رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والستون
هتفت فاتن حينها بلهفةٍ بعدما عاد لها الأمل من جديد بشأن أسرة أخيها الفقيد: ياريت يا مادلين، عارفة أنا إيه اللي مخليني أبعد عن يوسف؟ هو إني واثقة إنه مرتاح مع أمه واخته وعيلته، يوسف الروح رجعتله من تاني برجوع أمه وأخته.
في هذه اللحظة فُتِح الباب عليهما وصاحب الفعل يسأل بنبرةٍ هادرة قتلت الاثنتين محلهما: مين دول اللي عايشين؟ ومين اللي قالكم؟
الآن فقط يدرك المرء أن الموت ليس فقط في الجسد أو بالإصابة إنما هناك قتلٌ من نوعٍ أخر، وهو القتل الغير رحيم خاصةً مع السهام الحادة المطلوقة من العينين الحادتين نحوهما، لقد وقف بالخارج يستمع لحديثهما كاملًا بعدما أراد أن يلج لأمهِ؛ لكن الحديث ثبته محله وقد تسمر بالأرضِ مكانه ما إن وصله هذا الحديث لتقوم فاتن من محلها بجسدٍ أرتجف كُليًا وقد أصبحت قدماها مثل الهُلام الضعيف لم تقوْ على حملها، بل كأنها ضُربت فيهما حتى شُلت عن الحركة تمامًا.
وقف نادر يسألها بعينيهِ عن مقصد حديثها فيما ركضت مادلين نحو باب الغرفة تُحكم إغلاقها ثم هتفت بنبرةٍ أظهرت عُجالتها في الحديث وهي تهتف بلهفةٍ:
نادر! لو سمحت ياريت نتكلم بالهدوء والراحة علشان محدش يعرف حاجة وياريت اللي سمعته دا محدش يعرفه أصلًا، فيها أذى لمامتك دي، علشان خاطري.
حرك رأسه نحو والدته التي وقفت أمامه خائفة من رد فعله وكأن الكذب حتى فَلَّ عنها وتركها أمامه ضائعة وهو يرمقها بهذه النظرات وما إن رأى الخوف في عينيها أقترب يسألها بنبرةٍ جامدة:
أنتِ كنتي عارفة إن هما عايشين أصلًا؟
هزت رأسها مومئةً له بخوفٍ مما جعله يُصدم من الجواب وقد اقتربت منه مادلين تسحبه من يديه وأجلسته أمامها وهي تقول بنبرةٍ رغم توترها وإرتجافة وتيرتها خرجت ثابتة بعض الشيء:.
بص يا نادر أنا بعزك ودايمًا شايفة فيك حاجة كويسة بخلاف تصرفاتك بس دايمًا مقتنعة إن أفعالك دي بتكون غصب عنك علشان كدا بقولك إن الموضوع دا ميخصناش، ودي حاجة تخص يوسف لوحده، حاجة بينه وبين عمه وبين أبوك، لكن أي حاجة تانية لأ.
توجه بنظراته إليها وكاد أن يتحدث ويُعاند كعادته لكن الأخرى أوقفته بنبرتها الحادة وهي تقول بثباتٍ من جديدٍ:.
من غير ما ترد يا نادر ملناش دعوة وياريت دا شيء ميخصكش لأن كلنا ملناش دعوة.
تحدث هو بنبرةٍ جامدة يوقف حديثها هادرًا في وجهها بانفعالٍ وهو يقول:
أنا مش عيل صغير يا مادلين هتحذروني وأخاف على نفسي من الكلام، يعني إيه ناس ميتة تصحى تاني كدا ويطلعوا عايشين؟ وكانوا فين أصلًا والأهم فوق كل دا، مين عارف ومين السبب، أفهم اللي حصل الأول أنا مش عيل صغير وسطكم.
نظرت كلتاهما للأخرى وهو يتابعهما بعينيهِ يحاول التوصل لأي شيءٍ مما يدور بين الجميع وكأن الموقف يشبه صورة عائلية تجهز هو للإنضمام إليها فوجد نفسه خارج إطار الصورة، أما مادلين فألقت أمامه قصائص الحوار بأطرافه دون تفاصيلٍ وحينما انتفض من محلهِ ليخرج خارج الغرفة وجد والدته تتشبث بكفهِ وهي تقول بنبرةٍ أقرب للبكاء وهي تتوسله:.
علشان خاطري أوعى تقول لخالك وأبوك، أبوس إيدك أنا مش عاوزاهم يأذوا يوسف لو حد فيهم عرف مضمنش رد فعلهم، أبوس راسك وإيدك كفاية اللي شافه وهو بعيد عنه أمه.
اخفض عينيه سريعًا نحو كفيها القابضين على كفهِ ورفعهما ثانيةً وهو يقول بسخريةٍ لاذعة يُلقي بتهكمهِ عليها:.
علي أساس إن أنا اللي امتعت أوي معاكِ؟ أنا لو هسكت فهسكت بس علشانك مش علشان حد تاني، رغم إنك طول عمرك مُشتتة بيننا وعمرك ما خدتي القرار الصح، دايمًا واحد فينك ييجي على التاني عندك، وأخرتها! أنا برضه باخد بواقي أمومة.
نزلت دموعها وهي أمامه فيما أزاح هو كفيها ونفضهما عن يده وقبل أن يُكمل حركته بأكملها وجد مادلين تحذره من جديد بقوةٍ يعهدها الجميع منها:.
أظن يعني مش حابة أقولك إن محدش برانا إحنا التلاتة هينفع يعرف حاجة، خصوصًا مراتك وجوزي، وحط تحت مراتك دي 100 خط، أنتَ راجل كبير واعي وعارف شغل الستات أخره إيه يا نادر.
تهجمت ملامحه وسكت تمامًا بل وقرر أن يُعاند الجميع، سيضرب بكل مخططاتهم عرض الحائط وينفرد بما يحلو له، هو لم يكن صغيرًا حتى يحصل على الأوامر ويتعرض للتأديب، هو كبير بما يكفي وصاحب سُلطة قوية، لذا ترك الغرفة وتوجه إلى مكان والده وهو يُقرر القرار الأخير في قرارة نفسه.
أما بالأعلى فقد تأكلت أعصاب فاتن خشيةً من رد فعل ابنها الأهوج، لقد خشيت من تحرك ابنها مُنصاعًا خلف كرهه ل يوسف وحقده عليه، خشيت أن يكون رد الفعل نتج عن تصرفٍ أهوجٍ من فتى طائشٍ لازال يتصرف بأفعال صبيانية ليحتج على الوضع العام.
هيا نطير معًا خلسةً من حياةً خشت أن تطيب لنا،.
وهيا نسعد سويًا في طرقاتٍ لم تحمل غيرنا، فأنا وأنتَ معًا مثل الطير بجناحيهِ يُنسج لحنًا والحُب له كان مُسمعًا، لقد أتيت مثل ربيعٍ وجعلتني أتساءل ماذا لو لم يتسم قلبك بالقوة لكي يخون العهد، ليصبح من بعد ذلك يصون كل عهد بما فيهم أنا عهد؟ هذه الحُرة مثل الطيور كانت تفكر وهي تجلس بجوارهِ أثناء صمته وهو ينظر أمامه، لقد أنهى مهمته وطلب منها أن يتجولا معًا في طرقات المدينة وتحديدًا منطقة وسط البلد.
سار بها لقرب كورنيش النيل وجلس برفقتها، كانا كلاهما صامتًا عن الحديث، هو يطالع النيل أمامه كعادته يحب السكوت وهي تراقبه وتراقب النيل أمامها حتى لقطته بطرف عينها يطالعها ثم ابتسم بسمةً بدت ساخرة أو مُتعجبة، هي بدت غريبة لها لذا سألته بتعجبٍ:
بتبصلي كدا ليه؟ وإيه اللي مضحك؟
هتف مُفسرًا بنبرةٍ هادئة وهو يقول بعدما ثبت عينيه عليها يهتف بكل صراحةٍ تعهدها منه جيدًا بدون أي تزييفٍ في الحقائق:.
بصراحة يعني؟ مش مصدق إني وصلت لمرحلة زي دي في حياتي، يعني عملت كل اللي كنت بتريق عليه، على أخر الزمن أنا قاعد قدام النيل ومعايا واحدة، ومين كمان؟ مراتي، حاجة غريبة شوية بصراحة.
رفعت حاجبيها بغير تصديق وقد ارتسمت بسمة تمتزج بين السخرية والتعجب على حديثه فوجدته يزفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
اتكلمي أنتِ أحسن، علشان مبعرفش أتكلم.
ابتسمت بيأسٍ ثم هتفت بنبرةٍ هادئة بعدما نظرت أمامها تراقب حركات المياه الهادئة مع لمعة الأضواء المتوازية مع حركات المراكب الشراعية:
للأسف مبعرفش أتكلم برضه، بحب أغني بس، وبما إني هنا أكيد مش هعرف أغني يعني، علشان كدا خلينا ساكتين أحسن إحنا الاتنين يا يوسف يمكن لو حد فينا أتكلم يزعل التاني أو يفكره بحاجة تزعله.
أشعل سيجارته أثناء الحديث الذي خرج منها وتذكر اللقاء الثالث معها ليس لقاء السكين وليس لقائها مع أسرتها بل اللقاء الذي جعلته يبكي فيه حينما غنت نفس الأغنية التي كان يستخدمها كإسقاطٍ على حاله مع أفراد أسرته، وحينما طال الصمت من جديد هتف هو بما جعلها تنتبه له وكأنه أسرها بنبرته الرخيمة قائلًا:.
عارفة؟ أنتِ السبب أني أعيط، وأعيط بحرقة كمان يا عهد حسيت إني عيل صغير وأنا واقف بسمعك وكأن فيه يوسف تاني خرج مني علشان ينهار على صوتك، لسه فاكر صوتك وإزاي كنتي بتغني بحرقة أوي كأنك حاسة بكل حاجة زيي ودي كانت أول مرة أحس إن فيه حد شبهي، وأول مرة أعيط من سنين.
بدت ملامحها مشدودة بعض الشيء أمامه ورفرفت بأهدابها كثيرًا وكثيرًا فوجدته يضيف بنبرةٍ هادئة بعدما اتصلت الأعين ببعضها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعض الشيء وكأن ما يفسره هو مرسومًا أمام عينيه:.
ساعتها كانت تالت مرة أشوفك فيها، أول مرة السكينة لما حطتيها على رقبتي، وتاني مرة وأنتِ مع مامتك وأختك وتالت مرة لما غنيتي كان ياما كان، ساعتها بقيت مش مصدق كم الصدف وإزاي فيه حد ممكن يكون بنفس وجعي باختلاف الظروف كلها، فساعتها وقفت اسمعك، بخلاف إن قصة الأغنية الحقيقية توجع أصلًا بس لما اتحطت مع ظروفنا بقت بتوجع أكتر.
سألته بنبرةٍ مهتزة كُليًا بعدما صدمها بحديثه النابع عن تفاصيلٍ هائلة توحي بمدى قوة ذاكرته:
وهي إيه قصة الأغنية الحقيقية؟
حينها كان ينظر أمامه وقد أعاد بصره من جديد لها وحرك كتفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة يخبرها بعدم علمه الحقيقة كاملةً:.
الحقيقة إني معرفش إيه هي الحقيقة، طلعت إشاعات كتير جدًا بسبب الموضوع دا، أقوى إشاعة فيهم واللي انتشرت إن بليغ حمدي لما وردة طلعت في التلفزيون في لقاء بعد انفصالهم واتسائلت فيه إيه اللي حصل بينك وبين بليغ.
قالتلهم بكل تكبر وكبرياء ممكن تملكه ست في الدنيا وغالبًا بسبب وجعها منه مين بليغ دا؟ وكأنها بتنكر معرفتها بيه بكل صراحة، المهم إن بليغ عرف وشاف اللقاء فكتب أحلى وأرق عتاب ممكن حد يعاتب بيه حبيبه كتبه وهو بيوصف بيتهم الحنين اللي كله شاهد على حبهم لبعض فيه.
وبدأ الأغنية بوصف بيتهم، بيقول: كان ياما كان
الحب مالي بيتنا ومدفينا الحنان.
ابتسم بسخريةٍ يعلم هو سببها وتعلمها هي أيضًا وخاصةً إن كان مصدرها هو الألم على ما فات عليه وقد استأنف حديثه من جديد مُتابعًا بقوله المهتز:
بعدها عاتبها بالكلام وسألها عن نفسه لما إتقال إنها نسيته، وسألها في الأغنية بصراحة على لسان ميادة الحناوي وهو بيقول بنفس العتاب الرقيق:
حبيبي يا أنا يا أغلى من عينيا نسيت مين أنا.؟
طالعته بتأثرٍ وعينين ترقرق بهما الدمع وقد حقًا أثارت القصة الأصلية مشاعرها وتألمت كما لو أنها هي صاحبة القصة ليضيف هو من جديد بعدما نظر أمامه بشرودٍ:
ساعتها هو رد على السؤال وحب يفكرها بنفسه بس بطريقة حنينة وكتب ليها من جديد يرد على نفسه في السؤال اللي سأله ليها يفكرها هو مين لما قال: أنا الحُب اللي كان، اللي نسيته قوام من قبل الأوان،
نسيت اسمي كمان، نسيت يا سلام على غدر الإنسان.
طالعها من جديد بعدما أسرته هي بعينيها، لقد قرأتها ولم تكذبها، حقًا أخبرها بخوفهِ منها، خشى أن يكون مثل صاحب القصة وتنتهي بهذا الألم ليجدها هي تمسح عينيها وهتفت بنبرةٍ مختنقة من البكاء الذي جاهدت لتواريه خلف حديثها:
أتطمن، أنا مش زي وردة يا يوسف.
ابتسم ساخرًا لها وسألها بنبرةٍ هادئة يشاكسها أو يقصد مراوغتها بقولهِ:
مين يوسف دا تعرفيه؟
ضحكت له على سخريته وهتفت بكل تلقائية تجاوبه دون أي تفكيرٍ في عاقبة ما تفوهت به:
حبيب عيوني.
حرك رأسه نحوها بسرعةٍ بالغة نتجت عن دهشتهِ بسبب جملتها فيما توترت هي وكادت أن تهرب من أمامه بعدما انصهرت خجلًا وفكرت بكل جدية أن تركض من أمامه كما تفعل لتجده يمد كفه يمسك كفها وقال بنبرةٍ هادئة رخيمة يعبر بذلك عن طمئنته لها:.
أظن عادي يعني، بس اللي مش عادي إنك تفكري تهربي كدا وتمشي، هنا مش السطح علشان تطلعي تجري منه، قدامك النيل أهو يوفي بالغرض.
لكزته بكفها الحر في كتفه ليضحك عليها ثم هتف بنبرةٍ هادئة يراوغها بقولهِ:
بس حلوة منك يا عسولة.
تضرج وجهها بحمرة الخجل فيما تنفست الصعداء ثم هتفت وهي تتجول بعينيها في ملامحهِ بكل حرية وكأن شغفها هو الذي دفعها للتجول في ملامحه أو ربما هروبًا من نظراته التي تأسرها:.
عارف؟ أنا بحس إنك معايا بتحاول بكل طاقتك تخفي عني كذا يوسف تانيين، بشوفها في عينك إنك عاوز تداريهم وتطلع واحد بس، واحد أنا مش بشوفه غير معايا أنا، لدرجة إني بقيت أسرح فيك وأسأل أنتَ مين، واللي أنا شايفاه دا مين فيكم؟ وعندي إحساس قوي إنكم مش واحد.
صدقت في حديثها بكل حروفه فيما ظهر الخوف من جديد في نظراتهِ وهو يحاول الثبات أمامها ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول من خلالها طمئنتها بجملتهِ مُبتسمًا:.
ميهمنيش عيونك شايفني مين، يهمني بس أنهم شايفني.
ابتسمت هي الأخرى له ثم نظرت أمامها وهو يتابع حركتها الخجولة حينما شعرت بكفه يتسلل لكفها ثم هتف بنبرةٍ هادئة يمازحها بكل ثباتٍ وهو يقول:
طب إيه؟ يلا نروح.
تحركت معه حينما شد كفها ثم وقف ووقفت أمامه وهي تنظر لهاتفه الذي وضعت صورة عينيها بداخلهِ ليكَون حلمًا لم تتوقعه هي، يبدو كأنه أحبها بالطريقة التي كانت تتمناها وقد أحتوته هي وسط المدينة التي تغرب من شمالها لأقصاها.
منذ الأمس وهي حبيسة بداخل غرفتها، تغلق على نفسها بعد تهورها فيما فعلت وفيما أعطت من نتائج كان يخشاها القلب الأخر، منذ الأمس لم تعرف عنه أي شيءٍ تحديدًا منذ أن عادت التغطية لهاتفها ووجدته حاول الإتصال بها مرارًا لكنها لم تُعطيه جوابًا يُطمئن قلبه حينها، والآن انقلبت الموازين تمامًا هي من تحاول الوصول له وهو لم يناولها هذه الراحة، ألقت الهاتف وشدت خصلاتها تُخلل أصابعها بداخلها وهي تقبض على منابت شعرها، أرادت أن تبكي وحقًا بكت حينما تذكرت نظرته لها وهو يطالعها بعينين نطقت كلتاهما بوجعٍ جامٍ، لقد ظن أنه يُريح نفسه ويريح حينما يصارحها ولم ينتبه أنه بذلك حملها فوق طاقتها.
لقد عذب فؤداها بحديثهِ، كيف أخبرها بهذه السهولة وكيف آمن لها؟ والأهم لما هربت هي منه؟ هل حقًا خشت منه؟ هل حقًا أراد قلبها أن يهرب منه ومن بداية الطريق قبل أن تقف عالقةً في منتصفهِ؟ منذ متى وهي تهتم بأحدٍ؟ لقد عاشت طوال عمرها مرحة وذكية وتتمتع بدهاءٍ، كيف انقلبت الأمور عليها هي؟
في شقة قمر كانت في إنتظار يوسف الذي تأخر عن موعد قدومه لتناول العشاء وقد وقفت في الشرفة تتابع الطريق حتى توقفت السيارة ونزل منها مع زوجته وحينها ابتسمت ثم دلفت نحو المطبخ تقوم بتجهيز الطعام له، بينما هو صعد لطابق زوجته وأوصلها أمام الشقة ثم هتف بنبرةٍ هادئة يودعها بقولهِ:
تصبحي على خير يا عهد.
ابتسمت له وهي ترد بنبرةٍ هادئة:.
وأنتَ من أهل الخير يا يوسف شكرًا على كل حاجة، وشكرًا على اليوم دا، وشكرًا إنك معايا كمان، دي أهم حاجة يا يوسف.
تحرك الخطوات الباقية يقف أمامها ثم ضمها بين ذراعيه بُغتةً حتى اتسعت عيناها من فعله الغريب، لم تتوقع أن يفعل هذا الشيء وقد جمدها محلها وتيبس جسدها فور عناقه لها، فيما تركها ولثم وجنتها ثم كعادته وهتف بنبرةٍ رخيمة:
أنتِ حبيب عيون يوسف.
قال جملته ثم تركها تقف محلها تزدرد لُعابها فيما تحرك هو تمامًا من أمامها يفل مثل السراب وقد فتح الباب من أمها التي طالعتها بخبثٍ حينما دارت لها عهد وسألتها بتشككٍ من نظرتها الموجهة نحوها:
أنتِ شوفتي حاجة؟
ابتسمت الأخرى بتهكمٍ ثم ضمت ذراعيها عند قفصها الصدري وهي ترد عليها بنبرةٍ ضاحكة:
قصدك الحضن والبوسة؟ لأ مشوفتش حاجة.
اتسعت عينا عهد من جديد فيما أولتها مَي ظهرها وهي تحاول وأد ضحكتها، للحق هي لم تنكر سعادتها لابنتها، تعلم أنها تستحق أن تفرح وتعيش هذه الحياة برفقة رجلٍ يستحق لقب الرَجُل ومن غيره يستحق فتاة مثل ابنتها؟ جوهرة ثمينة تلمع في العيون الأصيلة التي تملك صفة التمييز بين الشيء النقي وبين المختلط، وقد دلفت عهد تجلس على الأريكة بخجلٍ من أمها التي نطقت بخبثٍ وهي تحول قنوات التلفاز:.
بس خلاص شكلك الحمد لله اتعودتي.
رفعت عهد رأسها نحو أمها ترمقها بعينين مُتسعتين وقد غمزت لها الأخرى وهي تضيف بنفس الخبث:
علي حضنه يا ست عهد.
تضرج وجهها بحمرة الخجل وكادت أن تبكي بسبب موقفها المُحرج حتى ضمتها مَي التي هتفت بنبرةٍ هادئة وهي تمسح عليها بحنوٍ كمن تمسح على هرتها الصغيرة التي ظلت تموء طلبًا لاحتوائها:.
يا عبيطة دا جوزك وأنا أمك، محدش فينا غريب عنك، ويهمني إنك تفرحي وشكلك فرحانة أوي أوي كمان، لو مش فرحانة مش هتيجي وشك منور كدا، قولتلك يستاهلك وهو محدش غيره.
ضمتها عهد وأغمضت عينيها تستعيد صورة ملامحه من جديد وهي تقول بنبرةٍ تراوحت بين الهدوء والهيام بحبيبها الأول والأخير:
والحقيقة أني مش شايفة غيره يا ماما.
وصل يوسف شقته وبدل ثيابه بأخرى بيتية مريحة عبارة عن طقمًا بيتيًا باللون الأسود وجلس بجوار الغالية يضع رأسه على كتفها وهو يمسك في يده ورقة يلعب بها ويصنع بها أشكالًا غريبة، نفسها الموهبة النادرة التي يمتلكها في تحويل أي شيءٍ في يديه إلى شيءٍ أخر لكن نفسه عجز عن ذلك معها حتى أتت البارعة في ذلك، وقد ابتسم حينما تذكر كيف تواقح وعانقها حينما تأكد أن والدتها تراقبهما من خلف الباب.
أتت قمر تضع الطعام أمامه وأمام والدتها التي ربتت على كتفه حتى يعتدل لتناول الطعام وقد بدأ في ذلك معهما و جلست قمر تتناول الطعام معه وحينها تحدثت غالية تسأل باهتمامٍ:
برضه ضُحى لسه زي ماهي من إمبارح؟
حركت رأسها موافقةً بخيبة أملٍ وقد عقد يوسف مابين حاجبيه بحيرةٍ ووزع نظراته بينهما روحةً وجيئة وسأل بنبرةٍ حملت عدة مشاعر متباينة وهو يستفسر بقولهِ:
مالها ضُحى؟ فيه حاجة؟
ارتبكت قمر وحركت رأسها موافقةً وقد فهم أنها تخشى التحدث أمام والدتها التي ضيقت جفونها بريبةٍ زائفة وهي تسأل بتهكمٍ:
من أولها كدا هنخبي على بعض؟ قولولي بدل ما أعرف أنا بطريقتي، حصل إيه عمالين تتهمزوا فيه بعيونكم كدا؟
بدأت قمر في سرد الموقف بأكملهِ وكيف أنتهت قصة ضُحى مع إسماعيل قبل أن تبدأ من الأساس، أخبرته كيف رحلت وتركته وكيف عجزت عن التواصل معه منذ الأمس وقد أغلق هاتفه تمامًا، وقد فهم يوسف لما تغيب رفيقه عن التواصل معه، فيما أنهت الأخرى حديثها ثم هتفت بنبرةٍ مُتلجلجة تعبر عن توترها وهي تقول:
وفيه حاجة كمان.
انتبه لها يوسف مُحركًا رأسه باستفسارٍ لتقول هي بخوفٍ منه:.
أنا قولتلها متشيلش هم وإنك هتحل الموقف دا وأكيد طالما هو صاحبك أنتَ أكيد مستحيل تتخلى عنه وعن أختك وهي اتعشمت خير فيك وأكيد هتخلي إسماعيل ميزعلش منها.
هز رأسه مومئًا بسخريةٍ هو يقول بشرٍ طفيفٍ:
دبستيني بس بشياكة يعني؟
حركت رأسها موافقةً وهي تغمض جفونها بطريقةٍ تمثيلية فزفر مُطولًا وترك محله لتوقفه هي من جديد بنفس التلجلج السابق:
وفيه حاجة كمان بصراحة.
انتبه لها من جديد بعدما مط شفتيه بيأسٍ لتقول هي بترقبٍ لرد فعلهِ:
هي خايفة خالو يرفضه بعد اللي عرفته وأنا قولتلها إنك برضه هتخلي خالو يوافق عليه ويتمم الموضوع وهي مستنية الموضوع يكمل زي ما كان.
نظر لأمهِ التي ابتسمت بسخريةٍ وهي تشير نحو ابنتها تقول بنبرةٍ ضاحكة توضح له حقيقة شخصيتها:
دي قمر حبيبة قلبك، أشرب يا حبيب أمك.
ضحك رغمًا عنه ثم تحرك نحو قمر يُلثم قمة رأسها وعبث في مقدمة خصلاتها وهو يقول بخضوعٍ تامٍ لها:
فداها، وأنا مقدرش أكسفها، دي رَد الروح.
ضحكت قمر بسعادةٍ ثم تركت محلها وتشبثت بكفهِ وهي تقول بنبرةٍ حماسية:
خدني معاك بقى علشان أشوف هتصلح الموقف إزاي.
كادت أن تتحرك معه كما هي حتى وجدته يسحب غطاء رأسها يضعه عليها ثم هتف بنبرةٍ محذرة وهو يشير نحو رأسها:
متنسيش بس تاني يا قمورة.
تحركت معه نحو الداخل تجاه شقة خالها وقد دلف هو يُلقي عليهم التحية بحجة الإطمئنان على عُدي ومع كثرة التحدث معهم ومشاكسته لأسرة فضل طلب أن يتحدث مع ضُحى وقد دلفت معه قمر التي دلفت معه لأختها التي كانت تبكي وما إن رأت الأخرى بكت أمامها من جديد، أما يوسف فسألها بنبرةٍ جامدة:
أنا مش عاوز عياط، عاوز سبب للعياط دا، بتعيطي علشان مين يا ضُحى والأهم بقى عياطك دا سببه هو ولا الموقف نفسه؟
هتفت بنبرةٍ مختنقة بعدما اعتدلت تقف أمامه تُبريء نفسها من أي إتهاماتٍ قد توجه إليها:
بعيط من غبائي، إزاي عملت كدا ومشيت وسيبته؟ أنا كأني بقوله أني خوفت منه بجد، واحد جاي يصارحني وأنا بكل غباء طلعت أجري منه كأني بأكد خوفه، بس والله أنا كان غصب عني، أنا عمري ماتخيلت إن دي حياته، شكله أصلًا مش باين عليه خالص، صدقني أنا والله مش وحشة بس اتخضيت.
أمسك كفها يُجلسها على الفراشِ ثم سحب المقعد يجلس أمامها وهو يقول بنبرةٍ هادئة وبرغم ذلك لم تنفك عنها القوة:.
بصي يا ضُحى علشان أنا مش بجامل حد وعمري ما كنت بتاع كلام حلو متذوق، أنا طول عمري ليا صوت من دماغي، وكلامي يتحسب عليا وأتحاسب عليه، بس إسماعيل لو لفينا الأرض كلها مش هنلاقي في طيبته، شخص قلبه على الأبيض خالص لدرجة إنه عمره ما رفع عينه في حد وزعله منه حتى اللي مزعلينه، أول شخصية أفتكرها عملة نادرة ومن بعده لقيت أيوب الاتنين بالنسبه ليا مفيش منهم، واللي يخليني أسلم قمر ل أيوب وأبقى راضي كدا أكيد دا مش قليل، ونفس الحوار مع إسماعيل لو بأيدي أختار ليكِ يبقى هو مش حد غيره، علشان المعدن الأصيل مش موجود الأيام دي.
مسحت دموعها وسألته بنبرةٍ باكية وقد انتبهت لتوها أنها أمام أكثر الناس درايةً بها وقد تستطع أن تبوح أمامه بخوفها:
طب وفكرة إنه مكشوف عنه الحجاب دي؟ أنا أكيد هقلق منها، أنا مش ملاك علشان أشوفها حاجة عادية، بس ليا حق أخاف وفي نفس الوقت أنا شايفة إنه عادي مفيش أي حاجة باينة عليه، أبوس إيدك ريحني يا يوسف.
رفع كفه يربت على رأسها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.
يا هبلة، دا كلام حد يصدقه برضه؟ مش هكدب عليكِ بس الأول كانت الأمور صعبة أوي عنده، كوابيس وخوف وقلة نوم واضطرابات كتيرة هو مسكتش عنها والحج نَعيم لف بيه على المشايخ كلهم لحد ما الدنيا بقت أهدا، وبكرة أيوب يعالجه خالص وكل حاجة تبقى تمام، بصي، شوفي قلبك هيقولك إيه، أقعدي كدا كام يوم فكري في الموضوع من تاني وأنا واثق إنك هتحسبيها صح، بس أهم حاجة تفكري بالعدل مش بالعقل، ونصيحة من أخوكِ إسماعيل فعلًا محتاجك معاه، كفاية إنك هتاخدي راجل مش شايف غيرك أنتِ وبلغة حبيبنا مطروف العين بيكِ.
ابتسمت قمر بحالمية وهي تقول بحبٍ بالغٍ عند ذِكر حبيبها:
شوفت؟ غايب وسيرته بتحضر بكل خير برضه، ربنا يحفظه حبيبي، قدوة برضه ومثل أعلى في طرف العين.
ضحكت ضُحى من بين دموعها وضحك يوسف بيأسٍ ثم سحب كف شقيقته التي جلست بملامح ضاحكة ثم قالت بحماسٍ حيوي كما شخصيتها:.
معلش أنا معذورة، فضلت أدعي ربنا سنتين يكرمني بيه، يعني لازم أحلق عليه أحسن يكون حد تاني بيدعي بيه تبقى مصيبة سودا فوق دماغي ودماغ أهلي، النوع دا أنقرض باين معرفش دا موجود إزاي.
هتف يوسف بسخريةٍ عليها وكأنه يُغار حقًا من حبها للآخر:
تلاقيه ياختي كان عامل بيات شتوي.
انتشرت الضحكات في الغرفة من جديد وقد ضم يوسف الاثنتين بين ذراعيهِ واحدة على يمينه وواحدة على يسارهِ ثم هتف بنبرةٍ هادئة وهو يمسح على ذراعيهما:
ربنا يفرحني بيكم وبالواد ابن الكئيب اللي اسمه عُدي ويقدرني وأكون سبب يعوضكم عن أي حاجة وحشة، زي ما ظهوركم كدا كان سبب صلح كل الحاجات اللي باظت جوايا وملتقش دوايا غير عندكم هنا.
وضعت قمر رأسها على كتفهِ ووضعت ضُحى أيضًا رأسها وقد بدأت تبكي من جديد فيما وزع هو نظراته بينهما ثم تحدث بمرحٍ وهو يهتف بمراوغةٍ:
طب مش كنتوا قولتوا كنت جيبت عهد في النص؟
رفعت الإثنتان رأسيهما من على كتفيه يرمقانه بنظرةٍ مشدوهة ثم ضحكوا معًا من جديد وهو أيضًا وكأنه هنا عاد لصباه من جديد، لم ينس العمر الذي مر عليه بدونهم لكنه على الأقل هنا معهم يسرق من الزمن لحظات سعيدة آملًا أن تدوم طويلًا.
مع حلول الليل وتخطي الوقت للمنتصف كان أيهم جالسًا يتحدث في الهاتف مع تَيام الذي يخبره عن أرقامٍ هامة خاصة بالعملِ وهو يدونها بداخل الدفتر الخاص به، وأمام كل رقمٍ يضع قيمة أخرى خاصة بالحساب الإداري لعملهم، مُهمة صعبة تحتاج إلى الدقة وقد حمد ربه أن إياد لم يكن هنا حتى لا يظل يسأل عن كل شيءٍ، وما إن أنهى عمله تحدث بنبرةٍ منهكة:.
ولا، أنا خلاص فصلت، روح شوف حالك بقى ولا نقي لون الحيطة اللي مخليك تشد في شعرك ومنكد على البت بسببه دا، وأنا هروح أدور على حاجة أطفحها، خدتوا صحتي يهدكوا يا بُعدا.
هتف الأخر بسخريةٍ ردًا على حديثهِ بما يبرأه:
هو شغلنا إحنا؟ ماهو شغلكم أنتوا، على العموم ياعم أنا تحت أمرك بس لون الحيطة دا مش ذنبي دا ذنب النقاش الله يسامحه، الحمد لله إننا لسه مخترناش عفش كان زماني بلطم دلوقتي.
ضحك الأخر وأغلق معه الهاتف وكاد أن يتحرك محله من على الأريكة بصالة الشقة الواسعة المُصممة على أحدث التقنيات والتصميمات لكنه تفاجيء بها تخرج من المطبخ وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
والله ما أنتَ متحرك من هنا.
جلس محله من جديد بأعصابٍ مرتخية فوجدها أمامه فردت خصلاتها وارتدت منامة حريرية باللون الأسود تلائم بشرتها متوسطة اللون وحملت في يديها صينية معدنية بها شطائر الخبز الفرنسي بأنواع مختلفة من الطعام ومعها أكواب الشاي الخاصة بهما ثم وضعتها أمامه وهي تقول بنبرةٍ هادئة تشير نحو الطعام:.
بصراحة يعني كنت معدية بالصدفة سمعتك بتتكلم من شوية بتقول إنك جعان وكررتها تاني وقولت هتقوم تاكل، وأنا جعانة بصراحة، علشان كدا قولت ناكل مع بعض.
أقترب منها يسألها بخبثٍ حتى يراوغها وهو يقول:
هما مش بيقولوا إن الست مش ملزمة برضه؟
ضحكت له ثم هتفت بتعالٍ:
هما يقولوا اللي يقولوه، لكن أنا محدش يمشي كلمته عليا، بعدين يعني لو معملتش كدا علشان جوزي هعمل كدا علشان مين؟ ولو مهتمتش بيك ههتم بمين؟
عاد للخلف يقول بدهشةٍ من حديثها وطريقتها:
لا حول ولا قوة إلا بالله! فيه إيه يا ستي مالك؟
حركت كتفيها بلامبالاةٍ وهي تبتسم له فوجدته يطالعها بشكٍ حتى زفرت بقوةٍ ثم هتفت بنبرةٍ ثابتة وقوية بعض الشيء:.
طب بص، هصارحك، أنا من غير لف ودوران كنت في تجربة الحمد لله إني خرجت منها حية أصلًا، تجربة خلتني أكره الرجالة كلهم بما فيهم رجالة عيلتي كمان، وبقيت بياعة بدرجة مرعبة، بس لما دخلت هنا وشوفت الوضع أنا معنديش استعداد أخسرك وأخسر إياد ممكن تكون أنانية مني وممكن تكون حاجة غلط، بس أنا حابة إن دا يكون بيتي علطول، حابة الحياة هنا وحابة دوري معاكم هنا، أنا لو أنا و إياد محتاجين بعض قيراط، فأنا محتاجة ليك 24 قيراط، محتاجة إني أكون متطمنة هنا، صحيح هي مش هتبقى علطول وردي علينا يعني، بس أنا عن نفسي هنا بستغل فرصة النعم اللي ربنا كرمني بيها، ابن ألف حد يتمناه، وراجل كل ست تتمنى تكون معاه.
أحيانًا يتغلب مكر حواء على قوة الرجل، لكن ماذا إذا اتصفت حواء بالقوة والمكر معًا؟ بالطبع سيقع الرجل فريسة سهلة الصيد أمام صفاتها، هي ذكية بدرجةٍ كُبرى، تعلم أن الحياة تنقلب في غضون ثوانٍ والمكان القوي فقط هو الذي يقف أمام الحياة ثابتًا، بينما هو سألها بثباتٍ حاول الإتصاف به من جديد بعدما دهورته بحديثها:.
طب أنتِ بتقولي كدا ليه يا نِهال؟ هو عندك شك إني ممكن أكون بحبك أو حتى لو مش عاوزك أنا هقبل بأي حاجة بيننا؟ غير كدا أنا مكانش في نيتي إني أحب أو حتى أدخل ست حياتي، بس أنتِ مش ست عادية، أنتِ جيتي متفصلة على أحلامي اللي من قبل كدا أصلًا، يعني لا قبلك ولا بعدك ولا ينفع حتى تتقارني بحد.
ابتسمت بانتصارٍ ثم قالت بنبرةٍ هادئة:.
وهو دا اللي أنا عاوزاه منك، لا قبلي ولا بعدي وبرضه أنتَ لا قبلك ولا بعدك، جوزي وحبيبي وصاحبي والراجل الوحيد اللي حبيته في كل حياتي.
أشار على نفسه مستنكرًا وهو يسألها برأسهِ ليجدها تحرك رأسها موافقةً عدة مرات وابتسامتها تزداد اتساعًا وحينها نظر حوله ثم سألها بنبرةٍ هادئة وخبيثة في آنٍ واحدٍ:
أنتِ قولتيلي إياد راح فين؟
ضحكت له ثم قالت بخجلٍ حينما وجدته يطالعها بنظراتٍ فهمتها هي على الفور:.
عند بابا عبدالقادر تحت وبايت مع عمه أيوب.
ضحك بخبثٍ ثم عاد من جديد يطالع صينية الطعام وقال بحماسٍ وهو يحرك كفيه معًا باشتهاءٍ لتناول الطعام:
حلو آكل براحتي بقى.
تلاشت بسمتها وهتفت خلفه مستنكرة جملته:
تاكل براحتك؟
حرك رأسه موافقًا فوجدها تضربه بكفيها معًا في كتفه ليضحك هو الأخر ثم أمسك شطيرة الطعام ووضعها في فمها هي لتبدأ تلوك الطعام في فمها فيما بدأ هو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما فهم سبب فعلها وحديثها الغريب عليه وكأن مكرها لم ينطوي عليه:.
أنا مش عبيط وفاهم كويس أوي إنك بتحاولي تتأقلمي هنا وعاوزة تتأكدي إنك مش بديل لحد، سواء عندي أو عند ابنك، وأنا متعمد أخليه ابنك أنتِ علشان أنتِ الأحق بيه، هي لو أمه بالدم أنتِ أمه بالحب والقلب اللي مضلل على قلبه، منكرش إن في بداية ظهورك كان التفكير فيكِ كدا، بس أنا لما عاشرتك رجعت عيل تاني بيحب، مش أب وراجل كبير، أنا هنا محتاجك زيي زي إياد يمكن هو يقدر يطلب كدا منك بس أنا مش هقدر، على العموم أنا بحبك وأنتِ مش بديل لحد وحتى لو هي ظهرت تاني فهي ملهاش وجود لأن صاحبة المكان الأصلي ظهرت خلاص.
ضحكت أخيرًا له ثم أقتربت هي منه تضع رأسها على صدرهِ وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما طمئنها بحديثهِ وقالت بنبرةٍ قلقة وحزينة للغاية وهي تضم جسده بذراعيها:.
أنا مرعوبة وخايفة أوي، خايفة الحياة اللي هنا تطلع لفترة قصيرة وأرجع تاني لوحدي الناس تفضل تبصلي وتلومني إني خربت بيت أصلًا كان خربان لوحده وأنا كل اللي عملته أني أنقذت نفسي منه، حتى محدش أهتم يعرف الغلط على مين، أنا الست اللي صممت على الطلاق وخربت البيت على نفسي ونكدت على أهلي، بس أنا كنت بموت كل يوم جوة، ومكانش فيه حد أقدر أقوله كدا، كلهم كانوا بيلموني، ومحدش مرة واحدة فكر يدافع عني غير أختي، ياريتني كنت شوفتك أنتَ الأول على الأقل عمري ما كنت هحس إني ست ناقصني حاجة زي ماكانوا بيقولولي.
ضمها بذراعيهِ يحتويها كما يحتوي صغيره تمامًا وكأنه خُلق لكي يكون أبًا يبرع في هذا الدور وما إن شعر بدموعها تُبلل ثيابه مسح على رأسها وخصلاتها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
أنا هنا أهو ومعاكِ زي ماقولتي صاحبك وجوزك وحبيبك والحمد لله مبقيتش أخوكِ خلاص فترة وراحت لحالها.
ضحكت من بين دموعها وضحك هو الأخر ثم استأنف حديثه بعدما لثم جبينها ليضيف بنبرةٍ رخيمة:.
أحكي وأشكي من اللي زعلك كله وأنا هسمعك والله، طب تصدقي إني عمري كله كنت بتمنى إن حد يثق فيا لدرجة تخليه يحكيلي؟ شوفتي بقى إننا بنلاقي اللي عاوزينه فيكِ؟
أغمضت عينيها بسلامٍ وهي تبتسم وتتمسك به، لو كان والدها في مرةٍ واحدة فقط ضمها بين ذراعيه وحارب لأجلها بدلًا من الحرب لأجل سمعته وعمله لكانت شعرت بمشاعر أخرى غير هذه، لكن والدها جعلها تتجرع منه القسوة وعاشت معه في جفاءٍ جعلها تتعجب من أي شخصٍ يقدر على الاحتواء ويعطي غيره الحب، بينما هو أخفض عينيه نحوها ثم هتف ساخرًا:.
طب ما تقولي من بدري إنك عاوزة تنامي في حضني، شغل ستات بصحيح، بس عسل والله ربنا يحفظك.
جلس نادر حتى شروق الشمس في حديقة البيت.
لم يقو على إخبار والده ولا حتى خاله، شيءٌ ما أنبئه بخطورة هذا الفعل، لم يعلم لما توقف لآخر لحظةٍ، ثم جلس يتذكر أي ملابسات للحادث حينها لكن عقله لم يسعفه أيضًا، نفسها النتيجة المجهولة، لكن قمر ووالدتها على قيد الحياة؟ كانت صدمة له بكافة المقاييس، لقد تذكرها من جديد وتذكر كيف كان يشاكس يوسف حينما يصر على حملها وعلى اللعب معها، بينما الأخر فكان يثير غيظه أنه يملك شقيقة وهو لم يملك أي أخوات حتى حينها نادر صمم أن يأخذها معه تبيت عندهم لكن أمام الرفض القاطع من الجميع أضطر هو أن يبيت هذه الليلة بجوار يوسف.
زفر بقوةٍ وركل الطاولة بقدمهِ فأتت شهد تبحث عنه وسألته بتعجبٍ من جلوسه هنا حتى حلول الصباح:
نادر! أنتَ قاعد هنا ليه؟
زفر بقوةٍ ثم هتف بجمودٍ دون أن ينتبه لنفسهِ:
حلي عني يا شهد أنا مش ناقص.
طالعته بحاجبٍ مرفوعٍ فيما سحب هو هاتفه ثم زفر بقوةٍ في وجهها ورحل وترك المكان وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
أنتِ هتبصيلي لسه، أديني سايبهالك.
ضربت كفيها ببعضهما وجلست محله السابق وفي غضون ثوانٍ تحركت خلفه لتجده خرج من البيت تمامًا ويبدو أنه سوف يلجأ للركض وذلك لأنه خرج من البيت بملابسه البيتية كما هي، ويبدو أنه حقًا يشعر بالضيق أو أن ما يُخفيه بداخل قلبه أكبر من قدرة تحمله.
بعد مرور عدة أيام قليلة تحديدًا في منتصف الأسبوع الثاني، لم تتغير حينها الأحوال كثيرًا بل ظلت كما هي، مُنذر يُقيم في بيت نَعيم الذي تحجج أكثر من مرة حتى لا يرحل ويتركه، وقد استعاد سراج صحته من جديد إلى حدٍ ما، و إيهاب يباشر العمل بأكملهِ، أما إسماعيل فهذا الصبي يبدو أنه أختار الطريق الأكثر وعورة، ظنه مُمهدًا له لكنه تفاجيء به يرفض سيره، لقد أغلق هاتفه تمامًا وأمسك غيره قديم التصميم فقط يحمل شريحة الأرقام الخاصة به.
تجهز مُنذر للرحيل وحمل حاجته تمامًا ثم فتح باب الغرفة وخرج منها يحتضن عمه الذي ربت على ظهره قائلًا بثباتٍ:
هستناك ترجعلي تاني، أوعى حارة العطار تاخدك مني.
رد عليه مُنذر بثباتٍ بعدما ابتسم له وتشبث بعناقهِ وتذكر كيف أهتم به في الأيام السابقة وكيف وفر له كل سُبل الأمان والراحة حتى أنه لأول مرة يختبر هذه المشاعر، لم يعلم كيف كان يعيش مثل أدوات الزينة هناك وهنا كأنه محور الأكوان بالنسبة لعمهِ والشباب، وقد خرج ل يوسف الذي وقف في انتظاره بالخارج وما إن خرج له حمل عنه الحقيبة يضعها بداخل السيارة ليصله صوت نَعيم يحذره بقولهِ:.
أنتَ روحت اتخطفت هناك، عينك على الواد بدل ما أكلك يا ابن الراوي تحطه في عينك أظن أنتَ عارف اللي فيها.
راقبه يوسف بنظراته الحانقة وقبل أن يتحدث دلف شخصٌ أخر يلقي التحية عليهم بقولهِ:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
توجهت الأبصار نحوه ليبتسم هو بحماسٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة وملامح بشوشة مفسرًا سبب تواجده:
الحقيقة إني جيت هنا علشان الحج نَعيم كلمني وأنا مقدرش أرد كلمته، أتمنى أكون ضيف خفيف الوجود عليكم.
ترك نَعيم ابن شقيقه وأقترب من الأخر يحتضنه وهو يقول بنبرةٍ حماسية ومُحبة لهذا الذي يقف أمامه بكل أدبٍ:
يا أهلًا يا أهلًا بالغالي، البيت نور بيك يا أيوب.
ربت أيوب على ظهرهِ ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما أبتعد عنه هو الأخر وقال بثباتٍ بعدما توسعت ضحكته:
البيت منور بأهله، أؤمر أنا جيت علشانك.
سحبه من كفهِ وهو يتجه به نحو البيت من الداخل وأضاف بنبرةٍ ضاحكة يثير بها غيظ يوسف و مُنذر:.
لأ تعالى معايا جوة علشان أخاف على أخلاقك.
ضحك أيوب وسار معه نحو الداخل حتى دلفا سويًا لمكتب نَعيم الذي جلس بعدما أجلس الأخر مقابلًا له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.
شوف، أنا معرفش سبب حبي ليك، بس واثق إن ربنا بيحبك ورزقك بحب عباده كمان، أي حد يقدر يتطمنلك بمجرد ما يبص في وشك، كل ما أبصلك بتمنى إني كنت أربي نفس تربيتك، بس الحمد لله برضه ربيت رجالة، المهم علشان مقلقكش في الكلام، اللي برة دا ابن أخويا، وموضوع كبير يطول شرحه، عاوزك تعتبره أخوك، أنا بوصيك عليه زي ما وثقت إنك في ضهر يوسف، عاوزك تخلي بالك منه وتحطه في عينك، تساعده وتاخد بيده، ممكن؟
ابتسم له أيوب وأشار على عينيهِ يقول بنبرةٍ هادئة مذعنًا له بكل ترحيبٍ دون أن يبخل عليه بأي شيءٍ:
من عيني دي قبل عيني دي، وهو مش غريب يعني، اللي منك ومن يوسف يعتبر أخ ليا، توكل على المولى ثم عليا وبإذنه الواحد الأحد أنا مش هخيب ظنك، تؤمرني بحاجة تاني؟
ربت نَعيم على كفه وهو يقول بنبرةٍ مُحبة وماثلتها النظرة التي أحتوته داخل العيون أثناء قولهِ:.
ميأمرش عليك ظالم ولا يبعدك ربنا عن طريقه ولا يضللك سبيل ولا تعرف العتمة سكتك، يا رب تفضل زي ما أنتَ قدوة كدا، وتبقى دايمًا وسيلة للناس يا أيوب.
بعد مرور دقائق رحلت السيارة الخاصة ب يوسف نحو حارة العطار، غريبٌ جديدٌ يذهب إلى هناك لغرضٍ معلومٍ وطريقه مجهولٍ، لكن الأمل كله على الخالق أن يُكلل مسعاهم بالنجاح ولأول مرة يردد مُنذر بقلبٍ يأمل بكل ثناياه:
يا رب يا رب ألاقيه.
كان يرددها بكل أملٍ وفي الحقيقة هو يعلم بداية الطريق جيدًا ويعلم أنه يُراقَب من جهة الآخرين ويعلم أن أعينهم تتربص له، لكنه تجاهل كل ذلك وسيبدأ في الطريق أولًا، هم من الأساس يريدون ما يريده هو، لكنه الأقوى في الخطوات والأسرع في الركض، أما يوسف فأراد أن يقوم بتوصيله ثم يأخذ زوجته ويرحل لحفلة ميلاد مادلين التي أصرت عليه أن يحضر حتى لا يثير الشكوك نحوه، بينما أيوب فكان يود الذهاب إلى الحارة قبل موعد صلاة العِشاء لكي يُقيم الصلاة، للحق هو لم يكترث بالعالم كثيرًا وكأنه خُلِقَ ليكون زاهدًا في هذا العالم.
فيه لسه رُكن في قلبي عاوز يبتسم.
تلك الجملة التي كتبها الكاتب الراحل صلاح جاهين ليعبر عن حال آخرين مثله برغم كل ما أصاب قلوبهم لازالت تبحث عن البسمة، لازال القلب يُبرر سبب التعاسة ويُفتش عن الفرحة، يُريد أن يبتسم ويرد أن يكون سببًا في شفاء الجرحى، هكذا جلس إسماعيل في محل عمله بعدما أخرج كل طاقته به دون أن يظهر أي سببٍ أو حتى أعراض حزنه، لقد حاول تخطيها تمامًا ولم يجبرها على تقبله، قد يكون أخطأ في ذلك أو من المؤكد أنه أخطأ في ذلك، لكن عزة نفسه تفرض عليه ألا يقلل من نفسهِ.
شعر بالضجر من جلسة المكتب ومن الروتين الذي شارف على عشرة أيام منذ لقائهما الأخير وقد خرج من المكتب بعدما تمطع بجسدهِ للخلف ثم استعاد لياقته وخرج مفرود الجسد ومشدود القوام ومر من بين الطاولات ليجدها هي تجلس على طاولةٍ منهما بمفردها!
ضيق جفونه بوضعٍ استكشافيٍ يتبين هويتها ليجدها أمامه حقًا ولم تكن مجرد خيالات وما إن قرر الهروب من المكان حتى لا يلتقي بها خوفًا أن تكون هنا برفقة أصدقائها وجدها تقف من محلها تُناديه بلهفةٍ دون أي إهتمامٍ بالمكان:
إسماعيل!
أغمض عينيه بشدة وفتحهما من جديد ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما أقترب منها يُجبر شفتيه على التبسم لها وكأن شيئًا لم يكن من الأساس:
أهلًا يا آنسة ضُحى نورتي تحبي حاجة معينة؟
تعجبت من طريقتهِ وخاصةً حينما كاد أن يرحل لتتسرع بفعلٍ أهوجٍ لم تحسبه أو حتى تفكر في عواقبه حينما أمسكت رسغه توقفه عن الحركة:
أنتَ زعلان مني ودا حقك، بس مش من حقك تعاملني كدا كأني غريبة، بقالي 10 أيام مش عارفة أوصلك، وتليفونك مقفول، لو كنت رديت عليا مرة واحدة أكيد ماكنتش هاجي أضايقك هنا، بس أنا عاوزة أتكلم معاك.
أخفض رأسه نحو كفها وما إن أدركت هي فعلها ابتعدت عنه كمن لدغت جلدها الحية الخبيثة من أسفل الرُكامِ وقد زفر بقوةٍ ثم أشار لها أن تجلس وجلس مقابلًا لها وأشار للعامل دون أن يسألها:
اتنين مانجا لو سمحت.
نظرت له بعينين باكيتين وهي تفكر كيف يطلب طلبها المفضل، ثم عادت وتذكرت أنه كان يراقب أدق تفاصيلها فمن المؤكد لن يغفل عن مشروبها المفضل، ثم عادت تلوم نفسها أنها كانت على وشك خسارةٍ كبرى، أو ربما خسرته حقًا وهو يحاول الإبتعاد عن النظر إليها متحاشيًا لقاء الأعين، وقد نطقت بنبرةٍ أقرب للبكاء:.
معاك حق تزعل مني ومن رد فعلي، بس أنا مقصدتش اللي أنتَ فهمته، أنا كل همي إني خوفت أي كلام يقال بعد كدا يزعلك مني، خوفت اسأل أجرحك وخوفت أعرف أي حاجة تانية توجعك وفي نفس الوقت أنا كن
بترت حديثها حينما أوقفها هو ليُكمل محلها بقولهِ:
خوفتي مني يا ضُحى؟
نزلت عبرات من عينيها ثم قالت بنبرةٍ باكية:.
خوفت عليك والله، خوفت أخسرك وأنا مش عاوزة أخسرك يا إسماعيل والله كان غصب عني أني أسيبك وأمشي، بس أنا ساعتها مقدرتش أسمع حاجة تانية، آسفة على رد فعلي الغبي، بس مش عاوزاك تزعل مني.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة ثم هتف بنفس الضعف وهو يقول من جديد مُضيفًا إلى حركته:
عادي يا ضُحى ولا يهمك، أنا مش زعلان منك أكيد أنتِ معذورة وأنا مقدر موقفك، وكدا كدا يعني مفيش حاجة هتتغير، ألف شكر على مجيتك لهنا.
تبدلت ملامحها كُليًا تطالعه بغير تصديق وكأنها تظنه يمزح معها ثم اندفعت في وجههِ تسأله بغير هوادة أو تفكيرٍ:
هو إيه دا! وموضوعنا يا إسماعيل أفهم من كدا إنك كنت بتخلع مني؟ ولا أنتَ ماصدقت حِجة قوية تظهر قبل ما تتدبس فيا؟ على العموم شكرًا ردك وصل.
رفع أحد حاجبيه ينطق بنبرةٍ جامدة ردًا على غوغاء حديثها:.
هو مش كان قلب الترابيزة دا عند الرجالة بس؟ بتقلبي عليا الترابيزة ودلوقتي بقيت أنا اللي بياع؟ أنا اللي خدت ديلي في سناني وطلعت أجري؟ لأ فيكِ الخير والله، على العموم، أنا خلاص صرفت نظر.
سحبت حقيبتها واستعدت للرحيل بعد جملته الأخيرة وهي تقول بنبرةٍ رغم هدوئها إلا أنها خرجت مُهددة أو ربما مُحذرة:.
علي العموم براحتك كدا كدا مش هتلاقي زيي تاني وأنا كنت راضية بيك زي ما أنتَ، بس أنا هروح أقول لأبويا العريس اللي قولتلك عليه طلع عيل وطفش، بعدما عشمني بالجواز منه، وهقوله على اسمك علشان تبقى عيل في نظره يا سُمعة وأبقى وريني هتنول الرضا إزاي؟ يا سمج.
هتفت كلمتها الأخيرة في وجههِ بغيظٍ منه ثم تحركت تمامًا من أمامها ليضحك هو ببلاهةٍ على حديثها ونظراتها التي أوحت بتمسكها به ثم خرج خلفها ينادي عليها وقبل أن تخرج من المحيط بأكملهِ سد عليها الطريق وهو يقول بنبرةٍ قلقة:
ضُحى! أنا مش عاوز هزار، يا بنت الناس موافقة بجد؟ لسه في مصايب سودا متعرفيش عنها حاجة، هتقبليها ولا برضه هتديني ضهرك وتمشي كدا؟ اللي جاي أصعب.
سحبت نفسًا عميقًا ثم التفتت له تنطق بثباتٍ وهي تطالع عينيه الصافيتين لها دون أي حزنٍ أو ضيقٍ:
وعلشان اللي جاي صعب أنا عاوزة أكون معاك فيه، سبق وقولتلك اللي يسيب الدنيا كلها ويجيلي أنا عندي استعداد أكونله دنيا لوحده، أعقل الكلمة تاني، هتتأكد من جوابي.
رحلت من أمامه وهو يطالعها بدهشةٍ وما إن ركبت سيارة الأجرة التي كانت في إنتظارها انفرجت شفتاه عن بعضهما بضحكةٍ واسعة زاحمت ملامحه في الوقت والحال ورفع كفه يحك فروة رأسه وهو يقول بسخريةٍ مرحة:
شكلي كدا اختارتها صح.
في منطقة نزلة السمان.
جلس إيهاب برفقة نَعيم الذي أنتظر ضيوفه في مضيفة بيته لتخرج لهما جودي برفقة خالها الذي بضيقٍ واضحٍ في ملامحهِ وما إن جلس حدثه نَعيم بنبرةٍ عالية وهو يقول بضجرٍ:
أفرد وشك يا سراج الناس جاية بالأصول.
زفر بقوةٍ فيما قالت جودي بنبرةٍ حزينة:
بس أنا يا جدو مش عاوزة أشوفهم أصلًا، خليني جوة مع سمارة وحد يقولهم إني مش هنا وخلاص، أكدبوا يعني.
ابتسموا لها جميعًا وبعد مرور دقائق دلفت سمارة ترشد جدة الصغيرة ومعهما أحمد عمها وقد أشار لها إيهاب بعينيهِ حتى جاورته تجلس مع الصغيرة التي تحدثت جدتها بتهكمٍ:
هي الحلوة دي مش هتيجي تسلم؟
حركت رأسها نحو خالها الذي أشار لها فتركت محلها وذهبت ترحب بجدتها وعمها وقد هتفت جدتها بسخريةٍ:.
إحنا جينا أهو علشان محدش بس يقول علينا مش سائلين، لازم البنت تعرف إن ليها أهل متبقاش سايبة كدا وصوتها من دماغها ملهاش كبير، اللهم أحفظنا دا الواحد يخاف.
حديثها كان كالعادة لاذعًا تهكميًا يخلو من الأدب وقد تحدث إيهاب ردًا عليها بكل وقاحةٍ دون أن يعير الجالسين أي إهتمامٍ أو حتى يراعي سن هذه المرأة:
بالبلدي يعني خايفة تكون زيك، اللهم احفظنا يعني.
كتمت سمارة ضحكتها وكذلك نَعيم فيما رفع إيهاب حاجبيه بتحدٍ سافرٍ لهذه المرأة، وبعد مرور دقيقة واحدة دلف مُحي بهيبته التي ترتسم عليه عند ظهور الغُرباء وقد جلس وسطهم بعدما ألقى عليهم التحية وجاور جودي التي عقدت ملامحها بحزنٍ ليسألها بسخريةٍ:
خير زعلانة ليه؟
هتفت بنبرةٍ خافتة في أذنه بنبرةٍ طفولية:.
عمو جاي ياخدني أقعد عندهم كام يوم، وأنا مش عاوزة أروح هناك خالص، وكله قال لازم أروح علشان هو عاوز ياخدني علطول و سراج و عمهم مش راضيين، مش بحبهم أصلًا يا مُحي.
رفع عينيه يراقب الوضع وحديث عمها ثم غمز لها ورفع رأسه يغمز ل سمارة التي فهمت سبب حركته وكادت أن تبتسم لكنها عادت لعبوس وجهها وأضاف الآخر يوجه حديثه لزوجة أخيه:.
معلش يا مدام، هنتعبك معانا، هاتي الدوا بتاع جودي علشان طالما هتروح معاهم نكتبه للأطفال هناك، مش حضرتك عندك أولاد برضه؟
وجه سؤاله ل أحمد الذي هز رأسه مومئًا له ففسر مُحي سبب الحديث بقولهِ:
طب ربنا يحفظهم، أنا دكتور مُحي صيدلي تحت التدريب لسه، معلش بقى جودي واخدة فيروس في المعدة ماشي اليومين دول في الجو، لو عندك أطفال خدلهم العلاج الأول علشان بيتعدوا بسرعة، اكتبلك الدوا ليهم؟
نظر أحمد لأمهِ التي لوت فمها بحركةٍ شعبية شهيرة فيما أرادت جودي أن تثبت اللعبة فتصنعت إنها تسعل عدة مراتٍ وبعد مرور دقائق رحل عمها ووالدته بدونها فقط اطمئنوا على صحتها لتركض هي نحو مُحي تفرد ذراعيها ليحملها بمرحٍ بعد نجاح خطتهما وهو يقول أمام الجميع:
مين دا اللي يفكر يقرب منك؟ دا أنا أكله بسناني.
ضمته بكلا ذراعيها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
أنتَ بقيت شاطر خالص يا مُحي.
ضحك نَعيم لهما ثم جلس محله وأشار ل سمارة وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
افردي وشك بقى محدش هياخدها منك أهو.
ضحكت سمارة بحماسٍ ثم قالت بنفس الفرحة:
طب علشان الخبر الحلوة دي أنا ععملكم عصير دلوقتي.
تحركت بسعادةٍ بالغة بعدما تأكدت من عدم رحيل الصغيرة وقد نظر إيهاب في أثرها مبتسمًا وهو يحمد ربه أن عبوس وجهها تم فكهِ وحلت الفرحة محلهِ وللحق هي فرحة للجميع وليست هي فقط، فحينما أراد الأخر أن يجبرهما على هذا الشيء كان هو أول الشاعرين بالضيق.
في أرضٍ مُحايدة بحارة العطار جلس عبدالقادر مع ملاك ومعهما بيشوي و أيهم و جابر الذي كان يحاول بكافة الطرق تأجيل زفاف ابنته الكُبرى، لحين هتف عبدالقادر يُلقي أوامره بقولهِ الذي خرج بكل إصرارٍ:
نهاية القول عاوز نص إكليل ومصمم يبقى بيشوي هيحدد لما يروح الكنيسة، وشهر واحد بس وتبقى مراته لا أكتر ولا أقل ودا آخر القول طالما دي قعدة رجالة كبار مش عيال بتلعب، قولت إيه يا أستاذ؟
زفر جابر بقوةٍ وهتف بلامبالاةٍ:
اللي تشوفوه، بشوقكم.
تحدث ملاك بلهجةٍ آمرة بعد طريقة الأخر:
طب بما إنه بشوقنا بقى، يبقى مبروك يا جماعة، ربنا يبارك يا بيشوي تستاهل كل خير يا حبيبي.
ابتسم عبدالقادر باستفزازٍ للأخر فيما بارك أيهم لرفيقه الذي سعد بشدة وظهرت الفرحة في عينيهِ بعدما أنهى الفترة التي شعر فيها بالبؤس بعدما كاد والدها يفرض عليه خِطبة لمدة عامين، لكن يبدو أن الطرقات شائت أن تتلاقى بعدما ظنا أن التلاقي مستحيلًا.
أوقف يوسف السيارة أسفل بيتهِ بعدما أوصل مُنذر إلى بيت عائلة عابد ولسوء حظه أن حسن حظهم أن أفراد العائلة كانوا خارج البيت، لكن سيحين موعدهم لا محالة من ذلك، وقد وقف ينتظر زوجته وبجواره وقف أيوب الذي ما إن رآى قمر تنزل برفقة والدتها واقتربت منه حينها هتف بنبرةٍ هادئة:
استغفرك ربي وأتوب إليك.
أقتربت منه تسأله بنبرةٍ جامدة بعدما استمعت له:.
فيه إيه يا شيخ أيوب! أنتَ متجوز ذنب؟ كل ما تشوفني تفضل تستغفر؟ ما تفضها سيرة وخلاص بقى.
ابتسم لها وأقترب منها يهتف بتفسرٍ أمام شقيقها:
لأ مش متجوز ذنب، بس متجوز فتنة كل ما أشوفها خيالي يسرح مني لبعيد، فعلشان كدا بستغفر ربي وبطلب منه يغفرلي إذا كنت ضعيف قدام غواية الفِتنة دي، شوفتي بقى؟
ابتسمت بخجلٍ له فيما مد كفه يمسك كفها وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما أقتربت منه والدتها:.
روحي يلا مع والدتك وأنا هروح مع آيات وهبقى أكلمك كمان شوية، يلا يا قمر.
تركته ورحلت مع والدتها وهي تطالعه بعينيها حتى رحلت تمامًا من المكان وتبعها هو ورحل خلفها ليذهب مع شقيقته وخطيبها في هذه المهمة التي يكرهها لكنه كان مجبورًا عليها، بينما يوسف أخذ زوجته التي نزلت له ترتدي فستانًا باللون الأخضر الزُمردي وحجاب رأسها باللون الأسود لكي يتناسب مع الفصوص السوداء التي زينت الأكمام وقد أصر أن ترافقه لحفلة ذكرى مولد مادلين.
كالعادة أعجبته طلتها لكنه بما أنه قليل الحديث أوضح ذلك بنظراتهِ وإبهامه ثم فتح باب السيارة لكي تجاوره ويشق طريقه إلى هناك حيث مكان الحفل وقد سبقه إلى هناك عُدي برفقة رهف حتى لا تُثار نحوهما الشكوك.
بعد مرور فترة من القيادة أوقف السيارة أمام المكان الفاخر الذي تم تحديده لأجل الحفل الخاص ب مادلين وقد دلفت عهد معه بتوترٍ بالغٍ وشدة أعصابٍ لاحظها هو لكنه حاول بقدر الإمكان أن يكون أمامها طبيعيًا لكي تتصرف بطبيعتها هي الأخرى، وقد أختار طاولة بعيدة الأنظار بعض الشيء يجلس عليها معها وهي تراقب المكان بعينيها.
صدح صوت هاتفه برقم شركة عمله الأساسية فاستأذن منها وتحرك يجاوب على المكالمة وهي وافقت بتلقائيةٍ ووقفت محلها لتأتي إليها شهد التي كانت تراقبها منذ دخولها معه وقد تسنت لها الفرصة حينما وجدتها بمفردها وسألتها بتعالٍ حينما وقفت مقابلةً لها يفصل بينهما الطاولة الزجاجية:
أنتِ بقى عهد؟
رفعت عينيها نحو صاحبة الصوت وقد تعرفت عليها وقالت بسخريةٍ على الفور:
آه، أنتِ بقى شهد؟
ضحكت الأخرى باستعلاءٍ وهي تقول ردًا عليها:
أوه، شكلك مهتمة بقى ومركزة يا عهد.
ابتسمت بثقةٍ وهتفت بنبرةٍ هادئة تحاول بقدر الإمكان أن تكون طبيعية أمامها رغم علمها المسبق بعلاقتها ب يوسف:
الحقيقة إني مش فاضية والله، بس هي بتبقى فلتات كدا بتيجي من الناس توضح إنهم هما اللي مركزين مش إحنا على العموم فرصة سعيدة يا مدام شهد.
تعمدت الإتكاء على أحرف كلماتها لتلفت نظرها حتى اندفعت الأخرى تقول بثباتٍ كأنها تحذرها أو ربما تزيد خوفها:
بصي أنا واجبي أقولك خلي بالك من نفسك، خصوصًا طالما بقيتي مع يوسف هتطيري وتطيري وتطيري من تاني، ومرة واحدة هيرميكي مفاجأة ويرمي اللوم عليكِ، خلي بالك أحسن تقعي يا عهد.
ابتسمت عهد بثباتٍ من جديد وهي ترد عليها بقولها القوي الذي لم يعرف أي اهتزازٍ أو خوفٍ حتى، بل نبع عن ثقةٍ كبري:.
وماله، عادي وقعت كتير بس كل مرة يوسف كان بيلحقني في الوقت المناسب، يعني حتى لو وقعت بسببه هلاقيه برضه بيلحقني من تاني، وهو ما شاء الله عليه سريع أوي حتى جه يلحقني أهو.
أشارت برأسها خلف شهد التي التفتت تطالعه خلفها لتجده تجاوزها وجاور زوجته وهو يقول بأسفٍ بعدما وضع كفه في خصرها بتملكٍ واضحٍ:
معلش الشغل أتصل وكان لازم أرد علشان أعرف أفضالك.
ابتسمت له فيما رحلت شهد من المكان وقبل أن ينطق هو أوقفته عهد وهي تقول بشرٍ بالغٍ:
متقلقش، أنا سدادة، بس ليا طاقة.
ابتسم بمراوغةٍ ثم غمز لها وأقترب يلثم وجنتها كما يفضل هو دومًا فيما تورد وجهها خجلًا حينما تلاقت نظراتها بنظرات فاتن التي ابتسمت لها قبل أن تقترب منها وترحب بها.
في الخارج وقف سامي يتحدث في الهاتف مع ماكسيم والآخر يملي عليه أوامره كما أعتاد ثم أضاف بتكهنٍ كعادته يبلغه بالقنبلة الجديدة الذي كان يستمع إليها الأخر بفتورٍ:
علي العموم علشان أنا بحبك وأنتَ بتسمع كلامي أنا محضرلك مفاجآة حلوة يا سامي وهي إن يوسف لقى أهله اللي خبيتهم أنتَ و عاصم عنه ومش بس كدا، دا كمان لقى أخته وجوزها، مين بقى يا ترى؟ جوزها أيوب ابن عبدالقادر العطار حبيبك ولا أقول عدوك اللدود؟
أراد أن يكون سببًا في نشر الخراب للأسف، وحقًا وحتمًا فتحت أبواب النار في وجه الجميع ليصاحبها الجحيم، فكونوا على استعداد لأن الرحلة لم تبدأ بعد، هي فقط تجهزت للرحيل.