قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وثلاثة عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وثلاثة عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وثلاثة عشر

أشرقت معالمه عن ضبابها المعتم، وكأن عودة ذاكرة رفيقه أزاحت الغبار عنه، فعاد لمنزله يتأنق بالملابس الذي إشتراها عُمران له خصيصًا من البويتك الخاص ب إيثان، وقد حرص على تهذيب ذقنه الغزير وشعره، لقد أعاده لمظهره المبدئي بشكلٍ قريبًا.

وقف جمال أمام باب شقته، مرتبكًا مما يحمله بين بيديه، فلقد أصر عُمران أن يبيت بشقته القابعة بحي الشيخ مهران وأن يعود بباقة الزهور ومظهره المرتب، ليعوض زوجته عن تلك الفترة البائسة التي قضاها حزنًا على فقدان رفيقه.

حرر جمال تنهيدات عميقة، خرجت لتحرر الأغلال التي جعلته يشعر بالعجز عن التنفس بشكلٍ منتظم، ومعه صوت تحرير مقبض الباب، ولج للداخل وهو يعلم بأنه سيلقي إنزعاجًا منها لعودته بصباح اليوم التالي، ولكنه لن يترك لها مجالًا للحزن.

إتجه لغرفة نومه ليترك الزهور جوارها، لتكن أول ما تراها في صباح يومها، ولكنه توقف حينما وجد إنارة غرفة الضيوف يشع، فإتجه ليراقب من بالداخل، فوجدها تغفو على المقعد، وعلى ما يبدو أنها كانت بانتظاره.

اتسعت ابتسامته فرحة، أقل تصرف منها بات يرضيه، من كان يصدق أن علاقتهما التي سبق لها الانتهاء والحكم عليها مسبقًا بالانقطاع، إلتحم فيها الوصال وعادت أمتن وأقوى من سابق عهدها، ماذا إن لم يتنحى عن كبريائه وعاندنها حينما ثار موجها، لربما كان سينتهي كل شيءٍ، وقبله الخسارة. خسارتها، خسارة الدفء الذي يحاوط منزله الصغير الآن.

انحنى جمال قبالتها، يراقب ملامحها الباهتة من سهرها الدائم برفقة ابنه الرضيع، امرأة كسائر النساء اللاتي يتكلفن برعاية أبنائهم دون التقصير في شيء من واجباتهن، ولكنه يرى أنها تفعل ذلك من أعماق قلبها، لأجل راحته أولًا وراحة صغيرها.
رفع يده يلامس كفها المسنود على كتف المقعد، وبصوتٍ دافئ ناداها: صبا.
مالت برأسها للجانب الآخر، بينما تمتم بنومٍ، فابتسم وهو يعود لندائها: صبا.

فتحت عينيها بتعبٍ، وإذا بها تعتدل وهي تعاتبه بقلقٍ: جمال! إنت كنت فين كل داا وموبايل...
ابتلعت باقي كلماتها بجوفها، وهي تراقب مظهره الجذاب، راقبته بابتسامةٍ واسعة، انقلبت لحياء وتورد بشرتها الدليل القاطع، حينما رفع باقة الزهور لها، قربتها إليها ورددت بشكٍ، وهي تتابع ما يرتديه: الذاكرة رجعت لعُمران، صح؟!

انفرجت عنه بسمة واسعة، وهز رأسه مؤكدًا، فهتفت بسعادةٍ: يا ريتها رجعتله من زمان، كنت مفتقدة أشوفك بالسعادة والروقان ده يا جمال.
استند على ركبتيه ليكون على نفس مستواها، ومال يقدم الزهور لها قائلًا بصوتٍ دافئ: وأنا كمان كنت مفتقد نفسي يا صبا، كنت حاسس أني متغرب وتايه، بس اللي كان بيهونها عليا وجودك جنبي طول الفترة اللي فاتت، أي ذكرى مرت عليا سيئة مواقفك فيها مش بتروح من بالي.

واتسعت بسمته الهادئة، وهو يسترسل لها: عرفتي إن حبنا مختلف، الأفعال دايمًا بتعبر عننا مش بالأقوال، أبسط الاشياء اللي بعملها وبتعمليها دول البرهان القوي على حبنا لبعض، بس ده ميمنعش إني أعبرلك عن مشاعري.
وإستطرد بعشقه الجارف، بينما ينحني مقبلًا باطن يدها: بحبك يا صبا، بحبك.

انخفضت عن مقعدها، تتعلق بعنقه، تعانقه بقوةٍ تملكتها من هالة مشاعره القوية، بينما ينطق لسانها بعاطفة: وأنا كمان يا جمال، بحبك وبحب أشوفك سعيد ومرتاح، بعد كل العذاب اللي مريت بيه.
أحاطها يستقبلها بين ذراعيه بحبٍ، بينما ينهض بها ويرفع جسدها عن الأرض، مشى بها للاريكة، يضعها جواره، ناطقًا بحشرجة: لو عايزاني سعيد ومرتاح دايمًا متفارقنيش يا صبا.

أحاطت جانب وجهه بلهفةٍ، سبقت ما حكته نظراتها: عمري ما أفارقك أبدًا، أنا عايشة عشانك إنت وابني يا جمال، أنا بحبك.
ضمها إليه مجددًا، وهو يتمتم بعاطفةٍ: وأنا بحبك وهفضل أحبك لأخر نفس خارج عني يا صبا، وعمري ما هسمح إن شيء يبعدني ولا يفرقنا عن بعض.
قالها ومال بها يتعمق بعينيها الشاردة به، يتبع عاطفة عشقه المتيم، ويصطحبها في رحلة غير روتينيه، بل جعلها تستشكف عشقه الخفي لها.
بالمركز الخاص بعلي الغرباوي.

ارتعب الممرض قبالة هذا الشاب الثائر، والأخر يمدد ذراعه في محاولةٍ للنيل منه، ولكنه لم يتمكن بفضل ذراعي علي الذي يمنعه كليًا من المساس به؛ فبات ملاكًا بجناحين حال لينقذه من براثين هذا المتمرد، وود أن يقدم له كل أنواع الشكر والعرفان، بينما يتحرر صراخ عُمران هادرًا بعنفوانٍ: أمك معلمتكش الاحترام في بيتكم يالا!
ابتلع الممرض ريقه بتوترٍ، وقال مستفهمًا: أنا عملت أيه بس؟

حاول عُمران دفع على مجددًا وهو يصيح: وكمان بتسأل! ده أنا هطلع بروح أمك النهاردة!
تحرر صوت على أخيرًا، وقد إلتحف بالحزم: عُمران وقف الجنان اللي إنت عامله ده حالًا، أنت جرالك أيه؟
استجاب لدفعة يد أخيه، واستدار يقابله بسؤالٍ: هو انت متأكد إنك مدير المخروبة دي؟
عقد حاجبيه بدهشةٍ من سؤاله، وقال بثبات مضحك: واجهك أي مشاكل في المركز؟ لو عندك أي شكاوي قولي عليها وهجمع فريق العمل ونحلها مع بعض.

جحظت عيني الشاب صدمة، لقد علم بهوية من أمامه الآن، وبالرغم من حالة الرعب التي تهاجمه في تلك اللحظة، الا أنه فضل أن يتابعهما في صمتٍ.
شحذ عُمران همته وطقطق رقبته ببرودٍ لحق نبرته: مستحيل هقولك ترفد الغبي ده مع إنه يستحق الرفد، بس لو ممكن تخفيه من وشي، وتنبه عليهم إني لو شوفت راجل بجناح العمليات هسحب منه البطاقة وهخليه يحولها من ذكر لأنثى.

اندهش على من رد فعله بينما يخبره بما تبقى من صبره: ازاي! دكتور التخدير لازم يكون جاهز عشان لو حصل أي حاجة، وكمان دكتور يوسف هو المتابع الاساسي لحالة فريدة هانم، أنا بعت ممرضة تستدعيه.
قبض على جاكيت أخيه، وصرخ فيه: عايز تدخل رجالة على أمك يا علي! إنت حصل لعقلك أيه؟
أجابه ببرود ودون أن يرمش له جفن: أنا زي الفل، أنت اللي مش تمام نهائي يا حبيبي.

وأشار للممرض المصعوق مما يحدث، يخبره: روح إنت وابعتلنا ليمون بالنعناع، أخويا محتاج حاجة تهدي أعصابه.
قالها وهو يدفع عُمران للمقعد المعدني، بينما يشير عُمران للشاب: لو لمحتك هنا تاني أنت أو أي راجل هطلع بروح أمك وأمه، تقف حراسة على الطابق كله، عايز كل اللي فيه ستات وبس، سامع!
دفعه على بغضب وقد خرج عن رزانته: اخرس بقى، أيه الغباء اللي بتقوله ده!

جلس يميل للأمام، بينما تهتز ساقيه بتوترٍ، ومازال يحاول جاهدًا أن يتمسك بثباته: بقول اللي هيحصل يا علي، ولو عايز اليوم ده يعدي بسلام جاريني بدل ما أرتكبلك جناية هنا.
لمس توتره وارتباكه الملحوظ، فجلس جواره وقد ترك كل شيءٍ جانبًا، وتعامل برقي مهنته التي تحاوطه بكل موقف تقريبًا، فناداه بصوته الرخيم الهادئ: عُمران.

رفع عينيه المرتبكة إليه، فوجده يبتسم وهو يخبره: فريدة هانم هتبقى كويسة، كل اللي بتمر بيه ده شيء طبيعي وأعراض طبيعية جدًا، الدكتورة اللي معاها جوه ممتازة، بس أنا بفضل إن يوسف هو اللي يتابع حالتها، لإنه على دارية بكل شيء يخصها من البداية، غير إنه من أشطر دكاترة النسا والتوليد في المركز كله.

لانت تعابيره المشدودة، وإكتفى بهزة بسيطة من رأسه، فجذب على هاتفه، وحرر رقم الاتصال بيوسف، فأتاه صوته هامسًا: دكتور علي، صباح الخير.
رد عليه على مبتسمًا، بينما يعتدل عُمران بجلسته وكلتا أذنيه تنتبه لصوت رفيقه الغير طبيعي: صباح الورد يا يوسف، أنا طلبت من الممرضة تديك خبر إن فريدة هانم بغرفة العمليات، بس ملقتكش بمكتبك، إنت لسه موصلتش المركز ولا أيه؟

أجابه يوسف بدهشة: أنا مش في مكتبي، بس موجود بالمركز، حالًا هكون عندكم وآ.
انقطعت باقي جملته، حينما سحب عُمران الهاتف يسأله بلهفة: صوتك ماله؟
رد عليه وابتسامته تصل لهما من دون أن تُرى: أنا زي الفل، ونازلك يا وقح.
قالها وأغلق الهاتف، ثم نهض ينزع عنه المحاليل، فإذا بسيف يدلف حاملًا صينية الطعام والعصائر، وما أن رأه يقف عن الفراش، حتى أسرع يضع ما بيده ويتساءل: قومت ليه يا يوسف؟!

أحاطه وكأنه سيسقط فاقدًا للوعي، فابتسم يوسف وضمه بحنان وفرحة تنبع من داخله لما فعله أخيه اليوم: أنا فرحتي بيك النهاردة عالمية يا دكتور، وأخيرًا شطبت لقب حقنة من ورا لقبك، وبقيت دكتور سيف آيوب على سن ورمح.
زوى حاجبيه بعدم فهم لما يقوله، ظنه سيخبره بأنه على ما يرام، أو ربما يشرح له الحالة التي يشعر بها بالتحديد، ولكنه فجأه بحديثه الغامض، وسعادته الغير مفهومة بالمرة، فهتف بحيرةٍ: لقب أيه؟!

احتوته ذراعيه تعمقًا، والسرور ينتقل في جملته: مش إنت النهاردة إتغلبت على عقدتك وعلقتلي المحلول، يبقى كده العقدة إتحلت ومبقتش تخاق من المحاقن والمحاليل.
وابتعد يقابله بامعانٍ بدى بترتيب جملته الهامة: لو كنت أعرف إنك علاجك عندي كنت هدعي تعبي من أجل هذا الانجاز اللي أسعد قلبي.
تغاضى عما يقصه وطالعه بعينان غائرتان بالدموع، جعلت ابتسامته تتلاشى، ويعود ليقابله بوقفته مرددًا بقلقٍ: سيف!

استدار سريعًا يحارب ألا يرى دموعه المنهمرة، إعتاد أن يكون رجلًا صلبًا، عزيزًا على أحدٌ رؤية دموعه، ولكن حينما تعلق الأمر بأكثر شخص يحبه بتلك الحياة، أظهر ضعفه، عجزه، قلة حيلته، كل ما تمكن من إخفاءه يومًا كُشف عنه الآن.
لحق به يوسف وقد تبخرت سعادته، حينما رأى أخيه بتلك الحالة، فوضع يده على كتفه يجبره على التوقف محله دون الهرب من لقائه، وقف قبالته يتطلع له باسترابةٍ وقلق: مالك يا سيف؟

رفع عينيه الباكية إليه، وبصوتٍ إختنق فيه وجعه قال: أنت شايف إن مرضك هيشفي عقدتي يا يوسف، أنت تعبك هيتعبني مش هيداويني، وبعدين لو أنا شخص معقد في كام صفة فيا، فدول ليهم سبب مبرر، وطالما ليهم تبرير يبقى انا شخص طبيعي.

وبايتسامة باهتة قال: وعشان تطمن إني طبيعي مية في المية، تحب أبدألك بأول عقدة، أو وجع راجع للي حسيته وقت ما شوفتها بتلومني وبتوصفني إني شيطان، مكنتش فارق معاها وجعي ولا النزيف الصعب اللي كان عندي، كان كل اللي شاغلها إنها هتسيب شغلها ازاي الكام يوم اللي هتقعدهم معايا في المستشفى، مش فارق معاها الاصابة الحساسة والخطيرة اللي اتعرضت ليها، الذل والغضب اللي لمسته منها خلاني كرهت الوسيلة اللي كانت سبب تعريتها من أخر شيء كنت فاكر إنه موجود جواها، والصدمة كانت إن مكنش عندها ذرة خوف وحنان ليا.

أدمعت عيني يوسف ووخزة الألم تخدر صدره، تناسى مكالمته مع على ، تناسى كل شيءٍ، الا وجع أخيه البارز باعترافاته التي يشهدها لأول مرة، بينما يسترسل سيف حديثه باكيًا: وتاني عقدة محسوبة عليا، هي إني إتسندت عليك وكنت كل حاجة في حياتي، إنت كل عيلتي يا يوسف، كنت مكفيني وغنيني عن كل علاقة ممكن يكون ليها وجود في حياتي، كنت أبويا وأمي وأخويا وصاحبي.

وضحك بسخرية تنافت مع دموعه: وعلى فكرة مكنش عندي أي نية إني أرتبط، كنت بشوفك متشعلق ومتحمس إنك تجوزني، ومن جوايا عايز أقولك إنسى، أنا تقبلت آيوب بصعوبة فمكنتش هقدر أتأقلم على دخول حد تاني حياتي المحدودة، مفيش أبشع من إنك تتصدم في أقرب الأشخاص ليك وأنا كانت صدمتي في أبويا وأمي، ومع ذلك اتفاجئت إن قلبي طبيعي زي البني آدمين دق وحب واختار، بس برغم كل ده علاقتي بيك مكنش ليها مسمى ولا قادر أصنفها بأولوية العلاقات اللي في حياتي لإنك أساسها!

دنى منه يوسف مجددًا في محاولة لضمه، ولكنه أدهشه حينما دفعه للخلف وهو يصيح ببحة إعتلت صوته: إنت إزاي فاكر إن بتعبك هتعافى من أي عقدة كان وراها وجع كبير! إزاي فكرت في كده؟ أنا كنت هتجنن وإنت واقع من طولك وإنت قايم تهزر وتقولي عقدتك اتحلت!

وأضاف وهو يبتعد عنه متجهًا للمقعد المنعزل بعيدًا عن محل وقوفه، هامسًا بضيقٍ شديد: أنا من غير حاجه بأنب نفسي لإني عمري ما ضغطت عليك تتكلم وتفضفض، إنت كتوم بشكل أوهمني إنك بخير وكويس، أنا مش أناني يا يوسف، إنت اللي عامل حاجز حولين نفسك وعازلني عنه.

تزداد صدماته تدريجيًا كلما كشف أخيه عن حجم الألم المختبئ داخله، انتزع نظارته الطبية يزيح دموعه، بعدما عبئ رئتيه بهواءٍ قد يحرره من ضيق تنفسه، ثم إتجه يسحب أحد المقاعد بخفة، ووضعه جوار أخيه، وجلس بهدوءٍ استرعى انتباه سيف لما سيقوله، فرفع رأسه يتابعه بتركيزٍ، فاذا به يمازحه رغم مرارة ما يشعر به: كنت كاتم كل ده عني يا سيفو!
شيعه بنظرة مغتاظة، ورد بنزقٍ: فاكر نفسك أنت اللي كتوم بس!

ضحك يوسف وقال: أنا كتوم! بالعكس ده أنا أكتر شخص بيتكلم وبيفضفض عن كل حاجة بتحصل معاه.

منحه نظرة مشككة في حديثه، فاستطرد يوسف بجدية: على سجادة الصلاة بتكلم وبقول كل اللي مضايقني يا سيف، وكون إني مش بتكلم معاك ده يمهدلك إني بخبي عنك، أنت زي ما قولت شايفني كل حاجة في حياتك، فميهونش عليا أوجعك بوجعي وبهمومي، وبعدين أنا دايمًا بقولك الشكوى للعبد عمرها ما هتقدم ولا هتأخر، شكوتك لرب العباد وخالقهم هي اللي هتريحك وهتحل ليك كل مشاكلك.

وأضاف ويده تمتد على كتفه ليحثه على التمعن بحديثه: مش عايز أديك فرصة تسرح بخيالك، فلازم تعرف إن عمر ما كان في بينا أسرار، كل الحكاية أني محبتش أتكلم معاك عن ماضي فات والمفروض يكون انتهى وصفحته اتقفلت.
قاطعه سيف قائلًا بتشكيك: وهو اتقفل معاك يا يوسف! هو سبب تعبك النهاردة فازاي عدى وانتهى!

منحه ابتسامة جذابة وقد أعاد له ذكريات اللقاء الختامي بينه وبين تلك التي تدعو بوالدته، وقال: انتهى يا سيف، النهاردة قفلت الصفحة وقطعتها كمان، وصدقني بعد تهديداتي ليها بنقطة ضعفها مش هيكون ليها ظهور في حياتنا تاني.

هز رأسه بحركةٍ بطيئة، بينما يعركل ساقيه من أمامه كمحاولة لاخفاء نصل سكينه الطاعن بمنتصف قلبه، وبابتسامة مخادعة أخبر أخيه: كنت فاكر أن هيجي عليها اليوم اللي تفوق فيه وتتغير، كنت مستني أشوف منها الندم على اللي عملوه معانا.

صدرت عن يوسف ضحكة رن صداها لأخيه، وقال ساخطًا: النهايات السعيدة اللي في أحلامك دي أتعملت عشان تتحط في أخر مشهد الافلام والروايات سا سيف، لكن اللي أنا وانت واثقين منه إن اللي زي دول عمرهم ما هيتغيروا أبدًا.
وأضاف وهو يتمعن بمُقلتيه، قاصدًا لمس أوتاره: ولو إنت شايف اني معوضك عنهم هتقفل صفحتهم معايا.
ترك مقعده وجلس أرضًا يميل برأسه على ساقي يوسف، هادرًا بحزنٍ: إنت معوضني عن الدنيا كلها يا يوسف.

مرر يده بين خصلات شعره بحنان، وبابتسامةٍ راضية قال: ربنا يقدرني وأكون دايمًا جنبك وسندك يا سيف، أنا هحاول أدور على شقتين في مكان قريب من المركز هنا، عشان متعرفش توصلنا تاني، مع أني أشك إنها تقدر.
رد عليه ومازال يسترخي على ساقيه: يبقى أفضل.
وما كاد بأن يسترسل حديثه، حتى انقطع عنهما الحديث فور أن قاطعهما صوتًا ساخرًا: وحياة أمك!

قالها ذلك الذي اقتحم الغرفة التي دلته عليها إحدى الممرضات، فرنا إليهما وهو يصيح بعصبية أرعبتهما: بقى أنا قاعد تحت على أعصابي وأنت بتحبلي هنا في أخوك بروح أمك! مش مقدر اللي بتنازع جوه أوضة العمليات دي!
وسحبه من تلباب قميصه وقد تخلى عن هدوئه المخادع: ده أنا هطربق المركز ده على نفوخ أمك النهاردة إنت وشريكك اللي قاعد بارد تحت وكأن اللي مرمية جوه دي واحدة ميعرفهاش!

جاهد يوسف ألا تسقط نظارته عن عينيه، بينما تموج عن وجهه كلما يدفع عُمران جسده بعنف، ففصل سيف بينهما قائلًا بغضب: سيبه يا بشمهندس، أخويا تعبان ومش قادر يدخل عمليات، شوف دكتور تاني يدخل للمدام.
سدد له يوسف نظرة قاتلة، بينما يتمتم بغيظٍ: مدام مين، اسكت بدل ما يفكني ويعلقك إنت، روح مكتبك أنا بعرف أتعامل مع عصبية الوقح ده.

رفض الانصياع له، ومازال يجاهد لتخليص أخيه من بين يدي عُمران، هادرًا بانزعاج: سيبه أنت قافش حرامي غسيل!
أمسك عُمران يوسف بذراعٍ واحد، بينما يميل بالأخر فوق خصلات شعر سيف الفوضوية، يرتبها بهدوءٍ أرعب كلاهما، بينما يحدثه ببسمة ثابتة: اسمع كلام أخوك الكبير يا سيفو، عايزين نأخد راحتنا بالكلام وميصحش الكتاكيت الصغننه اللي زيك تسمع كلام الكبار، عيب يا حبيبي!

وأضاف ومازال يعامله برقة من يراها يقسم أنه يعاني من انفصام الشخصية: لازم تتعود في حياتك تسمع كلام الأوعى منك، فاسمع مثلًا كلام بابا يوسف واحتياطي تسمع كلامي قبل منه، عشان أنا أدرى بمصلحتك أكتر من دكتور الحالات المتعسرة.
واستدار تجاه رفيقه يسأله بنظرة شرسة: صح يا جو؟
هز رأسه عدة مرات وهو يؤيده: صح طبعًا، الطاووس كلمته مسموعه على الكل وأولهم أنا.

كبت سيف ضحكاته بصعوبة، ومع ذلك أخمد عناده راسمًا بسمة صغيرة، عشرته لشخصية الطاووس الوقح دمغته بالأمان، أينما كان فإن المنطقة التي يزورها تصبح أمنة، لذا قرر الانصراق بلطفٍ لحق نبرته المُحايدة: تمام هرجع لمكتبي، وربنا يقوملك المدام بخير يا بشمهندس.
فتك عُمران بقبضة يده الفارغة، فصاح يوسف بتحذير: اجري يا سيف.

غادر على الفور، بينما يرسم يوسف ضحكة واسعة تتبعها قوله المبرر: اعذره ميعرفش حاجة، وده دليل إن سرك جوه البير من وقت ما ثبتني في العربية بالحتة الشمال دي فاكرها؟
تركه وهو يعدل من قميصه بينما تعلو عنه صوت أنفاسًا منفعلة: فاكرها يا حبيبي، لو اشتاقتلها أطلبها تجيلك بالاحضان ولا أنت أيه رأيك؟
ابتلع لعابه برعبٍ مضحك: كتر خيرك، أنا طول عمري سكتي حلال، ماليش في الشمال أنا.

ضحك عُمران ومال يشاكسه: وماله نخليه بالحلال ونكتب كتابك عليها، قولي إنت بس عايزها مواصفاتها أيه وأنا تحت أمرك، مع إني أخاف عليك من الحامية هتطير صوابعك قبل ما تعلم بيها على اللي قدامك.
عدل من نظرته وهو يصيح بانزعاجٍ وعصبية: أنا دكتور محترم، قولتلك ماليش في سحبة المطوة بتاعتك دي.
وأنا اللي صايع يعني بروح أمك؟!

قالها وهو يرنو إليه، فضحك وهو يجابهه: للاسف صايع ووقح الاتنين مع بعض، وكلمة زيادة مش مسؤول عن حالة فريدة هانم، أنت الظاهر طالع تهزر وأنا معنديش وقت، عن إذنك.
قالها وأسرع للمصعد ومنه إتجه لطابق المخصص لجراحة قسم النساء والتوليد.

خرجت الطبيبة من الغرف المخصصة للعمليات، فإتجهت إلى علي تخبره بمهنيةٍ: دكتور علي، زي ما بلغت حضرتك ولادتها بشكل طبيعي هيكون صعب، فكده هنضطر نلجئ للجراحة، تحب حضرتك أبلغهم يجهزوها؟
انقبضت معالم علي خوفًا وقلقًا على والدته، فامتص توتره بكلماته الرزينة: هنستنى دكتور يوسف لإنه المسؤول عن حالتها من البداية، بشكرك لتعبك يا دكتورة، تقدري حضرتك ترجعي لشغلك.

منحته ابتسامة عملية، تواجه بها رقيه بالتعامل، واستدارت لتغادر، فوجدت يوسف يخرج من المصعد، شرحت له الحالة بإيجازٍ، وغادرت على الفور، فإتجه إلى علي، الذي واجهه بكلماتٍ مختصرة تسجل وجعه: هتخضع للجراحة يا يوسف؟
رد بعملية باحتة: مقدرش أكد على كلامها الا لما أعين الحالة بنفسي، متقلقش هطمنك.

وإستكمل طريقه للداخل، بينما جلس عُمران بالمقعد المنزوي بعيدًا عن الأعين، لقد خسر اتزانه فور أن استمع لحديث الطبيبة مع يوسف، بحث عنه على فأتجه إليه، جاور جلسته وتابع صمته بقلقٍ، جعله يبدأ بالحديث بينهما: أنا كلمت فاطمة ونبهت عليها متجيش هنا هي ومايا، الاتنين غلط عليهم يحضروا التوتر والارتباك ده.

إكتفى بتحريك رأسه كإشارة منه أنه يوافقه على حديثه، ربت على ساقه بحنان وقال: هتبقى كويسة يا عُمران، كل ده طبيعي وبيحصل.
وأضاف وهو يجذب هاتفه: أنا هتصل بعمي أبلغه.
انتزع عُمران الهاتف منه بعداونٍ، وعنف: لا مش هتكلمه، هو السبب في اللي هي بتمر بيه ده
فشل بإخفاء ضحكته، فمال على كتفه وقد تحرر عنه الضحك بشكلٍ جعل جسده يهتز، فضحك عُمران هو الأخر وهتف بحيرة: هي في الحالة اللي زي دي المفروض نتصرف ازاي؟!

هاجم ضحكاته بصعوبة وقال: المفروض تكون عاقل وده اللي بتمنى تتمسك بيه حاليًا.
تحرك بجسده لنهاية المقاعد، وكتف ساعديه أمام صدره، ناطقًا بضيق: سبتلك العقل والحكمة، اتفضل اتعامل أنت.
سحب هاتفه وابتعد عن محيط تواجده خشية من أن يرتكب أي فعلًا أحمقًا، بينما تتعلق رماديتاه بباب الغرفة والخوف يكاد أن يذيقه من جحيمٍ.

مرت عليهما أربعون دقيقة كالسوط الذي سلخ جلد عُمران الذي يختبر شعور القلق والرعب بشكلٍ غريب، حتى انتهى بخروج الممرضة، حاملة بين يدها تلك الصغيرة التي شارفت لتنير عائلة الغرباوي، منذ لحظة خروجها وهي تتنقل بنظراتها الحائرة بين على وعُمران، وكان أول من تحرك إليها بخطواتٍ حماسية، حملها إليه بكل رفقٍ وحنان يمتلكه، واختلى بنفس مقعده البعيد، يرفع الغطاء الرقيق عن وجهها الملائكي، فابصر وجهه المتوتر عن ابتسامة جذابة، فمرر إصبعه على وجنتها البيضاء الناعمة، هامسًا بفرحة: يا روح قلبي على الجمال، نورتِ عيلة الغرباوي كلها يا سكرة.

رنا إليه على متلصصًا على ما يحمله، فقال عُمران بابتسامة مشرقة: تعالى يا على شوف القمر اللي هل علينا ده.
جلس جواره يراقبها بابتسامة حنونة، وانحنى في محاولة ليقبلها، فاذا بعمران يستدير بها بغضب: بتعمل أيه؟ دي صغيرة جدًا مينفعش تبوسها، استنى سنتين تلاتة لما تجمد شوية!

اندهش على مما يحدث قبالته، وخاصة حينما انزوى بها عُمران مجددًا، واضعًا يده على جبينها وبرجاءًا همس لها: روح قلبي اللي هتسمع كلامي وتفتح عيونها، عايز أشوف لونهم أيه؟
ضحك وهو يجيبه ساخرًا: وهي هتفهمك كده مثلًا، دي لسه مختارناش ليها اسم يا أخرة صبري!
منحه نظرة محذرة، وعاد يتعمق بملامحها الملائكية، حتى نطق دون وعي لحديثه: فيروزة! فيروزة هانم الغرباوي.

وخطف اصبعها يقبله بحنان، بينما يهمس لها: أيه رأيك في الأسم يا صغنن، لو مش عاجبك إديني أي إشارة وأنا أسارحلك بخيالي للفجر لو تحبي.
ابتسم على وهو يراقبه بحبٍ، بداخله يعلم أن أخيه سيكون أبًا عظيمًا، مال عُمران له بها بحماسٍ: على هي نايمة كده صح؟ طيب هتصحى أمته أنا عايز أشوف لون عنيها.
رد بنفس ابتسامته، وكأنه يعامل طفلًا صغيرًا: وهيفرق معاك لون عيونها في أيه بقى؟

شرح ببساطة أضحكت على للغاية: طبعًا تفرق، عايز أشوف هتطلع رمادي شبهنا ولا شبه فريدة هانم وشمس!
تحررت كلمات على بصعوبة من بين ضحكاته: لا الموضوع فعلًا مهم، راقبها لما تفتح عيونها لحد ما أشوف يوسف وأرجعلك.
وبالفعل تركه واتجه ليوسف الذي خرج للتو، ينزع كمامته والارهاق يبدو على معالمه، فأسرع بسؤاله: طمني يا يوسف.

لمس قلقه الصريح على والدته، وخاصة لعمرها، فقال يطمئنه، وعينيه تفتشان عن عُمران بدهشة: عملت محاولة أخيرة قبل ما دكتور التخدير يجهزها للعملية، وبفضل الله ولدت بشكل طبيعي وحالتها مستقرة جدًا الحمد لله.
تنهد على بارتياح، وبثقة قال: مشكتش في لحظة فيك يا دكتور، إنت يترفع عنك لقب دكتور الحالات المتعسرة ويتحط لقب تاني أفخم.

ابتسم على حديثه الراقي، بينما لم يتمكن من سحب بصره عن رفيقه، فأشار لعلي: هو عُمران مش كان قاعد على أعصابه بره، أنا توقعته يكون أول واحد واقف يستقبلني لما أخرج!
تعالت ضحكاته الرجولية، بينما يخبره: فيروزة هانم لحست عقله!
شاركه الضحك وقال بتمني: لو هتثبته التثبيتة دي، سيبها معاه أنا اتفائلت بيها والله.

خربت الممرضة المشهد العاطفي بين عُمران والصغيرة، حينما أرادت أن تصطحبها للطبيب، الذي سيشرف على تطعميها وتفحص حالتها الصحية، فنهض عُمران يسألها على مضض: مش قولتي إن كان في دكتور أطفال جوه بغرفة العمليات وشافها، عايزة توديهاله تاني ليه؟!
قالت بعمليةٍ باحتة: لازم تأخد تطعيمة الكعب يا بشمهندس، هخليه يدلها الحقنة وهرجعها لحضرتك بسرعة.

جحظت رماديتاه في صدمة قاسية، أرعبت الممرضة منه، بينما يقترب إليها مرددًا بخشونة: حقنة أيه اللي هتديها لملاك بريء لسه عداد عمره ييبتدي! أنتِ خرفتي على كبر ولا خرجتي من بيتك شايلة معاكي كل حاجتك الا عقلك! لا ومتخيلة أني هسلمهالك يا عديمة المشاعر! ازاي يهون عليكي تعملي كده مع الاطفال ومع بنتي أنا!

تطلع على ويوسف لبعضهما بصدمة، ومن ثم هرول كلاهما إليه، يحاولان بكافة السبل أن يهدئان ذلك الذي فقد عقله للتو، وقد حلت العصبية نبرته المنفعلة: على إنت محتاج تفوق لموظفينك هنا، المركز كله عايز إبادة.
واستدار ببصره تجاه يوسف، ليسأله بحدة: فريدة هانم اتنقلت أي أوضة؟

رمش بعدم استيعاب وهو يشير بيده للغرفة التي تجاور العمليات، فصوب نظرة نارية أخيرة لهم، ثم غادر يحمل الصغيرة والصدمة مازالت تتراقص عليهم بينما يمر من جوارهم وهو يهمس للصغيرة بصوتٍ مسموع: فيروزة هانم. جاهزة نتعرف على مامي؟
وأضاف وهو يحاول أن يفيق نومتها: طيب افتحي عيونك طيب.

انصاعت له الصغيرة، وكأنها تجيد سماع كلماته، فأفرجت عن جفنيها، فضمها إليه بفرحة: يا عُمري أنا على الجمال الكوتي ده، على فكرة لون عنيكي لسه مش باين بس حاسس بخيانة من أولها وشكلك هتطلعي تنتمي لحزب شمس وفريدة هانم.
قالها وهو يحرر باب الغرفة، فازدادت فرحته حينما وجد والدته قد استردت وعيها، وتغفو بسلام على الفراش، ابتسمت وهي تناديه بوهنٍ فور أن رأته: عُمران.

أسرع بخطواته لها، يميل مقبلًا رأسها وينحني يقبل يدها بحب: حمدلله على السلامة يا حبيبتي، أنا كنت قلقان عليكي أوي، طمنيني أحسن دلوقتي؟
تعلق به وابتسامتها الباهتة تسنقر على وجهها: أنا كويسة يا حبيبي اطمن.
وتابعت وهي تفرد ذراعيها له: هاتها.

حمل الصغيرة بابتسامة جذابة، ومال يضعها بين يديها، بينما يجلس هو جوارها ويميل على كتفها، بينما يتأملان الصغيرة بإمعانٍ، فمالت فريدة على كتف عُمران وابنتها تضمها بين ذراعيها.
انقبض قلب عُمران وهو يرى ملامحها مُضجرة من الألم، فسألها باهتمامٍ: لو لسه حاسة بتعب ريحي، أنا موجود هنا متقلقيش على الجميل الكوتي ده، هحطها في عيوني لحد ما تصحي.

قدمتها له فريدة، ومالت تستند برأسها على ساقه بتعبٍ شديد، فأخذ يربت بيده على خصلات شعرها القصير، متعمدًا أن يفرك جبهتها بمساج خفيف، وناداها حينما اكتسح فضوله سؤاله المكبوت فحرره بشكلٍ مرح: بقيت ملاحظ تعلقك الغريب بيا، حتى وإحنا جايين رفضتي أن على يشيلك وكنتي مصممة محدش يشيلك غيري
وأضاف بمشاغبة: أيه يا فيري بابا على فقد امتيازاته، ولا أنتي بتحاولي تحطيني في خانة الولد المميز اللي سبق وادتيها لعلي؟

حلت عقدة حاجبيه ببسمة متعجرفة، وجهتها لتزيح غروره باعترافها الذي هبط صارمًا، حارقًا عليه: لا طبعًا، أنا بس خوفت عليه ليهبط ويوقع ويوقعني معاه، على جسمه ضعيف أوي لكن أنت أنا عندي ثقة أنك هتنزلني زي ما أنا، طالما قدرت تشيل مايا أكتر من مرة وهي بحجمها ده، يبقى هتقدر تشلني أنا وبنتي وترجعنا بسلام.
تقصدي أيه يا فريدة هانم بحجمها ده! إنتي شايفاني دراكولا ولا البنج لسه مأثر عليكي!

رددت باستغراب لتواجدها بتلك اللحظة: مايا أنتي هنا من أمته؟
ضحك عمران وهتف باستمتاعٍ: حبيب قلب جوزه الشرس إنت!
وبكل فخر استطرد: تربيتي!
طرقات باب الغرفة السريعة، اتبعه اقتحام أحمد الغرفة وعرقه يتصبب أعلى جبينه من سفره المفاجئ، وجل ما ينطقه بتلك اللحظة، غير واعيًا لنظرات عمران المتوعدة: فريدة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة