قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السابع

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السابع

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السابع

مقاتلة بكل ضراوةٍ تقف أمام الجميع دون خوفٍ، تتحرك بفعل النزعة القوية التي ورثتها عن أبيها وشقيقها، لطمت وجه الأخرى بصفعتين قويتين نتجتا عن الكره والإشمئزاز من طباع تلك الساقطة التي لم تُراعي ولو لحظاتٍ قليلة مرت بينها وبين يوسف بل أصبحت تنتظر الفرصة على أحر من الجمر المُلتهب لكي تأخذ حقها التي تزعمه هي، لطالما كانت آفة عقلها الكُبرى أن تصبح هي محط أنظار الجميع وتحظى باهتمامهم وخصيصًا من زَهدوا فيها.

وقبل أن ترفع كفيها وتقترب من تلك القوية تضربها لتأخذ بثأرها وصلها صوته يقطع السُبل عليها هادرًا بنبرةٍ قوية وصل صداها للجميع: إيدك يا حلوة! لو فكرتي تمدي إيدك على أختي ولا عينك تترفع فيها أنا هوريكي شغل الجنان بحق، ارجعي يا روح أمك.

لم يتوقع أيًا من الواقفين أن يحضر في هذه اللحظة حتى ذويه، ألم يكن من المفترض أنه في محبسه الآن؟ كيف حضر إلى هنا وكيف وقف بجوار أيوب في هذه اللحظة؟ وحينها وقف سامي بذهولٍ أمامه ليجد أيوب دلف الشقة ثم أغلق الباب وشَمر ساعديه وهو يقول بتهكمٍ: مش تقولوا إننا عندنا ضيوف يا جماعة؟
ابتسم يوسف وهو يقول بنبرةٍ ساخرة ردًا عليه: ومش أي ضيوف، دول ولاد رقاصة.

حينها ابتسم أيوب بزاوية فمه وقد فاض الكيل به لذا حرك رأسه نحو سامي وهو يقول بسخريةٍ اختلطت بنبرةٍ أخرى وارت خلفها التهديد المُبطن: وماله، يلا نلم النقطة.

في الحقيقة خلال اليومين الماضيين لقد تحول هو كُليًا حتى طريقة حديثه تجعل كل من يراه يحسبه شخصًا غير الشخص المعروف، لكنها نفسه البشرية، تتفاعل مع الأحداث حولها، تصدر ردود الأفعال ردًا على الأفعال المصدرة نحوها، يتعامل بما يستحق أن يتعامل به الآخرين، والآن ربما يكون قاتلًا لكنه قاتل بحق، وقد أظلمت نظراته حتى غطى عليها العمى وهو يتحرك صوب سامي الذي أزدرد لُعابه ورفع صوته يوجه سؤاله إلى يوسف الذي حضر أمامه متجاهلًا عن كثبٍ أقتراب أيوب منه: أنتَ خرجت إزاي؟ مين اللي سمح أصلًا إنك تخرج؟

حرك يوسف رأسه نحوه بعدما ألقى الآخر عليه السؤال الذي خرج مُضطربًا ثم هتف بتلك الجملة المعتادة: لما ربنا ياخدك أبقى أسأل أمك.

كاد سامي أن يرد عليه ويرفع صوته ليظهر غضبه لكن أيوب خطفه من تلابيبه وهتف بنبرةٍ جامدة، قوية، صلدة كمن أعتاد أن يُلقي الأوامر دون أن أن تُرد له: اسكت خالص، مسمعش نفسك في المكان، اسمعني أنا بقى، اللي خرجه أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا، شوفت بقى إنك غبي؟ عاوز تلزق التهمة فيه وخلاص؟ بس وماله أنا ميرضنيش إني حد يقصد بابي وأرجعه خايب الرجا، إيه رأيك لو اقتلك أو على الأقل اسيبلك تذكار حلو كدا في وشك؟ وأهو بالمرة تعرف إزاي الموت ماخدنيش؟ جاهز يا، يا أنكل؟

هتف كلمته الأخيرة بميوعةٍ يقصدها عن عمدٍ فيما هتف سامي بقوةٍ برع في رسمها وفي يهتف بشجاعةٍ لم يملكها مت من الأساس: مش هتقدر يا أيوب متنساش إنك قبل كدا كنت تحت أيدي وكنت بتموت قصادي علشان أنا بس أرحمك وأديلك العلاج، جاي تعمل نفسك جامد دلوقتي؟ دا إحنا دافنينه سوا حتى، ولا نسيت؟

ألقى حديثه أمام الجميع وفي هذه اللحظة بدأ كأنه يملك شهادة خبرة في قلب الطاولة وفوقها المكان بأكملهِ رأسًا على عقبٍ، وقد تأججت النيران بداخل قلب أيوب وكاد أن يقتلع روحه من جسده كما لو كان اعصارًا يقتلع الأشجار من جذورها لكن نظرة الجميع له وخاصةً يوسف جعلته يقول بنبرةٍ هادرة بعدما أغمض عينيه: أمشي، صدقني لو عاوز تخرج على رجلك أمشي من هنا بإرادتك، وعلى فكرة! اللي في ابنك دا حق وبيخلص، الله أعلم هيخلص إزاي، مع إني أشك إنك أب أصلًا وبتحس وعندك مشاعر، أمشي...

صرخ بكلمته الأخيرة بنبرةٍ تسببت في ذعر الجميع ودهشتهم فيما حاولت قمر فهم العلاقة بينهما وما الذي يظهر في كل مرّةٍ تجمعهما فيها أرض واحدة، بينما سامي اندفع نحو الباب يقصد الخروج منه حيًا قبل أن تطوله أيادي الشباب لكن شهد رفعت صوتها تهدد قمر بقولها صراحةً: أنا مش هسيبك، وهتشوفي هاخد حقي منك إزاي.

كانت تقف في مواجهة قمر لكن يوسف قطع عليها سبيل النظر لشقيقته وهتف بنبرةٍ جامدة يتولى من خلالها هو مهمة التهديد بالفعل قبل النطق شفهيًا:
فكري كدا تعملي حاجة وأنا ساعتها هحط رقبتك تحت رجلي وأكسرها، ولو فكرتي تعتبي بيتي تاني أنا المرة الجاية هحبسك فيه ولو فيه راجل في عيلتك بحق خليه ييجي يخرجك من هنا، ولآخر مرة هقولك فيها خلي عند اللي خلفك دم وكرامة وأمشي من طريقي.

حسنًا هو أيضًا لم يكن بالشخص اليسير الذي يسكت عند الإهانة لكن كل مرءٍ نقطة يمكنك الضغط عليها عند الوصول لذورة غضبك منه وهذه الملونة تعرف هذه النقطة جيدًا لذا تسلحت بالقوة وأخذت أحد المباديء المعروفة قديمًا إذا لم تستحي فافعل ما شئت لذا ابتسمت ساخرةً وهتفت بنبرةٍ عالية أمام الجميع بقولها:.

وأنا مش عاوزة أمشي في طريقك أصلًا، أنا عاوزاك بس تبطل تعيش الدور اللي أنتَ فيه دا وتنزل راسك شوية وتشوف الحقيقة، أنتَ عارف كويس أوي أنا هنا بتهمك ليه؟ علشان أنتَ بنفسك اللي قولتلي كدا، قولتلي إنك ساعات بتعمل الحاجة من غير ما تحس وبعدها تكتشف إن فيه صوت تاني جواك هو اللي بيحركك، بكدب أنا!..

صرخت بجملتها الأخيرة بعدما قامت برفع الستار عن الحقائق المستورة التي ألجمت الجميع وعلى رأسهم هو ذاك الذي وقف مشدوهًا، بينما هي أضافت من جديد تُتابع ما سبق وتحدثت عنه بقولها:.

قول كدا سيادتك أنا بكدب ولا لأ؟ مش برضه لما دخلت الأحداث وأنتَ صغير كان بسبب إنك ضربت زميلك؟ ولما دخلت المصحة النفسية علشان عقلك ساعتها فوت وبقى خارج سيطرتك يعني مجنون يا يوسف ولما دخلت السجن علشان سرقت دهب العيلة وساعتها اتهجمت عليهم وبجحت فيهم، مش دا كان كلامك؟ ولا أنا بفتري عليك؟

ظلت تصرخ وهي تتحدث أمام الجميع دون أن تراعي وداد لحظة واحدة بالخير بينها وبينه، فيما زاغ بصره يقرأ التعابير المحاوطة له ليرى الشفقة هي ما تصدر عن الجميع وفي هذه اللحظة كادت عهد أن تتحرك لتأخذ صفه في الدفاع عنه لكن يد والدتها منعتها وهي ترمقها بسخطٍ من الإنجراف وراءه، فيما تقدمت غالية تلك المرة وهتفت بنبرةٍ جامدة تحاول من خلالها السيطرة على دموعها حتى لا تضعف أمامه:.

يمكن مش بتفتري عليه بس الحمدلله إنك عملتي كدا قدام الكل، علشان كلنا نعرف إنك قليلة الأصل مشوفتيش رباية، قولتي اللي عندك؟ برة بقى في أيد حماكِ وسيبك من ابني، إلا بقى لو كنتِ عاوزة حاجة تانية ومش قادرة تقوليها بصراحة، روحي اقعدي جنب جوزك أحسنلك الحقي اشبعي منه قبل تبقي لوحدك، وسيبي ابنه في حاله بقى، مش هو مجنون ورد سجون كمان، على قلبي زي العسل، كفاية إنه مش تربيتك دي.

ألقت غالية حديثها ثم أمسكت مرفقها وسحبتها خلفها وعلى حين غُرة فتحت الباب على مصراعيه ثم دفعتها خارجه وخلفها دفعت سامي ثم أغلقت الباب في وجهيهما وحينها ألتفت يوسف لكي يهرب من أمامهم بعدما علا صوت الضجيج في رأسهِ، ذاك الضجيج الذي لم يتوقف بتاتًا بل أخذ يزداد نسبيًا حتى وصل إلى الطور الأخير وحينها أدركت مَي أنها ألقت بابنتها في الهاوية فهتفت بخوفٍ خرج من قلب أمٍ تخشى على ابنتها:.

لو كلامهم دا صح وأنتَ عيشت كل دا وخبيته عليا وعلى بنتي أنا مش مسمحاك وأنسى يا يوسف إنك تطول بنتي، حل مشاكلك دي وأبعدهم عن حياتك بعدها نتكلم.
هذه هي القنبلة الجديدة التي ألقتها هي أمام الجميع وقد طالعها هو بذهولٍ ومعه عهد أيضًا التي طالعت أمها بدهشةٍ فيما أصرت مي على ما تفوهت به قائلةً:.

دا اللي عندي، خلص مشاكلك معاهم الأول بعدها فكر في موضوع جوازك من بنتي، أنا مش بطلعها من نار عيلة أبوها علشان أحطها لناس مبترحمش، ولو مش واخد بالك فهو كان هنا بيطلب منها تسيبك علشان هو متأكد إن اللي بينك وبينهم مش هيخلص، ودا اللي عندي وقولته.

أختارت الوقت الخطأ لكي تتحدث فيه لكن هي تتحرك طبقًا لفطرة أمومتها والغريزة التي تُحتم عليها ذلك وحينها حرك رأسه نحو عهد التي نفت ذلك برأسها وهي تتوسله إلا يستمع لها وفي هذه اللحظة أغمض عينيه وهتف بنبرةٍ خاوية تمنى أن تصبح رأسه مثلها:
حقك يا ست مي عن إذنك.

هتف جملته ورحل من أمام الجميع قبل أن يخرج الاشتباك المنعقد بداخل رأسه أمام الجميع، هرب قبل أن يفلت اللجام منه ثم يركض حصانه بما لم يستطع هو أن يُحجمه ويسيطر عليه، وخلفه تحرك الحشد منهم من ركض ومنهم من تابعه بخوفٍ وأخر من تحركت كانت غالية بعد أن رمقت مي بحزنٍ وكأنها تخبرها عن خُذلانها لها.
أما عهد فقبل أن تأخذ منحنى خطاهم أوقفتها أمها وهي تقول بنبرةٍ جامدة تحذرها من أخذ هذه الخطوة:.

أنا من بدري ساكتة وعمالة أقول معلش، كبري أكيد الواد مش هيخبي ويكدب، لكن توصل لكل دا وهو ساكت، يبقى فيه حاجة غلط، وأنا مش هضحي بيكِ، أنتِ أول واحدة لو حبوا يوجعوه هيفكروا فيكِ، بدليل إنه جالك هنا يطلب منك بكل بجاحة تسيبيه، لسه كل دا مش شايفة؟ هتروحي تاني تجري وراه يا عهد؟ أقعدي وفكري في كلامي، أنا مش هحرمك منه، أنا هخليه يعرف قيمتك.

أرتمت عهد على الأريكة باكيةً بتعبٍ وكأن الضجيج الذي يشتته أصبح بداخلها هي الأخرى حتى جلست حائرةً بمثل هذه الطريقة فيما طالعتها مَي بأسى لكنها تعلم ما يتوجب عليها أن تفعله لأجل حماية ابنتها من هذه المخاطر التي أصبحت تحاوط الجميع بعدما ظنتها آمنة أخيرًا في نهاية المطاف.

نزل يوسف من البيت ركضًا وخلفه سار أيوب يحاول أن يمسكه لكنه التفت بُغتةً ثم دفعه في منكبيه وهتف بنبرةٍ جامدة هدر بها بإنفعالٍ وهو يحذره من الإقتراب أكثر من ذلك:
أيوب! لو مش عاوز تخسرني سيبني دلوقتي، سيبني علشان ميحصلش زي المرة اللي فاتت، أبوس إيدك أنا مش عاوز أخسرك وأفرج الناس علينا، وسع يا أيوب.

تحرك أيوب للخلف خطوتين تقريبًا فيما ركب يوسف سيارته وقادها مُسرعًا خارج الحارة بأكملها فيما وقف أيوب ينظر في أثره بخيبة أملٍ شعر بها تجاه هذا الشاب الذي لم ترأف به الناس، هذا الشاب الذي رأى الكثير والكثير مثله هو الآخر لكنها قدرة البشر تختلف من فردٍ للآخر وقد وصل بجواره عُدي و إسماعيل الذي هتف يبحث عنه بعينيهِ قائلًا:
هو راح فين؟ سيبته يا أيوب؟
التفت له أيوب يطالعه بقلة حيلة هاتفًا بها:.

هعمل إيه يعني؟ قالي لو مش عاوز تخسرني أبعد عني دلوقتي، أظن كدا أحسن علشان المرة اللي فاتت النتيجة مكانتش مرضية خالص، سيبوه لوحده الله يصبره ويقويه.

فهم حينها إسماعيل ما يمر به رفيقه وأنه في هذه اللحظة سيذهب إلى رفيقه لَيل ويخرج طاقته السلبية ويهتدي إلى الطريق الصواب أو ربما الطريق الذي يُريحه مهما كانت درجة الصواب فيه حتى وإن كانت معدومة، أما عُدي فكعادته تولى مهمة الدرع الحامي لهذه العائلة لذا صعد نحو من جديد لكي يكون برفقة عمته التي من المؤكد ستنهار لأجل ابنها...

مرت عدة دقائق خرج خلالها أيوب من البناية وتوجه إلى بيته وهو يعلم أن المواجهة هناك لم تكن يسيرة في وجود والده، يعلم أن الأسئلة ستنهال عليه دون أن يَكُف والده عن ذلك ويعلم أنه لن ينفك عنه الحصار، لذا قصد الطريق إلى البيت آملًا في الفرار من الجميع ويدخل غرفته ينعم بالنوم الذي جفاه وعانده وكأنه أعلن الخصومة معه.

تحرك إسماعيل من البناية هو الآخر وتحرك نحو البناية التي يقطن بها مُنذر وهو يحاول أن يتدخل من جديد في حياته وكأنه في أشد الحاجة إلى رفيقه الصغير، ذلك القلب الذي كان يشابه قلبه في الصِغر ويبدو أنه يشبهه في كبرهِ، وحينها ولج البناية القصيرة وقد سبق واستعلم عن الذهاب إليها من شقيقه الذي أرسل له الموقع الالكتروني وأخبره عن كيفية إيجاد البيت، وحينها صعد حيث الطابق المنشود وطرق الباب عدة مرات لكن الصمت كان هو الجواب له، حينها قرر أن يصبر لعدة دقائق أخرى أمام الشقة لعل رفيقه يعود...

مرت بالتقريب نصف ساعة على جلوس يستند بكلا مرفقيه على درج البيت وحينها ظهر مُنذر وقد ساوره التعجب ما إن أبصر إسماعيل جالسًا بهذه الطريقة وحينها سأله بحيرةٍ:
بتعمل هنا إيه؟ حصل حاجة يا إسماعيل؟ عمي كويس؟
انتبه له إسماعيل ورفع رأسه وهو يقول بنبرةٍ هادئة يطمئنه من خلالها قائلًا:
متقلقش، عمك بخير وكويس، أنا كنت هنا وقولت آجي أتطمن عليك وأشوفك مش منطقي يعني أكون هنا ومشوفكش، قولي صح خلصت مشوارك ولا لسه؟

حرك رأسه موافقًا ثم أشار له لكي يقف وحينها أمتثل إسماعيل لتلك الإشارة ووقف خلفه أثناء وضعه للمفتاح في مجرته الخاصة ثم فتح الباب وولج الإثنان معًا، وقد تعجب إسماعيل من تنظيم الشقة بهذه الدقة وكأن هناك أسرة كاملة ترعى هذا المكان، رائحته المميزة ونظافته المبهرة، شقة من يدخلها لم يتوقع أن ساكنها مجرد شاب أعزب، وقد لاحظ مُنذر تعجبه فسأله بنبرةٍ هادئة:.

مستغرب صح؟ بس أنا عقدة حياتي إني أكون قاعد في مكان مكركب أو مش نضيف، بحس إني مخنوق، غير كدا أنا كنت في حاجة زي المدارس العسكرية طول عمري، فاتعلمت الدقة في كل حاجة، منها تنضيف المكان في وقت قياسي، أدخل أقعد لحد ما أجيب حاجة نشربها.
جلس إسماعيل على المقعد الموضوع بجوار الطاولة المستديرة الموضوع بين الصالتين فيما دلف الآخر نحو الداخل وأتى بالعصير لهما سويًا وحينها بادر إسماعيل بسؤاله قائلًا:.

عملت إيه في مشوارك روحته؟
حرك رأسه موافقًا وهو يوميء له ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما زفر بقوةٍ يتذكر من خلال هذا السؤال أحداث اليوم ومقابلته مع تلك الفتاة غريبة الأطوار التي صادفها في طريقه، مجرد فتاة غريبة مندفعة ومتهورة التقى بها صدفةً لتجعله يتحدث بضيقٍ:.

متفكرنيش بالله عليك، كان مشوار غريب أوي، قابلت هناك دكتورة أغرب وأغرب كمان، قفلتني في أول اليوم وكنت هرجع تاني، بس أخوها لقيته محترم وشخص عاقل وأنا مبحبش الهزار والاستهتار فحسيته راسي وعلشان كدا كملت اليوم وعرفت النظام هناك أخباره إيه وبكرة الصبح هروح برضه، المهم إيه أخبارك أنتَ؟
ابتسم له بمجاملةٍ مبدأية ثم هتف بنبرةٍ هادئة ظهر بها الود أكثر عن السابق حينما هتف:.

تمام برضه، منكرش يعني إني أفضل من الأول تحديدًا في وجود إيهاب وخروجه ليا، بحاول تدريجيًا أهو أتقبل الحياة والناس، بس مش عارف فيه حواجز كتيرة بيني وبينهم يا مُنذر وساعات مش بتقبلهم، بس لسه بحاول أهو ياكش أفلح في الأخر.
ضحك له منذر وبدل ملامحه للخبث حيث أصبح يتحدث معه بأكثر أريحية عن السابق وكأنه لازال على درايةٍ بقلب رفيقه:
هتفلح، مش معاك العروسة؟ يبقى هتفلح.

ضحك إسماعيل رغمًا عنه ثم تحدث بنبرةٍ هادئة:
أهي دي أكتر واحدة أنا بحاول علشانها والله، بحاول أكون شخص حي أكتر من كدا، بس صعب على واحد إنه في يوم وليلة يغير كل حاجة في حياته كدا مرة واحدة وهو متعود على حاجات تانية خالص، عارف الفكرة إن هي واخدة على الدنيا أوي زي طير حُر كدا بقى حافظ كل شبر في المكان، إنما أنا طير عاجز بخاف أطير أتعب.

فهم مُنذر حالته وحديثه وحينها مسح على كتفه وهتف بنبرةٍ هادئة أعربت عن حكمة تفكيره العقلاني:
مش يمكن عجزك دا بسبب إنك مش بتطير أصلًا؟ ساعات الخوف لوحده يقدر يموت الإنسان ويحكم عليه إنه ضعيف، بس لما يبدأ يخرج برة الإطار دا وياخد خطوة يطير بيها برة حدوده ساعتها بيعرف إن هو اللي فرض الموت على نفسه في حين إن الحياة كلها كانت قدامه بس هو اللي أختار الموت بالشكل دا.
في مكانٍ أخر تحديدًا بمنطقة وسط البلد.

عاد جواد برفقة شقيقته إلى البيت وحينها كانت هي تلتزم الصمت حتى لا تغصبه خاصةً مع النظرات التي يحدجها هو بها وما إن جلس على الأريكة ورمى مفاتيحه على سطح الطاولة المقابلة جلست هي بجواره وهي تقول مدافعة عن نفسها:.

بص قبل ما تزعق وتنفعل يا جواد أنا والله هقولك حاجة بسيطة، هو لما دخل أنا أفتكرته إسحاق دا وقولت أكيد جاي يتحجج بعدما ساب أخته ورماها كدا، بعدين كل حاجة بتقول إن الأدوية اللي اتحطت ليها هي السبب إنها توصل لكدا، فأنا بكرهه، أنا لما شوفت الدكتور دا أفتكرته هو والله، بس بعدها أعتذرت بعدين هو قليل الذوق برضه، مش واخد نوبل في الأخلاق الحميدة.

حرك شقيقها رأسه نحوها يطالعها شزرًا ثم هتف بنبرةٍ جامدة يوقفها عن الاسترسال في الحديث:.

أنا مش عاوز منك تبرير، أنا اتحرجت من الموقف كله لأن أكيد محبش الانطباع الأول يتاخد بالشكل دا، بعدين حلو يعني لما أدخل ألاقيه ماسكك كدا؟ أنا كنت هطحنه بس لما لقيتك لبختي في الكلام حاولت أهدا شوية علشان كدا أنا عاوز منك بس شوية عقل مش أكتر، في أي موقف لأن مواقفنا كتيرة ودا واضح، بعدين الراجل ماشي معايا بعرفه على المكان أنتِ كل شوية تنطي وتتكلمي، دا الله يصبره.

سحبت نفسًا عميقًا تحاول تهدئة نفسه من خلاله ثم أضافت بنبرةٍ أضافت عليها الطابع الدبلوماسي بقولها:.

علشان يكون عارف إننا مش ساهلين زي اللي قبله، لو مش واخد بالك عمك ضيع سمعة المكان وبقى زي اللي عليه وصمة عار بتجارته المشبوهة، فأنا بحارب معاك بكل طاقتنا علشان المكان ميتقفلش والاسم إنها مستشفى استثماري، أنا بتوتر لما حاجة تخص المكان دا تحصل علشان بابا فنى عمره كله فيه، وأنتَ فضلت تحارب علشانه، متزعلش مني وبعدين أنا معاك أهو، ثق فيا.

تنهد مُطولًا حينما أجادت هي أن تقنعه بفكرها فيما ضحكت هي ثم تحركت من جواره نحو الداخل وحينها حرك هو رأسه نحو صورة والده المُعلقة في الإطار الخشبي وحينها ابتسم له بحنينٍ ثم شمل صورة أسرته بعينيهِ وقد أشتاق لهم حقًا خاصةً بعدما تأجل موعد حضورهم إلى مصر لحين اشعارٍ أخر لم يعرفه هو.

في حارة العطار...
داخل مقر عمل بيشوي كان أيهم جالسًا بجواره وحينها سأله بنبرةٍ هادئة يحاول التوصل إلى تفكيره:
أنا دلوقتي عاوز أفهم أنتَ بتعمل إيه يا بيشوي؟ بتدخل يوساب ليه بعدين هو مش عيل صغير علشان تحركه، بعدين إيه اللي مخلي جابر يسكت؟ هو حصل حاجة؟
زفر بيشوي بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة وكأن الحيرة تسببت في إثقال الهموم فوق عاتقه:.

فيه إن جابر جاله رسالة تهديد من سامي بيقوله إنه مش ناسي إنه خد على قفاه منه وطلع هو اللي عامل كدا طول الفترة دي، البيه قالي وطلب مني كدا بصريح العبارة إني أقف أنا في الوش، وأنا لو هعمل حاجة هعملها علشان خاطر خطيبتي، إنما هو في داهية، فأنا هقول ل يوساب يتحرك وياخد الخطوة دي بصفة رسمية، أهو يكون فيه مبرر إنه يظهر مع مارينا الفترة الجاية، فهمت؟

أومأ له أيهم موافقًا وسرعان ما تذكر أمر شقيقه المُصاب الذي عاد للمسجد ليلًا بوجهٍ عليه أثر الضربات وكأنه وقع في حربٍ مع بلدٍ كاملة، وحاول أن يجد طرف الخيط في هوية الفاعل الذي يبدو أنه تربص لشقيقه عن عمدٍ حتى ينل منه بهذه الطريقة ليلًا.
في وكالة عبدالقادر.

وقف تَيام في زاويةٍ ما يتابع حركة العُمال متممًا على البضائع المطلوب تحركها ومعه الدفتر الذي يعمل بتسجيل كافة المعاملات التجارية في هذا المكان وبجواره كان يقف مُحي الذي أتى إلى هنا برفقة إسماعيل وظل بجوار شقيقه لم يفارقه حتى فرغ المكان عليهما فطالع مُحي المكان بنظراتٍ مزدرية وهتف بنبرةٍ أعربت عن سخطه:.

يعني أنا راضي ذمة أهلك حد يسيب بيت الحُصري بكل اللي فيه ويفضل هنا في الدوشة دي؟ يابني دا بيتنا دا جنة والناس بتتمنى بس إنها تدخله، وأنتَ مش راضي تيجي ولسه مكمل شغل هنا؟
زفر تَيام بضجرٍ يعبر به عن يأسهِ ثم هتف شارحًا له بثباتٍ عن مقصده وعن موقفه كاملًا:.

مش بالسهل عليا يا مُحي أتقبل التغيير دا في يوم وليلة، أي حاجة لازمها تعود وتقبل، أنا لسه بستوعب اللي حصل في حياتي، بعدين أنا بحب شغلي هنا ومش هسيبه، محدش غيري فاهم الدنيا دي هنا وكل ورقة هنا بحساب، سيبني براحتي وأنا والله هضغط على نفسي وأحاول علشانك.
ابتسم له مُحي ومسح على ظهرهِ فيما ظهر صوت أنثوي من خلفهما يلقي التحية ثم هتفت بنبرةٍ هادئة تستفسر عن مكان تواجد والدها بقولها:.

هو بابا مش هنا يا أستاذ تَيام؟
وصلهما الصوت والتفت الإثنان سويًا للخلف يطالعا صاحبة الصوت التي لم تكن سوى جنة وحينها أضاف تَيام بنبرةٍ هادئة:
لأ والله يا آنسة جنة الحج عبدالقادر كان هنا وخده معاه قالوا راحوا مشوار قريب من هنا، محتاجة حاجة؟

حركت رأسها نفيًا ثم هتفت تستفسر منه عن شخصٍ أخر وللحقيقة ليس لأجل شيءٍ بل لأنه لاحظته صباح اليوم وهو يضع على وجهه الضمادات الطبية وكذلك بدا أثر الشجار عليه فسألته بترددٍ:
طب وهو الأستاذ أيوب كويس؟ أنا شوفته الصبح وباين كان تعبان أتمنى يكون بخير يعني.

أنتبه لها مُحي وحينها وجد نفسه يبتسم ببلاهةٍ حيث وجد فتاة رقيقة بعينيها الخضرواتين يخالط مساحتها بعض الخيوط العسلية الصافية، بشرة بيضاء ووجنتين حمراوتين، فتاة جميلة ترتدي ملابس عادية لم تكن مبالغة فيها، يبدو أنها عادت من الجامعة لتوها، شرد بها وهي تتحدث باقتضاب ثم وجدها تسأل عن زوجة شقيقه آيات وحينها جاوبها تَيام وقبل أن تسأل عن أي فردٍ آخر اندفع هو يسألها بتعجبٍ:.

وهو أنتِ هتسألي عن الكرة الأرضية كلها؟ دا مكان شغل.
ألقى مُحي جملته بنبرةٍ صبغها بالجمود عن قصدٍ لكي تنتبه هي له ثم هتفت بنبرةٍ جامدة هي الأخرى توقفه عند حدوده:
أنتَ مين أصلًا؟ وبتتكلم كدا ليه؟ بتحشر نفسك في الكلام ليه أصلًا؟ مين دا يا أستاذ تَيام؟
هتف تَيام بتوترٍ بسبب طريقة شقيقه في الحديث معها خاصةً أن والدها يحظى بمكانةٍ كُبرى لدى عبدالقادر وأبنائه ويعتبر رفيقه هنا:.

حقك عليا يا آنسة جنة أنا آسف والله دا أخويا الصغير وهو لسه ميعرفش حاجة هنا، جديد وتايه وسطنا، عندي أنا دي هفهمه غلطه وأتمنى متزعليش ووالدك مفيش داعي يعرف.
صاحت هي ببلاهة تستنكر هذه الصفة كون أن الأخر يُعد شقيقًا له لذا أعربت عن هذه الدهشة بقولها:
أخوك! أخوك إزاي يعني؟ هو أنتَ ليك أخوات؟
كاد أن يجاوبها لكن شقيقه قطع عليه السبيل وهو يتحدث بدلًا عنه بنبرةٍ جامدة وهو يندفع في الجواب على سؤالها بقولهِ:.

ياستي أنتِ مالك رغاية ليه؟ هو أنتِ من السجل المدني؟ ما قالك أخويا، هو تَيام صبري الشامي وأنا مُحي نعيم الحُصري يبقى أخويا ولا مش أخويا؟ ردي يا عسل، يبقى اسمه إيه؟
انتبهت له وحينها حركت كفها بجوار رأسها كعلامة تشير بها إلى الجنون وهتفت ساخرةً بنبرةٍ تهكمية عليه:
اسمه إنك مجنون ربنا يشفيك.

هتفت جملتها وتركت المجال لهما سويًا وهي تُتمتم بغضبٍ حانقةً على ذلك المتطفل الوقح بينما هو تابع أثر تحركها بذهولٍ وهو يُرفرف بأهدابهِ وحينها وجد شقيقه يلتفت له يلقنه محاضرة تأديبية بقولهِ:.

مينفعش يا مُحي المفروض إنها بنت وبتسأل عن حاجة مُعينة هنا، بس ميصحش إنك تتدخل في الكلام كدا وبعدين أنتَ مالك أصلًا؟ هي متعودة تيجي هنا تاخد باباها وتمشي علشان هو صاحب الحج، ربنا يستر بقى ومتروحش تقوله، أسكت خالص.
ابتسم مُحي وسأله بنبرةٍ هادئة وكأنه يسترجع رؤية طيفها أمام وجهه من جديد:
أنتَ قولتلي هي اسمها إيه؟

ألقى السؤال بنبرةٍ بدا صاحبها شاردًا وحينها لطم تَيام وجهه من مشاغبة شقيقه الذي يبدو أن البقاء بجواره أصعب مما تخيل، فبالرغم من ثباته وسكونه إلا أن الجزء المراوغ بداخله لم يصمت أو يتوانى ولو لثوانٍ عابرة بل يرى الفرصة المناسبة ثم يعلن عن نفسه أمام الجميع، شقيقان يبدوان متناقضين لكل من يقع بصره عليهما وقد يكون هذا هو سر الإكتمال أن كلاهما يختلف عن الآخر لكن لا شك أن لقاء كليهما للآخر أصبح حياة.

في منطقة نزلة السمان...

هنا حيث الفارس الذي يمتطي خيله الوفي، ذلك الخيل الذي لم يبخل عنه بالمساعدة أو يتوانى لثوانٍ في الانصات له بل الأدهى أنه يشاركه جنونه وعنفوانه، يسير كما الفهد وسط الغابة بسرعةٍ فائقة إذا تعرض لها المرء الغير متمرس يشعر حينها أن عظام جسده أوشكت على الإنفصال عن بعضها، الضجيج برأسه لم يتوقف بل أخذ يزداد والحرب في رأسه لم ترأف به، بل كانت الصورة دامية وكل الأحاديث تتردد في عقله دون هوادة...

صورة سامي وتشفيه به، صورة شهد وهي تعلن خيانتها له أمام الجميع، صورة أمه حينما رأى الانكسار في عينيها، صورة قمر التي ظهر القهر في عينيها جليًا، صورة مي التي أصبح الحق في صفها بسبب خوفها على ابنتها، وأخيرًا صورة عهد التي توسلته بنظراتها أن يبقى هنا ولا يرحل، الجميع وقفوا أمامه بحالٍ كرهه هو وكره لحظة الوقوع في هذا الموقف...

الجميع يلقون الإتهام عليه أو ربما يشفقون على حاله وعلى كلٍ هو يتألم، يبدو كأنه يحمل بداخلهِ بركانًا وكلما حل على أرضٍ يرفضه أهلها خشيةً من البركان الثائر بداخلهِ، رغم أنه فقط يود الإطمئنان وسطهم حتى تحين لحظة الإنفجار يصبح على الأقل مُستأنسًا وسطهم...

ازدادت قوته أكثر ومعه ازدادت قوة الخيل الوفي وهو يسير مُنصاعًا له ولقوتهِ وقد ثار الغُبار من حوافر الخيل مُشكلًا نقعًا ثم أتت كتلة رياح قوية وأصبح من بعدها عَجاجًا، ثم بعدها الحرب القوية التي بداخله أخرجها على الأرض أسفله لتصبح رهجًا وقسطلًا، هذا الفارس الذي خانه الجميع حتى نفسه، لم يخونه ميدان المعركة وخَيلها.
في الغرفة المُجهزة للجلوس على النمط العربي القديم.

جلس إيهاب بها بجوار نَعيم وكلاهما يفرض هيبته وهمينته في المكان، يبدوان كما لو أنهما رجلًا بجوار ابنه وقد جلس أمامهما هذا الرجل الذي ترشح لعضوية مجلس الشعب وحينما لاحظ الجمود باديًا على كليهما هتف بنبرةٍ صبغها بالقوة قائلًا:.

إيه قولك يا حج؟ أنا قولت محدش أجمد من عمهم برضه علشان يخلصلي الطلعة دي، عمدة السمان كلها وأكيد أوامره بتمشي على الكبير قبل الصغير، والناس كلها عارفة إنه خليفتك هنا، وكلمته سيف على الكل.
نظر الإثنان لبعضهما وفي هذه اللحظة تقدم إيهاب للأمام بجسدهِ يهتف ببراعة مقاتل أصبح على درايةٍ بكل خبايا الحرب وقد خرجت نبرته قوية وجامدة بقولهِ:.

مجيتك هنا على راسي من فوق يا عرب، بس أنا عدم المؤاخذة ماليش في الطلعات المشمومة دي، ودي طلعة مشمومة أوي، هتديني كام باكو على عربية زيت ومعاها عربية سكر وكام خدمة لأهل المنطقة واسمك ينور وساعتها كلهم يروحوا ينتخبوك، طب وبعدين؟ ما الزيت هيخلص والسكر هيخلص والفلوس هتروح، والحل بعد كدا؟ الكلام دا يا عمنا أنا سمعته كتير، وأول ما الواحد يقعد على الكرسي مبنشوفش وش أمه تاني، إيه الجديد؟ طب والمدارس اللي العيال بتفطس فيها؟ والنواصي المليانة مخدرات وزفت؟ والبنات اللي بتترمي في الشارع بسبب جوازة مهببة أو شغل شمال؟ مين هيلحق دول؟ لو على السكر والزيت بتاعك والقرشين دول، روح أعمل بيهم خير وأرميهم في أي حتة أولى من مناهدتك معايا هنا.

ابتسم نَعيم بسمة وقورة أعربت عن انفراج شفتيه فيما سأله الآخر بنبرةٍ محتدة وكأنه صاحب الحق هنا في هذه الأرض:
مين جالك قبلي يا إيهاب قول هتاخد كام وأنا عيني ليك، بس اشتريني، بلاش تبدي حد عليا.
في هذه اللحظة التمعت عيناه بنظرة شرٍ وأضاف بنبرةٍ جامدة صلدة لم تعرف الهوادة أو المزاح بقولهِ:.

لا أنتَ ولا غيرك ولا غيركم، كلكم تحت رجلي، بس أنا مبعرفش أشتري حد سبق وباعني، أنا ببيع بالرخيص كمان، كدا كدا البيعة كسبانة، بعدين إيه اللي راميك على عيل شمام بتاع مخدرات سمعته هباب ووجوده غلط وسط الناس وعيالهم؟ أهدا يا عرب وأبلع ريقك، علشان دا آخر قولي وآخر ما عندي، نورت يا عمنا، عارف الطريق؟

كعادته لم يخضع لأي فردٍ مهما كانت سُلطته ونفوذه، صاحب المباديء الغالية يرفض أن يتنازل عما يُريد، وهو الآن بصدد الثأر لنفسه وأخذ حقه من هذا الرجل الذي تلاعب باسمه لكسب عواطف الآخرين مستغلًا الموقف الذي أصابه، وقد أدرك الآخر أن سُبل إيهاب أصبحت معدومة ومُغلقة لذا تحرك من المكان راحلًا بما تبقى من كرامته وقد هتف نَعيم بعد اختفاء أثر الأخر بثباتٍ:.

أنا سكت أهو علشان عارف إنك على حق، بس كبر منه خالص وسيبك منه ومن دوشته دي ناس مش بييجي منها غير الصداع والقلق، يموتوا في النكش، طول ما الإنسان راسي وهادي في حاله والناس بتحبه وتشكر فيه دماغهم بتاكلهم، يا يخلوا الناس تكرهه، يا يفضل في طوعهم، إنما اللي هنا كلهم تربية خيول أصيلة، متبقلوش الذل ولا تقبلوا أنكم تكونوا تابع لحد يحركم زي ماهو عاوز، أنتوا هنا أسياد المعركة والميدان كمان.

ابتسم إيهاب لمُعلمه بامتنانٍ كونه لازال صاحب الأثر الكبير في حياتهم وفي هذه اللحظة دلفت سمارة وهي تقول باشفاقٍ على الآخر كونه لازال يقطع المسافة روحةً وجيئة بأنفاسٍ متقطعة:
يا أخويا ما حد فيكم ييجي يشوف الجدع اللي هيموت نفسه برة دا، عمال يروح وييجي قرب يقطع النفس و ليل يا حبة عيني مش عاوز يزعله، ماشي معاه وهو ساكت، قوم يا سي إيهاب شوفه كدا هو بيسمع كلامك.

زفر إيهاب بقوةٍ وأسند كلا كفيه على المقعد يدعم ثُقل جسده وهو يتحرك فيما جلست هي مقابل جلوس نَعيم وهتفت بنبرةٍ مشفقة على الآخر:
وأخرتها يا حج؟ يا حبة عيني الراجل وشه دبل وعمال يجيب دم، وهو ولا هو هنا، آخرتها إيه يعني؟ الدنيا هتفضل تيجي عليه كدا؟ طب يروح فين تاني؟
أغمض عينيه بأسى وهو يقول بنبرةٍ أثقلتها الهموم:.

أهو دا من يومه عيل ابن عز، أتولد في بوقه معلقة دهب، مش سهل عليه إنه يشوف كل دا، خلوه ربنا يعينه على اللي جواه علشان لو حد فكر يقرب منه هيفرقع ويكون حقه، ربنا يعين إيهاب ويقدر عليه ويحاول معاه.
في الخارج...
عاد يوسف بالخيل بعد إنتهاء الجولة وقبل أن يُكررها من جديد وقف أمامه إيهاب بالمرصاد ومنعه عن هذا الفعل ليرفع يوسف صوته قائلًا في تعبير عن غضبهِ:.

سيبني يا إيهاب أنا النار قايدة جوايا، خليني أخرج اللي جوايا شوية يا أخي، أنا تعبت.
أمسكه إيهاب من كتفيه وهتف يشدد من أزره بقوله:
عارف إنك تعبت وعارف إنك فاض بيك، بس مفيش راجل بيقعد يعيط على جنب يا يوسف الراجل مهما الدنيا شدت عليه بيقوم من تاني في وش الدنيا كلها أجمد من الأول، بص وشك كله دم إزاي وبص لنفسك، وأخرتها إيه؟ هتفرحهم فيك؟ عاوزهم يشمتوا فيك لما تموت نفسك؟

أغمض يوسف عينيه وهتف بنبرةٍ هادرة لا يعلم المستمع إن كان صاحبها يعارض البكاء أو كان مقهورًا:
وهما باللي بيعملوه فيا دا مش بيموتوني؟ مستكترين عليا الحياة والنفس اللي بتنفسه؟ أروح فين تاني يا إيهاب؟ أنا بقيت قاتل ومجنون وعيل صايع ملهوش أهل أترمى في الأحداث؟ أنا مش كل دول، أنا واحد نضيف وأنضف منهم كلهم.
استمع له إيهاب ومسح على ذراعيهِ ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول بها أن يُطمئنه:.

علشان هما عالم زبالة، الزبالة بتفتكر الناس كلها زبالة زيها، الحرامي والبجح فاكر الناس كلها حرامية زيهم، والندل اللي بيستغل الناس فاكر الناس كلها مُستغلة زيه، واللي سبق وخد حاجة غيره هيفتكر إن أي رزق ييجي لغيره جاي من السرقة زيه، هما عاوزين يثبتوا عليك التُهمة وأنتَ مش كدا، فبدل ما تسلم دماغك ليهم ولعمايلهم أقف تاني على رجلك وأتلحلح وأرجع أنفخ أبوهم كلهم، اسمع مني ودوس عليهم.

حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة فيما ظل إيهاب بجوارهِ بينما يوسف خارت قواه وأرتمى على الحجر الجيري الموجود بالأرض، وشعر بالأرتجاف في جميع أنحاء جسده، وللأسف لازال حديث مي يتكرر في سمعهِ وكأن هذه النقطة التي تشبث بها عقله ليثبت له أن ذاكرته لازالت تعمل بنفس كفاءتها ولا تنس ما حدث.

في مقر كلية العلوم...
الليل قد أسدل ستائره ومعه أنتهت المحاضرة العملية في هذه الجامعة الخاصة ب مارينا التي تحركت مع زميلاتها بالعمل نحو الخارج وما إن خرجت من الرواق وجدته في وجهها من حيث لا تحتسب، حينها نظرت له بتعجبٍ فوجدته يهتف بنبرةٍ هادئة:
عاوزك لو سمحتي وعلى فكرة أنا معرف بيشوي.

رفعت أحد حاجبيها تستنكر حديثه فيما رحلت الفتيات عند ملاحظتهن لوقوفه أمامها وقد تنفس هو بحريةٍ بعد رحيلهن ثم هتف بنبرةٍ هادئة لازال يصبغها بالدبلوماسية:
تعالي يا مارينا نتكلم شوية مع بعض لو سمحتي.
أومأت له موافقةً وسارت أمامه وهو خلفها حيث كافيتريا الجامعة وحينها أشار لها حتى تجلس وما إن جلست هي جلس مقابلًا لها على المقعد وهتف بنبرةٍ هادئة:.

طبعًا أنتِ شكلك جعانة هطلب سندوتشات لينا سوا علشان أنا برضه جعان وعاوز أكلمك في موضوع مهم، بصي يا مارينا أنا دلوقتي هكلمك بصفة شخصية، أنا دلوقتي عاوز يكون فيه علاقة رسمية بيننا، عاوز يكون بينا علاقة رسمية بشكل تاني، بس قبل ما أروح أكلم والدك أنا عاوز أكلمك أنتِ، موافقة عليا؟ ولا لسه هتتعاملي معايا باستغراب؟

ذُهلت هي من حديثه ومن طريقته ومن صراحته التي تعهدها منه لمرتها الأولى فيما أضاف هو من جديد يكمل حديثه بنبرةٍ أكثر لينًا عن سابقتها:
أنا علطول بحس إنك أكتر من شخص بيتعامل معايا، ساعات بحس إنك قبلاني وساعات بحس إنك مش طيقاني، أنا محتار معاكِ وكل مرة آجي آخد خطوة ليكِ بلاقي منك الصد والرفض، بس دلوقتي لازم أقف على أرض صلبة، فدلوقتي أنا بسألك أهو موافقة؟ ولا هنفضل نلعب قط وفار كتير ورا بعض؟

سحبت نفسًا عميقًا تحاول من خلاله ترتيب الحديث قبل أن يخرج من بين شفتيها ثم أضافت ردًا عليه:
طب بما إنك جازفت وبتسأل، أنا اللي يهمني إن الشخص اللي هرتبط بيه يكون قابلني بعيوبي ومميزاتي، يكون قابل كل حاجة فيا، وبرضه أكون أنا وبس اللي في حياته مش حد تاني معايا، بعدين مش المفروض إنك هتخطب دكتورة ماهيتاب زميلتك، ولا دي اشاعات بتروجها الدكتورة؟

ألقت حديثها بتهكمٍ وهي تَمُط في كلماتها مما جعله يضيق جفونه لوهلةٍ مستكشفًا سبب معاملتها الغريبة له وما إن فهم ذلك استعاد ثباته ووقاره وهو يرد مدافعًا عن نفسه بمرافعةٍ قوية:.

طب كدا أنا فهمت، لأ يا مارينا أنا مفيش أي حاجة بيني وبينها، أنا يدوبك زميل ليها جمع بيننا الشغل والسكاشن للطلبة مش أكتر، إنما لو أنا عاوز لحياتي شريكة تكمل معايا، فأنا بصراحة عاوزك أنتِ، موافقة بقى أروح أكلم والدك وأتقدم رسمي ليكِ؟
كادت أن تبتسم أمامه حينما دافع عن نفسه وأنقذها من أفكارها وقد قرأ هو اللين على صفحات وجهها وحينها ابتسم هو الآخر وسألها بنبرةٍ أكثر عُمقًا:.

طب الأهم أنتِ عاوزة إيه مني؟ علشان لما أروح أقعد مع عم جابر أقدر أتكلم بقلب جامد وثقة، دا اللي يهمني منك.
سحبت مارينا نفسًا عميقًا وهتفت بنبرةٍ هادئة خالطها الألم وهي تخرج ما في جبعتها:.

طب بما إنك هنا بتسأل بجد أنا عاوزة أقولك إني طول عمري بخاف من الجواز بسبب علاقة بابا وماما، ماما ست أضطرت تتحمل طبع بابا الصعب وتحكماته وطريقته، وطبعًا بما إن مفيش طلاق عندنا وفيه إنفصال بس، هي أكيد مكانتش هتقدر تنفصل بينا لأنه مستحيل يسيبنا، دا أنا بخاف منه، أنا مش عاوزة ييجي يوم أضطر فيه أكمل علشان بيتي ميتخربش وعلشان عيالي، أنا عاوزة أكون متطمنة، حد ميسيبنيش لدماغي، أنا بسبب بابا أنا و مهرائيل بنخاف زيادة وبسببه علاقتنا كأب وبناته مكانتش أحسن حاجة، فأنا هعتبر نفسي بقبل أب تاني ليا، يا رب تكون فهمتني.

تلاشت بسمته وطالعها بنظرة أخرى مختلفة وكأنه يراها لمرتها الأولى وفي هذه اللحظة حضر العامل بالمكان فتنهدت مارينا وهربت بعينيها منه تخفي بكائها عنه بينما هو ابتسم وهتف بنبرةٍ هادئة استعادت وقارها وهو يُدلي بطلبه للعامل:
اتنين شاورما وعصير مانجا لو سمحت.
حركت رأسها نحوه من جديد بينما هو أنتظر تحرك العامل ثم مال عليها برأسه يهتف بنبرةٍ خافتة صبغها بالمرح:.

أصل أنا عارف إنك بتحبي الشاورما وعصير المانجا، بركز علشان فرحة البدايات، إلا قوليلي نخليها فرحة البدايات؟ ولا ندخل في قسوة النهايات علطول؟
ضحكت مارينا ووضعت كفها على فمها حتى تخفي صوت الضحكة العالية بينما هو تابعها بعينيهِ مبتسمًا ولازال هائمًا هنا في ملامحها الرقيقة طامعًا في أكثر من ذلك معها وآملًا في حياة هادئة أيضًا معها وهي فقط.

مرت عدة ساعات قليلة استيقظ على أثرها أيوب من نومهِ ونزل من غرفته بملابسه البيتية الرياضية وقد وصل إلى الطابق الأرضي ليجد والده يترأس الطاولة الصغيرة وحوله ألتفت العائلة وما إن ظهر طيفه ركض إياد إليه وهو يُنادي عليه فحمله أيوب وهو يبتسم له ثم لثم وجنته وحينها هتف إياد بسخريةٍ وهو يشير إلى وجه عمه المُصاب:
إيه دا يا أيوب؟ لما أنتَ تيجي البيت كدا، أنا آجي عامل إزاي؟ سارقين أعضائي؟

تلاشت بسمة أيوب فيما صدح صوت الضحكات من خلفهما سخريةً عليه وقد رفعه أيوب يضعه على كتفه كما يفعل دومًا وذهب إلى والده يجلس بمحاذاتهِ وحينها رمقه عبدالقادر بطرف عينه ثم هتف بنبرةٍ جامدة خاوية:
والبيه بقى ناوي يقولي حصل إيه؟ ولا أحط لساني في بوقي وأكتم؟ ها يا أيوب مين عمل فيك كدا؟ و يوسف خرج إزاي؟ وكنت فين سيادتك إمبارح؟
سحب أيوب نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول بها نقل الهدوء لوالده المنفعل:.

يا بابا هو أنا هكدب يعني عليك؟ والله العظيم ما أعرف مين عمل فيا كدا، أنا روحت القسم وخدت أكل معايا ل يوسف ولكل القسم، وهناك قعدت معاه شوية ولما الظابط وصل أنا خرجت من القسم، وأنا خارج لقيت عربية في نص الطريق وعربية ورايا قطعت عليا، نزلت أشوف الحوار أصله إيه لقيت حد جه ونزل ضرب فيا وأنا مش هدي خوانة، بعدين لو على يوسف فهو خرج بسبب واحد صاحبه.
سأله أيهم بتعجبٍ عن مقصده:.

يعني إيه؟ هما مش قالوا إن غالب صاحبه دا قال إنه كان هناك فعلًا؟ وعلشان كدا خد أربع أيام؟ خرج منها ازاي؟
أنتبه الجميع ل أيوب الذي بدأ حديثه مفسرًا بقولهِ:.

ماهو يوسف لما مشي من هناك راح كافيه واحد صاحبه تاني شرب هناك قهوة وسيجارة لما حس إنه مش هيقدر يسوق، وعلشان كدا لما هو قالي روحت أشوف الكاميرات هناك وخدت معايا چورچ وهو كلم لينا وكيل نيابة دفعته وهو خلص الحوار، بص هو أنا مفهتمش أوي الموضوع، بس اللي فهمته إن الوقت اللي ظهر نادر بيترمي فيه على الأرض، يوسف ساعتها كان في الكافيه دا، يعني مفيش حاجة تخليه مشتبه فيه، خلصوا الموضوع مع بعض و يوسف خرج علشان الدليل حضر، صحيح أنا دوخت لحد ما وكيل النيابة أقتنع بس الحمدلله عدت.

تعجب الجميع من الحديث لكن آيات سألته بحيرةٍ:
طب وأنتَ ليه تروح تتعب نفسك كدا؟ ما كنت أستنيت بدل ما الموقف كان اتأزم عليه وعليك يا حبيبي، بس طالما نيتك خير خلاص والحمدلله ربنا كرمك وييسرلك الحال.
انتبه لشقيقته وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:.

ماهو علشان اللي في وشي دا يوسف شاف أخوه جوة القسم، بالعربي كدا أتعلم علينا في ليلة واحدة، فبصراحة خوفت ليلة كمان جوة يحصله حاجة، بصراحة حسيت إنه مسئول مني وأنا مش طبعي أدي ضهري لحد أتعشم فيا خير يا آيات.

حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ وسرعان ما تذكرت حديث زوجها حينما أخبرها كيف تبدل حاله بسبب حديث شقيقها وكيف تقبل الأمر بسرعةٍ كبرى عن طريق الحكمة التي أقنعه بها الآخر، بينما أيوب شرد في لقائه مع سامي في نهار اليوم وكيف كانت هذه المقابلة مُجهدة لأعصابهِ وكيف كانت نظرات زوجته حائرة وهي تحاول فهم العلاقة بينهما لكنه حقًا لاذ بالفرار من أمام الجميع، وللأسف لازالت رأسه تؤلمه بسبب الصداع النصفي الذي تسرب إلى منطقة الجبين ثم العينين...

كانت قمر تتجول في الشقة ذهابًا وإيابًا.
لازال القلق يفتك بها بسبب الخوف على شقيقها وبسبب ذهابه من البيت بهذه الطريقة وقد تخطى الوقت منتصف الليل ولازال بعيدًا عن الجميع، حاولت إقناع أمها أن تذهب إلى مَي تقنعها لأجل شقيقتها لكنها رفضت بشدة، ومنذ ذلك الحين وهي تجلس بلوعةٍ تأكلها، وقد انتبهت اليوم للمقابلة الثانية التي جمعت زوجها بزوج عمتها وكيف بدا الحديث مُبهمًا لم تلتقط هي منه أي شيءٍ...

في نفس التوقيت كانت غالية تجلس على فراشهِ تنتظر عودته بفارغ صبرها لكي تأخذه بين ذراعيها وتعتذر له عما فعل العالم به، وقد أتت قمر بقربها ووضعت رأسها على صدرها وهي تقول بنبرةٍ أقرب للبكاء:
ماما هما ليه بيكرهونا كدا؟ ليه مش عاوزين يسيبوه في حاله؟ أنا تعبت ل يوسف، تعبت من كل حاجة بتحصله، تفتكري طنط أم عهد ممكن تخليها تسيبه؟

أغمضت غالية عينيها ثم مسحت على كتف ابنتها وهي تُطمئنها بينما الأخرى ظلت تقاوم بضراوةٍ قوة النوم حتى سقطت بداخلهِ بين ذراعي أمها وكذلك غالية التي رغمًا عنها وعن أنف رأسها نامت من كثرة التعب بعد هجر النوم لها لمدة يومين في غياب حبيب عينيها...

مرت ساعتان تبعهما عودة يوسف إلى الشقة بخطواتٍ هادئة وقد بحث عن أمه وشقيقته بعينيه لكنه لم يجد أيًا منهما فتوجه إلى غرفته وحينها وجد الاثنتين على فراشهِ فزفر مُطولًا بتعبٍ ثم أقترب يمسح على وجنة قمر ثم لثم جبين أمه وهو يحاول التحكم في عبراتهِ ثم تحرك بخطواتٍ هادئة يبدأ في التحرك لما انتوى فعله.
في الأعلى بشقة عهد.

كانت في غرفتها تجلس بها باكيةً بسبب فعل والدتها التي دلفت غرفتها تمر عليها وتستطلع أحوالها وقد تيقنت من ظنونها وهي ترى عينيها المتورمتين فهتفت بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:.

أنا كنت عارفة إنك هتعملي كدا في نفسك، بس ليه يا عهد؟ يا بنتي أنا مش وحشة بس حقي كأم أخاف عليكم، على يدك حصل فينا إيه من عيلة أبوكِ بعد موته، رمونا وجابوا سيرتنا وبسببهم بقى كل واحد ييجي يرمي كلمة وفاكرنا ناس مشبوهة، ويدوبك عيلة أبوكِ ناس على قد حالهم، ما بالك بعيلة زي دي جاحدين ومعاهم فلوس؟ أنا خايفة يدوسوكي معاهم، أنا ماليش غيرك أنتِ.

كادت أن تبكي وهي تتحدث فيما هتفت عهد بنبرةٍ باكية هي الأخرى تتولى مهمة المرافعة لأجله:.

يا ماما هو مش عاوز غير إن حد يسنده، أنا بحبه يا ماما، بحب يوسف أوي وبحس إنه مكان بابا، من غير ما يكون فيه أي حاجة بيننا وقف في صفي ودافع عني، ولحقني من سعد ومن عمامي، ولحق شقة بابا ودفع دم قلبه كل دا من باب الشهامة، عمل كتير علشاني وأنا مش طبعي أخلي حد ليه جميلة عندي، بس صدقيني مينفعش أتخلى عنه، أنا مش طبعي قلة الأصل، علشان خاطري بلاش تقسي عليه مع الدنيا، كفاية هما عليه يا ماما، يوسف من غيري زعلان وخايف، وأنا قبله كنت زعلانة وخايفة، علشان خاطري يا ماما.

طالعتها مي بقلة حيلة ونزلت دموعها لأجل بكاء ابنتها التي بكت من جديد فلم يكن أمام الأخرى سوى أن تحتضنها وهي تمسح على خصلاتها المتحررة، بينما عهد تمسكت بها وهي تفكر في موقفه ومشاعره وفي التصدع الذي أصاب روحه اليوم، فمن المؤكد أنه يحتاج للترميم من جديد.

وبعد مرور ساعتين أخريتين نامت مي بجوار عهد فيما ظلت الأخرى مستيقظة حيث أن عقلها لازال مشغولًا به وبعودته التي تأخرت كثيرًا، وحينها تحركت من الغرفة نحو الشرفة الخارجية لتجد مكان السيارة لازال فارغًا وقد صعدت فوق السطح تنتظره لحين عودته حتى تخبره بما حدث، صعدت في هواء ديسمبر الذي أخذت برودته تزداد ليلًا وقد وصلت إلى السطح ملتحفة بالوشاح الصوفي الخاص بها وحينها اشتمت رائحته فوق السطح وكأنه تركها لها قبل أن يرحل...

عقدت مابين حاجبيها وهي تفكر كيف أصبحت رائحته تملأ السطح بهذه الطريقة وكيف أصبح هذا الدفتر هنا وهذه الورقة أيضًا، وكيف كتب على اللوح إذا لم يكن هُنا؟ حينها ساورتها الشكوك وسارة قشعريرة في جسدها جعلتها تخشى ماهي مُقدمة عليه، لكنها أخذت القرار أخيرًا وأقتربت بخطوات ميتة خرجت منها الروح تمسك الورقة التي التقطتها عيناها حينما علقها على اللوح الخشبي وقد هوى فؤادها أرضًا مع كل خطوة تخطوها نحو اللوح ولم تعلم كيف طاوعها كفها وهي تلتقط الورقة التي خط بها بيده رسالة وداع غريبة كتبها بطاقةٍ شبه نافذة وأعصاب تالفة وقد نزل الدمع يرافق القراءة ما إن تأكدت أنها منه هو لتفعل عيناها الشيئين بنفس اللحظة وكأنهما لا يتعارضا سويًا:.

أنا آسف لو الوادع بايخ بالطريقة دي.

وآسف إني مجرد حمل تقيل أترمى عليكِ، بس دلوقتي أنا تقيل حتى على نفسي والله، جايز تفتكريني بهرب بس أنا طاقتي خلصت ووجودي هنا أكبر كارثة ممكن تحصل، لو مش عاوزة تخسريني اتأكدي إن الحل في إني مبقاش موجود هنا، آسف إني بزود عليكِ الزعل، بس، بس أنا مقدرتش أطلب منهم الرحمة، إذا كانت دماغي مرحمتنيش، ومفيش غيرك رحمة من ربنا ليا وأكيد مش غاوي أخسرك يا عهد بس لحد إمتى والله العظيم معرفش...

نزلت عبراتها وتوقفت عن قراءة الخطاب لكن أخر ما أضافه هو جعلها ترجع للقراءة من جديد بأملٍ طفق يظهر ضوءه بداخلها حينما وقع بصرها على هذه الجزئية كاتبًا:
لم تكوني أنتِ الغريبة فأنا أنتِ وأنتِ أنا...
فإن وجدتكِ وجدتني، وإن فقدتك فقدتني.
أنتِ كُلي وأنا كلك، وأنتِ أجمل مابي أنا.

ازداد الدمع تدفقًا وقد شعرت أنه أصبح مثل السراب ينسلت من بين أناملها وهي التي كانت تنتظره حتى تخبره أن والدتها لن تقف عائقًا بينهما لكن يبدو أنه سئم الإنتظار حتى كاد أن يسئم نفسه هو الآخر وحينما رفعت رأسها لكي تلتقط أنفاسها وجدته كتب لها على اللوح الخشبي أسفل الورقة عبارة الشاعر عبدالرحمن الأبنودي مُشيرًا إلى ما حدث لها بسببه:
وأنتِ عِينيكي أسمَرّوا مِن شيل الحَنين،
ولأنهُم مِتكَحّلين بشيء حَزين.

ضمت الورقة بين ذراعيها وكأنها تضمه هو في رحيله حينما تركها بهذه الطريقة وقد ازداد البكاء وكأن الفؤاد يخبرها من الداخل قائلًا يُرثي حاله ببيتٍ حزين: ألا ليتَ بذنب الحُب ما بُليْتَ.
فلقد حسبتكَ لي جناحين لكنكَ تركت طيركَ وذَهبتَ،
لا يعلم أيًا منا صاحب الذنب. لكن ما نعلمه أنا وأنتَ
أن من أصطفيناه لفؤدانا بيتًا رحل وترك الحزن لنا
وكأنه أرادها عمدًا...

في موقف الحافلات وقف يوسف شارد الذهن يمسك هاتفه الذي استقرت صورة عينيها في ظهرهِ وقد ظل على وضع الجلوس بنفس الشرود وهو يطالع عينيها بظهر هاتفه كونه لم يودعها وجهًا لوجهٍ وقد تيقن أن الحل الوحيد يكمن في ابتعاده عن الجميع حتى ذويه، وقد خرج من شروده على صوت سائق الحافلة وهو يقول بنبرةٍ عالية:
يلا يا باشمهندس، هنتحرك أهو.

أنتبه له يوسف ورفع رأسه عن الهاتف يشمل المكان بعينيهِ سريعًا ثم أغلق هاتفه تمامًا وتحرك صوب الحافلة يجلس بجوار السائق حيث المكان الأكثر أريحية له وقد وضع الهاتف نصب عينيه لتكون عينيها على لقاءٍ بعينيهِ وقد زفر بقوةٍ وأغمض جفونه وحينما بدأت الحافلة تشق طريقها للخروج من المحافظة ظل يردد الإعتذار بداخله آملًا في إسكات رأسه التي أنجرف هو وراء ضجيجها ليستقر به الوضع بداخل هذه الحافلة التي تخرج من محافظة القاهرة إلى محافظة أسوان وللأسف هو وحده الذي يعلم أين يتجه وقد ترك البقية خلفه حائرين خائبين الأمل في التوصل إليه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة