اصطكاكهما: لا ده أنت عايز تتروق وأنا محبكش تموت ونفسك في حاجة.
قهقه ضاحكًا، بينما يخبره: اهدى يا بشمهندس، محبكش وإنت كده!
سحبه من تلباب قميصه مجددًا: فوق للكلام بدل ما أطلع بروح أمك هنا، ولا هيهمني بوقين الجنتالة اللي رزعتهملك من أول ما دخلت، أعرف تمامك وخد حذرك مني، من خاف سلم يا دكتور.
تماسك من فرط الضحك، ومسح على كتفه: عندي دي يا معلم، اهدى وعديها.
عاد يحتل مقعده واضعًا ساقًا فوق الاخرى: تعجبني لما تقييم المسائل، أنت متخدش في إيدي غلوة.
وأضاق بضيقٍ ملحوظ: المهم، نسيبنا من اللي فات ونخلينا في اللي كنت طالعلك عشانه.
انصاع له يوسف، حينما وجده يسلك درب الجدية، فاذا به يخبره: هو مينفعش يعني نشوف بديل للتطعيمة دي، يعني لو ينفع يكون دوا شرب، حرام يا يوسف البنت كوتي أوي، مش هتستحمل، ده دراعها ورجليها أد كده!
تأمله بصدمة، انتهت بسقوطه أرضًا من فرط الضحك، من يصدق أن هذا الطاووس العنيف، يملك كل مشاعر الرأفة هذة، نظراته المتعصبة جعلته يسترد رزانته، ويعود لمقعده مرتديًا نظارته الطبية، بينما يخبره بخشونة وحزم: مبدئيًا كده، تشوفلك دكتور تاني يولد المدام مايا، أنا بقولك من دلوقتي أهو متعملش حسابي في الليلة دي!
فتحت عينيها والنشاط يتجدد إليها، بعد أن حظيت بمدة طويلة بالنوم جوار زوجها بعد استيقاظها صباحًا، نهضت تفرد ذراعيها بدلال، وجذبت مئزرها الحريري ترتديه على عجالة من أمرها، والدهشة تحيط وجهها حينما رأت الوقت بهاتفها الموضوع للكومود، فعاتبت ذاتها: يا خبر إزاي أنام لحد دلوقتي، أنا محضرتش أي أكل للغدا، جمال هيقول أيه مصدقت!
وتركت ملابسها والمنشفة التي تحملها استعدادًا للاستحمام، ثم خرجت سريعًا للمطبخ لتعد غدءًا سريعًا، ولكنها توقفت على صوت بكاء صغيرها، فرددت بحزنٍ: طيب أنا هشيلك ولا هحضر الغدا!
ولجت لغرفة صغيرها، فاندهشت حينما رأته يجلس على فراشه، يبدل له ملابسه، وعلى ما يبدو من رؤيتها للمنشفة الموضوعة لجواره بأنه كان يحممه، ويعاونه الآن على إرتداء ملابسه، أعادت خصلاتها للخلف والفرحة لا تسعها، وخاصة حينما رفع رأسه لها بابتسامة افتقدتها منه: هتفضلي واقفة عندك كتير! تعالي شوفي الباشا بعد الدوش العظيم اللي أخده.
ولجت للداخل وابتسامتها تتسع فرحة به، فجلست على السرير المقابل للسرير الذي يحتله هو وصغيره، وقالت بحرجٍ: محستش بيه لما صحى، زمانه غلبك معاه.
ماله على كتفه، حتى يتمكن من ترتيب التيشرت الصغير على جسده، بينما يجيبها: أبدًا، أنا أصلًا اللي قلقت نومه، حسيت إنه وحشني وعايز أقعد معاه.
راقبتهما ببسمة زرع فيها عشقه، ربما كان يلتمس حبها من قبل، حبًا روتينيًا، ولكن الآن بات يلمس فيها لوعة العشق الذي كان يسمع عنه كالحلم المحال حدوثه.
شرد جمال بكلمات عُمران له، أن الأنثى لا تحتاج سوى الاهتمام، والحنان وحينها ستغمرك بضعف ما قدمته أنت لها!
عاد ليتعمق بوجه زوجته، ومازال يضع صغيره على كتفه، ويده موضوعة على ظهره بتحكمٍ، فلاحظ أن وجهها يشرق بسعادة وفرحة لم يراها من قبلٍ.
طوال الفترة الماضية كان يعاملها بكل احترام، لم يترك فرصة الا وعبر بالقول لها عن حبه، حتى حينما مر بخبر وفاة عُمران، وبالرغم من انكساره الا أنه كان يطالبها بالبقاء جواره، لأنه وأخيرًا لمس الأمان والسكن بها، منحها ما أرادت من عواطفه وحبه فأغرقته بدفء حبها ومشاعرها.
تعجبت صبا من شروده الطويل، ونادته بقلق: جمال!
لم يستمع لها بالرغم من أن عينيه تحتضن عينيها في لقاءٍ صامت، فرفعت يدها تحركها باشارة له حتى أستفاق، فوجدها تسأله: سرحت في أيه؟
وضع صغيره على السرير، وسحب البيبرونه يضعها بفمه، ثم نهض يجمع ملابسه الملقاة أرضًا بينما يجيبها: ولا حاجة.
تفاجأ بها تنحني لتجمع الاغراض معه، وهي تخبؤه بحرجٍ: لا سيب كل حاجة، أنا هرتب الدنيا، كفايا اللي عملته مع عُمران.
سحب عنها ملابس الصغير، وقال بابتسامته الهادئة: هو مش ابني ومن حقه إني أدلعه ولو ليوم واحد.
تبسمت له في محبةٍ، ورددت: ربنا يخليك ليه يا حبيبي.
وقف قبالتها يتذوق تلك الكلمة التي لم يعتاد على سماعها، فابتسم وردد بنفس سياقها: ويخليكِ ليا يا حبيبتي.
رفرفت بأهدابها وهي تتهرب منه بخجلٍ، فقالت وهي تعيد خصلاتها للخلف: طيب هروح أحضر أي غدا بسيط، أنا كنت ناوية أعملك أكلة حلوة بس راحت عليا نومة.
أمسك يدها يمنعها عن الخروج: مفيش داعي، احنا هنخرج نتغدى بره، أنا لبست الباشا عشان أول ما تصحي متاخديش وقت في اللبس، روحي جهزي نفسك.
وكأن ما يحدث أمامها حلمًا يزداد جماله تدريجيًا، فوقفت تطالعه بدهشةٍ، فمال لها هامسًا: ها وصلتي لفين؟ لو هتقضيها سرحان فيا وفي تصرفاتي مش هيبقالنا خروج، ووقتها مش هتنازل عن طاجن ورق عنب وبطاية من على سطوح شوشو، ها قادرة تنضفي بط وتحشي ولا هتجري تلبسي في خمس دقايق؟!
فور أن انتهى من حديثه كانت تركض لغرفة نومها وهي تصرخ بخوف: ربع ساعة وهكون جاهزة يا جيمي.
تحررت ضحكاته وصوته يصل لها، فزاد من سعادتها أضعاف، وبالفعل ما هي الا خمسة وعشرون دقيقة وكانت تعقد حجابها فوق فستانها البني المطرز من الأطراف، ثم جذبت حقيبة يدها وكادت أن تخرج إليه، ولكنها توقفت واتجهت للخزانة، تبحث عن مفتاح الحزنة السرية، لتستخرج باقي مقتنياتها الذهبية، التي لا ترتديها بالكامل الا بالمناسبات الهامه، وأي مناسبة ستكون هامة لها مثل تلك.
سحبت عُلبة المجوهرات ووضعتها فوق الخزنة، ترتدي سلسالها وأسورتها الذهبية، والخواتم الخاصة بها، ثم جذبتها لتعيدها، فاذا بها تنتبه لدفتر صغير يحتل منتصفه عدد من الاوراق، كانت به ورقة مفتوحة تحمل إسمها، سحبت صبا الدفتر والاوراق، وبدأت تقرأ محتوياتها، فانعقد حاجبيها دهشة وصدمة، جعلتها تتجه للردهة حيث يجلس بالخارج يحمل الصغير، ويحاول مداعبته لحين أن تنتهي، وما أن رأها حتى نهض يهتف بضجرٍ: وأخيرًا!
وجدها تتطلع له بنظراتٍ غريبة، وبين يديها تحمل الأوراق التي يعلم ما بداخلها جيدًا، ازدردت ريقها ببطء وقالت: ده أيه يا جمال؟
هدهد صغيره وهو يجيبها بثبات: حقك.
زوت حاجبيها باستغراب لمنطق كلمته: حقي إزاي!
رنا إليها وقد تمكن من تهدئة صغيره، فوقف قبالتها يخبرها بمرارة: اللي حصل معانا في لندن كان تجربة قاسية، وخلتني أعيد حساباتي من كل الزوايا، اللحظة اللي قررنا فيها الانفصال كنت شايف بعيونك كسرة وخوف من اللي جاي، وإنتي بطولك، ونفس اللي حصل اتكرر لما نعمان الكلب لعب لعبته القذرة دي، مكنش ليكي ملجأ غير يوسف، هو اللي وقف جنبك ووفرلك سكن انتي وعُمران، والله أعلم من غيره كان هيحصل أيه، باختصار محبش أشوفك بالشكل ده تاني يا صبا، حتى لو في يوم لقدر الله حصل بينا شيء تقدري تأخدي قرارك وأنتي مسنودة ومش محتاجة لحد.
تهاوت دمعة على خدها، بينما تخبره باستنكارٍ: ولما تكتب الشقة باسمي، وتعملي حساب بنكي بالمبلغ الكبير ده هتكون بكده بتسندني يا جمال؟!
هز رأسه مؤكدًا لها: أيوه، ده من أبسط حقوقك عليا، وقفتي جنبي في كل عقبة عدتها وأهو الحمد لله ربنا كرمني، مش غلط ولا حرام أني أمنلك مستقبلك، عشان متحتاجيش لأي حد في يوم من الايام حتى لو كان الحد ده أنا يا صبا.
أخفضت رأسها تخفي بكائها المسموع له، وصوتها المختنق بعبراتها يتردد له: بس أنا مش عايزة حاجة غيرك.
ترك صغيره أرضًا جوار ألعابه، واقترب منها يفاجئها بضمته لها، ويطمنها بحديثه الرزين: وأنا بعدتك عني! أنا بس عايزك تكوني مطمنة، وبعدين إنتي أم ابني يعني اللي معاكي هيروح فين غير ليه هو.
وأضاف ممازحًا إياها: وعشان يوم ما أتجن وتلاقيني بغلط معاكي تأخدي قرارك بقلب جامد وتطرديني من بيتك، ما أنا هنا مجرد ضيف ولازم أقعد باحترامي.
بعدته عنها وهي تمنحه نظرة نارية، فضحك وهو يجذبها مجددًا قائلًا: أبو اللي يزعلك، خشي في حضني تاني تعالي.
سكنت تلك المرة وسعادتها تتضاعف بما فعله، حتى ولو أبدت إنزعاجها أمامه، ولكنها احترمت ما فعله كثيرًا.
أيه رأيك نلغي الخروجة ونطلب دلي?ري!
افاقت على همسه الخبيث، فدفعته وهي تخبره بعنجهيةٍ أضحكته: لا يا حبيبي هنخرج يعني هنخرج.
تعالت ضحكاته، وغمز لها بمرحٍ وهو يخرج لها الفيزا الموضوعه داخل الاوراق التي تحملها: حيث كده بقى العزومة دي على حسابك، وكلمة السر عيد ميلاد عُمران باشا.
التقطت ما يقدمه لها، وقالت بضحكة رقيقة: لو هتقبل تخليني أحاسب في وجودك معنديش مانع.
انحنى يحمل الصغير، وتمتم بسخرية: لا ودي تيجي، العزومة وشيلة ابنك الاتنين عليا، المهم تكوني مبسوطة ومرتاحة!
اجابته بصدقٍ: مبسوطة فوق ما تتخيل بشويتين.
مال يقبل أعلى حجابها في حبٍ: ربنا يقدرني وأخليكي دايمًا مبسوطة ومرتاحة يا صبا!
صعد عُمران رفقة زوجته، بعد أن قضوا معًا ساعة كاملة بالاسفل، ولج للداخل بها، وعينيه تتفحص الغرفة بنظرة صقر جارح.
والدته مازالت تغفو في سلامٍ، وعلى الأريكة يتمدد عمه يغفو من تعب سفره، وبالخارج تجلس فاطمة تتابع أعمالها على الحاسوب، بينما سرير الصغيرة الدائري فارغًا تمامًا، مما دفعه للخروج لفاطمة يسألها بلهفةٍ: فاطمة فيروزة فين؟
تركت الحاسوب قبالتها مفتوحًا، وقالت ببسمة لطيفة: على خدها يطعمها تحت.
برق بعينيه في صدمة، وهتف: أيه!
وقفت مايا خلفه تكبت ضحكتها خلف حديثها الثابت: وفيها أيه يعني يا عُمران، يا حبيبي كل الاطفال بتأخد نفس التطعيمة.
منحها نظرة خاطفة، وقال وهو يجوب الردهة الصغيرة ذهابًا وإيابًا: عارف، عارف.
اتجهت مايا تجاور فاطمة بمحل جلوسها، وكلتهما تراقبن اشارة مرور الطاووس الوقح بضحكات مكبوتة، كان وكأن زوجته تلد بالداخل، وما ان انفتح باب الجناح وطل منه علي، واجهه بنظرة حادة وهو يختطف منه الصغيرة، وبلسانه اللاذع قال: ارتحت أنت دلوقتي!
كانت الصغيرة مازالت تبكي، والاخر يحاول أن يهدهدها هامسًا لها بمحبة وحزن: معلشي يا روحي، اخوكي الكبير قلبه جاحد، حقك عليا أنا يا صغنن!
بينما يعود ليواجه على الذي يطالعه ببرودٍ: طول عمرك حنين علينا أيه حصلك فجأة يا علي! بقيت قاسي من قعدتك مع الجزارين اللي هنا، أنا لازم أشوفلك شغلانه تانية وبسرعة، أنزل امسك فرع من فروع شركاتي، أنا مش هستنى إن أطيب وأحن قلب فينا يبقى بالجحود ده!
تجاهله على وكأنه نسمة عابرة، بل دنى لركن القهوة والمشروبات الباردة، سحب كوبه وأتجه يجذب أحد الكتب الموضوعة بالكورنر، ثم جلس يقرأ الكتاب في صمتٍ أضحك الفتيات، بينما يمنحه عُمران نظرة منفرة، وهو يتجه لأقرب أريكة، يحل عن الصغيرة الغطاء، ويتفحص ساقيها بحزنٍ، بينما يقبل قدمها وهو يهتف بهمس كان مسموعًا رغم انخفاضه: أنا آسف والله، متزعليش هحطلك عليها أي مرطب من هنا.
واستطرد وهو يتأمل النقطة الحمراء الصغيرة: دول حتى مش حاطينلك لاصق طبي الجاحدين، بردو مش ههدى الا لما أقفلهم المخروبة دي، مبقاش عُمران سالم الغرباوي أما عملتها.
أحاطه على بنظرة ساخرة، بينما يلف مقعده تجاه الشرفة، اما فاطمة فوضعت رأسها داخل شاشة حاسوبها تختبئ من فرط ضحكها، أما مايا فمسدت على بطنها المنتفخ وهي تهمس بخفوتٍ: اطمنت على مستقبلك، هو وقح بس طيب وحنين!
بالأعلى، وبالطابق المخصص للاطفال.
سلط الضوء بفم الصغير، ليتفحص سبب ألمه، فجاورته زوجته وقالت: إلتهاب في الحلق.
أشار لها سيف بأن ملاحظتها صائبة، فعادت للمكتب تدون للأم العلاج المناسب للصغير، ثم قدمته إلى زوجها، فراجع على ما دونته ومنحها ابتسامة كانت تأكيد لعملها الممتاز، فقدمت الروشته للأم وبدأت تشرح لها المواعيد الخاصة بالادوية، والمصرح له بتناوله، فشكرتها بامتنانٍ وخرجت على الفور.
انتزع سيف قفازاته الطبية، ووضعها بسلة المهملات، ثم عاد لمكتبه، فوجدها تصعد فوق الطاولة المقابلة له وتردد بهيام: ولد جميل أوي ما شاء الله.
ابتسم وهو يراقبها، فلقد اعتاد منها سماع مدحها بكل طفل يزور غرفتهما، وفجأة وجدها تخبره: سيف أنا خارجة شوية، وراجعه.
أوقفها حينما قال ضاحكًا: يوسف تعبان ودماغه مبكسلة لوحدها أصلًا.
علمه بسرها الحربي جعلها تتطلع له بضيق، فضحك وأخبرها ليشغل وقتها: تقدري تنزلي تحت تطمني على مدام مايا، عرفت إنها بتولد.
اندهشت لسماع ما قال، ورددت: بس انا كنت عند فاطمة من قريب ومايا قالتلي إنها لسه بنص التامن.
واستكملت بعدما استوعبت: ممكن تكون فريدة هانم لانها هي اللي كانت بالتاسع.
توسعت مُقلتيه بذهولٍ: هي فريدة هانم كانت حامل! أنا شوفتها كام مرة ومكنش باين عليها خالص! عشان كده يوسف كان بيهربني من قدام عُمران!
قهقهت ضاحكة على صدمته المتوقعة، وفاهت بحماس وهي تنزع مئزرها الطبي: عما تستوعب إنت أكون نزلت لعبت مع البيبي بتاعها شوية.
وتركته وهرولت للاسفل، تستعلم عن رقم غرفتها، فاذا بهاتفه يدق برقم رفيقه، حرر زر الاجابة وهو يصيح بمشاكسةٍ رجولية: معقول جيت في بال العريس وافتكرني في وسط مسؤولياته!
أتاه صوت آيوب الغاضب ينفجر بوجهه: سيادتك فين؟ قولتلي هعدي على يوسف وهجيلك، إنت خلعت عشان متنصبش خيمة الحنة مع الرجالة! ده إيثان الواطي بيشتغل معاهم من الصبح كأنها حنة أخوه وإنت بتخلع بعد اتفاقك أنك هتبات معايا في شقة عُمران!
أبعد الهاتف عن أذنه بانزعاجٍ من صراخه، ثم عاد يقربه وهو يصيح بخشونة: إديني فرصة أرد عليك طيب، أنت متصل ونيتك كلها تهزيق مفيش أي مجال لنقاش محترم بينا!
رد عليه آيوب بنزقٍ: النقاش المحترم مش هجيب نتيجة مع أشكالك، الخلاصة تجيب نفسك وتيجي، متندمنيش إني طاوعتك ووصلتك الصبح المركز، يا أخي ده حتى آدهم سايب كل اللي وراه وواقف معايا أقولك أيه تاني عشان تخلي عندك دم وتيجي!
تحررت ضحكته الرجولية، واتبعها قوله: متقولش حاجة تانية، جايلك يابن الشيخ مهران!
بدأت فريدة بفتح عينيها، فوجدت الغرفة تغمرها اضاءة خفيفة، ولا يوجد من حولها سوى زوجها الذي يغفو على مقعد ملتصق بفراشها، ورأسه موضوع فوق كفها، ابتسمت وهي تميل تجاهه بحبٍ، فبدأت تمرر يدها بين خصلات شعره الذي يغلب سواده بعض الشعيرات البيضاء، فاذا به يفتح عينيه لها، ويبتسم هاتفًا بنعاسٍ: صحيتي يا حبيبتي؟
منحته ابتسامة عاشقة، ورددت بغموضٍ جعله يعتدل بجلسته لفهم مضمون حديثها: كل مرة فوقت فيها بعد ولادة ليا كنت بتمنى أشوفك وإنت قاعد القعدة دي.
وتابعت ومازالت تحافظ على ابتسامتها، وجمود دموعها التي لا تظهر: ومن جوايا بتمنى أن البيبي اللي جبته يكون شبهك، وسبحان الله على وعُمران جيهم شبهك أوي.
سحبت نفسًا مسموعًا، وقالت في راحة: المرادي حلمي اتحقق وصحيت لاقيتك أنت اللي جنبي!
منحها ابتسامة جذابة رغم دموعه التي استحضرتها كلماتها، فمال يمرر يده على خصلاتها بنعومة: قولتلك هنحقق كل اللي كنا بنتمناه وإحنا مع بعض يا فريدة، وأهو ربنا سبحانه وتعالى من علينا ورزقنا بأجمل بنوتة، أنا مبسوط إنها طلعت شبهك، فسهل جدا إني أقع في حبها زي ما وقعت في حب مامتها.
اتسعت ابتسامتها فرحة لفرحته، ومالت تتطلع لسريرها، فتساءلت باسترابة حينما لم تجدها: هي فين؟
مال على وسادتها يخبرها بضحكاتٍ مكبوتة: عُمران عامل حظر عليها بره، مطلع عين على حاسس أنه هيقع من طوله في أي لحظة!
شاركته الضحك، وقالت: حبيب قلبي، عمره ما هيتغير أبدًا!
بالخارج.
اجتمعت فاطمة ومايا، زينب، شمس التي وصلت للتو حول الصغيرة، ومن بعيد يتابعهم عُمران بانزعاج، يود أن يختطفها من بينهن، ولكن بوجود زينب أبدى بعض الاحترام، وجلس قبالة علي، الذي يطعنه بنظرة منفرة من الحين والأخر، ثم يعود للقراءة من جديد، حتى انتبه لهمس أخيه
كل دقيقتين بوسة من واحدة فيهم! البنت لسه كوتي وصغيرة متستحملش كل ده، على قوم هاتها!
قلب على صفحة الكتاب، وكأنه هواء عابر يمر بسلامٍ، فعاد يسدده بنظرة عنيفة ونبرة أعنف: إنت هتفضل عايش في جو تماثيل اسكندرية ده كتير، أيه البرود ده! لا وكمان رفعت ايدك عليا النهاردة، إنت مش طبيعي يا علي، واللي يضحك أن فريدة هانم خايفة عليك تشيلها لضهرك يتقطم، بعد اللي شوفته ده أنت مية فل وعشرة، وجاهز لنقل أي حالة ولادة للمركز المنيل بنيلة ده!
واستطرد بعدما تذكر ما نسى اخباره به: بالمناسبة الكافيه اللي تحت ممتاز، حقيقي ده الحسنة الوحيدة بالمخروب ده، رغم إنهم وهما بيقدمولي الكروسول مكنوش حاطين تشوكليت زيادة بس But overall it s good (في المجمل كويس! )
ترك على الكتاب من يده جانبًا، وأشار لاحدى الممرضات التي كانت بطريق الخروج من غرفة فريدة: من فضلك هاتيلي أي أدوية للصداع.
هزت رأسها بكل احترام له: حاضر يا دكتور.
تابعها على لحين خروجها، وحينما عاد ببصره لمقعد أخيه وجدها فارغًا، وقبل أن يبحث عنه وجده يبدأ بجلسة تدليك فروة رأسه وبلهفة ردد: ألف سلامة عليك يا علي، أنا أصلًا شكيت أنك تعبان ومش طبيعي من الصبح، يمكن ده راجع لتوترك وخوفك على فريدة هانم، اطمن يا حبيبي ماما بخير وكويسة.
رمش بعدم استيعاب، وردد: أنا اللي مش طبيعي!
هز رأسه بكل تأكيد، فتنهد على بتعب واستجاب للمسات يده، فمال على المقعد برأسه وبخبث قال: عندك حق أنا تعبان أوي والمساج بتاعك شكله بيجيب بفايدة، دلك عما البنات يلحقوا يشبعوا من البنت.
ضحك عُمران واجابه: من حقك تتدلع يومين!
انسحبت مايا للداخل، وهي تحمل شطيرة البرجر بين يدها، وبالاخرى كيس البطاطا المحمرة، تلتهمه بنهمٍ وتتابع فريدة التي تهيم عشقًا بمعشوقها، فاذا بجلستهما السرية تنفصل حينما وجدتها ترتكن على الباب وتلتهم الطعام بابتسامة عريضة: حمدلله على سلامتك يا حماتي، كان نفسي أعمل حسابك معايا بس للاسف دكتور يوسف قال ممنوع ومشدد على المسلوق، تحبي أجبلك حلبة ولا أعملك المُغات!
جحظت عينيها صدمة لما تراه، وكأنها فقدت فتاتها الراقية التي علمتها أن تأكل برقي، وعنوانها الاساسي الشوكة والسكين والمناديل تحيطها.
نهض أحمد يميل في وجه فريدة، يخلق أي حديث، ويشير بيده لمايا بأن تنصرف قبل أن تلتهمها فريدة، بينما يقول هو: فريدة بقولك نعمان عايز يجيلك المركز وخايف تطرديه، هو انتي ممكن تطرديه فعلًا.
دفعته بغضبٍ، وصراخ هيستري: أوعا من وشي!
كاد بأن يسقط أرضًا من شدة دفعتها، بينما تجاهد فريدة للنهوض عن فراشها صارخة بحدة: أنتي بتقولي لمين حماتي، وعايزة تشربيني أنا حلبة ومغات!
وبهدوء لعين قالت: إنتي مين أفسد أخلاقك وخلاكي بالشكل ده إنطقي!
قضمت مايا قطعة من البرجر وقالت: حضرتك مكبرة الموضوع ليه يا فريدة هانم، واحدة وقايمة من ولادة هتشرب أيه يعني أيس لاتيه!
أشار أحمد من خلفها: إجري يا مايا، اجري!
لم تفهم حديثه الا حينما جذبتها فريدة، وهي تصرخ بجنون: أنا هعيد تربيتك من أول وجديد.
تركت مايا ما بيدها وقالت ضاحكة: لو كنا في وضع تاني كنت هقولك أنا مامتي مربياني أحسن تربية، بس أنتي مامتي وأدرى بقى بتربيتي!
انسحب أحمد من بينهما، وخرج يستنجد بعلي، فوجده يجلس جوار شمس وعمران، وصغيرته على ساقي شمس الجالسة بالمنتصف، فأفضى ما بجعبته قائلًا: فريدة ومايا على وشك يشتبكوا مع بعض!