رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة واثنان وعشرون
إمرأة أنا.
أعلن عليها قلبك الحرب،
ناوشها بسلاح الضد، أرغمها عن تقبل البُعد
إمرأة كرهت قربك مرة، وتمنت وصالك آلاف المرات.
إمرأة جعلتها تخاف، والخوف فيك كان أمانًا
اليوم أخبرك أنك يوم أعلنت عليَّ الحرب، أسقطت فيها الراء وأعلنت أنا بعنفواني عليك الحُب.
الحفل لازال مستمرًا، الخيول ترقص، الجميع يتكاتفون بوقارٍ، الشباب بجوار بعضهم يستقبلون المباركات والتهنئات والتوديعات وكل منهم في قلبه ما يحمله، من وسطهم كان إيهاب يقف ويراقب، يراقب الصغير الذي ثابت خطواته، صغيره رغم أنه أمسى? رجلًا يافعًا، سيظل في عينيه صغيره الأول، سبب بقاءه في تلك الحياة، النصف الآخر منه، راقب حركاته، بسمته، عينيه وهما تتجولان نحو معشوقته فيطيل النظر فيها، راقبه وتنهد يراقب نجمة شاردة، بعيدة، حيث أسطورته أن دهب أمه تراقبه وحين تسعد تظهر في شكل نجمة كبيرة ساطعة بالسماء الظلماء.
وجد نجمة تسطع بشكلٍ واضح، مبهر، والطفل بداخله يصدق، لذا ابتسم وأخرج هاتفه يلتقط صورة لتلك النجمة، ثم ابتسم وهمس بينه وبين نفسه.
يا رب أكون قد الأمانة، وصيتك في قلبي.
وحين تحدث شعر بكفٍ ناعمة تحاوط كتفه، التفت برأسه ليجدها هي، الجميع مشغولون بأحوالهم، وهي أتته كأنه حالها، رأت النقاء في عينيه، السعادة وإن لم تكن بالغة ويُحجمها بوقارٍ، ابتسمت له وقالت بحنوٍ:
ألف مبروك لأخوك، عينك مرتاحين دلوقتي صح؟ حفظاهم مبيرتاحوش غير وهو مبسوط ومرتاح، حتى لو أنتَ في النعيم.
لازال مبتسمًا، قليل الكلام كما هو ويبدو أنه لن يتغير، لمح ابنته فوق ذراع إسماعيل فابتسم وعاد لها ينصت حين قالت:
تعرف؟ أنا الست الوحيدة اللي لو جوزها قالها بحبك زي ما بحب أخويا عمري ما هزعل، علشان عارفة أنتَ بتحبه قد إيه، كان نفسي أتحب زيه كدا.
طاف بعينيه في وجهها، لمح الحزن المنطوق بعينيها، يبدو أنه أهملها حتى زادت المسافات بينهما، انشغل في الانتقام والثأر فتاه عن دربها، ثم انشغل في الزفاف وفرحة شقيقه فغادر محطتها، تركها وحدها وهي لم تطلب قربه، لكن اليوم لعلها تتيقن من بعض المشاعر التي تحتاجها منه، وهو لم يبخل.
عقد حاجبيه ورسم بسمة صافيه يسألها: هو الحب إيه يا سمارة بالنسبة ليكِ.؟
سأل وانتظر وببسمة شجن حزينة ظهرت بعينيها جاوبت: الحب دا معرفتوش غير معاك، الحب هو أنتَ.
زادت بسمته اتساعًا بينما يشير بين قلبيهما يُعدل الجواب بهدوء ولازال يبتسم: الحب معناه أمان، راحة، غربة لو اللي بتحبه مش جنبك، ولو الحب دا معناه إني رافض أي حاجة تكون برة وجودك فيها، أو أي حاجة تخصك قبل ما تخصني، أو حتى الحب هو إني مهما تُهت وغيبت لازم أرجعلك، يبقى أنا بحبك.
منذ زمنٍ لم ينطقها، لم يُصرح، ينسى أن المرأة تستسلم بأذنها، تناءى عنها حينما قتل، ابتعد عن مدارها وعكف نفسه عن كوكبها، يرى نفسه حانثًا بالوعدِ، آثمًا، اقترف الذنب وقتل رغم أنه وعدها ألا يفعلها، خشى أن يتعرى جُرمه في عينيها، فتبغض، وتكره، وتبعد ثم ترحل، خشى الفراق منها، ففارق الطريق هو، حتى في الليل اختلفت عاداته، فبدلًا من تطويقها بذراعيه فارضًا حمايته، كان يوليها ظهره ويتهرب منها.
ابتسمت له ورغمًا عن حيرة قلبها، وعن أنف كبريائها هتفت بضياعٍ، وتشتت، كأنها تخبره أنها في غيابه رحلت عنها الشمس وأضحت غاربة:
أنتَ وحشتني أوي يا إيهاب.
ووازى النبرة بكاءٌ، بكاء لا تعلم سببه جعله يستشعر ما هو أكبر من جُرمه، لذا خطفها في عناقه يُهديء نوبتها، ضمها مُقرًا بذنبٍ أكبر من القتل، هو رجل لا يضع العواطف نصب عينيه، يُنحيها ويبدلها بالعملية المُفرطة، لذا لم يهتم بالعواطف إلا حين يتعرض لمداهمةٍ كهذه من عينيها، ضم وجنتها وجذب عينيها نحو عينيه ينطق باعتذارٍ:
حقك عليا، كنت خايف أأذيكِ، مش بخاطري وأنتِ عارفة.
تلاقت الأعين، تواصلت المُقل، دارت الأحاديث بصمتٍ، ووضعت رأسها فوق كتفه، تقتبس أمانًا افتقدته في غيابه عنها، تقتبس نظرة عينٍ منه تُطمئن خلجاتها المُبعثرة، حتى لو أمسى قاتلًا، هاربًا من العدالة، لن يقبل الظلم في حُبها هي.
بدأت الليلة تنتهج نهج الدرامية، حيث عبرات الوداع، كلٌ منهم يستعد للرحيل، قمر تعانق أختها بشيءٍ من قوةٍ واهية، والأخرى تتمرد على البكاء قدر المستطاع؛ لكنها تفشل بالأخير، أتى يوسف يضم شقيقته وقال بحنوٍ:
خليها متنكديش عليها في ليلة مفترجة زي دي، هرموناتك دي جوزك أولى بيها اسمعي مني أنا.
كتمت ضحكتها بكتفه وذهبت حيث مقر أيوب الذي ابتسم بحنوٍ لها، وقد أتى عُدي قبل رحيله، يضع مشهد الختام المؤثر، يراقب الشقيقة بفستانها الأبيض، يراقب الحزن الكامن بعينيها رغم طغيان الفرح على كافة الملامح، فرق ذراعيه لها ترتمي بينهما، ضمها بقوةٍ ثم همس لها بخفوتٍ:.
مفيش حد في الدنيا كلها قدرت أحبه زي ما بحبك أنتِ، أنتِ ضحايا وليلي وكل حاجة ليا، خلي بالك من نفسك ومن جوزك، أفرحي وعيشي حياتك وخليه يعيش معاكِ، الدنيا مبتقفش على لحظة يا ضُحى إحنا اللي بنقف ونوقفها، متوقفيش حياتك.
حديثه كان نصيحة لأجلها.
يعلم أنها تحتاجها في وقتها، تستمتع قدر المستطاع لأن الدنيا تغدر، الحياة لن تكن يومًا ثابتة على ذات الوتيرة، لذا كل يومٍ يأتيك اسرق منه سعادتك، وتذكر أنك لن تُلقب بسارقٍ لطالما تقتنص ما يخصك أنتَ.
اقترب الأخ الثاني، الأخ الذي اكتشفها أثناء غرقه.
اقترب بحذرٍ، لكنه لم يمنع نفسه من أن يودعها، يودع الفتاة التي وهبته الحياة أثناء موته، يراقب تلك التي مدت كفها تسحبه من ظلامه نحو النور، فتركته يتساءل إن كان هو وبلغ أثرها عليه تلك الدرجة، فماذا عن إسماعيل ذاته؟
اقترب يضمها ويلثم جبينها أمام الجميع، ثم عاد يرى عينيها فوجدها كما المعتاد تحذره بقولها:
لو جاي تحرق دمي صدقني هزعلك.
أنا برضه؟ طول الوقت أنتِ اللي معصباني.
براحتي أومال عاوز تكون أخويا وخلاص؟ أنتَ تطول؟
رفع حاجبه بشرٍ ثم اقترب منها متمهلًا وعلى حين غرة وجدته يُلثم جبينها، رفرفت بأهدابها فابتسم لها ثم قال ممتنًا بعينين لامعتين:
أنا قدامهم كلهم بقولك أهو إن عمري كله فداكِ مش كفاية، مش هنسهالك عمري كله إني لما مراكبي غرقت وضيعت في الطريق لاقيتك جنبي بتشدي أيدي، حتى لو أختي زي ما قولتي بس مش كل الأخوات زيك يا ضُحى بيدووا بعمرهم كله.
كان حديثه آخر ما زال عنها قشرة الثبات؛ فانهارت أمامه، تداهمها مشاعر غريبة منهم جميعًا، حتى يوسف نفسه اقترب يحتويها بين ذراعيه ثم مسح فوق وجنتها بنعومةٍ وقال بحنوٍ كأنه مصطفى وليست تلك النسخة الأخرى منه:.
مفيش أخوات بيكرهوا بعض، ومحدش فينا يقدر يكرهك، غيابك هيبقى ممل علينا أوي وهيزعلنا، بس أنتِ تستاهلي تفرحي مع إسماعيل علشان أنتِ وهو استحملتوا كتير، وأكتر مما المفروض تتحملوه، بلاها عياط، أفرحي وفرحي جوزك.
وقد أتى على الذكر الزوج، اقترب منهم يصل لها هي وحدها، ضمها بنظرة عينيه ثم ضمها لعناقه، حيث هي وهو والباقية وإن لم تأتِ لن تفيده بشيءٍ، هو رجل عاش مغدورًا، ولد محرومًا وهي وحدها من أمنته في كنفها من هذا الغدر.
وعلى الجهة الأخرى تم توديع جنة من قبل أمها ووالدها، كانت تبكي بعناق آيات التي ضمتها وهي تخبرها أنها معها هنا ولن تتركها وحدها، هي الوحيدة لهما، لم تفارقهما ذات يومٍ، واليوم أتى الفراق وتتمناه بغير رجعة، تتمنى أن تعيش في كنف زوجها رفقة والديها، زوجها الذي حضر واقترب يُلثم جبينها ثم ضمها يحميها في كنفه، كأنه يعلنها أمام الجميع أنها زوجته ومنذ الليلة هي في حمايته.
تلاقت الأعين بينهما فوجدته صادقًا، صافيًا ومناصفًا فيما قال هو ما يزيل عن قلبها مثقال ذرةٍ من خوفٍ:
أوعدك هتكوني معايا في أمان، أنا مابقيتش زي ما أنا خلاص، مش أنتِ واثقة فيا؟ أنا هكون قد الثقة دي، متخافيش وأنتِ معايا.
وفي الحقيقة هي لا تخشاه هو بذاته.
هي تخشى فقد والديها، تخشى الفراق والحياة بدونهما، تخشى الاعتياد على غيابهما، تخشى الفشل في حياةٍ جديدة هي أكبر الأسس الداعمةِ لها، تخشى الكثير والكثير ولا تأمن سواه وحده، لذا استكانت لضمته وهي تراقب رحيل أبويها عنها، وتولي مُحي دُفة حمايتها منذ هذه اللحظة.
وبعيدًا عن الجميع كان هو منزويًا. باسم الواجم،
جرحه لم يبرأ بعد، تذكر الراحل، تذكر الحلم، تذكر الحقيقة الغائبة كما الشمس الغاربة، لم يحنِ وقت إشراقها، تذكره ورغمًا عنه ابتعد، شعر أن جرحه لا يُلائم بهجة اللوحة، كأنها ألوان الحياة وهو رتوش سوداء طغت عليها، فلوثت لون بهجتها.
تابع عُدي حينما اقترب من رهف يمسك كفها بين كفيه وهي تبتسم له، راقب سعادتها في عينيها ورُغم ذلك وحده من استشف الوجع الكامن بين عناق أهدابها، أو ربما هذا انعكاس حزنه هو، تباينت مشاعره وتضاربت كل أحاسيسه، فهو في جهةٍ من الحرب يسعد لأجل فرحها، وفي الطرف الآخر كان يتمنى رؤية رفيقه بذات الوضع، تذكر الكثير والكثير وهو يقف بعيدًا عن زاوية الصورة، كي يراها من جهته هو وحده.
تذكر بالأخص حوارًا دار بينهما ذات مرةٍ قبل الزفاف.
أنا شايلك أهو يا عم حمزة ومدير الجريدة ماسكني أنا بسببك تهزيق، علشان بس تلاقي شقة وتخلصني.
نردهالك في الواجب والفرح يا غالي، عقبال ما تشيلني في فرحي يا رب.
وليه ما تشيلنيش أنتَ الأول؟ هعنس جنبك؟
يا سيدي يا رب أنتَ تشيلني، وأنا ألحق أشيلك ونخلص.
ولأن كل الأحاديث معه كانت مجرد أمنيات عابرة، كانت تلك ضمن قائمة الأمنيات أيضًا، فبعدها أنقلبت الموازين، كل شيءٍ تبدل وأصبح غريبًا، وقتها تم اعتقال باسم سياسيًا، اختفى ولم يظهر له أثرٌ، ماتت أمه من حسرتها عليه، تاه حمزة في الطرقات بحثًا عنه، حاول وحاول حتى باءت كل المحاولات بالفشل، وبعدها حينما أكمل حمزة مسيرته في الدفاع عن وطنه، وعن حق رفيقه تم قتله.
وقتها بعد مرور عامٍ خرج باسم من المعتقل، عاد للوطن الذي غربه، خرج وآخر ما كان يعرفه أن أمه سقطت أسفل قدميه حين تم إلقاء القبض عليه، خرج يبحث عن حمزة لكنه لم يجده، كان يصول ويجول بحثًا عنه، يسأل الغريب قبل القريب، يركض في الشارع كما المجنون، نصفه ضاع منه، الحُلم الذي جعله يعيش مات واندثر، كان يكذب كل الحديث، حتى ذهب بيته، ولج هناك ولمح صورته بجوارها شريطة سوداء وكانت خير الدليل وشره، صورة تتحدث بصمتٍ أن صاحبها مات.
خرج من غرق الذكرى يلهث بأنفاسٍ مسلوبة.
خرج وعيناه تطوف هنا وهناك بحثًا عن الراحل، شعر به كأنه يمر بطيفه خلسةً أمام عينيه، وسرعان ما اتقدت النيران في المُقل، فهذا الراحل بدلًا من أن يحمله في زفافه فوق كتفيه، حُرِم حتى من حمله داخل خشبة موته ليضعه في قبره.
اقترب أخيرًا يقف بجوار حازم شقيق الراحل وما إن رآه وظهر له في العلن، خطفه في عناقٍ كأنما يحتضن الراحل الذي مات بنصفه وترك النصف الآخر مكانه يكمل ما بدأ هو من جهادٍ ونضالٍ في سبيل الحُرية، لكن وبكل آسفٍ
حمزة مات،
والصوت راح، وجف حبر النضال،
وكُسِر سن القلم الذي دون مطالب الأحرار.
< رضيت بقتلي لأنه منكم، ورفضت غُربتي في عينيكم >.
لو كان الموت خيارًا لاخترته عند عينيكم.
فموتي أرضاه إن كان بجواركم، وسكني أرفضه إن كان من دونكم، نظرة عينٍ فقط تُحيي وتُميت، ووحدها نظرة عينكم كانت الحياة والقتل بذاته، نظرة عيني أخرجت من روحي النضال لأجلها، وهي وحدها من جعلتني أرضى بقتلي إن كان منهما، وأرفض الغربة فيهما.
وقف جواد بجوار شقيقته، يودعها، يحتضنها، يخبرها أنه فخورٌ بطبيبته الشقية، فتاته المُدللة، ابنته الكبرى، نصفه الثاني، هي التي أخرجت أسوأ وأصعب ما كان يظنه في نفسه، وداع، فراق مُحبب لم يظنه يومًا قط في حياته، أمه تجاوره باكيةً على فراق صغيرتها، ترى الصورة من جهتها هي، لكن تفاصيل المشهد حيث الحديث المخبوء بين عيني الأخوات لم تلتقط منه سوى نظرة امتنانٍ من ابنتها لبطلها الأول، محاربها الذي نصف المدينة أمام الغزو، المُحرر الذي أطلق سراح طيرٍ وناوله حُريته.
كان مُنذر يقف على زاويةٍ متوسطة، يراقب وداع الأخوة، ثمة بعض المشاعر لازال يجهل كنهها، لا يعلم كيف مذاقها، لكنه يُقدر لحظتها، خاصةً حينما اقترب منه جواد وقال بصوتٍ هاديءٍ ورزينٍ:.
أنا عمري في حياتي ما رسمت ليها حياة مخصوصة، دايمًا بسيبها تمشي زي ما موج الدنيا بيحدف الناس يمين وشمال، وعمري ما تخيلت إن فُلة هتنفع في حياتها معاك، بس أنتَ تستاهلها، تستاهل إنك تتكافيء بيها بعد كل حاجة، ربك مبيرضاش بالظلم، ماتسمعش كلام حد بيقولك العدل دا مش في الأرض ولا إن العدل بقى شيء مخفي، دا كلام الناس الجاهلة، الناس اللي فقدت أركان إيمانها، كأنهم نسبوا حكم الأرض للبشر، علشان يبرروا ظلمهم وطُغيانهم، رب العدل قادر على كل شيء، الفلسفات الخايبة بتاعة أصل الأرض أرض ظلم، دا كلام اللي نسيوا إنها مجرد اختبار صدق الإيمان.
وببسمةٍ خافتة لم تصل للعينين قال الثاني بهدوءٍ مُيقنًا فلسفته:.
أنا ماسعتش للعدل، كنت بسعى لوقوف الظلم، غلطت دا طبيعي، بس المفارقة معتمدة على كدا يا دكتور، لو عاوز توقف ظلم ظالم عند حده، لازم أحيانًا تظلم زيه، لو عاوز توقف جنون مختل لازم أحيانًا تلجأ إنك توازي جنونه، الحياة فوق الأرض مش عادلة دا صح، لكن دا مش معناه إنها سايبة والظالم يدوس فيها براحته، لو مفيش عقاب الكل هيمشي يدوس على الكل، هتبقى غابة بجد، علشان كدا لازم نقتل في نفسنا حاجة علشان نعرف نتصرف.
ابتسم له الطبيب بعمليةٍ بحتة، فكلًا منهما حتى الآن يشبه الآخر في نقطةٍ واحدة، وهي الثأر لمن يُحب، الثأر بذات الطريقة القاسية، التحول عند النقطة التي تمس روح من يُحب كلاهما، وقد انتهى المشهد بينهما بختامٍ عاطفي؛ حيث قبع مُنذر في عناق جواد وبصورةٍ أخرى لإسقاط المشاعر، كلاهما كان يحتضن نسخةً منه فقدها، فوجدها في هيئة جديدة.
ومن ثم تم المشهد، النصف الأول أخذ النصف الثاني ليكتملا.
كل طيرٍ أخذ شبيهه وذهب لإقامة العُش الثابت ليقرا به، وسط تحرك البقية بدأ الإنسحاب بالفعل، كل مُحبٍ أخذ حبيبه وذهب ليقيم معه الموطن، حيث المدينة الخاربة التي زارها محتلٌ مرة، واستوطن أراضيها مرات ومرات، والآن آن الأوان للوطن أن يحيا، آن الأوان للطير أن يختبر الحُرية بإرادته، فهيا نكسر القيود كي نحيا ونعيش، وإن رفض العالم كله عيشنا، فتبًا للعالم.
< رأيت فيكِ حُرية الطير، فرغبت معك بالتحليق >.
في بعض الأحايين الفاقد لا يقدر القيمة،
فوحده من يفتقد هو من يُقدر فيُعطي، لذا المُفتقد الذي لوعه الشوق وأكلته الغُربة هو وحده من يركض بلهفةٍ حتى ينل ما افتقد، وإذا نال الشيء المفقود، قدر قيمته، حفظ له كيانه، صانه من كل إهمالٍ وبُعدٍ وفقدٍ.
الليل خيم، والساكنان التقيا أخيرًا.
فالبداية كانت من مُنذر الذي بدل ثيابه، وجلس ينتظر خروج فُلة وفي الحقيقة هو حتى تلك اللحظة يظن نفسه بداخل حُلمٍ، خيمة صيفية مرت على حياته الخاربة، هو اعتاد مواجهة الرياح العاتية، فما باله أمام نسمة صيفٍ يشعر بفقد كل الحيل؟ نكس رأسه للأسفل فشعر بعبيرها يمر خلسةً كما الطيف الآسر للقلوب، رفع عينيه يواجهها فوجدها ترتدي منامة وردية رقيقة، خصلاتها مُحررة من القيد، لم يملك فعلًا سوى الوقوف أمامها.
إضاءة خافتة كانت تُنير الغرفة، وبسمتها تُنير الحياة بأكملها، رفرف بأهدابه يراقب طلتها، ولازال عقله عاجزًا عن استيعاب ما يدور حوله، هما كما الطيريْن في عُشٍ واحدٍ، طال الانتظار منها له، وما إن وجدت نظراته تتعمق في وجهها وهناك بسمة تناوش حصار جفنيه، ابتسمت وهي تسأله بغلبِ على أمرها وقلة حيلة:
أنتَ عاوز إيه طيب؟
خرج من شروده على صوتها، توسعت بسمته أكثر حتى بانت فوق شفتيه، وحينها هز كتفيه بتيهٍ وجاوب أول ما بدر لذهنه:
مش عارف، صدقيني والله مش عارف.
هو كعادته، الرجل الآلي ولن يتغير، لن تأمل منه بحديثٍ بغير استطاعته، لذا ابتسمت بسمة خافتة وقبل أن توليه ظهرها وتهرب من حضوره، وجدته يمسك رُسغها ثم جعلها تقف في مواجهته وقال بصدقٍ حقيقي كان في قلبه أولًا ثم سلك الدرب لعينيه:
بس أنا مش عاوز غيرك أنتِ.
ناوشت البسمة ثغرها الوردي، بينما هو خطفها في عناقه، ضمها بقوةٍ يمسح فوق خصلاتها ثم همس لها حين أنزل عينيه يُلاقي عينيها يسألها بغير تصديقٍ:
أنتِ متخيلة إنك معايا دلوقتي في بيتنا؟
أومأت بعينيها بخجلٍ له، بينما هو أبعدها ثم ترك محيطه وعاد مقتربًا من جديد تحت نظراتها المُتعجبة، بينما هو فمد يده لها بثياب الصلاة وقال بهدوءٍ:
عمي وصاني أبدأ الليلة وأنا بصلي بيكِ، وسألت مُحي وفضل يكلمني كتير عن اللحظة دي، بصي أنا اللي مخبوط على راسه، بس عاوز أفوق علشان أنا معاكِ، يلا؟
أومأت من جديد وهي تلتقط منه الثياب.
دقائق ووقفت خلفه وهو يأم الصلاة، يقود الدرب وهي خلفه، صوته لم يكن عذبًا حدَّ المُبالغةِ، لكنه كان مقبولًا، كان هادئًا، مُرتجفًا، صوته يهتز بين الآية والثانية، استمرت الليلة بهذا المنوال حتى قام بنطق التحية وجلس لثوانٍ بموضعه دون التفاتة واحدة، بادرت هي واقتربت منه، جلست بجوارهِ صامتة، بينما هو رفع عينيه نحوها وقال ببسمةٍ عذبة:.
شكلك حلو في الحجاب أوي، مش هبقى طماع يعني وأقولك إني عاوزك تتحجبي، بس إيه رأيك في الخطوة دي؟
دارت بعينيها ثم ابتسمت بسعادةٍ، وهمست حين مدت كفها تُعانق كفه بحبٍ فاض من عينيها:
مش مشكلة، دورنا نساعد بعض لحد ما طريقنا يتصلح، إحنا بنكمل بعض، حتى لو أنتَ قاتل، أنا كمان عيوني قاتلاك، مش دا كلامك ليا؟
ضحك لأول مرةٍ بتلك الروح، حلاوة ضحكته جلجلت من بين سكون الليل، ثم استقام واقفًا بهدوءٍ وأوقفها وما إن واجهته لمحت النظرة المستمتعة في عينيه بينما هو سأل بضحكةٍ زينت وجهه:
هو أنا حكيتلك إني قاتل ومقولتش ليكِ إزاي بقيت مقتول؟
حركت رأسها نفيًا فتفاجأت به يحملها فجأةً متجاهلًا شهقتها وهو يقول بهمسٍ ضحوكٍ ما إن لمح عمق عينيها الصافيتين دون قيودٍ تمنعه من الغوص فيهما:
دا بقى موضوع يطول شرحه، بدايته من عندك أنتِ.
ضحكت بملء صوتها ثم ضمته تطوق عنقه بذراعيها تستشعر وقع نبضاته بقرب قلبها، بينما هو دار بها يسرق من الزمن ضحكتها كي تخصه هو وحده لا غيره، عانقها وتشبث بها آخر أماله في تلك الحياة، هي وحدها من كانت شمسًا له بعد عُمرٍ أشبه بليلة الحرب حامية الوطيس، والآن كُتِبَ له أن يعهد الهدوء في أيام حياته من بعد الحرب والقصف.
بالطابق الأسفل حيث موطن إسماعيل.
كان يقف في المقدمة وخلفه ضُحى تُصلي خلفه، ولأول مرةٍ تسمح لغيرها القيادة، يقود هو الدرب وهي تُسلم وترفع الراية لأحكامه، أطيب الناس وأعدلهم حُكمًا في حياتها، رجل الخوف والظلام، وهي فتاة الشجاعة والنور، اليوم تسجد لربها حامدةً، شاكرةً تحقيق أمنية ظنتها مستحيلة، فرت عبرة من بين حصار الأهداب الواهن، فاعتدلت سريعًا حينما استمعت لصوته، كررت السجود تزيد من الحمد والشُكرِ،.
وكأنها سوريا يوم تحريرها بين أنياب الأسد،
أو ربما هي مصر يوم ثورة يناير حين سقط النظام،
رُغم أن الحزن في قلبها لأجله، لازال مستمرًا كما إبادات غزة.
أنهى الصلاة وهي خلفه، التفت لها ولمح العبرات بعينيها، مال يُلثم الجبين بحنوٍ، ثم عاد يطالع الموطن بعمق العينين، يرى الشمس الغاربة تسطع بمجرد حركة جفونٍ منها، كأنها تظهر لتوهب قلبه الحياة، أو في فلسفة حضاراته الشغوف هو بها، هي الخلود، سبب البقاء فوق الأرض حيًا، هي تروس الحياة التي تدفعه ليكمل الطريق، وجدها تدفن نفسها في عناقه، لا شك لديها أن عناقه هو المدينة الأكثر هدوءًا وأمانًا في تلك الحياة، لذا عادت للخلف تخبره ببسمةٍ حنونة:.
أنتَ حنين أوي، حنيتك بحسها في عيونك يا إسماعيل عمتو غالية كانت بتقولي إن عيون عمو مصطفى أحن مكان ليها في الدنيا، كانت عندها استعداد تفضل تبصله طول اليوم علشان تتأكد إن دا مكانها، حضن عيونك حلو أوي.
هي تباغته، تقتحم ثباته، تخرج أغرب ما فيها.
هو لم يعهد معها تلك الوداعة في السابق، حتى أنها اقتربت منه تُلثم وجنته ثم ابتسمت وقالت بهدوء:
وعلشان أنتَ طيب وراجل محترم، هقوم أنام وأنا متطمنة إني مع راجل بجد عمره ما هيعمل حاجة كدا ولا كدا تصبح على خير يا سُمعة.
فرغ فاهه وهو يراقب تحركها من أمامه، سبقته واندست بالفراش تخفي نفسها تحت الغطاء، بينما هو رفرف بأهدابه ثم اقترب يقف بقرب الفراش ثم سألها بدهشةٍ ساورته:
دا بجد؟ النهاردة ليلة فرحنا، قومي يا بت.
رفعت رأسها بسرعةٍ وقالت تخبره بكل صراحةٍ:
بص بقى أنا متجوزة علشان أخرج وأتصور بليل وأصرف فلوس براحتي، أي حاجة غير كدا لو دماغك فكرت فيها هزعلك يا إسماعيل.
توسعت عيناه أمامها بينما هي أطفأت الضوء الساطع وتركت الخافت، رأته يتحرك بصمتٍ يجاورها فوق الفراش ثم أولاها ظهره وقال بنبرةٍ هادئة:
تصبحي على خير يا ضُحى.
ابتسمت هي ثم التفتت له بلهفةٍ تسأله عن هدوءه:
أنتَ بجد هتنام؟ مش زعلان؟
التفت بدوره يواجهها وقال بمثاليةٍ غريبة على جنس البشر:
هنام يا ضُحى أكيد علشان تطمني ليا، عارف إنك خايفة وقلقانة ودا حقك طبعًا، وأنا متجوزك علشان تكوني صاحبتي ومراتي وحبيبتي، المهم وجودك معايا في البيت هنا، أي حاجة تانية مش مهمة.
ربحت الرهان عليه مع نفسها، ابتسمت بوجهٍ مشرقٍ وحركت خصلاتها حول وجهها ترفرف بكفها ثم قالت بفخرٍ وزهوٍ به:
دا كان اختبار وفلحت فيه يا إسماعيل أنا مبسوطة أوي.
رفع حاجبيه بذهولٍ، وقد اِفتر ثغره ببسمةٍ لم تفهم هي كنهها، لكنه في طرفة عينٍ قربها منه ثم اقترب يهمس لها في أذنها:
ماهو أنا عارف إنه اختبار، علشان كدا ورب الكعبة لآخد حقي منك تالت ومتلت يا بنت أسماء.
تلك المرة كانت المفاجأة من نصيبها هي حينما ضحك على هيئتها الخائفة ثم أنتوى رد الصاع لها، فهو لن يقبل إلا بأخذ الحق كاملًا، لن يقبل بأنصاف الحلول في حقه معها، لطالما كانت ولازالت هي ضُحى الطريق من بعد ليلٍ كاحلٍ، النجمة اللامعة في سماءٍ معتمة تبدو شمسها غاربة، وقد آن وقتها كي تشرق من جديد، لذا من يرغب في نور الضُحى لن تُغريه مُغريات الظلام.
ولأن الإسلام هو دين الحق.
ينل المسلم حقه بالعمل، بالجد، ينتهي أمره وأمر توبته بالجنة، فالمسلم إن تخلى عن عصيانه، وأطاع ربه وانتهج درب الحق، كان صراطه مستقيمًا، وكأن الدنيا هي اختبار التوبة الصادقة، فإذاع أطاع فلح، وإذا عصى? غرق.
أقام الليل كاملًا، قرأ وِرد القرآن الذي يحدده بنهاية كل يومٍ.
حياة هادئة وروتين إسلامي يسير عليه، كانت زوجته تراقبه بحبٍ تتعجب منه، الدهشة حاوطتها في مرآها له،
جلست تراقبه حتى وجدته يترك المصحف ثم اقترب وجلس بجوارها مبتسمًا وهو يقول بشيءٍ من الهدوء:.
أنا سيبتك براحتك تشوفي الشقة وتاخدي على المكان، علشان تفكي معايا كدا يا جنة ها عجبتك الشقة؟ وركن الصلاة إيه رأيك فيه؟ عملته على ذوقي علشانك، وعلشان عيالنا لما ييجوا بإذن الله.
تورد وجهها أمامه، ابتسمت بسمة خجولة عند ذكر الأبناء، بينما هو فاقترب أكثر ثم عاد لعبثه وقال بجرأةٍ كان على عهدها سابقًا:
لأ بقولك إيه، أنا مستني الليلة المفترجة دي من كتير، مش لما تيجي بحلال ربنا ألاقي الجنة بتقفل بابها في وشي، بطلي كسوف بقى وأتكلمي معايا، ها أبدأ أنا؟
أومأت موافقةً ولازال الخجل طاغيًا عليها، فتحدث هو:
طب أبدأ أنا بقى، أنا مُحي الحُصري عارفاني طبعًا وعارفة أنا مين، مش عاوز من الدنيا حاجة غير ستر ربنا ليا، وقربك مني، وراغب في وصالك، وأنتِ؟
بدأ كأنها مقابلتهما الأولى? سويًا، فضحكت أخيرًا ثم أبعدت خصلاتها خلف أذنيها وقالت بنبرةٍ ناعمة كمرور طيف العاشق وسط الزحام:.
أنا جنة معرفش تعرفني ولا لأ، بس أنا ماعنديش غير بابا وماما وبس، مش عندي أخوات ولا صحاب، وكنت طول عمري بتمنى يكون ليا أخوات وصحاب وحد يشاركني كل خطواتي، ومن ساعة ما عرفتك أتمنيتك تكون صاحبي، معرفش ليه بس ربنا زرع محبتك في قلبي، لاقيت نفسي بدعيلك قبل ما أدعي لنفسي، وعمري ما تخيلت أني هقدر أسيب بابا وماما علشان حد، بس أنا سيبتهم ومعاك في بيتك أهو.
حديثها كان مرسى لسُفن بحره الشاردة.
لكن ليس هذا هو سبب إنشاء السُفن، وإنما السُفن خُلِقت للإبحار، للسير والتعمق بين الموجات الحائرة للوصول للميناء المرغوب، لذا دار بعينيه في الغرفة ثم مال يهمس لها بخفوتٍ:
وفي أوضتي ودي حاجة أحلى.
توسعت عيناها، هو لن يتغير مهما حدث، ستظل طريقته كما هي على الدوام، لذا رفرفت بأهدابها تخفي جنتيها عن لقاء عينيه الرماديتين، فتحرك هو من جوارها ثم عاد لها وجلس وهو يقول بصوتٍ هاديء حينما وضع صورةً يُوريها إياها:.
دي صورة ندى أمي الله يرحمها، معرفش حاجة عنها غير الصورة دي بس، طول حياتي ماشوفتش حد زيها، ومتزعليش مني يعني أنا رينا تاب عليا الحمدلله، بس عرفت كتير أوي فوق ما تتخيلي، بس مقابلتهاش في حد، ماحسيتش إن فيه واحدة تستاهل الإنسان يعيش عمره كله على ذكراها، كان دا تفكيري لحد ما قابلتك، ساعتها بقى عرفت إن الست الصح الراجل بيلاقيها مرة في حياته، مرة واحدة يا يعمل فيها المستحيل ويبقى راجل علشانها، يا يخليها تروح للي يستاهلها، وأنا لو ماكنتش حاسس إني هقدر أعمل أي حاجة علشانك، عمري ما كنت هقرب منك.
تعجبت من حديثه، حركت رأسها لليسار قليلًا ثم سألته:
يعني كان معايا حق أرفضك في الأول صح؟ طب ممكن سؤال تاني؟ لو ماكنتش أتغيرت وبقيت مُحي اللي أنا شايفاه دا قصاد عيني وكنت فضلت أرفض فيك علشان بالنسبة ليا كنت إنسان بيعصي ربنا، وقتها كنت هتحاول برضه ولا خلاص كدا؟
دار بعينيه يهرب منها، وقد وجد سبيل الهرب موصودًا فعاد لها كأنما فقد الحيل وقال بغلبٍ على أمره في نهاية المطاف:.
معرفش، أو مش عاوز أعرف وأفكر في حاجات بتمنى من ربنا إني أنساها، ربنا رايد ليا الهداية، وأنا شوفت فيكِ طريق الجنة، أول مرة شوفتك فيها خالص كنتِ عادية، ماحسيتش بحاجة ناحيتك، بس لما شوفتك مرة تانية بالخمار وأنتِ بتهربي من وجودي حسيت وقتها إني ممكن أحاول أنا كمان، كان إحساس لحظي كدا، بس لما عرفت إن ربنا سبحانه وتعالى كرم المسلمين بنزول الإسلام، استحرمت أضيع نعمة إني مسلم وأعيش في دنيا خسرانة كدا.
ابتسمت هي باطمئنانٍ له، فوجدته يضمها ويضع رأسها عند موضع نبضه ثم همس بحنوٍ، ورقي وعاطفة صادقة يتفوه بها قلبه قبل لسانه:.
عارفة؟ من رحمة ربنا على البشر إنه وضع حدود لكل حاجة في الدنيا وخلى الدين يرتب لينا حياتنا، أهمها إزاي الإنسان يتحكم في نفسه وفي شهواته، ويكرمه ويكافئه بالحلال، وأنا والله العظيم راضي بيكِ حلال الدنيا ومكسب الآخرة كمان، أنتِ رزق لأي حد يعرفك، ومن نصيبي إنك بقيتي رزقي في الدنيا دي.
رفعت عينيها له بسعادةٍ طاغية ثم عادت تضمه بقوةٍ، تضم الأمان الذي وجدته معه، أو بالأحرى لوحيدةٍ مثلها هي تشعر تجاهه بالأُلفةِ، وحده من شعرت معه كأنها في موطنها، كأنها منه وإليه، هو الكل الذي أتت هي من ضلعه، لذا الإنتماء له كان حقًا عليها، تدعو وتتضرع من قلبها أن تبقى الألفة بينهما دون اغترابٍ، وقد شعر هو برجفة عناقها فمال يهمس بوقاحةٍ قديمة:
مش عاوزة تتعرفي على مُحي القديم خالص؟
ضحكت رُغمًا عنها ورفعت عينيها له تعطيه الموافقة بنظرةٍ حنونة، بينما هو فكان يحمد ربه على نعمة المنع قبل المنح، يشكره على الابتلاء الذي عقبه العطاء، يمتن لخالقه الذي من عليه بالتوبة، فكان عاصيًا وأصبح قدوة لغيره، توبته نصوحة وبناءً عليها فُتِحت أبواب الجنة كي تستقبله.
< مرة واحدة في العُمر ستترك لأحدهم حرية اختيارك >.
الخوف هو ما يُحجم الخطوة الأولى?.
وما هو بعد ذلك لن تجد ماهو أيسر منه، الصعوبة دومًا في أولى الخطوات، وبقية الخطوات تأتي بيسرٍ غريبٍ، كأنك اعتدت الطريق بل وأصبحت من رواده، الخطوة الأولى دومًا إما تكون ذللًا، وإما تكون فخرًا وفي بعض الحالات تكون الاثنين معًا.
مدت له جسر الوصال.
أخبرته أنها تنتظر عودته لها، تنتظر إفاقته من الهروب منه وانتظره يفصح لها عما يدفنه في قلبه بعيدًا عنها هي، فكان يتعامل مع ذاته مُعاملة الخائن الذي يتوجب عليه أن يُنفى? من الوطن، لكن هذا الوطن ظل يُناديه ويرغب في بقائه بين حناياه.
بينما هو رفض الاقتراب بجرمه منها.
لذا قبل أن يقترب هو الآخر قرر أن يُفصح عن سره، يكشف جرمه ويترك لها حرية الاختيار، يُصدق في وعده معها أنه مهما فعل سيخبرها، ولم يجد أصعب على نفسه من الاعتراف بذنبٍ كبيرٍ هكذا، كأنه يقف ويخبرها أنه كان ولازال حانثًا بوعدهِ، وهي رغم حبها وثقتها تبقى المغدورة، بكت أمامه، بكت وخافت من اقترابه، بينما هو أضاف البتر الأخير لقلبها بقوله:.
أنا ماكنتش بهرب منك، أنا كنت خايف عليكِ مني، خوفت تطلبي مني تمشي وتسيبيني علشان كدا قولت أخلص ليلة إسماعيل وأكمل واجبي للآخر واعرفك اللي فيها يا بنت الناس، واللي تطلبي بيه أنا موافق عليه كله، بس أنا عمري ما قدرت أكدب عليكِ ولا أخبي حاجة كبيرة زي دي من بعد ما وعدتك، قولي أي حاجة طيب، بلاش تسكتي كدا.
كانت عبراتها تسيل فوق وجنتيها، بالطبع ليس حزنًا على المقتول، وإنما خوفًا وقهرًا على القاتل، ظلت كما هي جامدةً بلا حراكٍ، كل ما يصدر عنها لمعة العبرات التي تسيل على وجنتيها، وقد قرر هو فرض حمايته عليها فخطفها في عناقه يحتوي نوبة حزنها وقهرها، ضمها وعارض رفضها حتى ظهر صوت البكاء وهي تنتحب باكيةً، وقتها أدرك فداحة الفعل.
انتهى بها الأمر وهي ترفع عينيها وتسأله بخيبة أملٍ:
قتلت تاني يا إيهاب وارتاحت؟ استحليتها خلاص؟
وهو من الأساس يشعر بتفاقم الذنب عليه، لكنها تُزيده بنظرتها، ترفع من قدر عذابه النفسي، تصدمه وتؤلمه بكثرة الأحاديث المخفية بين أهدابها وعيناها تقومان بفضحه، فجاوب هو بشبه انفجارٍ كتمه داخل نفسه حتى آن وقته:.
أنا مش ملاك، محدش مني يستنى أكون ملاك بجناحين أعمل اللي أكبر من قدرتي عليه، قتلت آه ومش ندمان ولا حتى متضايق، بالعكس أنا أول مرة أحس إني قادر وفيا دماغ بتفكر ودراع يقدر يجيب الحق من تاني، أنتِ وغيرك وغيركم مش مستوعبين النار اللي جوايا، دا واحد قتلني بدل المرة 1000 مرة، كل يوم كنت بنام وبحلم وهو تحت رحمتي وبين أيدي، لما جه مقدرتش أرحمه، ولا قدرت أكون ملاك ومثالي زي ما المفروض أكون، كان المفروض أعمل إيه؟ وماتقوليش ليا القانون موجود.
عادت للخلف، تتطلع إليه بغرابةٍ، كأنها تراه لمرتها الأولى بكل هذه الشفافية، فسألته بتيهٍ وعيناها تذرفان العبرات:
أنتَ مين؟ أنتَ إيهاب نفسه اللي عمره ما رضي بالظلم لحد؟ كل ما حد هييجي علينا هنروح نقتله؟ كدا نبقى في غابة يا إيهاب مش في دنيا، على كدا بقى كنت قتلت أنا كمان فتحي ماهو كان بييجي عليا، طب بلاش سيبك من كل دا، مش خايف على نفسك؟ مش خايف نخسرك؟
وأتى الجواب منه ببسمةٍ من زاوية فمه ثم قال بتهكمٍ:.
هيجرالي إيه تاني يا سمارة بعد اللي جرالي؟ خوف؟ عيشت عمري كله خايف وبموت كل يوم ألف مرة، كفاية خوفي دلوقتي من كلمة واحدة تطلبيها تبقى بنهاية كل اللي بينا، قهرة؟ طب ما أنا اتقهرت شهور على أخويا، سجن؟ عيشت أربع سنين ظلم في السجن وجربت الحبسة، هيجرالي إيه يعني؟ هضيع؟ طب ما أنا كنت عيل ابن خمس سنين ونزلت الشارع أتعلملي صنعة، ناقص إيه تاني يا سمارة قوليلي؟ الحياة مرحمتنيش علشان أتعلم أرحم أنا كمان، أنا مش بقولك علشان تحاسبيني، أنا جاي أقولك علشان أنا وعدتك ماخبيش حاجة عنك.
راقبته بعينين مكسورتين، فوجدته يُلثم جبينها ثم نطق أخيرًا بضياعٍ كأنه يهديها هدنة من الحرب التي شنها هو ضد نفسها:
أنا هروح أوضة دهب وأسيبك شوية لوحدك تحسيبيها، من غير ضغط مني ولا آجي عليكِ، ووعد مني ليكِ اللي تطلبيه هنفذه، بس أنا والله مش وحش، ولا ظالم، فكري فيها وشوفيني زي ما متعودة تشوفيني علطول، بلاش تشوفيني بعين الغُربة.
انسحب بعد الحديث، هو لم يكن ذاك المثالي.
لم يكن يومًا ملاكًا بين البشر، هو بشر، من بني أدم ويُقر ويعترف بهذا، ولج الغرفة وحمل صغيرته يُلثم جبينها ثم ارتمى فوق الفراش بها وهي بين ذراعيه، نام على أمل مد جسر الوصال من جديد، يأمل أن يكون الوطن رحيمًا به رغم صلابته وقسوته، مرت بعض الدقائق كاد أن يغرق فيها بالنوم، ضم ابنته ومسد فوق ظهرها كأنه يحتمي بها، حتى شعر بها تجاوره.
التفت بلهفةٍ فوجدها تمسح عبراتها ثم قالت بصوتٍ باكٍ:
لو كدا أنتَ حاسس إنك مرتاح إنك جيبت حق أخوك وخدت بتارك منه ومن الدنيا فأنا مش هقدر ألومك، عتابي عليك إنك خبيت وبعدت نفسك عليا، ودي مش هعديهالك، بس أقول إيه بقى، أنتَ هتفضل طول عمرك وغد ومش هتتغير.
ابتسم بحزنٍ وهو يراقب ملامحها الباهتة وإذ بها تبتسم له هي الأخرى ثم وضعت رأسها فوق صدره تستسلم لغمرة حنان وأمانٍ منه، هي لا تخشاه هو بقدر ما تخشى فراقه هو، تخشى وقوعه هو في الطريق، وقد ضمها هو بلهفةٍ يخفيها بين ذراعيه، ضمها يتشبث بالأمان منها، خشى غُربته في عينيها، خشى الابتعاد عن مفترق طُرقاتها، لكنها إمرأة حنونة، تغلبها العاطفة حتى في الأوقات التي تتطلب منها كل العقلانية.
وقد اعتدل وضم ابنته يضعها في المنتصف ثم ضم زوجته بذراعه الأخرى وتنفس أخيرًا، لأول مرةٍ منذ ما يقرب الشهور ينام بتلك الأريحية، خاصةً حينما مدت سمارة كفها وربتت فوق كفه كأنها تدعمه دون حديثٍ.
وهو في لحظته تلك لا يحتاج أكثر من هذا.
< يوم الحُرية في الميدان طِرتُ أنا والطيور في الوطن >.
إن الأوطان لا تُبنى بالمالِ.
وإنما تُبنى بالشباب، بالعمل، بالوعي، بالدين، بالتعقل، بالجموح أحيانًا، بالتمرد ضد كل طاغٍ، الركض خلف كل حقٍ، السير فوق درب العمل، إن الوطن نصفه أملٌ، ونصفه الآخر حُلمٌ، وإن فُقِد نصفٌ يُكمل الآخر موضعه.
سيارة جامحة تشق الطريق ليلًا.
قائدها لا يكترث بأي قواعد، هو وحده من يعلم الدرب ويرى الطريق، لذا لم يبالِ بالعالم حوله، فقط تلك النائمة بجواره رأسها يستند على زجاج النافذة، والوشاح يغطي كتفيها والهواء يُراقص غُرتها فوق جبينها، وهي نائمة تغيب عن العالم بأكمله، أوقف باسم سيارته عند محطة الوقود ثم سحب دفترها الوردي يفتح صفحةً منه يرى آخر ما تم تدوينه أمسًا منها:.
مقدرتش أقسى عليه، يمكن لأني واثقة فيه بزيادة، أو يمكن قلبي معندهوش جُرأة زيادة ضده، معرفش بس أنا صدقته، وهفضل مصدقاه، مفيش Hero بيكدب، وهو Super Hero وهيفضل في نظري كدا، حتى الحلم اللي كنت بحلمه طول عمري بقيت بشوفه هو بطل الحلم دا، فيروز، البحر، الهوا، لحظات الشروق علشان دي بداية الأمل في كل حاجة، وهو زي الشروق بداية الأمل في حياتي، وأكيد هييجي يوم وأحقق فيه الحلم دا، بس من غيره هيكون مستحيل.
قرأ الحديث المكتوب عنه وابتسم، أغلق الدفتر وعاد لها يراقبها، يبتسم بحلاوةٍ غريبة عليه، هي وحدها من تنبش بهدوءٍ في حياته الحالمة، تعيده لسابق عهده في الحياة، تخبره بدون حديثٍ فيما ترغب وتود وهو يُلبي دون أن يعي لما يفعل، راقب السماء المعتمة، فتنهد وتحرك بالسيارة بعد أن انتهى من ملء السيارة، قادها حيث مدينة الاسكندرية، حيث شقة أمه هناك.
قبل أن يصل وجدها تتململ في نومتها فانتظرها حتى فتحت عينيها وانتفضت بلهفةٍ، دارت بعينيها في السيارة ثم سألته بصوتٍ محشرجٍ:
إحنا فين؟ ومروحناش بيتنا ليه يا باسم.
رمقها بطرف عينه ثم تحدث بهدوءٍ:
مشوار، مشوار مهم ليكِ.
توسعت عيناها وتذكرت يوم أن فاقت ووجدت نفسها بين جدران المصحة، فازدردت لعابها ثم سألته بخوفٍ من القادم:
هنروح فين؟ والأهم أنتَ هتكون معايا ولا هتسيبني؟
ترك الطريق وركز بعينيه على وجهها وقال بصوتٍ دافيءٍ يُطمئن قلبها:
مبقاش فيه داعي يخليني أسيبك لوحدك، من هنا ورايح أنا معاكِ في كل طريق، كل خطوة، كل حلم، كل أمل نفسك تعيشيه، هتلاقيني معاكِ قبل ما تفكري حتى إني أكون معاكِ، أتطمني ليا.
راقبته بتعجبٍ، العجب ساورها بخصوصه، لكنها تنهدت وعادت تراقبه هو وهي تستند على نافذة السيارة، بينما هو سحب حقيبة من الأريكة خلفه وقال ببسمةٍ بشوشة تراها منه لمرته الأولى بالتقريب:
هتلاقي أكل وشرب وعصير، دلعي نفسك لحد ما ييجي دوري وأدلعك أنا.
تبدلت نظراتها للضحكات اليائسة ثم فتحت الحقيبة وبدأت تنتقي منها ما تريد، وقد مدت يدها له بالطعام وزجاجة مياه، وجلست تنتظر القادم منه، رغم اللهفة والترقب لكنها ظلت صامتة على وضعها الجامد تنتظره، وقد أنتهت المهلة، انتهى الانتظار بعدما عبر بالسيارة للبناية المنشودة، وقد ترجلت هي من السيارة تسبقه، تراقب البحر، نسمات الهواء الصيفية، بداية الشروق من الأفق البعيد، الهواء الذي داعب خصلاتها بانسيابية، فستانها الأبيض المزركش بحبات الكرز النبيذية.
أتى وجاورها وقال بصوتٍ صاحب بحة مميزة:
افتكرت إننا معملناش فرح، وكان عهد عليا أفرحك، البحر قصادك أهو، وأنا معاكِ والشروق خلاص كلها دقايق ويظهر، روحي شوفي نفسك تعملي إيه وأنا معاكِ.
التفتت بعينين دامعتين لا تصدق ما يقول، فوجدته يشير لها بقوله:
روحي يا نورهان، يلا.
دفعها بخفةٍ ثم نحو الشاطيء ثم فتح باب السيارة وقام بتشغيل صوت فيروز منها ليناسب سحر المكان والمشهد، تلك العادة التي اكتسبها مؤخرًا بعدما أصبحت هي نصيبه في تلك الدنيا، بينما هي وقفت تشتم العبير المصطبغ برائحة البحر، عبق الحياة المميز يتوغل داخل الفراغ المشحون بها، وقد التفتت له تبتسم بعبرات ظهرت للعلن، فوجدته يشير بكفه لها كي تتحرك، فوجدها تركض فوق الرمال وضحكتها تعلو وتعلو.
صوت الأمواج وهي تتلاحق خلف بعضها، صوت ضحكاتها يعلو ينافس صوت الأمواج، خصلاتها تتحدى الطير في حريته، فستانها ينحني فوق جسدها أشبه بعناق الربيع للزهور، وكأن الحياة تعطيها الأسف دفعة واحدة بدلًا من سنوات الفقد والضياع، وصوت فيروز في الخلف يشهد ويوثق سحر اللحظة، وهو يراقب، يراقب ويبتسم ويشعر بالإنجاز كونه وصل بها لتلك اللحظة.
بكتب اسمك يا حبيبي على الحور العتيق.
بكتب اسمك يا حبيبي على رمل الطريق.
بكرة بتشتي الدني على القصص المجرحة.
يبقى اسمك يا حبيبي، واسمي بينمحى.
التفتت من جديد تبتسم له فوجدته يبتسم هو الآخر وهو بقوم بتصويرها، حيث الهواية المكروهة التي بدأت يستعيد حبها من جديد فقط لأجلها هي، وقد أتت له راكضةً بضحكتها الواسعة وعيناها تنطق بشغفها نحوه.
بحكي عنك يا حبيبي لأهالي الحي.
بحكي عنك يا حبيبي لنبعة المي.
ولما بيدور السهر تحت قناديل المسا.
بيحكوا عنك يا حبيبي وأنا بتنسى.
سحبته من كفه ضاحكةً وركضت فوق الشاطيء وهو يركض معها يده بيدها، كلاهما أشبه بأراضٍ مُحررة بعد احتلالٍ وطغيانٍ وفساد حاكمٍ في أراضيها، تركها تفعل ما يحلو لها، تدور وتضحك وتلتفت وتبتسم، تتدلل وتناوشه، ثم تبتعد وتعود وهو يراقب، حتى وجدها تحمل دفعات المياه بكفها وترميه بها، فعاد للخلف ضاحكًا، بينما هي فطوقت عنقه بذراعيها وهمست بحبٍ لم تستطع أن تخفيه عليه:.
أنا عديت مرحلة الحب معاك، أنا بقيت بتمنى عمري كله يرجع من تاني علشان اللي فات من غيرك أعيشه معاك وبيك.
وهو بدوره حملها ودار بها، دار وقلبه ينبض بطريقةٍ لم يفعلها إلا في يومٍ التحرير، يوم أن حمل حمزة فوق كتفيه ودار به في الميدان والآخر يصرخ ويرفرف بعلم الوطن عاليًا بعد أن نال كلًا منهما حلمه وطار بحريةٍ، وقد سُجن السجان الظالم.
< عيناكِ مقاصد الطريق في حين كوني تائهًا >.
لا يتيه المرء في عنوانٍ يعرفه.
ولا يضيع الإنسان في دربٍ يحفظه عن ظهر قلبٍ، فماذا عن عينين رأى فيهما نفسه وموطنه وحياته وشمسه وقمره؟
كعادته يعشق الليل.
الليل هو وهو الليل بذاته، لكن بين الليل الماضي وليل الحاضر شتان، حياة بأكملها اختلفت وتبدلت، حتى أنه يجلس أمام الحاسوب ينهي عمله، وفوق ذراعه حمل ابنه الصغير، كان يبكي في الليل منذ ما يقارب ساعتين وبمجرد أن حمله وهدهده هو، التزم الصغير الصمت، فوضعه بقرب قلبه حتى يعود للبكاء.
كان يحمله بكفٍ وبالأخرى يتحرك فوق اللوح يدون التفاصيل الهامة بشأن عمله، وقد أتت عهد بكوب الشاي الذي تجهل عددها حتى الآن، لكنها وقفت تراقبه رفقة ابنها، وقفت تراقبه كيف اهتم بصغيره واحتواه، وفي نفس الآن يكمل عمله، وقد اقتربت منه تضع الشاي وهي تقول بسخريةٍ:.
طب ما أنتَ شاطر أهو وبتعرف تهتم بيه وتشتغل، أومال كنت بتهرب ليه من المساعدة، طب أقولك؟ من دلوقتي هيبقى الشغل بالنص بينا، ساعدني وساعده وساعد نفسك علشان أروق عليك.
رفع حاجبيه بغير تصديقٍ فوجدها تقترب ثم جلست تواجهه وهي تقول بضحكةٍ شقية ولمعة عينيها تغالب ضوء مدينة بأكملها:
فرح النهاردة دا محركش أي حاجة فيك؟
ابتسم بعبثٍ ثم اقترب يهمس بنفس همسها الخافت:
حرك جوايا كتير، أهمها إني كنت ليه بتطمن على نادر و عُدي أحسن يكون حد فيهم اتغز كدا ولا كدا، هو فيه راجل هينسى إنه اتغز بالسكينة ليلة دخلته؟
هو وقح ولن يتبدل مهما حدث.
وهي وحدها من تُعاني من تلك الوقاحة، لذا دفعته في كتفه بكفيها فضحك عليها، ثم قربها بكفه وهمس بصوتٍ ضحوكٍ:
بلاش تيجي تلاعبيني علشان آخرك وأولك عندي وفي حضني، بصي كدا على عيونك هتلاقيهم فرحانين ودايبين من الفرح علشان شايفاني مع ابني كدا، هتنكري؟ عيب مش عوايدك دي.
لمعت عيناها ثم مالت برأسها وقبل أن تسأله، قاطعها هو بقوله:
وقبل ما تسألي أنا عرفت إزاي، هقولك مفيش حد بيتوه في عنوان هو حافظه ولا سِكة هو ماشيها بكيفه وخاطره، وأنا حافظك صم وحافظ نظرة عينيكِ مهما كانت.
ضحكت له بخجلٍ مصطنعٍ ثم حملت ابنها منه ثم سحبته حتى وقف هو وجلست هي موضعه وقالت برفعةٍ أنفٍ ولهجةٍ آمرة:
روح بقى أعملي ساندويتشين حلوين كدا وهاتلي كوباية عصير، بدل ما تبقى الراجل اللي اتغز يوم فرحه، وهو شايل ابنه.
ضحك بملء صوته ثم مال يقبض فوق وجهها بكفه ثم لثم وجنتها بقوةٍ حتى ضحكت هي الأخرى، ثم ضمت ابنها لعناقها فوجدته يبتسم أثناء نومه كعادته، فداعبت وجهه بأناملها ثم مرغت وجهها في وجهه وهي تقول بصوتٍ ضاحك:
عاوزاك لما تكبر تشكرني علشان أخترتلك أب زيه، سيبك من حالة التوتر دي دلوقتي، لما بيكون رايق ببقى هموت وأبوسه.
لأ ألف بعد الشر عنك، وأنا دلوقتي رايق روقان إنما إيه.
شهقت ما إن تأكدت من استماعه لحديثها، وقد تيبست موضعها فوجدتها يجلس بقربها ثم أشار لها فاقتربت تضع رأسها فوق كتفه وهي تضم ابنها، المشهد المُحبب لقلبها ولقلبه كل يومٍ، مهما بلغ عليهما التعب أشده ومهما كان اليوم ممتلئًا بالصعاب، لكن ثمة بعض المشاهد الحنونة في حياة المرء مثل هذه هي ما تُعينه على الاستمرار.
ولأنه رجلٌ عشق القمر والسهر.
كان يجلس يراقب قمره التي تحاول أن تصل لرفيقتها منذ الليل، كتم ضحكته وانقلب فوق الفراش يسألها بنبرةٍ ضاحكة:
برضه مارديتش عليكِ؟ مالهاش حق بصراحة.
رمقته قمر بطرف عينها ثم رمت الهاتف واقتربت تسأله بضجرٍ:
هي مش بترد عليا ليه؟ هو إسماعيل أهم مني؟
أومأ مؤكدًا ثم أضاف:
آه، وأهم من كل الدنيا، بطلي رخامة ونامي.
اقتربت تجاوره فوق الفراش ثم استعدت للنوم، نامت تكتم حزنها على رحيل أختها، فهي لم تتذكر ليلة واحدة مرت دون أن تحادثها فيها، حتى أنها كانت تنوي مشاركتها أحداث الزفاف وتعطي كلتاهما الأخرى التقرير المفصل لليوم، دقائق مرت وانتفضت من فوق الفراش صارخةً، صرخت وهي تشعر بضربات أسفل بطنها وفي منطقة الظهر، وقد اعتدل أيوب بلهفةٍ يسألها عن سبب البكاء، فقالت بصوتٍ متقطعٍ:.
مغص، تقريبًا تقلصات بس صعبة شوية، روحي بتتسحب.
كانت تتحدث بصعوبةٍ بالغة من آلامها فتحرك هو راكضًا لها ثم حملها وساندها حتى اعتدلت فوق الفراش وأمسك كفها فوجدها تشير نحو حقيبة الدواء، حينها ركض بلهفةٍ وعاد لها وسرعان ما تذكر شكل الدواء فأعطاها حبة الدواء وجلس بقربها حتى بدأت تننفس بشكلٍ اعتيادي، فأغمضت عينيها وكتمت ألمها، وما إن جاورها أيوب وسحبها لعناقه بكت في عناقه.
كانت تبكي لأجل فراق أختها، يصعب عليها المسافات وهي تفصل بين نصفها الثاني، وكأن جنينها هو الآخر يؤازرها بطريقةٍ مختلفة عن المواساة المعروفة، وكذلك فعل أيوب الذي ظل يمسح فوق قلبها وراسها حتى وجدها تتمسك به بوهنٍ وتستسلم للأمان برفقته.
ولأن النهايات تأتي بموعدها الصحيح.
كانت تلك التي شارفت على عناق النهاية، في عناق زوجها النائم، منذ أن عادا من الفرح وهو ينام بهذا العمق، بينما هي تعاني من أرق الحمل، قلق الولادة، تخشى لحظة الألم عن الولادة كما تعلم من الجميع وهو المتعارف عليه، فكانت مهرائيل تتقلب بين الفنية والأخرى، حتى وصلها صوته يقول بجمودٍ:
نامي، نامي دا العيل مخمضتيه جوة.
اعتدلت فوق الفراش وقالت بانفعالٍ غير مكبوتٍ:
مش عارفة أتنيل، أما دلوقتي ونومي طار، لما يشرف هعمل إيه بقى؟ نفسي أعرف نايم كل النوم دا إزاي؟ يا أخي ماشوفتش في روقانك والله، صدقني بحسدك من كل قلبي.
رماها بنصف عينٍ ثم عاد للنوم دون أن يكترث بتلك القنبلة الموقوتة، وقد استسلمت هي لغفوة قصيرة وعادت بين ذراعيه وبعد مرور دقائق لا تحتسب علت صرختها، انتفضت تضرب النائم بجوارها حتى انتفض وهدر بذهولٍ:
يا بنت المجانين أنا مال أهلي.
بولد يا بيشوي نبرت فيها؟ أديني بولد ألحقني.
فرغ فاهه ما إن وصله ردها، بينما هي سحبت الوسادة من خلفها تضربها في الأرض وهي تصرخ بملء صوتها بعدما شعرت بالألم يتزايد في بطنها وأسفل ظهرها:
أنتَ جاي تندهش دلوقتي، شيلني.
ومن جديد لا يعرف كيف يتصرف، وجل ما فعله راقب الساعة التي تقترب من الخامسة صباحًا وسألها بثباتٍ غريب على لحظته:
هو الواد دا قليل الذوق كدا ليه؟ حد يقلق الناس بدري كدا؟