قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وثلاثة وعشرون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وثلاثة وعشرون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وثلاثة وعشرون

أنا هو ذاته.
أنا الذي عاصرته يبكي بالأمسِ على حُلمٍ فاته، أنا الذي لاقيته ضائعًا حين تاه في السُبل بين الناس بحثًا عن دُنياه، أنا هو نفسه الذي احترق بالحرب وظن العالم نهايته قد أتت، اليوم تجدني عائدًا من الحرب ومن الإنطفاء؛ لأخبر العالم أن الخسارة الحقيقية ليست بسقوط المرء في أرض المعركة،
وإنما باستسلامه ومغادرته أرض المعركة.

صوت صرختها كُتِم شيئًا فشيءٍ، بدأت تتحرك بصمتٍ، بينما هو عاونها وسحب هاتفه يطلب رقمًا لا يعرف سواه، عقله عجز عن تذكر غيره، لذا طلب الرقم بأنامل تتحرك بعسرٍ فأتاه الرد بصوتٍ ناعسٍ، ليجيب هو بصوتٍ ضائعٍ وهو يرى شحوب وجهها:
أيهم هات العربية وتعالى مهرائيل بتولد.

انتفض الآخر من سباته وهرول في الغرفة، يسحب كل ما تصل له يده ويتحرك بخطواتٍ واسعة، وبعد مرور دقائق أوقف سيارته أسفل بناية رفيقه الذب خرج من المصعد يساندها وهي تكتم ألمها، وجهها تعرق وجبينها تندى لكنها تتحامل نظرًا للوقت الغريب هذا، عاون هو رفيقه وحمل منه الحقيبة وفتح له الباب، ثم عاد وجلس يقود السيارة لأقرب مشفى يصل إليه.

دخلت هي غرفة العمليات، وجلس زوجها بجوار رفيقه الذي ربت فوق كفه، كلاهما يجلس بملابسه البيتية، القلق بدأ يظهر فوق وجه بيشوي وهو يرمق الغرفة بضياعٍ، حملها لم يكن هينًا، عانت الكثير خلاله، رحمها كان صغيرًا على حمل الجنين، كل ذلك تذكره لتوهِ، راقبه أيهم فمال للأمام يقطع السبيل عليه ونطق بثباتٍ:
متقلقش، كلها ساعة وتطمن عليهم، جربتها قبلك دي.

انتبه له بيشوي وأومأ بصمتٍ، وقد تيقن رفيقه أن القلق بلغ عليه أشده، فتدخل بضجرٍ يسأل ويبحث عن جوابٍ للاستغاثة به:
بس هي حبكت عواطف أهلك تخليك تتصل بيا أنا؟ ما الدنيا مليانة ناس، بتصحيني ليه؟ فاكرني هاجي بالمياه السخنة؟

لم يكن بيشوي في مزاجٍ يسمح بالحديثِ، فقال موجزًا:
ياما عملت علشانك، أهي حاجة من اللي عليك، طول عمري وأنا جمايلي مغرقاك.

بلاش بقى خليني ساكت، هننشر غسيلنا الوسخ هنا؟

رمقه بيشوي بطرفه وتجاهله، بينما أيهم استقام واقفًا ثم ربت فوق ظهره وقال بشيءٍ من الهدوء وهو يستعد للمغادرة:
أبقى طمني عليها، يدوب هروح أنام شوية قبل الشغل.

راقبه رفيقه بعينين متقدتين، بالطبع لن يجرؤ ويحدثه بشأن البقاء معه، لكن هذا واجب الرفيق على رفيقه وها هو يتهرب منه، صمت واكتفى بقلة الحديث وهو يشعر بالتيه، هي بالداخل، وهو بالخارج والفاصل مجرد جدارٍ وبابٍ وفي الداخل كان عالمه يسكن، أغمض عينيه داعيًا ومُصليًا كي يطمئن قلبه عليها، حتى ضربت رائحة القهوة أنفه ففتح عينيه ليجد أيهم يجاوره وقد أتى له بالقهوة ومعها معجنات محشوة ثم قال بلامبالاةٍ:.

جيت أمشي صعبت عليا، قولت حرام دا مالهوش حد خليني معاه بقى وخلاص.

ضحك أخيرًا رفيقه ثم قال بصوتٍ مُحشرجٍ:
أنتَ عارف إني ماليش غيرك صح؟

ابتسم أيهم مؤكدًا جوابه بعينيه، فربت الرفيق فوق ظهره وعاد يكتنف الصمت، لحظات هادئة يتخيل القادم خلالها ولم يخرج من تلك اللحظة إلا حين سأله رفيقه بثباتٍ:
كلمت أهلها؟ جابر هيعملك حوار فيها دي.

انتبه لتوهِ فأخرج الهاتف ومد يده به لصديقه كأنه لا يملك حتى الطاقة لهذا الفعل البسيط، ففعلها رفيقه وبدأ يطلب الأرقام، حتى وصل لشقيقتها الصغرى وطلب رقمها فجاوبت هي بصوتٍ ناعس، فباغتها أيهم بقوله:
صباح الخير معلش أقلقنا نومك، أختك بتولد.

انتفضت من موضعها بلهفةٍ وهي لا تصدق لكنها تعلم أن أيهم لن يمزح بهذا الشأن، فتحركت توقظ البيت فوجدت والديها بالفعل استيقظا وتجهزا للتحرك، نزلت من البيت معهما بعدما بدلت ثيابها، فوجدت زوجها يوساب بالأسفل ينتظرها بجوار سيارته وقال بأدبٍ:
اتفضل يا عمي أنا هوصلكم، متقلقش.

كانت تريز بالسيارة وقد جاورتها مارينا وأمها وجلس جابر بجوار مقعد القيادة، وبعد أقل من نصف ساعة وصلوا للمشفى جميعهم، بعد التحيات والاستفسارات والقلق والخوف، ومبالغة طفيفة بالمشاعر خرجت الطبيبة أخيرًا وقالت بهدوءٍ وببسمةٍ عملية:
مبروك يا جماعة، ولدت وجابت ولد زي القمر ربنا يحفظه.

ابتهجت الملامح ونزلت المباركات تباعًا على بيشوي الذي ابتسم بسعادةٍ وهو يتلقى الأحضان منهم والمباركات، وصوت جابر ينطق بحماس جدٍ حديث المشاعر الوليدة لتوها:
حفيدي جه خلاص، جابر الصغير وصل؟

ووقتها أتت الشهقة العالية من تريز تهتف بتهكمٍ لاذعٍ:
فشرت، قال جابر قال، اللي في بالك دا تنساه، حفيدي هيتسمى اسم جديد، اسم حلو كدا شبابي يليق بيه وبأبوه، جابر دا لغوه من أيام حرب الخليج، دا حتى صحابه كلهم ربنا فرجها عليهم وخدهم، معرفش الباقي فاضلين ليه.

رمقها بحاجبٍ مرفوعٍ فيما بادلته النظرة بمثيلتها فمال أيهم عليها يهمس لها بما لم يصل لغيرها:
هدي اللعب يا تريز شوية مش عاوزين مشاكل، عديها ومشي المركب علشان خاطر ابنك ياكش تسميه مُرقس على اسم أبوكِ، مش وقته خالص يفضل يرغي.

وهي لم تعترف بالصمت يومًا.
قاموسها يخلو من الهدوء والإنكماش، هي تتمدد وتصل لما ترغب، لذا رفعت صوتها تقول بضجرٍ كي يصل حديثها للبقية:
هو أنا هخاف ولا هخاف؟ براحتي وراحة ابني، حفيدي وابن ابني أبوه وأمه بس اللي ليهم الحق فيه، طب أقولك؟ هسميه عبدالقادر علشان جرجس يبقى فرحان كدا ومبسوط لما أشوفه وأهو نرد جمايل الراجل اللي مغرقانا.

هي أبدًا لم تكن إمرأة هينة، هي داهية تشكلت في هيئة أنثى، وقد استطاعت إثارة غضب جابر كأنه قوات الأمن وهي متظاهرة شغوفة لم تخشْ الحكومات ولا القوات، جلس جابر أمامها بسخطٍ يتحداها بعينيه، وهي تفعل المثل، ناهيك عن ضحكات أيهم المكتومة بجوار خالته التي ما إن نظرت له رفعت رأسها بزهوٍ ثم أرسلت قبلة في الهواء لابنها الذي صرخت عيناه بالفرحِ.

بعد ساعةٍ أو ما يزيد عنها.
كانت مهرائيل تجلس فوق الفراش بالغرفة ومعها شقيقتها التي كانت تعاونها في كل شيءٍ، جلست تنتظر الصغير وتنتظر والده حتى يكتمل المشهد الذي قرأت عنه ما يزيد عن مئة كتابٍ وخمسمائة مقالٍ، ولم تستطع أن تصفه كما هو بمخيلتها، وقد ولجت الأسرة بأكملها، الجميع فوق رأسها عداه هو، حتى بحثت بعينيها وقبل أن تسأل بصوتٍ مهتزٍ أقرب للبكاء؛ ولج.

لم يلج وحده، وإنما ولج يحمل صغيره والقطعة الثانية من القلب، ولج كأنه رجلٌ اكتمل لتوهِ، فهي أتت من ضلعٍ ناقصٍ وأكملته، هذا الصغير فوق ذراعيه أتى كما قطعة كانت تنقصه من قلبه لِتُكمله، ترقرق الدمع في عينيها ما إن رآتهما، بينما زوجها اقترب منها يُلثم جبينها ثم وضع صغيره بين ذراعيها وهمس بحبٍ:
بصي ابننا حلو إزاي؟ عيونه زي شجر الزيتون.

هبطت بعينيها لهذا الصغير الذي رفرف بأنامله الحمراء وبدأ يستفيق على عناق أمه، وهي تراقب، تبتسم، تشتهي عناقه، فتضمه لصدرها بجسدٍ يرتجف، تلك الرجفة المُحببة للقلب، وجدت نفسها تشتم رائحته ثم رفعت عينيها لزوجها الذي ابتسم بحنوٍ ثم مسد فوق قبضة صغيره وقال:
مش لاقيله اسم، كل الأسامي طارت من عقلي.

كانت تبتسم، تراقب صغيرها وتراقب الملامح، ثم تنهدت ونظرت لشقيقتها التي همست لها بالاسم الذي سبق واقترحه بيشوي فقالت هي بصوتٍ حماسي:
الاسم اللي أنتَ اخترته في الأول.؟

روفانيوم.؟

أومأت هي بحماسٍ فابتسم لها ثم وافق على الاسم، اسم مشهور في اليونان والشريعة المسيحية، لذا كان اختياره واقعًا عليه، مميز كما صاحبه واختياراته، منفردٌ كما هوايته، يستحق الشغف كما أمه، كانت الساعة السابعة صباحًا بالدقيقة، وعندها بكى الصغير يطلب طعامه، فطرته تطلب الطعام كي يستمر، لذا ضحكت أمها وقالت:.

رضعي ابنك يلا، ومش عاوزة دلع خليكِ وراه لحد ما يقبل، هي في الأول بتكون صعبة والعيل مش هيبقى عارف بس معلش تعالي على نفسك، ماهي مش بالساهل تكوني أم.

وفي تلك اللحظة تدخلت تريز ترسل رسالة مبطنة:
ولا بالساهل الراجل يكون أب برضه، واخد بالك يا بيشوي.

هي لا تقصد المعني، هي تقصد آخرًا غيره رمقها رافعًا طرف فمه يستنكر حديثها، وقد تحرك المقصود جابر نحو ابنته ثم مال يراقب صغيرها، يراه ويراقبه ويحفظ تفاصيله دون أن يُفصح عما يدفنه في صدره من مشاعر غريبة، هو اعتاد القسوة ولم يستسلم قط للحظةٍ عاطفية، لذا مسح على رأس ابنته ثم نطق أخيرًا بثباتٍ ينافي عاطفية المشهد:
يتربى في عزك وعز أبوه.

ابتسمت له بسمة ممتزجة بالدمعِ، ثم ربتت فوق كفه الموضوع على كف صغيرها، كان المشهد حانيًا، معتملًا بالكثير من العاطفةِ، فتدخلت مارينا وطلبت تلتقط لهم صورة هم الثلاث مع بعضهم، ثم أدخلت بيشوي والتقطت الصورة الأولى للأسرة الجديدة، وقد اقترب بيشوي يُكرر هامسًا لمسمع زوجته:
ربما اليوم أو لربما غدًا
وربما تجمع بيننا الطرقات مجددًا
ربما بقصدٍ منها أو بدون قصد
و ربما تعمدتها القلوب أو بغير عمد.

لكن من المؤكد أننا سنبقى معًا
و بدلًا من ألمٍ حيينا به
سيحاوطنا الأمل
فربما ليس هذا اليوم
لكنه حتمًا سيأتي هذا اليوم.

رفعت عينيها له بوهجٍ زاد في زيتونيتها، فابتسم بسمة غير مكتملةٍ ثم ردد بنفس الصوت الخافت:
اليوم جه وأحلى من اللي حلمت بيه.

ولقطة الختام كانت الرأس يوضع فوق كتف المحبوب، والعضو الجديد يقع منتصف الكفوف وهو يستقر بنومةٍ هنيئة في عناق أبويه، وقد ضمهما يتنهد أخيرًا وعيناه تطوف بحثًا عن أمه التي ابتسمت بعينين دامعتين ثم أرسلت قبلة لابنها الذي أومأ بأهدابه لها.

بينما مارينا فوقفت تبتسم لأجل شقيقتها حتى تلاقت عيناها بعيني حبيبها الذي اقترب منها وقال بوقارٍ يليق به:
شوفتي إن الجواز فيه حاجات حلوة تستاهل نسرع الموضوع علشانه إزاي؟ أنا عن نفسي جاهز ومستني، امتحانك إمتى أنتِ؟

كتمت ضحكتها وقالت باستسلامٍ:
المناقشة بعد شهرين، وأبقى معيدة زيي زيك محدش أحسن من حد، بعدها نتجوز بقى ونخلف ونعمل كل الأنشطة اللي أنتَ عاوزها دي.

أنهت الحديث تهرب من عينيه، وقد مال أكثر يهمس بوقاحةٍ مُحببة لقلبها الذي يغرق فيه كل يومٍ أكثر:
طب ما تجيبي حضن واعتبريه تدريب عملي.

كادت أن ترفض لكنه ضمها يقربها منه حتى توسدت صدره برأسها، منذ أن تم زواجهما بالكنيسة واتمام الأكليل وهي تشعر أن عناقه هو المكان المفضل لديها، الرجل الوحيد الذي أجاد التعامل معها بكل نوباتها، كان هو وحده ولن يكون غيره.

< الحياة تُحيا مرتين، مرة بالحياة ومرة بالموت >.

إن الحياة في مُجملها تجربة.
تجربة وتستمر مهما كانت النتائج، حتى لو توقفت أنتَ تأكد أن الحياة تستمر، مجرد وقوفك لها مجرد تراهات لا تُعنيها بشيءٍ، فعلى كُلٍ أنتَ المُلام الوحيد في العالم إن توقفت وخسرت، وتذكر الشيء الأهم، خسارتك في الحرب تُحسب من اليوم الذي تستسلم فيه، وليس من يوم سقوطك بأرض المعارك.

نسمات صيفية لطيفة، دفء غريب تسلل وتوغل للقلب بعد العين، وكأنه مشهدٌ من الجنة فوق الأرض، حيث استيقظ من نومه ليراها هي أول ما طالته عيناه، اعتدل بهدوءٍ يراقب زوجته وهي تصلي ركعتي الضحى?، ابتسم عُدي بحنوٍ وهو يرى انتصاره نصب عينيه، كانت تسجد وتُطيل بالسجود وهو يبتسم حتى وجدها تنهي الصلاة، بينما هو تذكر كيف وقف بالليل يصلي وهي خلفه لمرتها الأولى بحياتها معه وكانت خير البداية.

راقبها وهي تقترب منه بعد أن أنهت الصلاة ثم خلعت الاسدال وأسدلت خصلاتها البُنية بلمعةٍ ذهبية خاطفة، رآها تبتسم له كأنها تختصه هو وحده بتلك البسمة، بينما هو همس بصوتٍ محشرجٍ:
صباح الخير يا عروسة.

ابتسمت له بخجلٍ يليق بموج عينيها الهاديء، بينما هو اقترب يُلثم وجنتها ثم همس قرب أذنها بقوله:
مانمتيش ليه؟

وأتى ردها بتيهٍ أو ربما به بعض التوتر:
مش عارفة، متعودتش أنام برة أوضتي، بفضل سهرانة، شوية وهتعود متقلقش، أنتَ إيه اللي خلاك تصحى بدري؟

نصيبي علشان أشوف المنظر الحلو دا.

كان يقصد رؤيتها فابتسمت هي له دون أن تهرب من عينيه تلك المرة، تركته يغوص في عينيها الزرقاوتين، بينما هو من خلال نظرة واحدة أيقن أنه أكمل احتلاله لها، استوطن وفتح وأعلن من عينيها عاصمةً لقلبه، إن كان هناك من سبقه واحتل جزءًا، فهو أتى واحتل الكل، أصبحت له بنظرة عينها، ثم استسلمت بقلبها، وفي النهاية أصبحت زوجته ومسكنه.

كانت تضع رأسها فوق كتفه تحارب النوم الذي يُثقل جفنيها، هي لم تعتد المكان ولا الغرفة، شخصية مثلها تتعلق بكل أشيائها يصعب عليها أن تتقبل التغيير المفاجيء، أنزل عينيه نحوها ثم سألها بنبرةٍ ضاحكة:
طب ما تنامي يا رهف ليه العذاب دا؟

رفعت رأسها تقول بثباتٍ واهٍ وهي تغالب النوم:
معاك يومين كاملين لحد ما اتعود، أقولك على حاجة تانية؟ أنا مش عارفة أدخل الحمام، ومتسألنيش ليه، لو أعرف كدا كنت أجلت الجواز شوية.

رفع حاجبيه بذهولٍ ثم أعادها لعناقه يابت فوق رأسها كأنها طفلة وهو يجبرها على النوم، تركها لثوانٍ قبل أن تعود وتفتح عينيها وتقول كأنها تذكرت لتوها هذا الأمر:
صح، ماما بتسلم عليك، لاقيتها فاتحة من شوية كلمتها.

عاد الاستنكار يتلبسه فسألها بضحكةٍ مكتومة:
أنتوا عيلة كلها سَهيرة بقى مالكوش ظابط ولا رابط؟

ضربته فوق كفه بغيظٍ مكتومٍ فعاد يضحك ثم لثم وجنتها وهمس بوقاحةٍ تتعجبها مع هدوء طباعه ورزانة عقله على الأغلب في حياته العملية والروتينية:
طب شكرتيلها فيا؟

توسعت عيناها وهي تنأى عنه للخلف، فهمس ببراءةٍ:
أقصد يعني قولتليها إني طيب وابن حلال واستاهلك ولا لأ؟

هي عارفة ومتأكدة مش محتاجة مني أقول.

كان هذا ردها وقد ضحكت رُغمًا عنها وهي تُحدثه بينما هو عاود ضمها ثم لعناقه ثم ربت فوق خصلاتها وهو يقول بهدوءٍ يُنافي عاصفة وقاحته السابقة:
نامي، لو غمضتِ عينيكِ وحطيتي في راسك إنك في حضني هتعرفي تنامي، أنتِ معايا هنا يعني الأمان كله هنا، حاولي بس.

استسلمت على مضضٍ، حاولت أن توازي حركة عينيها وتنام، بينما هو فظل يُربت فوق خصلاتها ويحرك أنامله حتى شعر برأسها يزداد ثُقلًا وكذلك نبرتها وهي تقول قبل أن تغرق في النوم:
أنا بحبك علشان علطول بتعرف تطمني وتخليني أرتاح، مش أنانية مني قد ما هو حب ليك وللي بتعمله علشاني، أنا كنت حاسة إني ماليش مكان في الدنيا، بس من ساعة لما ظهرت أنتَ ولاقيتك وأنا حابة الدنيا.

لا يعلم هل استرق منها الاعتراف هذا، أم هي من أهدته إياه طواعيةً منها، لذا قبل أن يرد هبط بعينيه لها فوجدها غفت بالفعل في عناقه، أخيرًا استسلمت للنوم، فعاد وضمها بكُليتها بين ذراعيه ثم غفى? هو الآخر بقربها، وهو يشعر أن خوفه من شيءٍ ما تلاشى?.

والحق يُقال، أنه بلا شكٍ قد لا تأتي على المرء لحظة أشد اطمئنانًا من تلك اللحظة التي يتخلص فيها من شيءٍ كان يقلقه ويُقلق نومه وخاطره، حتى وإن تحقق الشيء المرهوب فإن المرء قد ينل حُريته من أسر انتظارٍ ساحقٍ لروحه، الأمر حقًا يستحق أن يتعمق الإنسان فيه وينتظر لحين انتهاء لحظته المرهونة؛ إما في سبيل التحقيق، وإما في سبيل الخلاص.

< في المرتين خلال هذه الحياة نِلت الحياة بذاتها >.

التجارب الفاشلة التي نمر بها لا تُعني فشلنا نحن.
فربما الفشل يكون من الطريق الذي سلكناه منذ البداية، أو من الأشخاص الذين قررنا معهم خوض التجربة، فلم يقدروا حجمها، فشلك في بعض الأحايين لا يُعني أنك فاشل بالفطرة، وإنما رُبما المُعطيات لك هي التي لم تسمح لك بالنجاح الكافي.

استيقظ هو أولًا.

قام بتأدية ركعتي الضحى، خرج للشرفة يتابع شروق الشمس، وحركة الطيور فوق قرص الشمس المُضيء، نسمات مفعمة بالدفء رفرفت فوق قلبه فجعلته يتنفس لأول مرةٍ، وعلى ذكر التنفس هذه هي ليلته الأولى بدون مهدئات للنوم، ليلته الأولى للنوم بحريةٍ بدون قيود، كانت شقته في نفس بناية يوسف و عُدي وهو في منتصف البناية بينهما، قام بشراء الشقة بعد أن ترك الأخرى لأمه، أراد أن يستقل فانعزل في عالمٍ جديدٍ من صنع يديه.

ولج المطبخ يبحث عن فطورٍ يصنعه، كان يشعر بسكينةٍ تغمره، راحة غريبة عليه، دفءٌ في بيته كأنه عاش عمره بأكمله في الصقيع، اشتهى قدحًا من القهوة فصنعه لنفسه وهو يقف في انتظار تسويتها، وإبان إندماجه شعر بحركةٍ خلفه، فالتفت بحركةٍ هادئة يرى حنين وهي تقترب منه ببسمةٍ بشوشة، تختصه هو وحده بنظرةٍ لم ير مثيلتها في حياته قط، وقد جاورته ثم قالت بهمسٍ حانٍ:
مصحتنيش ليه؟ عاوز تفطر؟

حرك رأسه نفيًا وأضاف بهدوءٍ وهو يراقب نظرة عينيها له:
لأ أنا بس حبيت أكتشف المكان، وكنت عاوز أشرب قهوة، بس لاقيت حاجة أحلى منها تظبط دماغي بصراحة.

تحولت نبرته للشقاوة، يتحدث وهو يصول ويجول بعينيه فوق ملامحها وقد أتت تجاوره وهي تقول بتوبيخٍ خفي كأنه لم تصرح به:
شكلك مش سهل يا نادر مع إن يبان عليك غلبان.

ضحك رغمًا عنه ثم ضمها حين وضع كفه بخصرها فألصقها بصدره ونزل برأسه يسألها بحيرةٍ كان نصفها حقيقيًا:
أموت وأعرف فين الغُلب دا؟ محدش غيرك شايف إني غلبان ومن بدري على فكرة، ياريت الدنيا كلها كانت شافتني بعيونك يمكن كانوا شافوا الحلو اللي فيا هما كمان يا حنين.

طالعته بحنوٍ وكأن عينيها تسرد معنى اسمها له بشرحٍ كافٍ، وقد وضعت كفها تبسطه فوق خافقه وهي تقول بصوتٍ هاديء زلزل كل ذرةٍ بكيانه المهدوم كرجلٍ فقد أسمى معانيه:.

محدش بيشوف القلوب واللي فيها، دي ربك وحده اللي مُطلع عليها، بس ربنا بينور بصيرة ناس لناس تانية، أول مرة لما شوفتك وقولت عليك طيب ماكنتش بهزر ولا قولت كدا علشان أنتَ صعبان عليا، بس علشان فعلًا شوفت في عينيك غُلب الدنيا، حسيت باللي في قلبك، اتمنيت أداوي القلب دا وصاحبه.

سارت قشعريرة في جسده، اهتز ثباته أمام نظرة من عينيها، حديثها له عاد بما كان يفتقده، كأنها غاصت في بحره وعثرت على كنزه المفقود ثم طفقت فوق السطح له لتعاكس سطح المياه بلمعة الذهب الخالصة، والذهب هنا المقصود به عينيها، لذا مال وطبع قبلة فوق وجنتها التي تقابل وجهه، ثم أضاف بصدقٍ:
داويتيه، داويتي القلب وصاحبه يا حنين بوجودك.

ضمها لعناقه بقوةٍ كأنه يتشبث بها، هي الأمل الأخير.
الحنين من بعد قسوة المشاعر، الأمل من بعد ألمٍ قطع ومزق في روحه، لتوهِ أدرك أن الخسارة مُحتمة عليه حتى ينل الربح الكبير، وهي وحدها بكل ربحٍ في الدنيا، يتذكر ليلة الأمس كيف ضمها لعناقه وكيف تقبلت الحياة معه، كأنها تمحو بهذا الفعل كل ذكرى سيئة.

جلس معها، تناول فطوره بصحبتها، مازحها وضحك معها، وهي ضحكت حين ظل يسخر منها، ذكرها بفترة جلوسها معه حينما كانت ترعاه وتُداوي جراح جسده، ذكرها بالحياة حين التقيا سويًا وكانا تائهيْن في الحياة، ذكرها كيف مرت الحياة وكيف انتهى بهما السبيل سويًا في نهاية المطاف ليكونا واحدًا.

لذا في المرتين خلال تلك الحياة وجد الحياة بنفسها.
خاصةً حين همست هي له ما إن اقتربت منه تُلثم وجهه:
ربنا ما يوجعلي قلبي منك ولا عليك.

وقتها تذكر هو كيف سبق وألمه قلبه من الحُب، تذكر أن الجرح الذي يأتي مِن مَن هُم ذي قُرب تكون كارثة لأهل القلب، لذا قطع الوعد بصدقٍ قبل أن يُعيد القرب واللقاء حيث رأسها يتوسد صدره وترتكن عليه كأنه خير الجدار الآمن:
وعد عليا كل اللي سبق واتوجعت منه، يحرم عليكِ وعلى قلبك.

وانتهى المشهد بختامٍ يليق بهما.
يليق بقلبين سبق وكانت قصة كلًا منهما مليئة بالقسوةِ، قسوة لن تُضاهيها رأفة غير من قلبٍ عشق ووقع في الهوى?، قلوبٌ كبلها العشق بأصفادٍ من حديدٍ لتعلم أن هُنا في هذا المكان ستجد موطنها من بعد التيه، والفرج من بعد الضيق.

< في الأمس كنت مقتولًا، واليوم استيقظتُ رابحًا >.

مرت الليلة بين حالين مختلفين.
هو لا يعلم أين مستقره وأين مرساه، لكنه يتيقن أنها تعلم جيدًا، قلبه يحدثه أنها بوصلة الطريق وإن ضاع فيه، يخبره عقله أنه وإن جنَّ جنونه، ستكون هي الهداية والتعقل، يخبره جسده أنه مهما تألم وتشنج، بين ذراعيها سوف يجد أمانه وأمنه.

الساعة تخطت السابعة، ولأول مرةٍ يتخطى نومه الثلاث ساعات، نام كأنه لبث في كهفٍ لمدة عامٍ، خاصةً وبعدما احتوته زوجته وأطنبت سمعه بسماحها وبقائها معه، كانت لحظة تستحق أن يُخلدها في دفتر الحياة، أنها أعادت له أنفاسه بعدما سلبتها الحياة منه عنوةً، لذا استيقظ، وقام بتأدية الصلاة، ثم ركعتي يشكر بهما خالقه.

واستيقظت معه دهب كأنها تشعر به، وجدها تخرج من غرفتها ضاحكةً له وهي تتهادى في خطواتها ثم أمسكت بنطاله، فتاته تخطت عامها الأول بصحبته، لذا مال عليها يحملها فوق ذراعه بكفٍ وبالأخرى مسد فوق وجنتها الناعمة ليراقب ضحكتها وتجويف خديها العميقين، ورثت من أمها ضحكة مُضيئة لا يراها سواه، وجدها تحتضنه كأنها تعاتبه على فترة غيابه عنها، لذا مسد فوق ظهرها ثم همس لها كأنها تفهمه:.

مقدرش أبعد عنك أنتِ بالذات، نصيبك إني أبوكِ.

وهي بالطبع لن تفهمه، لكنها غمغت تكرر كلمته المحببة منها، الصفة التي بغضها بشدةٍ، بل كره العالم بأكمله بسببها، وكان يُعلن الخصومة على العالم كون تلك الصفة هي التي جعلته حيًا فوق الأرض كي يستزفه أبًا زرع فيه الكره تجاه أي أبٍ حتى هو نفسه، لكنها تلك الملاك الصغير بأقل فعلٍ يصدر منها تُعيد له أبوته المفقودة، تخبره أن الطفل فيه ربح على الرجل المقهور، تناديه ب بابا وتنتظره يحتضن ويضم كي تثبت له أن ما ضاع منه لازال باقيًا بين حنايا قلبه.

بدأ يتجول في الشقة بصحبتها، ولج المرحاض وهي معه، غسل لها وجهها، وكذلك خصلاتها، ثم قام بتفريش أسنانها، عناية كاملة فائقة قدمها لها، عاونها كي تجلس فوق المرحاض رغم صغر سنها، بدل لها ثيابها البيتية بفستانٍ أبيض قصير فضفاض مزركش بفراشات زرقاء، ثم وضعها فوق كتفيه يمسك قدميها بكفٍ يدعم جسدها كي لا تسقط وبكفه الأخرى بدأ يُفرش أسنانه وهي تضحك عليه، تضحك وضحكتها تُجلجل حين يهبط بها للحوض ثم يرتفع من جديد.

خرج يصنع الفطور وهي معه أيضًا، لم يتركها وحدها، وهي حتى لم تطلب أمها، بل ظلت بصحبته تجلس فوق كتفيه كأنها وجدت راحتها بهذا المكان أخيرًا، وفي تلك اللحظة خرجت سمارة من مرحاض الغرفة الخاصة بها، ثم خرجت تبحث عن ابنتها فلم تجدها، إلا حينما وصلها صوت إيهاب يُهدهدُها والأخرى ضحكاتها تُجلجل في البيت، فوقفت تبتسم وهي تراه يُعضعض في قدم صغيرته التي انهارت من الضحك فوق كتفيه.

اقتربت سمارة تقف بجواره وهي تقول بهمسٍ خافت لا يخلو من التبسم البائن في صوتها:
شكلكم حلو أوي وأنتوا رايقين كدا، من بدري ملعبتش معاها.

تلاشت بسمته وتنهد مرغمًا وقال بأسفٍ:
كنت غبي حقكم عليا، هي كمان وحشتني أوي.

أومأت له بموافقةٍ ثم أخذت منه الصغيرة وهي تتفحصها، فوجدته صنع لها جديلة من مقدمة رأسها حتى النهاية، وصلها عطر الصغيرة وهيئتها المنمقة فقالت بنبرةٍ ضاحكة:
أنتَ عملتها كل دا؟ غريبة ماحسيتش بيك خالص، كنت صاحيني أساعدك، عرفاها دماغها حجر وعنيدة، بس كويس إنك قدرت عليها، علشان هي بتحب شعرها علطول من غير ما يتسرح.

ضحك وعاد يراقب الطعام الذي حضره لأجلهما وقال بثقةٍ:
دا معاكِ أنتِ علشان بتدلع عليكِ، إنما معايا لأ علشان قليل لما دا يحصل فكانت ساكتة، بعدين أنا بنتي مبتغلطش بقى، وبراحتها تعمل اللي يعجبها، عندك اعتراض يا سمارة لا سمح الله؟

لوت فمها كأنها لا تكترث ثم تخطته وجلست تحمل ابنته عند الأريكة المُطلة على الركن الرخامي، تلعب معه أكثر الألعاب التي يبغضها، لا تعطيه كامل السماح ولا تبخل عليه بحنوٍ من لين قلبها الصادق، تتجاهله عن عمدٍ وعيناها لم تُبرح موضعه بكل قصدٍ، راقبها وهي يتخيل مصيره بدونها، بحث وفند الأسباب التي تجعله يبتعد فلم يجد سوى أنه لا يظلم غيرها في حكاياه بمختلف حبكاتها.

هو الكاتب الأكثر ظلمًا واجحافًا في روايتها هي.

راقب الغُلب في عينيها وقلة الحيلة وكره نفسه لآلاف المرات، فتلك هي المرة التي لا يعلم عددها ليجدها تُنصفه على نفسه، حيث تذكر أول مرةٍ أرسل لها بخبر خلاصها منه حين حُكِم عليه بالسجن، فوجدها تتمسك به، تخبره أن العالم دونه لا يُعنيها شيئًا، أرسلت له أنها لن تتحرر من قيده مهما طال الوقت، ومن بعدها الكثير والكثير ونهايتها الأمس وهي تختاره هو عن كبرياء أنوثتها.

لذا أخذ الفطور ثم اقترب وجلس بجوارها وهو يقول بهدوء:
عارف إنك لسه متضايقة وهتاخدي وقتك لحد ما تعدي اللي حصل، وأنا مش هجبرك على حاجة، بالعكس أنا عاوزك تنسي كل حاجة براحتك خالص، ولحد وقت ما تحسي إني استاهل تسامحيني بعقلك وقلبك مع بعض، أنا هفضل مستنيكِ تحني.

ابتسمت بسخريةٍ ثم تنهدت بثقلٍ وهي تتبع التنهيدة بقولها:.

قال يعني أنا عندي حل تاني، عارف يا إيهاب والله أنتَ صعبان عليا، صعبان عليا علشان بتشيل هموم الناس كلها فوق كتافك، هَم أخوك وصحابك والحج وعياله، بتشيل هم كل الناس ماعدا نفسك، حتى أنا معتبرني كدا هدية فوق البيعة، خوفت على كل دول، بس ماخوفتش عليا من غيرك؟ أنا اللي مالهاش حد غيرك خالص، لا أب ولا أهل ولا ليا غيرك، وبرضه بتهرب مني، أهرب براحتك وأنا هسيبك لحد ما تتأكد إنك مالكش غيري.

قبل أن تتحرك قيد أنملةٍ أوقفها هو.
أمسك يدها يقبض فوقها ثم أعادها لسيرة جلوسها الأولى، أمعن النظر في عينيها ثم قال بقلة حيلة حقيقية وغلب على أمره في حبها:.

مش محتاج منك تعرفيني إني ماليش غيرك، أنا عارف ومتأكد من كدا كويس أوي يا سمارة والدليل إني جيتلك لوحدي أقولك اللي مقدرتش أشيله بيني وبين نفسي، طب عارفة إن دي تالت مرة تصعب عليا نفسي فيها؟ أول مرة لما كنت عيل صغير وخارج بأخويا على أيدي ومجبور أجري في الشارع بيه وهو بيموت مني، يومها كنت خايف، قلبي كان بيترعش، كنت بموت ومش عارف أعيط، والمرة التانية يوم ما زقيت أشرف الموجي ومات، وقتها الدنيا ضلمت في عيني، شوفت نهاية كلها سواد، عيل وقتل أبوه مصيره هيكون إيه يعني؟ تالت مرة دي بقى كانت لما عملت اللي عملته آخر حاجة.

توقف يلتقط أنفاسه المهدورة في حرب الذكرى ثم قال بضيقٍ خيم فوق صدره لكنه امتزج بعاطفةٍ صادقة:.

يومها كنت مبسوط وحاسس إني كسبت سباق العمر، بس حاجة جوايا فضلت خايفة وبتترعش، تقريبًا دا الجزء اللي جوايا متعلق باسمك، كنت خايف من خوفك مني، خوفت من زعلك اللي يعز عليا، صدقيني أنا نفسه إيهاب العيل الصغير اللي كل مرة يعمل الغلطة ويطلع يجري علشان يدور على حد يتحامى فيه، ونصيبك إني بقيت بجري من نفسي ليكِ أنتِ.

وضع رأسه في عناقها يعلن حاجته لها، يحتاج حمايتها بغير حديثٍ، يلجأ إليها من فرط تعبه وينتظر منها تكون جدارًا آمنًا كما هو مع غيره، وجدها ترتجف تمنع البكاء، ثم ضمته بذراعها تحتويه قرب ابنته التي تجلس في عناقها ثم همست له بأنين مكتومٍ من فرط حنينها وألمها لأجله:
وأنا راضية إنك تهرب من الكل حتى نفسك وتجيلي أنا.

رفع عينيه يستشف صدقها فوجدها تبتسم له ثم مالت برأسها تطبع قبلة فوق جبينه كأنه صغيرها وتراضيه بعدما أغضبته دنياه، تمامًا كما كانت تفعل أمه حين كان يشكو لها من والده في غضبه، ثم ربتت فوق خصلاته الكثيفة التي استطالت مؤخرًا فزادته وسامة شرقية فوق وسامته الحادة بمنظورها هي، ثم مازحته بجرأةٍ معهودة منه كأنها تعود لسابق عهدها معه:.

خد بالك أنا لسه عند موقفي وعاوزة أشوف شقاوة إيهاب وهو صغير، عاوزة ولد يكون شبهك، علشان ألاقي حد ياخدلي حقي منك تالت ومتلت.

ابتسم هو لها بسعادةٍ مفرطة ووازى الجُرأة بقوله يمازحها:
دا معناه إن شقاوة إيهاب وهو كبير مش مقصرة؟ بعدين أنتِ مش محتاجة حد يجيبلك حقك مني، أنا عن نفسي باجيلك لحد عندك طالب السماح والوصال، ومعاكِ يومين بحالهم هنا جنبك وجنب دهب وواخد إجازة من كل الدنيا علشانكم.

عادت البسمة لوجهها وهي تراقبه يعود ويغمض عينيه مستسلمًا للنوم بقربها، وقد ظلت هي بموضعها حتى سقطت ابنتها في النوم هي الأخرى فتركتها في عناقه وانسلتت هي من بينهما بعدما تركتهما سويًا ثم لثمت كليهما وكأنها تحفظ عالمها الصغير بكنفها، فيكفيها قسوته على نفسه، ولن تُزيد هي من جلل الأمر، هي الرحمة التي لم يسبق له أن يعهدها، وهي الملاذ الذي سبق وحُرِم منه، فهل يُعقل أن ينفي الوطن من حارب لأجله؟

< لو كانت حُريتي من أسركم بحرماني منكم، فلا أريدها >.

هناك بعض الأمور يختار المرء فيها الأسر طواعيةً.
بكل شفافيةٍ دون إجبارٍ أو تعنت، أو حتى إلحاحٍ، سيقبل هو أن يرضخ للحكم، يتقبل الطغيان في حقه، يخشى هجر الموطن، يخاف من فوضى ثورة قد تطيح بكل ما تطول يداها، لحظةٌ سيفتح فيها ذراعيه ويقبل أن يطير داخل قفصٍ يُكبل حُريته.

الساعة وصلت العاشرة صباحًا.
لازالت ترفض التحرك من مطرحها، تجلس فوق الرمال، المياه تداعب قدميها بصراحةٍ كأن المد يُغازلها، تراقب قرص الشمس الأحمر بآشعة تُلطفها نسمات البحر، تكتب اسمه فوق الرمال فتعاندها المياه وتمر عليه وتمسحه، فتعيده هي وتكتبه من جديد وهي تضحك سرًا وجهرًا.

بينما هو فجلس على مضضٍ يلعن نفسه وتصوره، فهي حتى الآن لم تنم ولم تتحرك من موضعها، هو الذي ظن الأمر مجرد دقائق وسوف يخلد للراحة في شقة أمه، لكنها كما طفلة صغيرة تعنتت ورفضت التحرك بل جلست فوق الرمال ولم تكترث به، ولأنه بطبيعته ضيق الخُلق، اقترب منها وقال بجمودٍ:
هتقومي ولا أشيلك قدام الناس وأقولهم مراتي وفي شهر العسل؟ متراهنيش نفسك على جناني، أنا فالتة مني يا نورهان.

زفرت هي بحنقٍ واستغفرت ربها سرًا ثم واجهته بقولها:
ليه بتبوظ اللحظة؟ يا سيدي أطلع نام وسيبني، أقولك؟ اعتبرني جنية وخايف تقرب منها وأنا والله هنساك خالص لحد ما تفوق من نفسك.

تنسيني آه، دا أنتِ كاتبة اسمي فوق الشط 200 مرة لحد دلوقتي، دي الرملة قربت تشتمك بأهلك من كُتر زهقها مني ومنك ومن اسمي، قومي يا نورهان أنا عاوز أنام، وأكيد مش هآمن أسيبك هنا وأطلع أنام، قومي ربنا يهديكِ.

كان ذلك هو رده عليها، وقد راقبت ملامحه عن كثبٍ فرأت في عينيه التعب جليًا، لذا تنهدت بقوةٍ ثم قالت بإحباطٍ جليٍ فوق ملامحها:.

بحب الشروق أوي، أكتر وقت بحبه في كل اليوم، الوقت دا بيديني أمل علطول، أمل إن النور بيطلع، والضلمة مبتكملش، بيديني طاقة أعيش يوم كامل غامض معرفش مخبيلي إيه علشان بس أشوف الشروق اللي بعده، والساعات اللي بعده بحبها علشان فيها حياة كاملة بريحة الشروق، حقك عليا بس الفرصة مش بتيجي كل يوم، وأنا فرصي كلها بتيجي مرة واحدة.

فهم المقصد من حديثها، نظرتها كانت تقصده هو رغم إنها كانت تواري كلماتها خلف أخرى مُستترة، وقد سحب كفها وقام يتحرك بها بخطواتٍ متثاقلة بسبب كثافة الرمال، وقد هتفت هي تستجديه بقولها:.

طب خلينا يوم كمان طيب، بلاش نمشي النهاردة، علشان خاطري أنا عمري ما طلبت منك طلب وفضلت أزن كدا عليك، بلاش تكسر بخاطري يا باسم في طلبي منك، علشان خاطري بس أقف اسمعني، بلاش نمشي النهاردة، خلينا والله مش هطلب منك حاجة تانية، أنا أصلًا مش عاوز.

بس! كفاية رغي كلتي دماغ أمي.

التفت يهدر في وجهها بصوتٍ عالٍ فكانت أن تبكي أمامه، وحينها وقف أمامها يتنهد بثقلٍ ثم سألها بنبرةٍ نفذ منها الصبر:
بتعيطي ليه؟ يعني أنا متنيل على عيني كل دا علشان أفرحك وفي الآخر تعيطي كدا؟ هتخليني أندم إني جيبتك هنا.

حركت رأسها نفيًا وقالت بصوتٍ كُتِم فيه البكاء:
بعيط علشان دي أول مرة ألاقي حاجة كان نفسي فيها، متعرفش أنا فرحت إزاي علشان حسيت إنك مهتم تفرحني، يمكن أكون رخمة وعاوزة آخد أكتر من المفروض آخده، بس أنا ما بصدق إنك تعمل حاجة علشاني، أنا حتى بابا نفسه عمري ما شوفته عمل حاجة علشاني، أنتَ بس اللي بتعمل كل حاجة علشاني يا باسم.

راقبها بعينيه مغلوبًا على أمرهِ.

هي نقية بقدر ما دنسته الحياة، تحتاجه بقدر ما يحتاج الوطن للأحرار، تتطلب منه مقاومة بقدر ما يقاوم الثوار في الميادين، هي بصورة أخرى تشبه الوطن المغصوب على التحمل والصمود، لذا أمسك كفها وبدون حديثٍ التفت بها، دار للجهة المُغايرة حيث الشاطيء وركض بها فجأةً وقبل أن تدرك هي وجدته يوقفها عند مقدمة الشاطيء ثم ضربها بالماء حتى لامستها فصرخت ضاحكةً وبدأت تنتهج لعبته بنفس الطريقة وكأن الحياة عادت بعودة الحُرية لكليهما.

بعد مرور ساعتين.

كانت تجلس فوق الأريكة ترتعش والمنشفة فوق كتفيها، وخصلاتها الندية كانت تُقطر بعض قطرات الماء بعد أن تحممت وجلست تنتظره لحين يُحضر الفطور، وقد بحثت بعينيها في الشقة القديمة، شقة بأحد أحياء مدينة الاسكندرية القديمة، بناء عريق سقفه عالٍ، شقة واسعة بأثاثٍ قديمٍ يليق بعراقة المبنى?، وقع بصرها على صورة أمه، صورة عائلية له مع كل أفراد أسرته قبل الرحيل، وصورة له مع كِنز وصورة أخرى مع شابٍ يُشبهه.

تحركت نحو الرف والتقطت صورته مع الشاب وضيقت حاجبيها وجبينها، كان باسم يحمل فوق ظهره شابًا يُشبهه إلى حدٍ كبيرٍ وكان كلاهما عاري الجذع عند شاطيء البحر، ولكل منهما نفس لون البشرة تقريبًا، نفس الجسد القوي، نفس الطول بالتقريب، ونفسها الضحكة الحُرة التي تنطق وتهتف بالنضال، لأول مرةٍ تواجه صورة له مع حمزة لتلاحظ الشبه والتقارب الكبير بينهما، ابتسمت بحزنٍ وشجنٍ على الراحل وبسمة حبيبها التي رحلت هي الأخرى? ولم تعهدها بهذه الحيوية.

ولج في تلك اللحظة يحمل في يديه حقائب الطعام، وقد التفتت له تحمل الصورة التي حاول آلاف المرات يهرب منها، وجدها تقترب منه وهي تقول بأسفٍ حينما لاحظت نيران نظراته:
أنا. أنا والله كنت بشوف الصورة ولاحظت دي علشان شبهك أوي، كأنكم أخوات مش صحاب، الله يرحمه كنتوا شبه بعض أوي، عارفة إن أنتَ مش بتحب تواجه ذكرياتك معاه، بس لو عاوز تقول حاجة قول وأنا هسمعك.

ترك الحقائب وسحب الصورة منها بكل هدوءٍ يراقبها بقلبٍ مفطورٍ على الراحل، لمع الدمع في عينيه ثم ازدرد لعابه حتى اهتزت تفاحة آدم بعنقه وقال بصوتٍ محشرجٍ إثر براكينه المحمومة:.

الصورة دي كانت هنا، في نفس المكان اللي كنا فيه تحت، كنا قبلها كاتبين مقال ضد وزارة الشؤون الإجتماعية ووزارة الداخلية بسبب الملاجيء واللي بيحصل فيها وأطفال الشوارع، قبلها كان فيه رجل أعمال اغتصب بنت من دار أيتام ورماها في الشارع ومحدش جاب سيرته، وبالطريقة الخبر وصلنا أنا و حمزة وكتبنا عن القضية دي، ونزلنا صور وتقارير طبية كمان موثقة، الدنيا اتقلبت علينا مقعدتش، وساعتها أبو حمزة طلب مننا نختفي لحد ما يشوف حد يهدي الدنيا من معارفه، جينا هنا وقتها وقعدنا مع بعض أسبوع، كان حازم أخوه بييجي يتطمن علينا كل يومين ويمشي، والشقة دي كانت بتاعة أمي علشان موظفة حكومية، فكان مستحيل يتشك فيا إني هنا، من الآخر كدا الشنطة فيها كتاب دين، يعني مستحيل استخبى من الحكومة في حضن الحكومة.

ابتسم بسخريةٍ وقال بوجعٍ لازال يحرق في روحه:.

وقتها فرحنا علشان حق البنت رجع ورجل الأعمال دا خسر كتير أوي، مراته وبيته وحياته وشغله واتحبس في كام قضية منهم تحرش واغتصاب، قررنا نكافيء نفسنا ونفرح هنا، ودي كانت الصورة اللي وثقت وجودنا هنا، حمزة كان ومازال بطل الحكاية حتى لو ميت، البطل اللي بحياته تلاقي ألف درس، وبموته هتلاقي مليون درس، كان كلامه أكبر من سنه، كان واعي لكل حاجة حواليه، عارفة كان بيقول إيه؟

نزلت عبراتها وهي تنفي معرفتها، فأضاف هو بصدعٍ في القلب:.

كان بيقول إن الحرب اللي من غير سلاح هي دي الحرب اللي لازم نقلق منها، قال إن العدو عمره ما هيكون غبي ويضربك في يوم وليلة، عدوك الذكي هتلاقيه مخطط لوقوعك من سنين، مفيش عدو عاوز عدوه واعي ليه، عدوك هيعوزك جاهل، ضعيف، مشتت، جعان، هيعوزك متعرفش قيمة اللي عندك، عدوك اللي أنتَ فاكره ناسيك، بيدرس كل حاجة فيك علشان لما ييجي يضرب يعرف يوقعك، كان كلامه قصده على الشباب والمخدرات والدين اللي اختفى من الحياة، نشر العلمانية واللعب في العقول، تدمير التعليم، نشر الفساد والمُلهيات، كل دي حاجات كفيلة توقع أكبر دولة مهما كانت، علشان كدا اللي زي حمزة بيتخاف منهم، بس حمزة لو مات هييجي غيره 100، الحق صوته عالي، و حمزة كان صوته صوت حق.

اقتربت منه تربت فوق كفه، راقبت العبرات المتحجرة في عينيه ثم همست تُشدد من أزره بقولها:
تعرف إنك كسبت؟ كسبت نفسك وكسبت حق حمزة لما حاولت ورجعته، كسبت إنك بقيت بتنشر وعيك وتساعد اللي محتاج صوتك، كسبت نفسك لما خرجت عارف الحق من الباطل، كسبت حياتك وحياة حبايبك.

والنظرة ارتسم فيها القهر وهو يرد بما ينحر الروح بسكينٍ ثالمٍ:
بس خسرت، وخسارتي كانت حمزة.

أنزل الستار وأعلن نهاية المشهد.
البطل مات لأجل قبيلة ظنوه مُجرمًا حين رفع شعلة النيران كي ينير ظُلمتهم فأحرقوه بها، خسارة فادحة لن تُنسى، بل ستبقى كما هي كلما وعى? لها العقل؛ تُقطع في القلب وتمزق في بقايا الروح، أعلنها بكل صراحةٍ أنه رغم الأرباح خسر الخسارة التي لا تعوض، وكأنه خسر نهاره وأصبح في ليلٍ شمس نهاره غاربة.

< العين بالعين والسن بالسن والبادي يستحق القتل >.

لو علم كل فردٍ أهمية تواجده فوق الأرض، لما كان أثم أحدهم قط، وكأن الدنيا خُلِقت فقط لإغراء بني آدم، مجرد فتنة شديدة الوطأة على النفسِ، يبدو أن البشر نسوا طريقهم، تناسوا دورهم، نسوا أن الهدف ليس هُنا في دنيا فانية، وإنما الهدف هو الوصول للجنةِ، حيث دار القرار.

في اليوم التالي بعد غروب الشمس.
كان أيوب في مركز الصيانة الخاص به، يتسطح أسفل سيارةٍ يقوم بفحصها، يقوم بدور المهندس الماهر الذي يبرع في مهنة صيانة السيارات مهما بلغ ضررها، موهبة رزقه الخالق بالشغف لها كي يبدع في مجاله، وقد استقام واقفًا يحاول تحريك السيارة حتى دار المحرك وتحركت السيارة، فضحك هو وحمد ربه.

ولم يقطع صفو لحظته إلا صوت تصفيقات أتت من خلفه، التفت عاقدًا حاجبيه فوجد آخر من توقع تواجده أمامه، وقد اقترب الزائر يقول بفخرٍ به وكأنه يراه بتلك للصورة لمرته الأولى كي يسرق منه عقله:
برافو يا هندسة، أنا قولت إنك حملة يا عمنا.

ضحك أيوب وهو يحتضن إيهاب ويرحب به في مكانه، كان مندهشًا من تلك الزيارة المُفاجآة لعقله وعينيه، لكنه فتح أبوابه يرحب به حتى صعدا سويًا لمكتبه بالأعلى?، وبعد جلسة ودية للترحيب والمُصافحات قرأ إيهاب الحيرة في نظرات أيوب لكنه لم يملك الجُرأة الكافية كي يسأل مثل هذا السؤال، فقال الآخر بثباتٍ:.

عارف إنك محتار بس أنتَ مش هتقدر تسأل سؤال زي دا، بس أنا سألت عليك في الحارة و تَيام قالي إنك هنا، علشان كدا جيت أشوفك، أولًا يعني ربنا يباركلك في رزقك، ما شاء الله هندسة بصحيح، ثانيًا أنا جاي ليك بشكل شخصي شوية.

تعجب أيوب من حديثه لكنه أسر تعجبه في نفسه وقال:
المكان مكانك، وقت ما تحب تشرف وأنا في أي مكان أرحب بيك طبعًا، أؤمر يا إيهاب أنا معاك في اللي تعوزه كله.

تنهد، حاول برمجة الحديث على طرفه، حاول تفيند أسبابه، حاول أن يباشره بالشأن الذي يريد، وفي كل مرةٍ كان يعجز، عن الحديث، لكنه تنهد من جديد ثم بدأ الحديث بقوله مباشرةً:
قولي يا أيوب لو كان ماكسيم وقع في إيدك بعد اللي عمله في الجماعة، كنت هتعمل إيه فيه؟ كنت هتسكتله؟ ولا أنتَ مثالي زي ما الناس متوقعة وكنت هتسامح عادي وتسلم الأمر لربنا زي ما الكل متوقع منك؟

تبدلت ملامح أيوب وتغضن وجهه، في طرفة عينٍ تذكر شريط الرحلة القاسية بأكملها، تذكر زوجته وهلعها، وتذكر كيف شارفت على الجنون، تذكر كيف مرت الليالي عليهم بقسوةٍ وهو بالأخص، شعر بالمكان يُضيق عليه الخِناق فسحب نفسًا عميقًا ثم قال بثباتٍ واهٍ:
الشرف والعرض مافيهومش مثالية يا إيهاب ولا سكوت، دا واحد حاول يتعدى على شرفي وعرضي، والعين بالعين.

وأتى الرد مِن مَن يواجهه ببسمةٍ ساخرة عقبها القول:
إيه؟ كنت هتغتصبه؟

استشف أيوب سُخريته فمسح وجهه بعنفٍ ثم نطق بنفاذ صبرٍ:
أكيد لأ بس كان ممكن أقتله في أيدي، لو الجلد هو دا الحل كنت هجلده لحد ما أقدر أتنفس بحق كل مرة حرمها فيها إنها تتنفس وتنام زي باقي الناس، الدين مقالش للناس تسكت عن حقوقها علشان تكون مثالية، ولا مطلوب من حد يسكت على أذى حد اعتدى عليه، الدين مرباناش على الضعف وتقبل الذل والمهانة، ولو كلامي غلط، مكانش ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز:.

فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
{البقرة: 194}.

مقابلة الإساءة بالإساءة مش حرام والشرع لم يحض على الخنوع والقبول بالذل والمهانة، لكن العفو أفضل وأكمل وأقرب للهدى? والمشكلة إن ممكن ناس ما تقدرش تظبط إن رد الإساءة بالظبط على قدرها، وممكن يزيد و هذا بخلاف كم الشقاق اللي ممكن يحصل أحيانًا بسبب رد الإساءة وممكن يوصل لفتن ومظالم، لكن أحيانًا فعلا لازم نوقف ناس عند حدها لما يتجاوزوا كتير، فكل موقف يختلف عن التاني، فمايجيش حد يطلب مني أكون مثالي وأتغافل مع واحد زي ماكسيم سرق ونهب واغتصب وحرق وقتل.

قبل أن يُكمل حديثه قاطعه إيهاب بثباتٍ:
قصدك إنه فاسد؟ مش هو دا الفساد اللي ربنا حرمه؟ وحذر منه وقال في القرآن إن الفاسد اللي بيحارب الدين والله والرسول يستحق القتل؟ أنتَ شايف إن واحد زي ماكسيم دا يهودي وابن مش فاسد؟ كان ناقص إيه تاني معملهوش؟ يغتصب الرجالة نفسهم؟

لاحظ أيوب انفعاله فعقد حاجبيه، راقب غضبه المكبوت قدر استطاعته، راقب عينيه اللتان ازداد فيهما الظلام قسوةً، فتنهد بقوةٍ وقال بشيءٍ من الهدوء:.

قال تعالى جل جلاله: إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَيَسعَونَ فِي الأَرضِ فَسادًا أَن يُقَتَّلوا أَو يُصَلَّبوا أَو تُقَطَّعَ أَيديهِم وَأَرجُلُهُم مِن خِلافٍ أَو يُنفَوا مِنَ الأَرضِ ذلِكَ لَهُم خِزيٌ فِي الدُّنيا وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ [المائده - آية 33].

استأنف الحديث بالآية القُرآنية، ثم أكمل متابعًا بتفسيرٍ:.

إنما جزاء الذين يحاربون الله، ويبارزونه بالعداوة، ويعتدون على أحكامه، وعلى أحكام رسوله، ويفسدون في الأرض بقتل الأنفس، وسلب الأموال، أن يُقَتَّلوا، أو يُصَلَّبوا مع القتل (والصلب: أن يُشَدَّ الجاني على خشبة) أو تُقْطَع يدُ المحارب اليمنى ورجله اليسرى، فإن لم يَتُبْ تُقطعْ يدُه اليسرى ورجلُه اليمنى، أو يُنفَوا إلى بلدٍ غير بلدهم، ويُحبسوا في سجن ذلك البلد حتى تَظهر توبتُهم. وهذا الجزاء الذي أعدَّه الله للمحاربين هو ذلٌ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب شديد إن لم يتوبوا.

عاد إيهاب للخلف بعدما اقتبس أخيرًا جزءًا من حُريته ثم تنهد بقوةٍ وقال مؤكدًا على حديث أيوب الذي سبق ونطقه:
يعني واجب علينا نخلص من الفساد والمفسدين، زي ما كان واجب عليا اقتص وانتقم لأخويا من اللي عمل فيه كدا، مش القصاص واجب؟ وربنا سبحانه وتعالى قال من أجل ذلك
{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}.

وقال برضه {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، وقال برضه {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}.

الناس فاكرة الدين ظالم، والشريعة قاسية ومخيفة، علشان يشوهوا الإسلام وسيرة الحق، وشوهوا الرحمة الحقيقية اللي في حفظ الحقوق ومنع الظلم بل وقطع يد السارق وقتل القاتل أيًا كان وفين ما راح واختفى، اللي حصل في أخويا مش قتل؟ واللي حصل ليك ول يوسف مش قتل؟ واللي حصل ل حمزة و باسم مش قتل؟ واللي حصل في بنات الملاجيء مش حرام؟ واللي حصل في مُنذر مش قتل؟ و مُحي اللي كان هيروح فيها قبل فرحه مش دا قتل؟ و سراج اللي اتقهر واتذل مش دا برضه فساد وقتل؟ فاسد ولا مش فاسد يا أيوب بكل أمانة؟

فاسد، فاسد وفساده طال أرواح كتيرة.

نطقها حاسمة، قاطعة لا تقبل التشكيك، فتنهد إيهاب براحةٍ وأضاف بثباتٍ يُحسد عليه في لحظةٍ كهذه يدلي بخبرٍ وذنبٍ:
وأنا قتلت الفاسد ودفنت الفساد.

لا داعي للتصفيق.
فَ الستار لم يُنزل بعد،
والمشهد لازال مفتوحًا،
والمسرح لم يفرغ من المشاهدين،
هو بطل الختام بحقٍ، لكنه يستحق التقدير على أكمل وجهٍ، لذا سيظل باقيًا لحين إشعارٍ آخر يستحق التقدير.

< أنتَ اليوم تُجني ما سبق وزرعت يداك >.

ألا ليت على نفسي ما سبق وجنيت.
ألا ليت لنفسي وشيطاني ما استسلمت، أنا اليوم أقف على شفا حفرةٍ من نيرانٍ في الدنيا وفي انتظار جحيمٍ أنا بنفسي له آليت.

كان يوسف في بيت أمه يتناول معها وجبة الغداء التي أقرها فضل لهم، وقد ظل يحمل يامن طوال اليوم، لم يترك الصغير من يده، بل ظل فوق ذراع جده، وقد استأنس يوسف بصحبتهم وصحبة زوجته التي جلست مع أختها وأمها بعدما دعاهم فضل للجلوس رفقتهم، وقد أتت مي تجاور يوسف وهي تقول بمشاكسةٍ:
أوعى تكون مزعل بنتي وابنها يا واد أنتَ.

رمقها بسماجةٍ ثم قال بثباتٍ يثير به استفزازها:
آه طبعًا، أومال أنا متجوز ومخلف ليه؟ مش علشان أزعلهم؟ استني بس الواد يشد حيله شوية وهخليه ينزل يجيب تمن حفاضاته لنفسه.

رمقته بسماجةٍ وجلست بجوار ابنتها تتجاهل ضحكات الجميع، وقد أتت وعد تجلس بجوار يوسف وهي تحمل ابن شقيقتها ثم همست له بصوتٍ حماسي يليق بطفولةٍ بريئة:
تصدق شبهك يا يوسف؟ حاساه نفس ملامحك.

نزل بعينيه لوجه صغيره ثم نظر في وجهها وقال بحنوٍ:
بس هو شبهك أنتِ أكتر، فيه منك كتير، وبصراحة يعني نفسي يكون زيك في كل حاجة، علشان أعصب أمك بنفس مفتوحة.

في تلك اللحظة وصلت قمر بصحبة إياد الذي اصطحبها وقد ولجت واستقبلت الترحيبات والمصافحات، حتى أسندها يوسف فقالت بأنفاسٍ مقطوعة:
زهقت من القعدة لوحدي، استأذنت أيوب وقالي روحي بس خدي حد يوصلك، خدت الواد إياد علشان هو الوحيد اللي بيستحملني، صح يا إياد؟

أومأ لها الصغير ثم اقترب يمد يديه ويحمل يامن وقد أعطته له وعد وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
مش هخليه معاك كتير، أنتَ عندك سيف في البيت.

ابتسم بحنوٍ وهو يراقب ملامح الصغير النمنمة الرقيقة، ثم مسد فوق وجنته وفي تلك اللحظة صدح صوت هاتف يوسف فسحبه وتحرك يجاوب على الهاتف حين لمح هذا الرقم الغريب، فوجد المتحدث يخبره بأسفٍ:
أستاذ يوسف مع حضرتك مسئول استقبال الحالات من دار رعاية للأسف أستاذ نادر مش بيرد على مكالماتي وكنا عاوزين حد بخصوص الأستاذ عاصم للأسف محتاجين حد يحضر ضروري، فممكن حضرتك تيجي؟

فرغ فاههِ ووقف مصدومًا.
يتذكر عهده لنفسه ألا يطيء له بقدميه مهما كان الأمر، قطع العهد على نفسه، ومن بعد الخيانة الأولى لعهدٍ قطعه لم يملك الجرأة كي يخون عهده الثاني، لكن للضرورةِ أحكام.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة