قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وتسعة عشر

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وتسعة عشر

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وتسعة عشر

أول المحبةِ أمانٌ.
وأول الأمانِ عناقٌ دافيء يأويك حيث لا مأوى? لكَ،
فتجد نفسك مُحاطًا وسط مدينة مُشكلةٌ في ذراعينِ، وقلبٌ ينبض ونبضاته تلك لأجلك أنتَ، أول المحبة خيطٌ رفيعٌ غزله الأمن، وأكمله الأمان، فكانت المحبة.

كانت الذكرى هي التي طوقت مجلسيهما، حيث نظرات العين تسرد عن الماضي والوجع والألم، صوت يوسف وهو يترجى رفيقه أن يحافظ على ابنه في الغياب، رجل الشرطة وهو يقوم بسحب الرفيق من أمام غوثه، فيعيده لمضمار الحرب يخوضها مُجبرًا، اقترب أيوب وجلس بجواره مباشرةً، فتنهد يوسف وترك له زمام الأمور بأكملها، بينما أيوب ألقى التحية ثم غض بصره عن موضع النساء وثبت عينيه على الورق الموضوع أمامه.

فيما نطق يوسف مفسرًا وشارحًا: كدا أيوب وصل ناقص مدام مادلين وكل حاجة تكون تمام.

بالفعل وصلت هي الأخرى خلال دقائق، بنفس الشموخ والوقار، نفس الطلة القوية التي تجبر الجميع على احترامها، هي نفسها الجبل الذي يظل ثابتًا مهما اهتزت الرواسي تحته، وإن كانت أصبحت أكثر حيوية، أكثر نشاطًا، أكثر وهجًا، فيبدو أن الحب له عليها أثره، وقد جلست تترأس الطاولة بثباتٍ بعدما رحبت بوابلٍ من الترحيبات والتهنئات، فتحدث يوسف من جديد يباشر العمل: نبدأ بقى الشغل، دلوقتي الإدارة هتكون تحت إيد أيوب و مادلين وعاوز منك يا رهف ملف كامل فيه كل التفاصيل بتاعة معرض شرم الشيخ وكل حاجة حتى وسائل النقل كمان، ويبعت نسخة منه ليا ونسخة ل مادلين النهاردة أو بكرة بالكتير، و أنتِ يا ضُحى قفلي ليا ملف الحسابات كلها، أي فلوس برة تتدفع، أي فلوس برة تتجاب، ومعاكِ هنا مادلين ماسكة كل دفاتر الحسابات هتساعدك.

أومأت الاثنتان له، فيما عاد هو يملي الأوامر على الجميع، صرامة حديثٍ يشوبه الحكمة وتُغلفه اللين، بدون غطرسةٍ أو عنفوانٍ، يشبه عمه بطريقة تُخيف من يعلم كليهما، وهي تعلم الاثنين، فكانت تجلس هاته الجلسة بنفس وضعها وعيناها ترتكز بنفس المكان، انقبضت روحها من فحوى ذكرى قاسية، فتنهدت مادلين وعادت للواقع من جديد، كانت تخشى أن ترى يوسف بصورةٍ مثل هذه، لكن ضحكته الحاضرين مختلفة، مزاحه يختلف، تقديره لصعوبة العمل تحت إدارة قاسية تختلف، تقديره لمشاعر الجميع تختلف، حتى الحقيقة تختلف وأنهما ليس سيانًا.

كان أيوب يجلس بصمتٍ ثم تحدث ما إن أتى دوره، فتولى دفة الحديث وقال بثباتٍ هاديء:.

دلوقتي المعرض مطلوب منه يعبر عن الروح المصرية، عن التراث بكل مراحله واختلافاته، بمواد يدوية بسيطة، بالنسبة للمكان هنا هيقدر يشارك بمنتجات يدوية زي النسيج، الغزل، حاجات كتيرة، بس الأهم العنصر المستخدم، وهو أساس العمل، بمعنى إننا هنشارك بكذا حاجة مش حاجة واحدة، يعني الخامة اللي معانا نخليهم اتنين، وأنا هبدأ بشغل الفخاريات، بس برضه هستغل الجديد فيها، يعني ننقش عليها كلام فرعوني قديم، رسومات لمعالم أثرية زي شارع المعز، بعض المساجد الأثرية، نرسم فيها رموز القوة، طبعًا بعيدًا عن رسم ذوات الأرواح لأني مش بنقش أي حاجة فيها ملامح، بس الفكرة في التشكيل نفسه.

كانت الفكرة عبقرية، غنية بمهد الحضارات، لذيذة حد التخيل في العقل، نالت إعجاب الجميع، وقد تدخل يوسف يقترح بهدوء:
يبقى هنلجأ ل إسماعيل وهو يعرفنا على كل حاجة هتحتاجها وقت الشغل، هو كمان بيعرف ينقش ويكتب وعارف حاجات كتير في الأثار والمعالم، دليل ال 28 محافظة كلهم عند إسماعيل.

ضحكت ضُحى لأن الحديث يخصه، ابتسمت بفخرٍ كونها تنتمي له، وقد اكتمل الاجتماع بنفس الرتابة حتى أعلن يوسف الانتهاء فتحرك أيوب للمصلى كي يأم بهم لصلاة المغرب، أمر بحضور الجميع خلفه، ثم ترك أمرًا لطيفًا وقال:
مهما كان الشغل بما إني هكون هنا، الصلاة بالذات مش هسامح فيها، اللي مش هيحافظ على وعده مع ربنا، مش هيتآمن على شغله وعمله والأمانة اللي في أيديه.
وذهب، ذهب يسبقهم ويترك لهم الفرصة حتى يأتون له.

بينما مادلين اتجهت نحو الواجهة الزجاحية عند نهر النيل ترى الصغيرة التي أتت معها لهنا، كانت حائرة في أمرها، تخشى تركها بمفردها في البيت، خشيت أن تتركها في محل عمل أبيها فينشغل عنها وتخرج للشارع، على الأقل هنا هي محاوطة بالأمان ورجال الأمن، رأتها ترتشف من كوب العصير المُثلج الذي ناسب بدايات الصيف الساخنة، فرطب حلقها الجاف.
جلست بجوارها وهي تقول بلطفٍ ومرحٍ:
اتأخرت عليكِ؟

نفت الصغيرة برأسها حدوث ذلك، ثم جاوبت بصوتٍ مليء بالحماس والسعادةِ كونها تشارك الأم الجديدة في خطوة هامة مثل هذه:
بالعكس متأخرتيش خالص، وأنا مزهقتش.

مسدت فوق خصلاتها الناعمة ثم جلست بوضع أكثر أريحية فوق الأرجوحة المُعلقة بسلاسل حديدية وأخذت تحرك الأرجوحة بحركاتٍ سريعة بعض الشيء، فارتفع صوت ضحكات الصغيرة وهي ترتمي في عناق من وضعتها بخانة أُمٍ، ضمتها مادلين بعد أن ازداد شغفها تجاه تلك الصغيرة، شغفها نحوها أشبه بشغف قاريءٍ يذهب بصره نحو المكتبات المكتظة بالكُتِبَ.

أتى يوسف لها بعد أن أنهى الصلاة خلف أيوب وما إن اقترب اعتدلت تواجهه بحرجٍ ثم تنحنحت ووزعت نظراتها بينه وبين الصغيرة وأضافت بخجلٍ:
معلش علشان قاعدين كدا بس أنا مقدرتش أسيبها لوحدها وخوفت تروح مع باباها الصيدلية ينشغل عنها أو تخرج للشارع، بس بعد كدا مش هاجي غير لما أتأكد إن باباها رجع البيت.

عاتبها بنظراته ثم أخرج كفيه من جيب بنطاله ونزل بجسده يواجه الصغيرة وهو يقول بصوتٍ هاديء:
مبسوطة يا رودينة هنا؟

أومأت الصغيرة بخجلٍ منه فيما التفت هو نحو الكافتيريا الموجودة خلفه ثم غاب لدقائق وعاد لها بحقيبة مليئة بالحلوى بمختلف أنواعها، وما إن اعترضت اعتدل في وقفته وقال لأمها تعطيها الأمر، وحينها أخذتها منه وشكرته بصوتٍ رقيقٍ، وقد ضحكت له مادلين وقالت بمشاكسةٍ:
بقيت حنين أوي من ساعة ما بقيت أب، بس خلاص مش هجيبها تاني هتطمن إنها في البيت مع باباها وهنزل.

عيب، أنتِ عارفة إن القسوة مش طبعي، بعدين المكان هنا مكانك ودي شركتك وليكِ فيها أكتر ما ليا، هاتيها براحتها تقعد في أي مكان يعجبها، مالكيش دعوة بأبوها، إلا لو حابة إنك تعاقبيه بقى فدي مش بتاعتي.

نزلت بعينيها للصغيرة تبتسم لها، تحفظ تفاصيلها بعينيها، تحسد إمرأة رحلت عن عالمها كونها أنجبت تلك الهبة، تنهدت وهي تتذكر أن ما هي إلا قطعة من رجلٍ تحبه، تعشق تفاصيله، رجل تحكم بنبضات قلبها، لمح يوسف شرودها فقال بهدوء أخٍ:
فيه حاجة مضايقاكِ مع عبدالمعز وأنتِ معاه؟

انتبهت له لتبهت بسمتها وتخفت ملامحها الوهاجة بسؤالٍ، جاوبه هو بنفس الهدوء والثبات:
أنا عارف إن في اختلافات كتيرة، يعني الشقة اللي أنتِ فيها، المكان والحارة، كل حاجة اختلفت، لو فيه حاجة مزعلاكِ عرفيني.

هو مُحقٌ، لقد اضطرت آسفةً أن تتنازل، تنازلت عن الكثير، عن مبلغ مالي كانت تقبضه خلال عملها، عن مسكنٍ بأفخم مناطق المدينة، لتنتقل لحارةٍ شعبية، تنازلت عن طموحات وأحلام، لكنها حصلت على أهم شيءٍ قد تحصل عليه أنثى، حصلت على الحُب والتقدير، حصلت على رجلٍ لو لم يغزل كلمات العشق عليها، فهو ينطق بعينيه كل شيءٍ.

ضحكت بخفوتٍ وقالت بصوتٍ هاديء:
بالعكس يا يوسف حتى لو زي ما بتقول سيبت حاجات كتير، أنا لاقيت حاجة أهم، حاجة عيشت عمري كله مالقيتهاش مع واحد أديته كل طاقتي ووقتي ومجهودي، عبدالمعز صحيح بسيط وهادي ومش معاه الفلوس اللي اتعودت أصرفها في حياتي، بس بيحبني، بيحترمني، بيحاول باللي يقدر عليه، مش بخيل عليا، صحيح اللي عنده مش كتير بس كله بتاعي أنا، غيره كان عنده كل حاجة وبيرميلي الفُتات منه.

وعند الذِكر حضر الطبيب المُبجل، ولج بهدوءٍ وبحلة رسمية متواضعة رمادية اللون، ببسمةٍ شغوفة تجاه من يحب، وقد اقترب منهم يلقي التحية ثم صافح يوسف وغلف حديثه بنبرة أسفٍ:
حقك عليا، بس الظروف حكمت علشان كدا رودينة جت هنا، بس هنحلها وهظبط مواعيدي على مواعيد الشغل هنا، بس أنا عارف إن مادلين بتفرح لما تيجي هنا.

رجل وقور، محترم، غير مُبتذلٍ، يستحق أن يفوز بها.

هكذا كان يفكر يوسف الذي مد كفه يشير نحو الصغيرة ثم قال ببسمةٍ هادئة، ربما حنونة، خاصةً تجاه أي طفلٍ يتيم:
البت قاعدة من الصبح معملتش حاجة، بالعكس المكان منور بوجودها، وهي لو فرحانة هنا تيجي براحتها في أي وقت، لو مش فرحانة ممكن تخليها مع مراتي لحد ما نخلص، وجودها مش أزمة، بطلوا تكبير الموضوع بالمبالغة دي.

أعطاهم التصريح ثم تحرك، تحرك يتجه لمكانه، بينما هي فامتنت بنظراتها في أثره حتى عادت لزوجها الذي حمل ابنته بذراعٍ وبالأخرى مد كفه يحتوي كفها ثم قال ببسمةٍ حنونة:
شكلك مبسوطة، وعلشان ضحكتك الحلوة دي عازمكم برة.

توسعت ضحكتها بشكلٍ واضح، فيما صفقت الصغيرة بحماسٍ ولثمت وجنة أبيها الذي خرج حاملًا العالم بين يديه، سعادة طاغية ملأت قلبه وهو يشعر كأن مكانه بالعالم أصبح يرحب به، حياة النبذ، الوحدة، الفراق، جلد الذات، إيلام النفس، بعده عن صغيرته بسبب عدم تواجد من يرعاها، نومه وحده في شقة فارغة فرغت حتى من الحياة، كل شيء اعتدل في وجودها، بحضرتها اعتدل كل شيءٍ لمساره الصحيح حتى نفسه التائهة وجدها بعنوان عينيها، وهي إمرأة تستحق أن تُترك لأجلها الدروب حتى لو كانت معلومة، لينتهج دربها المجهول.

< الفارق بيننا سماءٌ وأرضٌ وقلبي بين الاثنين يطوف لكِ >.

فخ الرجل العشق.
حيث المعضلة التي لا تُحل، معضلة الرجل دومًا في العشق حيث القلب الذي يتخلى عن طريقٍ ليُحيد لطريقٍ آخرٍ وإن كان لا يعلم نهايته فيه، لكنه يقع في الفخ، تنصب عليه عينٌ شباكها فتصيده ليسلك دربًا طواعيةً منه، فيقف أمام الناس ويقول
عاشقٌ أنا وقلبي هوى?،
وقعت صريعًا في دروب الهوى?.

ولج المكتب الذي حمل اسمه، بخطوات هادئة فوجد تلك القطة تنبش فوق المكتب تبحث عن شيءٍ ما، رُبما، لذا ألقى التحية ثم اقترب يجاورها ويفرض هيمنته عليها فوجدها تبتسم له بوداعةٍ ثم قالت بشقاوةٍ مرحة:
عجبتك شركتي يا أسطى أيوب؟

تبدو كخبيثةٍ تتعمد إظهار الفارق الطبقي إن كان موجودًا بينهما حتى يعلم البُعد بينهما، فمال عليها يضم ذراعي المقعد وهو يقول ببسمةٍ شقية توازي طريقتها:
عجبتني، بس مش زي صاحبتها بصراحة.

تورد وجهها من غزله، خاصةً بتلك النظرة التي أهداها لها جعلتها ترتبك في مقعدها وقبل أن تفر وجدته يميل يهمس في أذنها ببحةٍ بعثرت ثباتها:
مفيش حاجة مالية عيني غير صاحبة الشركة، وعيون صاحبة الشركة، وشقاوة وحلاوة صاحبة الشركة، وأنا كلي فدا صاحبة الشركة.

هو يتحدث وهي مقصد الحديث.
هي الهدية والحياة، هدية بعد صبرٍ طال، وحياة بعد موتٍ أكيد، لا يعلم كيف جعل المولى? عز وجل تلك الهرة الضعيفة مصدر قوته، لا يعلم كيف تنجح في السيطرة عليه فتتوغل وتحتل أرضه بدون تفاوض، تفرض السلاح بسهام عينيها عليه ثم تدعي الكذب أنها لم تقترب من مواطنه، لذا هو أصبح أسير رؤيتها سعيدة، نظرة الراحة في عينيها جنة فوق الأرض وإن كان هو يسكنه الجحيم.

سحب مقعدًا وجلس بقربها بوضع أكثر راحة، بينما هي مالكة الربع هنا في المكان لم تفهم أي شيءٍ، خاصةً بعدما ترك لها نادر حصة أبيه وسجلها باسمها هي، كتعويضٍ عن ضررٍ تسبب فيه أبوه بعدما رفض يوسف أن يأخذ أموال سامي وقد رست المراكب على شاطيء أيوب كي يُدير لها الأملاك بعدما طلب منه يوسف هذا الطلب ووافق هو لأجل الرفيق، والحبيبة، لاحظ صمتها وهي تمسد فوق بطنها بشرودٍ.

تذكر حديث فُلة حينما لجأت زوجته للعلاج عندها، فأخبرته بصرامةٍ:.

مينفعش تفضل لوحدها، لازم تشغل وقتها، بشغل، بهواية، بناس، كل مرة هي هتكون لوحدها هتسلم نفسها فريسة للذكريات، خصوصًا لو اللي شافته صعب، ودي مشافتش شوية، محاولة اغتصاب، شافت جوزها بيروح منها ويموت بين إيدها، أخوها في السجن ومتهم بجريمة قتل، اللي شافته كان أكبر من طاقتها، علشان كدا الحمل عليك أنتَ يا أستاذ أيوب لازم تكون أكبر طاقة دعم ليها، خصوصًا مع فترة حملها.

وقتها صدق الوعد، نفذ الأمر، لم يبخل عليها بحلٍ، فعل ما بوسعهِ لأجلها، والنهاية تعافت، ترممت ثقوب روحها، أصبحت ترحب بقدمه، ترحب بقربه، تلتجيء لعناقه في كل ذكرى قاسية، وفي هذا التوقيت لمح العبرات تحاوط المُقل، فرفع وجهها يسأل بحنوٍ:
مالك يا قمر حصل حاجة زعلتك؟

نفت برأسها ومسحت بقايا العبرات ثم قالت بصوتٍ مهتزٍ:
افتكرت بابا، لو كان موجود كان هيفرح أوي بينا، كلنا مع بعض هنا، و يوسف معاه ابنه وأنتَ معايا، وكلها شهور ونشيل عوضنا، الحياة مكانتش سهلة، بس سبحان الله دفعنا كتير أوي علشان نوصل لحقنا فيها، الفترة اللي فاتت دي كانت صعبة أوي، معرفش من غيرك كنت هعديها إزاي.

ضم رأسها لصدره، مسد فوق ذراعها، تركها تغوص في أمانه، وهي تتمسك بسترته، لو عليه كان أخبرها أن رؤيتها هكذا أحب على قلبه من أي شيءٍ، لكنه تركها وكي يغير قسوة المشهد، قال بسخريةٍ تماثل طريقتها له ذات مرةٍ:
شوف سبحان الله، بقى قمر اللي كنت فاكرها على قد حالها تطلع عندها شركة وأملاك وآخرتها أقعد هنا أشتغل عندها يدوب حتة مدير، فين بقى ابن عمك الغني ييجي يطردني من هنا علشان أنا مش قد المقام؟

ضحكت رُغمًا عنها وعن حالة الحزن تلك، مالت عليه ضاحكةً بينما شاركها هو الضحك يضمها له وفي تلك اللحظة ولج يوسف بعد أن طرق فوق باب المكتب، وما إن ولج قال أيوب هامسًا لها بسخريةٍ:
أهو أخوكِ جيه، مش بعيد يرميني برة ويقولي يا شحات.

جلس يوسف يرمقه بسخطٍ ثم تحدث بتهكمٍ:
بتتودودوا في إيه أنتوا الجوز؟ خير.

ابتسمت له هي فيما تجاهله أيوب وهو يعلم أنه سيفعل ما بوسعه كي يعلم سبب همسهما، وقبل أن يُبادر يوسف صدح صوت هاتفه، فأخرجه يجاوب على المُتصل الذي لم يكن سوى عهد التي ضحكت وقالت بصوتٍ مليء بالفرحة:
بعتلك فيديو افتح شوفه بسرعة.

تلهف للفعل، تحرك يفتح هاتفه ويقتنص بعضًا من الخصوصية، ووقتها وجد فيديو لصغيره صاحب الملامح النمنمة، ابتسم وهو يرى الشمس تداعب وجهه من خلف الستار الأبيض العاج، وهو يبتسم أثناء نومه، تلك البسمة التي يبتسمها الصغير إبان نومه فيُعرفها الناس بقولٍ عجيبٍ الملايكة بتلاعبه وهو حقًا لا يعرف مدى صدق المقولة، لكنه يعرف أن ابنه ملاكٌ.

نبض قلبه بعنفٍ ولثم شاشة الهاتف، فوجد صورة أتته لصغيره وهو يُغلق بأنامله الصغيره فوق عُقلة إصبع أمه ويرتكن برأسه لكتفها، ضحك بسعادةٍ ثم كتب لها ببسمةٍ تخيلتها هي فورما أتتها كلماته:
ربنا يديم عليا نعمة وجودك ووجوده.

ربنا يرزقك بكل اللي نفسك فيه.

هكذا ردت عليه قبل أن تُغلق الهاتف وتعود للصغير الذي حظى بكل إهتمامها ورعايتها، تحفظه بين العين والرمش، تضعه في قلبها، ترعاه وتأمنه بين ذراعيها، وهو يبدو أنه محظوظٌ بما يكفي كي يكون نصيبه في أبٍ مثل يوسف وأمٍ محاربة كما عهد.

عاد يوسف لهما بحالٍ غير الحال، سعيد برؤية صغيره، الفراشات تطحن الطواحين فوق جدار معدته، حياته وأيامه منذ أن ظهر فيها ابنه تشبه هدوء ما بعد العاصفة، لمحته شقيقته فأطلقت صفيرًا يجذبه لها، فضحك على لمحة فضولٍ غير منطوقة منها ومد يده لها بالهاتف لترى صغيره الضحوك أثناء نومه، مطت شفتيها بتعاطف مع صغيره ثم مدت الهاتف لزوجها الذي ابتسم على الفور وأخذ يتضرع مبتهلًا بدعاءٍ للصغير، وهذا هو مكمن الأمان لدى يوسف.

كأنه يقول لا بأس أيوب هُنا.

< الغبي وحده من يخوض المعارك الخاسرة مع رابحٍ >.

الحرب قبل أن تكون قرار فهي اختيار.
اختيار يُصوغ لك القرار الأخير بناءً على قدرة المرء في قراءة المُعطيات ليوقع بالنتائج المرغوبة والمُنتظرة، فإن لم تكن ذكيًا بما يكفي لقراءة خصمك، ستصبح الغبي الذي خاض مضمار الحرب الخاسرة لكل شيءٍ.

طلبه شقيقه الأكبر، الأكثر حزنًا بعد فقد ابنته.
أمره بصلفٍ وحدةٍ بالغة جعلت الأخ الأصغر يتخلى عن عزوفه وغضبه يذهب لشقيقه، وما إن جلس في حديقة البيت ينتظره، ظهر له نزيه الذي قال بتهكمٍ لاذعٍ:
كتر خيرك إنك جيت، هشحتك علشان تيجي ولا إيه؟

رمقه نبيل بجمودٍ وتخلى عن الرد، اكتفى بنظرةٍ فقط، ليقول الآخر بنفس ذات التهكم وإن شابته بتلك المرة النظرة الساخطة:
مش عيب تروح بيت بنتك وتهبب اللي هببته دا؟ مش مكسوف من نفسك وأنتَ واقف قدام جوزها تبيع وتشتري فيها؟ لأ وكنت عارف إنها بتاخد الهباب اللي بتاخده دا وساكت؟ هانت عليك كل دا؟ سيبتها للغريب ورميتها وراجع عاوزها تاني؟ بعد إيه؟

انتفض في وقفته وثارت ثورته وقال بغضبٍ دفينٍ:
يا سيدي أنتَ مالك، بنتي وأنا حر فيها، عاوزني أسيبها لواحد سوابق؟ وياريته سجن عادي، دا كان معتقل سياسي، عارف يعني إيه؟ مش بعيد يبيعها اللي وراها واللي قدامها ويضحك عليها، بيضحك عليها بالحب والاهتمام والهبل دا؟ وهي زي الغبية رامية نفسها ليه، وأهو بقى جوزها، يعني سلمتله.

تحدث بانفعالات من يرغب الربح، وقد كان شقيقه انتهج نفس السبيل وخسر ابنته، خسرها بأبشع الطُرق وأصعبها، لذا قال بهدوءٍ مروعٍ لمن يتحدث حيث كانت الكلمات ميتة:.

سلمتله علشان راجل، راجل وماتخلاش عنها، عرف إنها مدمنة بس عمل إيه؟ ساعدها وعالجها واتجوزها، أنتَ بقى عملت إيه؟ رميتها، سيبتها لوحدها في بيت طويل عريض، افتكرت دورك كله فلوس بس، وفي الآخر جاي عاوز تاخدها منه؟ مبقاش حقك يا نبيل خلاص، حقك فيها ضاع لما سيبتها وشوفت بيتك وعيالك.

بالطبع ألمه الحديث، لمس الوتر الحساس فيه، لذا قرر أن يرد الحديث بأقسى منه فقال بصلفٍ وصلدةٍ:
شوف مين بقى اللي بيتكلم؟ مبقاش غيرك يدي حكم ومواعظ يا نزيه ويعلمني أتصرف مع بنتي، ماقولتش لنفسك ليه الكلام دا قبل ما تخسر بنتك وتضيعها من إيدك؟ كنت فين وهي مع يوسف رايحة جاية وكله عارف إنهم مخطوبين، وبعدها سلمتها ل نادر علشان عنده اللي مش عند يوسف وهو لوحده، مبقاش غيرك ينصحني أعمل إيه؟

توسعت عينا نزيه وفرغ فاهه كأنه ضُرِبَ فوق رأسه، لم يتخيل أن يكون شقيقه بتلك القسوة عليه، لذا احتدمت نظراته وزادت قسوةً وهو يقول صافعًا له صاع الكلمات بالضعفيْن:.

أنتَ غبي ومتخلف ومعندكش دم ومشاعر، مش واخد بالك إني خسران كتير في غيابها؟ بنتي راحت مني ومش هعرف حتى ألمحها تاني، ضاعت مني وأنا اللي ضيعتها بسبب غبائي، لو كنت أعرف إني دا هيحصل أكيد كنت حافظت عليها وعلمتها تحافظ على نفسها، بس أنتَ غبي وغبائك ضيع الكل، فاكر أول مرة؟ قولتلك حافظ على بيتك، خلي بالك منه، روحت عرفت واحدة وخربت بيتك ومراتك شافت حد غيرك، واللي ضاع بينكم كانت بت ملهاش ذنب، علشان كدا من النهاردة اعتبر نفسك مالكش دعوة بيها تاني، نورهان بنتي من النهاردة.

لوح له بطول ذراعه وسحب متعلقاته وهدر بغضبٍ:
أعمل اللي تعمله، هي مش لازماني خلاص.

راقب أخوه انسحابه بعينين واسعتين في محجريهما، لا يُصدق أن قلبه وصل لهذا الحد من القسوة والتصلد، ارتمى فوق المقعد بهمٍ تثاقل عليه، وعيناه تسبحان فوق صورة فقيدته الراحلة، تذكر كيف فرح حينما حملها أول مرةٍ فوق كفيه، وكم تمنى أن تحمله هي في كبره، ليأتي الواقع ويفصل بين أحلامه وبين الحقيقة المخبوءة وهي أنه حملها ووضعها بباطن قبرها.!

يا أنا يا أنا أنا وياك صِرنا القصص الغريبة
يا أنا يا أنا أنا وياك وانسرقت مكاتيبي
وعرفوا إنك حبيبي، وعرفوا إنك حبيبي.

كانت في الجنة حقًا.
هي فتاة عاشت في غياهب الجحيم والآن تطيء بقدميها الجنة، جنة حبه التي وهبها لها العاشق المُناضل، الكاره للحكم وساخط على الحاكم، هذا الذي لا يقبل التفاوض بل يحتل ويفرض هيمنته وسيطرته على أرضٍ ضعيفة عن مقاومةٍ له، كانت تمسك دفترًا تدون به يومياتها كما تعلمت بداخل المصحة.

مجرد وسيلة تعلمتها كي تهرب من أي تراكماتٍ قد تكون رُكامًا أسفل بعضه يجعلها تعود لدرب المخدرات المُظلم، ربما هي طريقة تشغل وقتها قبل أي انتكاسة تعود وتستوطن صفو أيامها، وبناءً عليه، كانت نورهان تلجأ لنغمات هادئة كصوت فيروز الساحر، تغلق الأضواء الساطعة وتترك الخافتة، تهتم بترتيب شقتها، والآن هو يصول ويجول في قلبها ثم يستقر بعقلها، يخبرها أنه أمثل الحلول لا شك في ذلك.

دفترها أمامها، خصلاتها الندية تنسدل عند جانبها الأيسر بعد أن رطبت جسدها بحمامٍ باردٍ، قلمها بين أناملها تسرد للصفحات وتشكل فوق السطور، ووحده هو محط الإهتمام منها، حيث كانت تكتب اليوم عن ذكرى أمسٍ وأول أمسٍ:.

مش عارفة ليه بس من ساعة ما دخلت الشقة دي وهو بقى عندي في مكان تاني، غير الأول خالص، نظرتي ليه اختلفت، مبقاش زي ما كنت شايفاه، أنا دلوقتي عايشة مع راجل، أو يمكن soper hero زي اللي بنسمع عنهم في الأساطير، كل حاجة فيه مميزة، مش شبه حد، يمكن كلامه، خفة دمه، سكوته المريب، غموضه في بعض الأحيان، حتى شكله وهو نايم جميل، بريء، ضحكته لما بتطلع من قلبه بتوصل لقلبي أنا كمان، تركيبته غريبة، بس لذيذة، الحلو فيه إنه شافني بعينه هو، مشافتيش بعين الناس، عمل اللي هو عاوزه، مش اللي مفروض عليه يتعمل، طلع واعي وشاطر وعرف إزاي يخليني آمن لوجوده، وكل يوم من عمري أنا هعيشه علشانه هو وبس، يمكن ماضيه صعب ونزواته تخوف، بس اللي بعيشه معاه يخليني متطمنة جنبه، من ساعة ما خرجت وأنا أحلامي اتغيرت، اتبدلت وبقى هو أولها وآخرها. هو بس مش حد غيره.

امتلأت الصفحة بالحديث عنه، هي وسابقتها ومن المؤكد من سبقتهما، ومن المؤكد التالية ستحمل فوق سطورها الحديث عنه هو أيضًا، وقد لاحظت هذا، منذ أن خرجت من المصحة وبدأت تدون يومياتها، وهي لا تكتب إلا عنه، تمامًا كما الكلمات التي تغنيها فيروز عن مكاتيبٍ لحبيبها، لذا أغلقت الدفتر فوق القلم وأعادت كلمات الأغنية تبدأ من جديد لتحملها فوق السحاب الوردية.

في شقة كِنز كان يجلس بغضبٍ وهو يُطفيء سيجاره في مرمدة السجائر، يهز ساقًا ويضم السيجار التالي يسحقه بين شفتيه، وقد لمحته خالته التي اقتربت منه بقدح القهوة وقالت بسخريةٍ:
موت نفسك بقى، أنتَ مالك قرفان ومش شايف قدامك ليه؟

انتبه لها وقال بغضبٍ أعمى:
ابن بيهددني، خلى المحامي بتاعه يكلمني ويعرض عليا أطلق وهيزودلي الفلوس واشتغل في الشركة عنده، كل دا علشان أطلقها وأسيبهاله تاني، فاكرني جعان زيه؟ كان فين بسلامته وهي.

بتر الحديث قبل أن يُكمله، لم يرد أن يذكرها بسوءٍ حتى لو في غيابها، استغفر ربه وتنهد بضيقٍ، فجلست خالته بجواره وقالت بهدوءٍ:.

وحد الله وسيبك منه، هو لو في أيدي حاجة يعملها، واللي يخصك بنته، وبنته يا حبة عيني ماسكة فيك زي اللي ماسك في قشاية، عاوزاك ومش عاوزة غيرك من الدنيا، خلاص حتى لو خدها منك هي عاوزة مين؟ بعدين دي كبيرة وعندها 25 سنة يعني مهياش قاصر لسه، تقدر بكل بساطة ترجعها ليك تاني لو حصل منه حاجة، مالك قلقان ليه؟

انتبه لها فزفر حانقًا ثم قال بصوتٍ ممتليء بالهم:
علشان مبحبش وجع الدماغ، مش عاوزه يفضل يزن ويقرفني في عيشتي، ومش عاوزها تفضل خايفة منه، علشان أنتِ عارفة وأنا عارف إنه لو فتح حوار المعتقل دا هيجيب معاه، أنا ما صدقت أحس إن الحياة دي والبلد دي فيها حاجة تتعاش، ييجي هو زي القُراد يقرفني؟

انقبض قلبها عليه، خافت لأجله هو، خشيت فقده ثانيةً، فلجأت لحديثٍ تعلم أنه ربما يحمل الخطأ في حين لا يحمل مثقال ذرة صوابٍ:
طب ما تسيبهاله، سيبها قبل ما يضرك ويأذيك تاني، محدش ضامن بس أنا مش عاوزاه يأذيك أنتَ، بلاها الجوازة دي خالص.

انتفض من مجلسه وهبَّ في وجهها زاعقًا بصوتٍ هادرٍ:
بلاها؟ أنتِ بتقولي إيه يا كِنز! دا كلامك أنتِ؟ أومال لو مش بتعتبريها بنتك بقى؟ عاوزاني أبيعهاله؟ دا عمره ما اشتراها.

لاحظت انفعاله، غضبه المتقد في عينيه، فوقفت أمامه تقول بلهفةٍ كي تسترضيه:
اسمعني بس يا باسم.

بلا باسم بلا زفت بقى.

هكذا بتر حديثها، فيما لفت هي كفها حول كتفه وقالت بصوتٍ ملهوفٍ على مراضيته قبل أن يغضب منها كما اتضح عليه لتوهِ:
والله قولت كدا من خوفي عليك، أنا مش هتحمل يعلموا فيك حاجة تاني، كفاية اللي حصلك واللي ضاع مننا، لو عليك ولا حاجة هتمسك أنا مش هقدر، ماليش غيرك في الدنيا دي كلها، متزعلش مني يا ابني بس أنا ماعنديش أعز منك.

رق قلبه، راح عنه الصلف والتصلد، شعر بجسده يقشعر بضربةٍ تشبه ضربة الكهرباء، التفت يواجهها بكامل جسده ثم قال بصوتٍ متعب، ورغم ذلك بدا قويًا، محاربًا:
وأنا بقولك أهو محدش هيقدر يقرب مني ولا منها، أنا مش عويل علشان حد يقرب من مراتي، وهو دا آخره زيه زي ال كلام وبس، متزعليش نفسك أنتِ، عن إذنك هطلع أشوفها.

خرج من الشقة يتوجه للأعلى، ولج الشقة الساكنة، وجد رائحة عطرها تحاوط المكان، كانت تنام بجذعها فوق الطاولة ويداها تحاوطان دفترها، ولازالت كلمات الأغنية كما هي تتجدد، أرهف سمعه ثم سحب الدفتر لتتزامن الصدف مع بعضها؛ حيث الكلمات: يا أنا يا أنا أنا وياك صِرنا القصص الغريبة
يا أنا يا أنا أنا وياك وانسرقت مكاتيبي
وعرفوا إنك حبيبي، وعرفوا إنك حبيبي.

تتزامن مع قرأة الحديث المكتوب عنه، تضاعفت سرعة نبضاته، خافقه زادت قوة ضرباته، لمح بعينيه حديثها عنه، توهجت نظراته كنجمٍ لمع في سماءٍ معتمة، شعر بقلبه يُحلق في سماء العشق وهو يقرأ سطرها الأخير:
من ساعة ما خرجت وأنا أحلامي اتغيرت، اتبدلت وبقى هو أولها وآخرها. هو بس مش حد غيره.

ابتسم. وتلك الكلمة أضعف ما يتم به وصفه.
فهو لم يبتسم فقط، هو شعر بالحياة تتلون، كأن الجليد يذوب بالتدريج فتتفتح الأزهار وتظهر الشمس المُنطفأة من خلف الغمام، شمسٌ كانت غاربة، وبحروف تشكلت فوق سطور دفترٍ ظهرت وأشرقت، مال عليها وهي تغمض جفونها ثم مسح بقايا عبرات عالقة عند مقدمة الأهداب، وقد جلس يسترق النظر لها.

كانت بريئة بقدر ما ظنها جريئة، نقية بقدر ما ظن بها من لوث الأفكار، حنونة عليه بقدر ما حسب فيها من قسوةٍ، رقيقة بقدر ما حسبها صلدة وحادة الطباع، هي النقيض للأفكار ويكأنها الحقيقة الغائبة التي كان يسعى بدوره الصحفي الحُر لإظهارها للناس، تذكر حديث خالته، تهديد أبيها، كل ما عكر صفوه بشأن الفراق وآخر ما تفوه به كان:
قال أسيبك قال، دا أنا أسيب روحي ولا أسيبك تضيعي مني.

جلس يقرأ ويختلس بعض المكاتيب عنه بسعادة مراهقٍ أخبرته حبيبته السرية عن عشقها له في خطابات مكتومة في سردايب غرفتها، ابتسم على بساطة التعبير، رقة الكلمات، تزيينها للدفتر باسمه، حرفه المنتشر بكل صفحةٍ، انسرقت المكاتيب من المعشوق وافتضح أمر العاشق، وقد استيقظت هي ولمحته يجلس أمامها ودفترها في يده.!

توسعت عيناها وهي ترمقه بدهشةٍ تحولت للخجل بعدما تيقنت أنه لم يكن ضيفًا بحلمها، بل مالكًا في واقعها، وقد اقترب يضع الدفتر أسفل كفها ثم همس مرددًا:
يا أنا يا أنا أنا وياك صِرنا القصص الغريبة
يا أنا يا أنا. أنا وياك وانسرقت مكاتيبي
وعرفوا إنك حبيبي، وعرفوا إنك حبيبي.

وسكت يراقب ملامحها بشغفٍ، ثم استطرد بحبٍ:
وأنتِ حبيبة العُمر كله.

فراشات قلبها تحررت من الأسر وخرجت تطوف فوق معدتها، بينما هو اقترب من جديد يفصل الحدود بينهما ثم التقطها في عناقه، خطفها تستقر في أمان ذراعيه، يهديها الطمأنينة في حين تهديه هي السكينة والمسكن، كانت سعيدة بقربه، وتتمنى أن يتوقف الزمن هنا عند هذا الحد، يكفيها رفض، يكفيها نبذ، يكفيها عزوف وطرد، هي تستحق أن يُرحب بها، وهو المناضل الذي نشر خبر الترحيب.

< ويوم أن تاب العاصي عن ذنب، كوفيء بالجنة >.

قالوا ماذا تريد؟
فقال لهم توبة.
توبة عن الآثام والذنوب، عن المعاصي والهلاك، توبة نصوحة يبدأ بها من جديد بعيدًا عن حياة تودي به إلى النار، دون أن ينعم حتى برؤية الجنة. وما إن سألوه عن المكافأةِ قال: جنة، جنة ينعم فيها بعد أن يهرب من هلاك نفسه وروحه، جنة كُلما ولج بأقدامه بابها شعر كأن وُلِد كمن لا ذنب له.

انتصف النهار، قرص الشمس أضحى باللون الذهبي، نسمات الغروب اللطيفة بدأت تتحرر من قيدها كفتاةٍ شقية تهرب لتداعب الجميع، بدايات الصيفية رغم حدتها في بعض الأوقات إلا أنها لازالت لطيفة، لطيفة كتلك التي ترتدي فستانًا وردي اللون، وفوقه الخمار الأبيض الرقيق الذي يُلائم ملامح وجهها.

أما هو فكان يجلس وحده في مكان عمله، ينتظر عودة عبدالمعز حتى يأخذ قسطًا من الراحةِ كما اعتاد، فإما ينام في الداخل بمخزن الأدوية، وإما يذهب للمسجد يرتاح فيه، لكن تلك المرة أتته الراحة على طبقٍ من ذهبٍ، حيث ولجت جنة تلقي التحية له، ثم اقتربت تضع الحقيبة التي تمسكها وقالت ببسمةٍ واسعة، دون خجلٍ أو إحراجٍ:
الغدا خلص وجيبتلك الأكل أهو، قولي رأيك.

لازال مشدوهًا بها، بسبب الفعل رُبما، أو بسبب ظهورها، ألف سببٍ وسببٍ جعلوه يتعجب، لكنه تذكر، تذكر سريعًا أنها أصبحت له وحقه، فحتى النظرة التي كانت مُحرمةً عليه، أصبحت أبسط حقوقه، لذا تحرك وجلس في مواجهتها ثم سألها بمشاكسةٍ:
كل دا علشاني أنا؟

أومأت له بخجلٍ طفيفٍ وهي ترى عينيه الرُماديتين نصب عينيها الخضراوتين، رماد نظراته اختلط بخضرة عينيها فضحكت له حينما غمز لها وقال بشقاوةٍ طبعٍ مرح:
دا إحنا خدنا راحتنا على الآخر، بس حلو دا.

أخفت عينيها عن مقصد عينيه، هربت تعيد لقاء الأمس في ذاكرتها حيث القرب الأول لهما سويًا، كانت بين ذراعيه يحتضنها كأنها الأمل الأخير لغارقٍ وسط بحر الآثام والمعاصي، بينما هو فتذكر ذكرى الأمس وكيف سكن وهي بقربه، كيف طال الحديث بينهما في محادثةٍ هاتفية حتى قُبيل الفجر، أحاديث صادقة، مرحة، شقية، عبثية رُبما، كانت مكالمة طويلة بينهما بعمر تلك الفترة التي حُرِم عليهما القرب فيها.

أنهى تناول طعامه سريعًا، وقد تأكد أنها من صنعته بسبب نظراتها ولهفتها على رد فعله، فحتى لو تاب وزهد الطرقات القديمة، سيظل صاحب خبرة كبيرة في عالم حواء، وهي حواء الخاصة به وحده، وبالتالي أقل تفصيلة فيها ستشغله، لذا عاد للخلف يبتسم بهدوءٍ ثم قال بصوتٍ هاديء:
الأكل تحفة، تسلم إيدها مامتك.

طالعته بخيبة أمل، ثم ترددت لثوانٍ لكنها أخبرته في نهاية الأمر:
بألف هنا على قلبك، بس أنا اللي عملاه علشانك.

توسعت عيناه بذهولٍ كاذبٍ، ثم مال للأمام يقول بعبثٍ عاد يسكنه:
طب ما أنا عارف وحسيت، بس كدا أنا اتطمنت على نفسي.

وكزته كي يَكُف عن تلك البسمة اللعينة والنظرة الشقية، فيما ولج عبدالمعز بعد أن أوصل أسرته وما إن دخل قال بمزاحٍ:
الصيدلية بقت كازينو المعادي؟ المكان دا مؤدب يالا.

انتبه له مُحي فيما أخفضت هي بصرها، حتى وجدت زوجها يعتدل في وقفته ثم سحب كف يدها والتفت يقول للطبيب بعبثٍ:
طب عن إذنك بقى علشان ماقلش أدبي قدامك.

خرجا سويًا، يدها بيده، يسيران سويًا مع بعضهما حتى وقف أمام محلٍ خاص بصنع العصائر المُثلجة، وحينها قال بهدوء:
أنتِ عليكِ الغدا وأنا عليا العصير، مَرضية؟

ضحكت له فيما تحرك هو معها بعدما طلب لهما مشروب الليمون بالنعناع المُثلج كما أصبح يفضله بسبب أيوب ولج بها مدخل البناية، ثم شكرها بهدوءٍ وأدب:
شكرًا على اهتمامك وتعبك، فرحت أوي والله وحقيقي كنت حاسس إن الدفا وصل قلبي، ولو إن كلمة شكرًا قليلة عليكِ.

أدهشها بحديثه، فاجئها بما قال، هذا ليس نفسه الوقح الذي قابلته أول مرةٍ مع شقيقه، لذا طالعته بذهولٍ فهبط المصعد لهما، وحينها ولجت وقبل أن تغلق الباب وجدته يعيدها للخلف ثم ضمها لعناقه، ضمها بامتلاكٍ كأنه يرفض رحيلها، وقد عادت للخلف وهي تسأله بخجلٍ من مباغتته لها:
أنتَ مش قولت إنك خفيت من قلة الأدب يا مُحي.

ناوشت البسمة وجهه وعاد لعبثه يقول بهمسٍ خفيض:
اعتبريه دور سخونية ومحتاج كمادات.

وقبل أن تفهم مقصد حديثه استقر بشفتيه يُلثم وجنتها ووقتها توسعت عيناها وأدركت أن التائب من الوقاحة لازالت اعراض وقاحته موجودةً، ابتعدت عنه سريعًا بوجهٍ احتقنت فيه الدماء خجلًا منه، بينما هو ضحك رغمًا عنه ثم أشار لها أن تتدخل المصعد، وما إن ولجت وأغلق الباب، فتح هاتفه وكتب لها:
الحاجات اللي بتيجي فجأة عمرها أطول وأحلى، زي عيونك كدا.

كان يقصد صدفة عينيها بعينيه.
يقصد الطريقة التي جعلته يتراجع ويتوب ويبدل طريقه لآخرٍ يجعله يفوز بها، هي شيءٌ أتى فجأةً يقطع عليه طريقه، حتى يحين موعد سؤاله فيكون جوابه الوحيد والأكيد جنة.

< هزيمة الأمس صنعت نجاح اليوم، وبطل الحكاية >.

الهزيمة التي مرت بنا أمسًا هي بذاتها التي كانت سببًا في التهنئة بنجاح اليوم، هزيمة أولها كان بشيءٍ مجهولٍ، ونهايتها بمعرفة المجهول والموت بسببه، هزيمة لولاها لما كان هناك ما يُميزُنا، ونصرٌ ما إن ظهر تأكدنا من النصر.

الليل في تلك المدينة غريبٌ.
فريد من نوعٍ خاصٍ، ليالي وسط البلد دومًا مميزة، آسرة، جميلة، وها هي العروس تجلس في غرفتها تُتمم على كل شيءٍ يخصها هنا قبل الانتقال لبيت زوجها، كانت تضحك وتغني وتتراقص مع ابنة شقيقها، تشاجر أمها تارة، تودع زوجة شقيقها، تسرد عن أحلامها في بيت الزوجية، فينقلب الحديث لوقاحةٍ تنهرها عليها أمها، عروس بلون الربيع في قلبها.

كانت تحمل تمارا ترقص بها وخصلاتهما تتطاير حولهما، وقد كان جواد على مقربةٍ منها، رآها تغني وتدور وتستعد للحياة، ابتسم بحنينٍ وحبٍ لأجل تلك السعادة آملًا لها أن تدوم، بينما هي فلم تره، كانت شاردة في غيمة الأحلام، شرد هو الآخر في فتاة الأمسِ، تلك الضعيفة الباكية، تلك التي كانت تنام في الظلام وتحيا فيه، تلك التي استغل عمها براءة طفولتها كي ينتهك براءة تلك الطفولة كيفما شاء، وقتها كانت تبكي كل يومٍ من الألم، تصرخ بسبب مضايقاته لها، تهديداته بشأن شقيقها، حتى ولجت غرفة شقيقها ذات يومٍ.

كان جواد في بداية مرحلة الشباب، بينما هي كانت في العاشرة من عمرها، ولجت غرفته بالليل وجلست بقربه، كانت ملامحها شاحبة، وجهها أصفر اللون، جبينها متعرق، كل شيءٍ فيها كان يدل على كارثة، لذا انتبه لها، فقالت بصوتٍ مرتجفٍ:
مش عاوزة آجي بكرة معاكم عند عمو.

تعجب بسبب رفضها لتلك العزيمة التي يقرها عمه في كل أسبوعٍ، خاصةً أن هذا هو يوم جمع العائلةِ، فسألها باهتمامٍ:
ليه؟ فيه حاجة مضايقاكِ هناك؟

دارت بعينيها بخجلٍ حتى بكت أمامه، بكت ما إن أدركت أن عمها يستغلها لهذا الفعل المُشين، انفجارها جعله يخطفها في عناقه ولم تجاوب عليه، حاول أن يسرق منها الحديث لكنها لم تجاوب، خشيت أن تخبره، رُبما يكذبها، رُبما لا يصدق حديثها، هي صغيرة لا تفهم أي شيءٍ، وما تظنه أكبر من عمرها، لذا في اليوم التالي كان يتبعها بعينيه، يراقبها دون كللٍ، أينما خطت تابعها، حتى اختفت فجأةً من وسط صغار العائلة.

بحث عنها في كل أنحاء البيت الكبير، في كل مكانٍ يُخيل له أن يجدها فيه، في كل شبرٍ وقع تحت نعله، إلا من غرفة الغسيل، بالطبع لم يخطر بباله أن يجدها هُناك، لكن ربما هي تبحث عن شيءٍ ما هناك، فولج الغرفة من الباب الآخر ليرى قرب عمه الفج من شقيقته وهي تبكي بصمتٍ، ثارت ثورته وأول شيءٍ فعله دفعه عنها يحميها في عناقه فوجدها ترجف وتنشغ باكيةً، بينما عمه ازدرد حنجرته ككلبٍ سال لُعابه.

احتقنت الدماء في وجه جواد وقتها ثم تركها وهجم على عمه، تمامًا كما ينقض الذئب على طريدته، وجد نفسه يضرب عمه، يضربه ويلكمه في عدة مناطق دون أن يعي لنفسه، حتى هدر بصراخٍ:
دا أنا هفضحك، هقول للناس كلها عليك وعلى عمايلك الزبالة، بتعمل كدا في بنت أخوك يا واطي، يخربتيك دا أنتَ دكتور كبير وليك اسمك، أنتَ إزاي كدا؟

وقف عمه أمامه، استقام بكل تجبر، رسم دور الشيطان بعد نظرةٍ ألقاها على ضحيته، ثم نظر في وجه شقيقه الذي تمزقت أزرار سترته إثر المقاومة، ثم قال بوقاحة كهلٍ فج وفجرَّ:.

أطلع قولهم كدا، وأنا دلوقتي هطلع أقولهم إني شوفتك مع أختك ولما قفشتكم قولت تألف عليا الحوار دا علشان تداري عملتك، وأكيد مش هيكدبوني أنا علشان مراهق زيك، على الأقل أنا راجل متجوز ومخلف، الدور والباقي عليك، عيل وطايش والشيطان شاطر ولسه صغير على الجواز، يعني محسوبة صح.

تفاجأ بدماغ الشيطان الذي يسكن رأس عمه، أدهشه التبجح الذي يتحدث به، نظر في وجه شقيقته التي سقطت أسفل قدمه، وحينها أدرك أن خصمه لا يُستهان به، عدوه لم يكن هينًا، فأول شيءٍ فعله، فرض الحماية على شقيقته، سور حياتها بالأمان، كان الحائط التي ارتكنت عليه، حتى نجح في إقناع والده لعودته للسعودية مرة أخرى، وظل هو وحده في جمهورية مصر العربية يدرس عدوه، حتى مات وكان سبب الموت هو.

دبر له كارثة في عمله، أوقعه في الفخ.
نصب حوله الشباك، حتى ولج السجن وقام ببيعه في الداخل لمجموعة من كبار رجال الأعمال الفاسدين، ووقتها قاموا بقتله داخل السجن قبل أن يعترف عليهم بسبب جبنه، وانتهى مصيره بفضيحة أولًا، ثم الموت أخيرًا، والطبيب المُبجل هو الذي فعل كل ذلك لأجل نصف الروح.

كان شاردًا في الماضي كأنه أول أمسٍ، حتى وجد أخته تضع تاجًا فوق رأس ابنته وهي تغني مع الكلمات المرتفعة من هاتفها، بينما جواد انتفضت مشاعره، لمعت عيناه بفرحةٍ، اقترب دون وعيٍ منه، وقف أمام شقيقته مباشرةً وهو يراه والصوت في الخلفية:
دا أنا لسه شايفك بالضفاير بتجري جنبي وتلعبي.
أنده عليكِ بسرعة تجري في حضني تيجي وتهربي.
أنا لسه شايفك بالضفاير بتجري جنبي وتلعبي.

أنده عليكِ بسرعة تيجي في حضني تجري وتهربي.

بكت عند رؤيتها لبسمته، وقفت أمامه بعدما أنزلت ابنته بينما لثم هو جبينها ثم ضم كفها وقام بتدويرها بكفه حتى استقرت في عناقه، فضمها بكلتا ذراعيه والصوت من جديد يعبر عن مشاعر أبٍ لابنته وليس مجرد شقيقٍ فحسب:
وأهو النهاردة بقيتي أحلى عروسة ممكن تشوفها عيني.
واليوم دا أجمل يوم في عمري، وحلمت بيه أنا طول سنيني،
ولو لقيتي دموع في عيني دا علشان هتمشي وتسيبيني.

عادت تقرأ عينيه بفصاحةٍ فلمحت الحب، لمحت الأسف على شيءٍ لم يقترفه، لمحت الخوف، ثم السعادة، لمحت كل شيءٍ ونقيضه، فارتمت عليه تخبره بحقيقةٍ لن تخفيها سرًا:
أنتَ أحسن أخ في الدنيا كلها، وأنا محظوظة علشان كنت أنتَ ضهري في الدنيا دي بعد بابا، أنا مبخافش علشان أنتَ معايا في حياتي يا جواد من غيرك مش هعرف أعمل حاجة.

كانت تبكي وهي تتحدث، بينما هو يمسح العبرات عن وجهها.
هو الشقيق الذي شدت عضدها به، هو العصا الذي توكأت عليها في محنتها، كانت في عناقه صامتة، بينما قلبها يتحدث ويخبر قلبه أنه مشدد أزره الأول، داعمه القوي، السبب في تكملة طريقٍ شاقٍ يصعب المسير فيه.

< أنتَ لي أمان زماني، كل مكانٍ لك هو مكاني >.

الخيول بغير أنها قوية؛ وفية.
الخيول تعرف بعضها دومًا، تعرف كيف تعين بعضها، وهو الخيل الذي لا يُقهر، لم يعتد يومًا دور المتفرج، اعتاد أن يكون هو القوي صاحب البطولة وإن لم تكن مُطلقة، لكنه في النهاية يُدير اللعبة كما تسمح له قوانينه هو، فلا لعبة أخضعته قوانينها، ولا معركةٍ أجبرته على دربها.

كان يجلس أمام الموقد الفحمي، يضع الإبريق فوق الفحم كي يصنع الشاي الذي يفضله، لحظات صمت هادئة تسكنه، شعوره بالذنب تبخر تمامًا، لم يكن نفسه الرجل الذي كان يجلس في المساء خائفًا ويرتجف، لقد جلس في صمتٍ وحده ببالٍ رائق عن الأمسِ، اهتز الهاتف في جيبه فأخرجه يتفحصه وحينها وجد صورة ماكسيم يشبه المومياء القديمة، انتشى برؤية الصورة ثم تنهد وأغلق الهاتف وقام بسكب المياه في القدح. انتظر ثانية ثم أطفأ نيران الفحم كأنه بذلك يوثق إنطفاء نيران قلبه.

أنهى جلسته ثم تحرك لداخل بيت نَعيم ولج بصمتٍ واتجه لغرفة شقيقه فوجد إسماعيل يجلس برفقة مُنذر كما اعتادا منذ صغرهما، ابتسم لهما بحنوٍ ثم أغلق الباب وجلس على الأريكة المخملية التي قابلته وقال بهدوءٍ:
بتشبعوا من بعض قبل الفرح؟

أكدت النظرات قوله، فحتى الآن كلاهما لم يجد منفسه إلا مع الآخر، مُنذر كان يسرد لرفيقه عن حياته بدونهم خلال الأشهر الفائتة، وقد ولج في تلك اللحظة مارسيلينو وقال بهدوءٍ يعتذر منهم:
آسف إني جيت فجأة بس مش جايلي نوم، حد ييجي معايا عند الخيول اللي تحت دي يديني واحد علشان متغفلش.

متتغفلش؟ متأكد إنك إيطالي يا مارسيلينو؟

هكذا رد عليه إسماعيل يقاطعه، بينما هو جلس بجوار إيهاب وزفر بقوةٍ ثم قال بهدوء:
أيوة يا عم إيطالي، بس أبويا مصري، بص الخلاصة أبويا من أب مصري وأم إيطالية، وأنا زيه أصولي مصرية بس بعرق إيطالي، وآه شكلي حلو ونضيف بس لساني زفت، طبيعي علشان كنت باجي هنا اتجسس على الناس بتوعهم، هو حد قالك إن إمام جامع؟

انتبه له إيهاب ولمح الوجع في عينيه، هو فصيح في قراءة الناس، لذا ربت فوق ركبته ثم سأله بقوةٍ:
أنتَ إيه اللي مزعلك؟ زعلت علشان رجعت مصر تاني؟

وزع مارسيلينو نظراته بينهم ثم تنهد بثقلٍ وقال مُرغمًا:
بالعكس، أنا فرحان إني هنا وسط ناسي، بس هما مش ناسي، أنا هنا غريب وسط الكل، هناك برضه كنت غريب بس كان معايا مُنذر غريب زيي، إنما هنا هو معاه عيلته، ووجودي معاه غلط، مسيري همشي في يوم.

انتفض يواجهه مُنذر الذي قال بصرامةٍ:
مش هتمشي، اسمع مني بقولك أهو، أنتَ حطيت روحك قصاد روحي، رميت نفسك في النار علشاني، وجودك معايا هنا حقك عليا، زي ما خليتك تسيب كل حاجة تخصك كان واجب عليا أخليك تعيش في مكان ترتاح فيه، أنتَ حد مزعلك هنا؟

انتفض في وجهه وقال بصوتٍ عالٍ مقهورٍ:
أنا كل حاجة مزعلاني هنا، مش عارف أعيش، دا مش مكاني، ماليش فيه حاجة تخصني، مجرد واحد غريب عمك بيعطف عليه مش أكتر، سيبني أمشي وخليني أرتاح يا مُنذر بقى، يا سيدي مالكش ذنب في حاجة، واللي عملته دا كان حقك عليا، ومش حقك بس، دا حق كل واحد كانوا ناويين يدوسوه في طريقهم، بس خلاص أنا تعبت وفاض بيا.

احتدمت الأجواء بينهما، فالنهاية لم تكن سعيدة كما هي ظاهرة، بعض النهايات وإن اكتملت اللوحة بألوانٍ زاهية ستظل محتفظة بأثر اللون الأسود فيها، وبناءً عليه وقف الصديقان بمواجهة بعضهما، والماضي يطوف في عقليهما.

عادا للرحلة التي سبقت الشهور الماضية.

حيث ذهاب مُنذر من جديد لإيطاليا بعد أن أجبرته كل الطرق على الذهاب لهناك، وقتها كان يبحث عن شيءٍ يُدين ماكسيم في عملية تجارة الأعضاء وأسماء دور الأيتام التي يتاجر بفتياتها لحسابه وحده، لكن وقتها وقع تحت يده ملفًا يحمل العديد بشأن بعض القضايا الأخرى?، بخلاف الآثار، وجد ملفات تخص القضية الفلسطينية، ملفات أخرى? تخص بعض البُلدان العربية، وآخرها بعض المخططات الماسونية الموضوعة وهم يسيرون على نهجها.

ثارت ثورته، اتقدت الحمم البركانية في قلبه، شعر كأن الدماء تغلي في رأسه، فخرج يبحث عن مارسيلينو بصفته مسؤول الحماية الإلكترونية وتنظيم جهاز المراقبة والتحكم بكل تفاصيل القصر عن طريقه هو وحده، ولج له غرفته التي يمارس فيها بعض الرياضات العنيفة، فأوقفه بقوله:
أنا عاوز أولع في القصر دا، أعملها إزاي؟

كان الآخر يلعب الضغط في الأرض الصلبة، فتسطح جسده دون أن يرتفع مرة أخرى، وقتها اقترب الآخر منه وقال بغضبٍ أعمى:
مش بهزر علشان تتجاهل كلامي كدا، أنتَ مش فاهم دول ناويين على إيه؟ دول بيزرعوا الشذوذ والعلمانية عيني عينك، بيلعبوا على الأجيال الجديدة لعبة وهنبقى خسرنا اللي راح واللي جاي، الموضوع مش أثار ودعارة وتجارة أعضاء بس، الموضوع كبير، موضوع دول وشرف ودين وحضارة.

اعتدل الآخر يواجهه ثم خطف سترته وقال بسخريةٍ:
فلما نحرق دول نبقى شاطرين، برافو علينا، أصلها سايبة هي؟ فوق لنفسك، بص أنتَ فين وواقف فين، أنتَ في عقر دارهم، يعني قبل ما النار تطولهم هتطولك أنتَ.

مش مهم، لو اتحرقت هنا هبقى راضي، بس مبقاش قاعد كدا حاطط إيدي على خدي مستني حد منهم يديني أمر مرة أقوم أعمل حاجة تضر أهلي، حتى لو البلد دي مش رحماني بس مش هقدر أسكت، حمزة لما مات مكانش همه غير بلده وأهلها، و باسم رغم اللي شافه مبطلش يحاول، و أيوب رغم اللي حصله لسه عنده إيمان بربنا مكفرش، دول مش كفاية؟ اسمع مني، لازم أعمل حاجة، على الأقل علشان تاخد حق أبوك.

لمس وتره الحساس، النقطة الأكثر ضعفًا فيه.
السيرة التي تعود به لمرمى نقطة الصفر، وقتها ظهر الجحيم والسعير في عينيه، فأضاف مُنذر يستغل الطرق فوق الحديد الساخن:
أبوك الدكتور اللي حرقوه بالحيا قدامك؟ مش واجب عليك تاخدله حقه؟ على الأقل أبوك كان دكتور وميستاهلش، إنما دول كفرة، يعني قتلهم واجب، بيحرقوا المسلمين عادي ويفحموا جثث الأطفال، قلبك هيرق عليهم؟

لم يستطع أن يرفض، ودون أن يعي التهبت حواسه.
وضع مُنذر الخطة، حيث زجاجات المشروبات الكُحولية قام بتغريق المكان بها، مع تعطيل جهاز الإنذار ومُطفيء الحرائق عن طريق مارسيلينو الذي تحكم في أنظمة البيت خلال أقل من ربع ساعة، وقد ذهب لكبير العائلة وأخبره عن خيانة رفيقه بالطبع كما طُلِبَ مه فصدقوه وولجوا الغرفة، حينها كان مُنذر ينتظرهم، ينتظر حضورهم كي يشفي غليله منهم.

ولجوا وتحدثوا وفي طرفة عينٍ رمى القداحة على المكتب لتشتعل النيران بالغرفة التي أحكم إغلاقها من الداخل، وحينما كاد أن يهرب من الباب الآخر وجد الباب الآخر لا يُفتح معه، كأنه أصبح ضحيةً بينهم، تذكر اتفاقه مع مارسيلينو حينما أخبره:
دقيقتين والباب يتفتح، أكتر من كدا هتلاقيني فحمة معاهم.

حاول أن يفتح الباب فلم يستطع، التفت يلوذ بفرارٍ فوجد لوحًا من الخشب يسقط عليه، مال للخلف يرتمى على المقعد الذي لم تطله النار، جلس خائفًا يوقن أن النهاية أتت لا شك، السعير يحاوطه، الجحيم الذي خلفونه في صدره خرج ليحرق العالم وليست فقط المدينة الظالم أهلها، بدأ يفقد أنفاسه كما سقطت جثثهم فوق الأرض.

بينما في الخارج فقد انتهى مارسيلينو من أمر بقية الرجال، قاتل البعض، استغل الآخرين، أبعد أصدقاءه، ثم هرول لرفيقه، وجده وسط الحريق يحاول أن ينجو بنفسه، فقام بفتح الباب الإلكتروني وولج منه، حاوطتهما النيران، لكن يد مارسيلينو امتدت وقام بسحب مُنذر الذي كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

وقتها خرج به من القصر ثم ولج به السيارة، وضعه بها ثم أغلق كل أجهزة التحكم وفي أقل من الثانية سكب الوقود الغازي ثم رمى القداحة وترك البيت يشتعل وحده والنيران تسير فيه كي تأكله، وما إن التفت لمح صورة الطبيب المحترم والده الذي احترق نصب عينيه حيًا، وبين نيران الحاضر ونيران الماضي، قلب الفتى الصغير احترق، فعاد برماده يحرق العالم.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة