رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وعشرون
السعير لا يحق له أن يخالط الجنة.
النار تحرق، والجنة تُحيي، فلا يحق لهذا أن يختلط بذاك.
حتى أن الشمس الغاربة لا تُشرق في قعر الجحيم، وإنما لكلٍ مكانه، وكأن الشمس لا تُشرق على درب الجحيم.
كان مُنذر بالداخل وسط النيران يختنق، بينما في الخارج فقد انتهى مارسيلينو من أمر بقية الرجال، قاتل البعض، استغل الآخرين، أبعد أصدقاءه، ثم هرول لرفيقه، وجده وسط الحريق يحاول أن ينجو بنفسه، فقام بفتح الباب الإلكتروني وولج منه، حاوطتهما النيران، لكن يد مارسيلينو امتدت وقام بسحب مُنذر الذي كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وقتها خرج به من القصر ثم ولج به السيارة، وضعه بها ثم أغلق كل أجهزة التحكم وفي أقل من الثانية سكب الوقود الغازي ثم رمى القداحة وترك البيت يشتعل وحده والنيران تسير فيه كي تأكله، وما إن التفت لمح صورة الطبيب المحترم والده الذي احترق نصب عينيه حيًا، وبين نيران الحاضر ونيران الماضي، قلب الفتى الصغير احترق، فعاد برماده يحرق العالم.
سرد والذكرى تنهشه كما فعلت النيران بالقصر.
كان يحكي وعيناه تسبحان في الأفق البعيد يتذكر يوم الفاجعة، يوم أن اختبأ أسفل الطاولة ووالده يحترق ويصرخ والنيران تحرق مُقلتيه، فكان يرتجف من فرط خوفه، يتمنى أن يركض ويحتضن والده لعله يُطفيء تلك النيران بروحه هو، طرقت الفكرة باله وسط عبرات حارقة، فرفع غطاء الطاولة وهرول تجاه والده صارخًا، فرد ذراعيه استعدادًا للعناقِ لكن كف ماكسيم منعته.
شعر بكف إيهاب يلمس ظهره فخرج من قوقعة الشرود وقال بحزنٍ وبؤسٍ سكنا في عينيه باحتلالٍ لصفاءٍ لم يكن يومًا هذا موطنه: وأنا بحرق القصر حسيت إني شوفت صورة أبويا بس بيضحك، طول ما أنا عايش معاهم ومخلوط بيهم كنت حاسس إنه مش مرتاح، كأنه بيقولي إني خيبت أمله لما بقيت منهم، حرقوه حي قصاد عيني علشان رفض يبيع ليهم الأعضاء اللي كانوا عاوزينها، كشفهم وكان هيبلغ عنهم، بس قبلها بساعات دخلوا بيتنا، حرقوه قصاد عيني وأنا عاجز، ولما جيت أحرق نفسي معاه منعني ماكسيم خلاني واقف وساعتها قالي بالإيطالي كلام عمري ما هنساه.
Devi guardare e poi scegliere: o sei il perdente e sei bruciato come lui، oppure sei il vincitore e sei bruciato come me.
عليك أن تراقب ثم تختار، إما أن تكون الخاسر والمحترق مثله، أو تكون الرابح والحارق مثلي.
أشار بسبابته على جثة والده المحترقة، على الروح الطاهرة المفقودة، تجمدت وقتها العبرات في عينيه، كان صغيرًا، وحيدًا، فاقدًا ومفقودًا، طفل إيطالي لأصول مصرية، أمه غادرت أبيه لأجل عاشقها، ووالده كرس حياته لأجله، لأجل أن يكون الابن النبيل للطبيب الشهير المحترم، لكن الثمن كان باهظًا حيث روحٍ احترقت في الحال.
ضمه إيهاب كأنما يضم شقيقه، شعر بالنيران تحرق هذا الفتى المسكين، النيران انتقلت لقلبه بالتِباع تنهشه هو الآخر، فوجده يدفعه عنه برفقٍ ثم همس بغلٍ دفينٍ:
كان نفسي أحرق ماكسيم وأقف قدامه أقوله لو هو الحارق أكيد هيكون مني محروق، وهفضل وراه لحد ما أوصل لطريقه وهحرقه، زي ما حرقت البيت على دماغ اللي فيه، هجيب حق أبويا منه، ولو التمن بعدها روحي مش مهم، هدفع التمن بعدما أشتري انتقامي منه.
هو في أعماقه يسكن جحيم الثأر، ولن تنطفيء تلك النيران إلا بتحقيق الثأر، لذا سيناوله وجبته، سيعطيه الانتقام الذي أراد، فأخرج هاتفه ووضعه نصب عينيه، صورة ماكسيم وسط حفرة عميقة تشبه المقبرة، جسده تخشب بسبب سقوط البيت عليه، عملية إخراج جثمانه استغرقت يومًا بليلةٍ كاملة، حتى خرج فتاتًا كما الخرقة البالية، وفي وضح النهار ظهرت جريمته، وهو تاجر أثار أتى لاكتشاف البيت فسقط عليه.
جريمة مكتملة الأركان، نصب شباكها الصياد الذكي، لم يترك ثغرة واحدة توقعه، جاني يعرف كيف يدير الجريمة حتى تلتف حول عنق المجني عليه، لم يأتِ اسمه في أي شيءٍ، سجل البيت باسم رجلٍ مات منذ أسبوعٍ، والبيت أصبح مهجورًا وكأن من المعتاد أن يأتي له تجار الأثار، وهكذا انتهى الأمر، وانتهى الشر ورُفعت الجلسة.
راقب مُنذر الصورة، وفعلها مارسيلينو بينما إسماعيل فكان بالخارج لم يعرف بما فعل شقيقه، وحينها سأله مُنذر بلهفةٍ:
مات؟ يعني مفيش ماكسيم تاني؟
ابتسم الآخر بغرورٍ وقال وهو يعيد الهاتف لجيبه:.
مات، مات علشان دا المصير الصح للي زيه، الأرض الواحدة مينفعش تشيلني وتشيله، لازم واحد فينا يفضل والتاني يتشال من على وش الدنيا، أنا الحق، وهو الباطل، أنا الأرض والتاريخ والقوة ودي أرضي، هو مجرد ضيف تقيل مالهوش وجود، حتى واجب الزيارة مالهوش عندي، كان لازم استغل نقطة قوته قبل نقطة ضعفه، علشان أخليه يعمل اللي أنا عاوزه، وتنتهي المسرحية بدور البطولة اللي أنا استاهله، مش بطل راح ضحية علشان اللي منه يعيش، مش لازم كل اللي زي حمزة يكون دا مصيرهم.
لمح مُنذر النيران في عيني ابن عمه، لمح الانتصار الغافل الذي ما إن يطيء أرضًا لا يتركها لو مهما حدث، فسأله بثباتٍ واهٍ وقلبه يستعد للخروج من كل القيود:
عملت إيه يا إيهاب لو حد عرف هتروح فيها، الموضوع مش سهل زي ما أنتَ فاكر، دا خبير أثار، يعني الموضوع هينتهي بيك إرهابي، محدش هياخد باله من حقيقته ووجوده.
يتحدث كأنما يفكر بصوتٍ عالٍ، على نقيض قلبه الذي يزف الخبر السعيد فتسير الدماء المتدفقة لخلاياه بأكملها، وبناءً عليه، ناوشت البسمة فم إيهاب وتحدث بديباجةٍ فلسفية:
عملت كتير أوي علشان دي ماتكونش النهاية، صحيح مش نهاية سعيدة وهنفضل سايبة أثر جوايا، بس كان لازم تكون كدا، علشان لو مش هتعرف تستثمر أذى اللي حواليك لصالحك
هتفضل طول عمرك الخصم الغبي.
الحرب؛.
الحرب خدعة، ولو سلاحك قصر معاك، سلاح العدو موجود استغله لصالحك، وأي حرب تدخلها فضي كل جولاتها بسرعة، متدخلش جولة جديدة بأخصام جديدة، من غير ما تخلص القديم، علشان لو كل الأخصام اتحدوا وعرفوا طريقة لعبك، هتبقى أنتَ الطرف الخسران والخيبان فيهم.
حديثه دومًا له نكهة قوية، نكهة تخبرك من المتحدث دون أن تعرفه، حديثه دومًا يمتلك العزم والقوة، كما الفارس يمتطي خيله ولا يخشى أية معارك، ثم قال بنفس العنفوان، الجموح، القوة:.
هو ليه نقطة ضعف، وهي نفسها نقطة قوته، أي حاجة ليها أصل وتاريخ ميقدرش يعديها من تحت أيديه، وأي واحدة ست فيها ملامح مصرية بتخليه يتجنن عليها، وأنا كنت حافظه وفاهمه، ونهايته كانت سهلة، بيت فيه أثار، وواحدة تغريه لحد ما يتاخد جنبه كام صورة، وكدا ولا كدا كان راجل بيسعى لكيفه بأي طريقة، أنا مش مُدان، بالعكس أنا ليا حق عنده، والحق كان تمنه بروحه، وبكدا تخلص الحكاية خالصة مخلصة، والأرض تشيل صاحب الحق بس.
يتحدث وهو صاحب الحق، الصوت القوي فوق أرضه، لم يكن يومًا بجبانٍ يهرب من المعارك، لم يكن ضعيفًا حتى أمام الحب نفسه، يأتي بحق شقيقه ولو من باطن الحُوت نفسه، يتحدث وأنسب وأبلغ ما يتم الوصف به كان بيتًا من الشعر للمتنبي يقول:
لِتَعلَمَ مِصرُ وَمَن بِالعِراقِ
وَمَن بِالعَواصِمِ أَنّي الفَتى
وَأَنّي وَفَيتُ وَأَنّي أَبَيتُ
وَأَنّي عَتَوتُ عَلى مَن عَتا.
وفي بيتٍ آخر يليق به كفارسٍ مغوارٍ خاض مضمار الحرب بشجاعةٍ وبسالةٍ دون خوفٍ أو هروبٍ أو حتى اهتزازٍ، حيث بلاغة القول تصفه بكلمات الفارس عنترة بن شداد:
وَأَكونُ أَوَّلَ فارِسٍ يَغشى الوَغى
فَأَقودُ أَوَّلَ فارِسٍ يَغشاها
وَالخَيلُ تَعلَمُ وَالفَوارِسُ أَنَّني
شَيخُ الحُروبِ وَكَهلُها وَفَتاها
يا عَبلَ كَم مِن فارِسٍ خَلَّيتَهُ
في وَسطِ رابِيَةٍ يَعُدُّ حَصاها.
< ولأني خُلقتَ مُناضلًا فميدان عينيكِ أحق لي بالجهاد >.
أول الجهاد تضحية،
ودافع التضحية هو الحب، فلمَّ يُضحي المرء لو لم يُحب؟
لما يُجاهد ويناضل ويُحارب لولا أن الحب دافعه الوحيد؟ وهو لم يحب فقط، إنما هو يحب ويجاهد ويناضل لأجل موطنه، فقد النصف منه، لكنه لم يبخل بالنصف الآخر في الحرب ضد الظُلم والفساد.
كان يجلس في ظُلمة الليل وحده، زوجته تركت الشقة ونزلت تسهر مع خالته، حسنًا تعطيه فرصة يختلي بنفسه ليعيد الذي كان ومضى?، حيث صندوق الذكريات الخاص بنصفه، النصف الثاني الذي كان يدفعه ليُكمل الطريق الذي بدأ، شرد في عمق الذكرى البعيدة، حيث موعد التجهيز للحرب، للجهاد، للنضال، فقد كان حمزة يجلس في مقهى شعبية ينتظر قدوم باسم الباسل الشجاع.
دقائق ووجد مظروفًا يُوضع فوق الطاولةِ ويتبعه صوت سحب المقعد الخشبي ثم ارتكن بجسده بإرهاقٍ واضحٍ ثم سحب زجاجة المياه وقال بأنفاسٍ مسروقة:
كدا معاك كل الصور أهيه، صحيح كنت هروح في داهية بس خلعت منها، شوف كدا هتعمل إيه وفكك مني علشان عاوز أتخمد.
وقتها فتح الزجاجة يتجرع ما فيها دفعة واحدة، شمس الظهيرة حرقت جبينه، بشرته السمراء أصبحت لامعة بسبب قطرات العرق وآشعة الشمس التي تستقر فوق بشرته، بينما حمزة فتصفح الصور التي التقطها رفيقه، انتشى برؤية مراده نصب عينيه، صور لبعض المشافى? الحكومية التي تم بيعها، صور لدور أيتام تبيع صغارها وتتاجر بالبعض، صور بعض القطع الأثرية المُهربة من ميناء الدولة، صور بعض الضباط يعتدون على الشباب.
عاد له بعد أن قام بغسل وجهه ورطب بشرته ثم قال بهدوء:
الصور معاك وتاريخ كل صورة عندك في ورقة لوحده، بس خلي بالك أنتَ مش ناوي تجيبها لبر معايا، الموضوع كل شوية بيزيد خطورة وأنتَ مستبيع، المرة دي هتكتب عن إيه إن شاء الله؟
اندفع الآخر يقول بجموحٍ وقوةٍ دون أن يخجل أو يخاف:.
عن كله يا باسم عن كل حاجة حوالينا، عن المستشفيات اللي بتتباع لرجال الأعمال والغلبان مش لاقي علاج ولا مكان فيها، عن الأثار اللي بتتباع وتخرج من غير ما حد يحس، عن التعليم اللي مالهوش لازمة والمدارس بقت زي علب الكبريت العيال قاعدة على الأرض فيها، عن الحشيش والمخدرات اللي طيرت مخ العيال، عن الأغاني الهابطة اللي عمالة تنتشر وتبوظ دماغ العيال، عن الدين اللي فصلوه عن التعليم ومبقاش فيه حد واعي، هكتب طالما دا اللي في أيدي أعمله، لو أنا وأنتَ وغيرنا قرر يسكت هنضيع وهي هتضيع، هنبقى قاعدين ومستنيين في أي وقت الغريب ييجي يحتلنا وساعتها محدش هيكون واعي علشان يقفله.
حينها صدح صوت هاتفه برقم خطيبته، الحبيبة التي يسعى في طريقه كي يكتمل الحلم معها، وحينها هدأت ثورته وسحب الهاتف يجاوبها بهدوء وهي تخبره عن موعد الذهاب لرؤية شقة الزوجية، تحت أنظار الرفيق الذي انتظر إغلاق المكالمة ثم قال بسخريةٍ:
متقدرش تقولها لأ، نص طولك بس ممشياك صح.
حدجه بنظرةٍ ساخطة ثم قال بثباتٍ وصرامةٍ:
بكرة تتنيل وتقع على رقبتك وتحب وساعتها مش هتقدر تقول لأ، تصدق ياض أنتَ؟ أنا بتمنى ربنا يطول عمري لحد ما أشوف مين اللي ربنا هيبتليها براجل قليل الأدب زيك.
وقتها ناوشت البسمة الوقحة شفتيه ومال يهمس بوقاحة:
أديك قولت راجل قليل الأدب، بعدين هو فيه راجل مؤدب أصلًا؟ أكيد هجيب واحدة قليلة الأدب هي كمان علشان أعرف أقل أدبي قصادها، مش هتنفعني واحدة متربية.
وقتها أثار حنق الرفيق فسحب الزجاجة وقزفه بها، فالتقطها بكفيه ثم تجرع المياه منها وهو يثير استفزازه حتى ضحك له حمزة ثم قال بصوتٍ هاديء حنون كأنها أمنية يستحيل تحقيقها:
ربنا يهديك ويسعدك ويرزقك ببنت الحلال اللي تلمك وأقف في فرحك كدا أدعيلها ربنا يقويها على ما بلاها، ياكش هي تسامح بس.
وفي الحقيقة هي كانت ولازالت أمنية، فبعدها انتهى المصير بهما بعد ثورةٍ نجح فيها الشباب وسقط بعقرها الطُغاة، تحررت أراضي الوطن من اغتصابٍ سافرٍ، لقمة العيش كانت الحق المسلوب، الحرية كانت الذهب المسروق، بعدها انتهى المصير بفشلٍ، تحول النجاح لذكرى عابرة تقتل كلما حضرت، ذكرى أتت من رحمٍ جُنى? عليه، ومع الوقت أصبحت هي الجاني بذاته، فانتهى مصير الحُريْن بأحدهما قُتِل، والآخر اُعتقل.
الواحد الصحيح انقسم لنصفين، نصف صعد لبارئه، ونصف ظل فوق الأرض يتجرع العذاب فيها، نصف بقى يرثى رحيل النصف الآخر منه، كانا دومًا واحدًا لا يقبل القسمة، حتى دخل الظلم بينهما، تدخلت قسوة الحاكم وقهرت المحكومين، فمات حمزة واندثر معه الصوت الحُر، بينما قلب باسم فتلاشت عنه كل بسمةٍ وأصبح واجمًا، ساخطًا، في قلبه ثورة تملأ الميدان، وفي عزيمته خمول يكفي لتعطيل مدينة كاملة.
خرج من شروده على صوت جرس الباب فزفر حانقًا يطرد الذكرى? من محيطه، يعتدل على الفراش ثم وضع الصورة بالمكان المخصص لها أسفل وسادته، ثم زفر من جديد وقال بضجرٍ:
يا نورهان قولتلك خدي المفتاح معاكِ، غاوية تتعبيني ليه؟
تحرك يفتح الباب فتذكر أنها أغلقته حينما صعدت تغير ملابسها وتذهب مع خالته للتسوق، عاد وأتى بمفاتيحه يفتح الباب وهو يضحك بشرٍ ينتوي لها أشر العقاب، لكنه لم يعلم أن عقابه كان على الباب، حيث وجد واحدةً من فتيات الليل التي يعرفهُن، فتاة ساقطة ترتدي عباءة سوداء قامت بفتحها لتكشف جسدها بسخاءٍ.
توسعت عيناه وهي تدفعه للداخل وتقول بعتابٍ فج:
جرى إيه يا باسوم؟ مش هتقولي اتفضلي ولا إيه؟
اقترب منها يوقف خطواتها المدنسة بأرض بيته الطاهر ثم أعادها عند أعتاب الشقة وهو يقول بجمودٍ قاسٍ:
أنتِ مجنونة يا بت أنتِ؟ تتفضلي فين، غوري من هنا.
اقتربت من جديد بإغواءٍ صريحٍ وهي تقول:
ههون عليك؟ ترضالي كسرة الخاطر دي؟
وأرضالك كسر رقبتك كمان، أنتِ هتصاحبيني، غوري من هنا.
دارت حول نفسها تتأمل الشقة الواسعة، تتأمل حداثة المكان، تتأمل صورة الفتاة المعلقة يوم عقد قرانها، لوت فمها باستهجانٍ فأعادها للخلف وهو يقول بحنقٍ:
غوري بقولك من هنا، والمكان دا متعتبيهوش تاني.
سحبها من يدها كي يخرجها فوجد زوجته في مواجهته، توسعت عيناه وتيبس جسده وهو يرى نفسه موضع الإتهام في عينيها، بينما تلك الساقطة التي تجاوره ادعت الحزن وهي تقول بتهكمٍ صريحٍ:
يا عيني عليكِ؟ صنف كله واطي وزبالة متزعليش نفسك يا حبيبتي، أطلبي الطلاق منه دا راجل واطي وباع العشرة.
لن يجد ما يدافع به عن نفسه، الحكاية مكتوبة بحبكة رخيصة لم يكلف مخرجها نفسه في مزيد من الابتكار، فيلم ممل يتكرر في العديد من السيناريوهات، سيصبح هو الخائن، الرخيص في تلك الحكاية، وبجواره عاهرة من فتيات الليل تعمدت إظهار جسدها كتهمةٍ تلصقها به وهي تتدعي الستر، بينما البطلة، أو المغفلة في هذه القصة هي من تواجهه بعينين مكسورتين كأنها قتلت بسكين عشقه الذي المفترض عليه أن يحميها من الغدر.
كانت نظرتها له أقرب بنظرة الوطن الأم حين يطالع وجه الخائن من الأبناء، كأنه يتوجب عليه أن يلتحق بالجيش ليحميها، فالتحق بجيش العدو ليدهس بقدمه تراب وطنه فيلوثه، رحلت الفتاة بعد نظرة غامضة رمت بها باسم الذي كاد أن يقتلها، بينما زوجته ففطنت للنظرة، نظرة شامتة، سعيدة، فرحة، ربما هي تلقت ما تريد ورحلت، لذا انتظرت رحيلها ووقفت تائهة، كما الفائقة من غيبوبة وفقدت نصف ذاكرتها.
أولاها ظهره يبحث عن ديباجة قديمة يشرح بها الأمر، ربما تغضب وتثور وتطلب الطلاق، ربما تتهمه بكسر قلبها وطعنها بالغدر، ربما تغادره في صمتٍ ويصبح هو المصاب بلعنة الفقد، كلما أحب شيئًا راح عنه، استمع لصوت إغلاق الباب فوقع قلبه، التفت بحدةٍ فوجدها تغلق الباب من الداخل ثم خلعت نعالها الرياضي ببطءٍ وهي تستند على الحائط ثم تخطته تحمل الحقائب للداخل بصمتٍ أرعبه، هي حقًا غامضة ويخشى رد فعلها.
تحرك خلفها يقف بصمتٍ فوجدها تفرغ الحقائب وتضع الأشياء بالبراد، تتحرك كأن شيئًا لم يكن، تخطته نحو الخارج تأخذ بقية الحقائب ثم ولجت من جديد تتجاهله، بينما هو فتلك الحرب الباردة أرهقته، لذا سألها بنفاذ صبرٍ:
وبعدين؟ قولي طيب أي حاجة؟
التفتت له تبتسم بسخريةٍ وقالت بتهكمٍ صريحٍ:
أنا اللي أقول؟ أقول إيه بقى؟
تقولي أي حاجة، تتهميني، تزعلي، تنفعلي، تغضبي مني، تسأليني، بس السكوت دا لأ، سكوتك معناه صعب، على الأقل أتكلمي علشان أقدر أرد عليكِ، أقولك اللي حصل، عارف إنه موقف مقرف وصعب، بس أنا وعدتك عمري ما هكسرك، معملتهاش وأنتِ غايبة عني وأنا تايه، هعملها بعدما بقيتي ليا؟
حسنًا هي تود البكاء، الصراخ، اللوم، العتاب، لكن على ماذا؟ هي فقط شاهدت الغلاف دون أن تعرف ماذا يحمل الكتاب بين صفحاته، لذا مسحت عبرة خائنة تمردت عليها وناقضت ثباتها حينما اقترب منها وقال بضعفٍ وهو يتوسلها:.
والله العظيم طلعت قبلك بدقيقة، معرفش جت إزاي وجت ليه، حتى مخليتهاش تدخل أصلًا، أنا مش فاهم ليه بس هي جت علشان تبوظ اللي بيني وبينك، شوفتي كلامها ليكِ؟ بتقولك أتطلقي، يعني دي جاية عارفة هي بتعمل إيه.
كان يُطمئن نفسه أنها ستقتنع، سوف تصدقه، بالتأكيد لن تضيع منه بعد أن أصبحت الأمل الأخير له، لن يعود للغرق دونها، راقب وجهها فوجدها تبكي وتلك المرة بقهرٍ، بكت بضعفٍ وصوتٍ تمزق ثباته وهي تشعر أنها دمية تتلاعب بها الأنامل، وفي تلك اللحظة خطفها في عناقه يقسم لها بصدقٍ:.
والله العظيم ما أعرف جت ليه، أنا عمري ما قربت من واحدة غيرك أنتِ، وعمري ما واحدة عرفت بيتي ولا مكاني، بصي في عيني ولو شوفتي فيهم كدب يبقى معاكِ كل الحق، أقولك أزعلي مني، اقفلي على نفسك، اطرديني لو تحبي بس بلاش تفكري إنك تقطعي اللي بينا، بلاش الحكاية تنتهي قبل ما تبدأ.
وهي حقًا إمرأة منهكة، فتاة تشعر بعمرها يتضاعف خلال حروبٍ مفروضة عليها وهي لم تكن يومًا طرفًا فيها، فضلت السكوت، هربت من أمامه، غابت داخل الغرفة الثانية تغلق بابها وتحتوي نوبتها، تهدي عقلها هدنة بسيطة لعله يرتاح من عبء الحرب الطاحنة المفروضة عليه، والعاشق البريء في صورة خائن يراقبها بصمتٍ، يراقب الغياب، الخوف، الكسر الذي صدع روحها، يتركها لنفسها ثم ارتمى فوق الأريكة بصمتٍ.
< حُبي الأول لن يُنسى? ولو كل المدينة وقعت بالعشق >.
لو كل المدينة فاضت بالعشق سيظل العشق محفوظًا للمعشوق الأول، لذاك الحبيب الذي اختبرنا معه النبضة الأولى، لذاك الذي يوم أن أتى أبصرته العين، عرفه الفؤاد، أرتاح له القلب، سكنت بجواره الروح، ذاك الذي كان يسير غريبًا بين أرجاء المدينة ثم استقر في ملكه، فكان يشبه الزاهد في دنياه ويوم أن فُتن، كان فتنته بضي القمر.
ليلٌ جديدٌ يمر بصحبة الصغير.
مواء صغيرٍ يشبه مواء هرة ضعيفة، فتح جفونه الصغيرة يبحث عن أمه التي لم تكن رائحتها تحاوطه، يبكي في فراشٍ يشبه الأرجوحة المهتزة، وهي بالخارج كانت تقوم بتنظيف مطبخها، بعد أن قامت بتنظيف الغرف والصالة الكُبرى، وفي غرفة الزوج، كهفه الخاص بالعمل يبحث عن ملفٍ في غاية الأهمية، هي قامت بالترتيب والتوضيب وبالتأكيد هي من بدلت الأماكن...
خرج يتجه نحو المطبخ يقول بنفاذ صبرٍ:
الورق اللي كنت بكتب فيه في الملف الأسود راح فين يا عهد وأوعي تكوني رميتي الورق اللي كان معاه.
التفتت له تعقد حاجبيها وحاولت أن تتذكر المكان، ثم قالت بمحاولةٍ لتذكر المكان بعد أن كانت مشغولة مع صغيرها الباكي:
تقريبًا في درج مكتبك أو في الصندوق البني.
وكلمة تقريبًا أشعلت فتيل غضبه، فقال بصوتٍ منفعل:
مفيش حاجة اسمها تقريبًا، تعالي سيادتك هاتيه.
أرشقته بنظرة نارية حادة، ثم تخطته بدفعةٍ بظهر يدها تتوجه لغرفة مكتبه ثم ظلت تبحث عن الأوراق، بينما هو وقف خلفها يعقد ساعديه ثم قال يتشدق بنزقٍ ساخرٍ:
واضح إنك عارفة مكانه فعلًا، بعد كدا متغيريش مكان حاجة أنا حاططها بنفسي، يا ستي هروق أنا بعدما أخلص بس متجيش أنتِ تغيري المكان.
وقفت تزفر بحنقٍ ثم التفتت تهدر في وجهه:
ممكن تسكت؟ بطل تربكني كدا، تعبت خلاص.
كاد أن يرد لكنه فضل الصمت لحين انتهت هي وأخرجت الأوراق ثم وضعتها في يده وهي تحدجه بنظرةٍ ساخطة ثم تحركت نحو الداخل وأثناء مرورها استمعت لصوت بكاء صغيرها، ووقتها انطلقت كما الطلقة من فوهة السلاح تحمله فوق ذراعيها وتحفظه في عناقها، ظلت تُهدهده حتى هدأ ما إن شعر برائحتها ثم بدأت ترضعه وهي تغني له حتى يألف صوتها.
راقبها يوسف من فرجة الباب، لمح الإرهاق الظاهر فوق ملامحها، لانت ملامحه بعض الشيء ووقف يراها وهي ترعى ابنه الذي بدخوله هذا العالم غير الكثير من التفاصيل، لم يغفل عن قلة نومها، عن قلة راحتها، قلة تناولها للطعام، تغيير الوضع الحالي في روتين يومها، يبدو أن هذا ما يُسمى اكتئاب ما بعد الولادة.
راقبها تُعيد نوم صغيرها بالفراش ثم تحركت نحو الخارج تكمل ما كانت تفعله، بشرودٍ، بضعفٍ، ببعض الآلام في جسدها، بإرهاقٍ تحاول أن تسرق ساعات نوم قليلة، معاناة لم يفهمها الرجل، هو يرى القشور السطحية فقط، وهي وحدها من تعاني وتحتسب الأجر عند ربها، تذكر والده كيف كان يراعي شقيقته، كان دومًا يناوب مع زوجته في رعاية الصغيرة، لم يترك غالية وحدها إلا برغبة الخالق حين قدر موعد مماته.
خرج يجلس في غرفة عمله ينكفيء عليه كي يُنهيه، لكن عقله لازال مشغولًا بها، ضميره يأنِ بسببها، فزفر وترك القلم ثم خرج من الكهف ليجدها تتحمم بعد أن جعلت البيت قطعة من الجنة، وقتها ولج هو وقام بتحضير بعض الطعام الخفيف، صنع الشاي قام بتحضير الخبز، الجُبن، اللحم البارد، بعض الخضروات، أشياء بسيطة يجهل أثرها لكنه حقًا يشعر بالجوع وبالطبع هي الأخرى تشعر بالجوع مثله.
خرجت من الغرفة بعد أن ارتدت ثيابها البيتية، لم تبلل خصلاتها بل تركتها حرة تنسدل بنعومةٍ حول كتفيها، لكن ما رآته جعلها تتعجب، راقبت جلسته في انتظارها بصمتٍ، ثم اقتربت تسأله بجمودٍ:
قاعد كدا ليه؟ عاوز حاجة تاني؟
انتبه لها فضيق عينيه عليها ثم هدر في وجهها بسخريةٍ:
أنا كنت خدت منك أولاني؟ بلاش وشك الخشب دا وتعالي.
كادت ترفض، تتذمر، تمتنع، لكن نظرته جعلتها تعود وتسحب المقعد وهي تجلس بنفس الهدوء، الصمت، ثم بدأت تتناول الطعام بشهية منقبضة، كان يراقبها وفجأة وجدها تبكي، تبكي بغير سببٍ، وحينها ضرب كفيه وقال بيأسٍ:
يا ستي حد جه جنبك؟ بتعيطي ليه طيب؟
هي لا تعلم، هذا الخواء الذي بداخلها لا تعرف له سببًا، شعور غريب بالنفور تجاه نفسها قبل الآخرين، تبكي في بعض الأحايين، تمتنع عن الطعام، أحيانًا تشتهي عناقًا، ثم ترغب في ابتعادٍ، لا تعلم وهو لا يعلم، لذا ترك موضعه ثم تحرك يستند على الطاولة أمامه كي يواجهها وهي تجلس فوق المقعد، ثم رفع وجهها تلتقي بعينيه، وما إن لمح الحزن في المدينة اللامعة، مسح العبرات بطرف إبهامه ثم سألها بحنوٍ:.
مالك، بقالك يومين مش أنتِ خالص، فيه حاجة مزعلاكِ؟ أنا مضايقك طيب؟
هي حقًا لا تعلم، سبب البكاء، الكآبة النفسية، الحالة الغريبة التي هي عليها، التيه الذي يغمر روحها، التقت بعينيه وأوقفت البكاء ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ:
تقريبًا اكتئاب ما بعد الولادة، مش عارفة بس أنا تعبانة بجد.
وهن نبرتها تحدث عن المعاناة، خفوت النظرة اللامعة في مدينته كان أشد ظُلمةً عليه من ليالي وحدته، لذا ضمها لصدره وتركها تبكي كما تريد، لعل ذلك يُهديء روحها، تمسكت به بقدر ما سمح لها جسدها ثم قالت بصوتٍ مكتومٍ:
أنا تعبانة أوي يا يوسف تعبانة وخايفة.
ابتسم بحنوٍ ثم عاد للخلف يواجهها وقرر أن يبدل نهجه فقال بخبثٍ:
طب ما تقولي إنك عاوزة تتحضني، هقولك لأ يعني؟
عادت وضربته في كتفه، تحدجه بكل حنقٍ تكتم خلاله بسمتها، بينما هو يضحك لها ثم يعاود ضمها حتى وجدها تستكين فوق صدره، بدأت تهدأ كُليًا بينما هو بدوره تتدخل يقول برزانةٍ:
متخليش مرحلة جديدة زي دي توقعك، طول عمرك جدعة وساندة نفسك يا عهد بتعملي اللي 100 راجل مبقوش يقدروا يعملوه، بعدين طول عمرك مذهلة وشاطرة، إيه اللي حصلك بقى؟ يا ستي أنا موجود معاكِ أرمي عليا.
ويكأنها تغاضت عن النصف الأول من حديثه، فركزت في النصف الجملة الأخيرة فقط وتهكمت بالملامح قبل القول ردًا عليه بنزقٍ:
أرمي عليك آه، دا أنتَ علشان ملف كنت هتاكلني، ياعم أقعد.
وكزته بعد جملتها بينما هو فتوسعت عيناه وهو يجاهد لكتم فعله، فلم تكتفِ بذلك، وإنما خشنت صوتها ثم قالت بغلظةٍ تقلده:
مفيش حاجة اسمها تقريبًا، تعالي سيادتك هاتيه.
كانت تقلده وتقلد ملامحه فأشار على نفسه مستنكرًا بقوله:
أنا! أنا بتكلم كدا!
آه بتتكلم كدا، وشكلك بيبقى يخوف، أنتَ تخوف أصلًا.
دا على أساس إنك أمان يعني؟ ما أنا بخاف من جنانك، ولا نسيتي دا أنتِ مثبتاني بالسلاح مرتين.
جاء الرد منه سريعًا وكأنها جلسة صراحة، فلم تجد بُدًا سوى التنفيس عن غضبها، لذا سحبت الملعقة من أمامها وأشهرتها في وجهه كأنها تهدده وهي تقول بغضبٍ مكبوتٍ:
أنتَ جاي تراضيني ولا تعصبني؟
اقترب يخطف الملعقة منها ثم وضعها عند رقبتها بنظرة شرٍ ثم نطق أخيرًا بصوتٍ رغم الهدوء كان مخيفًا:
أراضي مين؟ أنا مبراضيش حد، قومي يا بت أعمليلي كوباية قهوة، قال أراضيكِ قال، أنتِ هتاخدي عليا ولا إيه؟
كادت أن تدفع يده لكنه قام بلوي ذراعها للخلف يتحداها بنظراته كأنه يخبرها أنه يتجهز لأي فعلٍ منها، ووقتها تنهدت مُرغمة وقررت أن تستخدم السلاح الأقوى، عيناها بلا شكٍ هي أقوى سلاحٍ على غريبٍ مثله، وقالت تستجديه بعينيها أولًا:
ههون عليك؟
وقع في الفخ، عيناها قامت بأسرهِ ليصبح هو المُكبل بأغلالٍ معدنية تجعله صريع الديار في سكن مُقلتيها:
لا هنتِ ولا عمرك هتهوني عليا.
والضحكة وازتها ضحكة، النظرة ماثلتها نظرة، وانتهى الأمر به يحتويها بين ذراعيه، لقد برع في إخراجها من نوبة حزنها، ماهرٌ ومبهرٌ في تخطي الحزن بها ومعها، وجدها تبتسم له بنظرةٍ حنونة وكأنها أدركت ما فعله كي يُخرجها مما ابتلعها في جوفه من حزنٍ واكتئابٍ، وفي تلك اللحظة اقتربت هي تُلثم وجنته ثم همست بصوتٍ رقيقٍ:.
أنا كل يوم بتأكد إن حياتي مكانش هينفعها حد غيرك يا يوسف ودلوقتي عرفت ليه أرتاحت في وجودك، علشان أنتَ قلبك شبه قلبي، ونفسي بكرة يامن يكون شبهنا إحنا الاتنين.
لمعت عيناه عند ذكر ابنه ثم طبع قبلة حنونة فوق جبينها وأعادها لسيرتها الأولى حيث أحضانه تستقر بها، ويأمن هو بقربها، كما سبق وسكتت رأسه، وسكنت آلامه، الآن تستقر روحه من شتاتها بقربها هي وحدها،
فبقرب الشبيه؛ الشبيه يطمئن.
< وكنت جاهلًا لا أُفصح حديثًا، وتعلمت الشعر لأجلكِ >.
لا توجد حرب بلا غنيمة.
والغنيمة تلك المرة كانت بربحٍ يساوي كل الأرباح، غنيمة ازدهر العمر فيها وكأن الربيع أتى يمحو أثر كل خرابٍ خلفه الخريف عقب رحيله، كأنك ولجت أرضًا من بعد حربٍ نهب خيراتها.
نام أخيرًا بعد يومٍ عصيبٍ، حياة مليئة بالأعمال الشاقة، ولولا تفضيله للطاعات على الدنيوات لما كان أنجز شيئًا قط، كان ينام ويولي تلك التي تجاوره ظهره بعد أن أقام ليله وختم يومه بالطاعات كما اعتاد وهي معه، أما الحين فهو تركها وحدها، تسهر وكأن النوم هاجر عينيها، لذا راقبته بهدوءٍ، تشتاق لهذا الملاك الذي يجاورها، تشتاق لرؤيته بقربها، بين ذراعيه، يبدو أنه أضعف من مقاومة السهر لأجلها، لكن ما العمل وهي تشعر أن الجنين في رحمها يشتهي قربه؟
بكفها لمست ظهره، نقطة ضعفه التي تجعله يفيق في طرفة عينٍ، السر الذي كشفه لها حتى تستخدمه ضده، فتح عينيه بسرعةٍ دون أن يلتفت، يفكر هل لو التفت يصفعها فوق وجهها، أو يدفعها بقدمه، تحول أيوب وتلبسه الشيطان، لكنه استغفر ربه وقبل أن يغفو من جديد، وصله صوتها تقول بمكرٍ:
أصحى، النونو شكله عاوز بابا.
رفع حاجبه بحنقٍ ثم التفت يجاوب بصوتٍ محشرجٍ:
والنونو هيعوز بابا في إيه دلوقتي؟
حركت كتفيها كأنها لا تعلم حقًا، بينما هو رماها بنظرةٍ واحدة جعلته ترسم البراءة فوق وجهها وهي تبتسم له، بسمة رائقة كأنها الأكثر نقاءً في هذا العالم، وقبل أن يغفو من جديد وجدها تقترب منها وتسحب كفه تضعه عند بطنها، حتى يشعر بضربات صغيره برحمها، شعر بصدد الضربة فاهتزت خلجاته، انتفض بمشاعر لذيذة جعلته يبتسم هو الآخر خاصةً حينما استكانت الحركة أسفل كفه، بينما قالت هي ببراءةٍ زائفة:.
شوفت بقى إن النونو كان عاوز بابا؟
اقترب بملامح خبيثة، العبث هو مسماها وهمس لها بعتابٍ:
طب النونو عاوز بابا، ماما بقى مش بابا؟
رمقته ببسمةٍ فضحت أمرها طالعته ببسمةٍ خجولة وفي طرفة عينٍ تبدلت وهي تقول بضجرٍ لا يعلم إلا الله كيف ظهر بتلك السرعة:
ماما مش طايقة نفسها وروحها في مناخيرها سيبها في حالها، سيبها في حالها بدل ما أسيبلك الدنيا كلها وأطفش يا أيوب.
توسعت عيناه من تغيرها بينما هي أضافت تُكمل السابق:
لولا إني خايفة على مشاعرك كان زماني خدت حاجتي وروحت عند ماما قعدت هناك طول فترة حملي، بس أنا هنا مراعاةً لمشاعرك بس مش أكتر يا أسطى أيوب.
أبوس إيدك أمشي، روحي ومتشيليش هم مشاعري أنا كفيل بيها، أنا بنفسي هوصلك علشان أثبتلك إن مشاعري مش متأذية ولا حاجة، دي أوهام في دماغك أنتِ بس.
احتدت نظراتها وعلى حين غرةٍ أولته ظهرها بعد أن فصلت بينهما بالوسادةِ، ابتسم هو رغمًا عنه ثم مال يقترب منها وربت فوق ذراعها وهو يقول بحنوٍ يسترضيها به:
شوفتي إنك مش بتقبلي الهزار؟ يعني أنا هسيبك تمشي وتروحي في حتة؟ ما أنتِ عارفة اللي فيها، مينفعش البيت يفضل من غيرك يا قمر بيبقى مفيهوش روح، أنتِ البيت أساسًا.
بدأت تبتسم، التفتت نصف التفاتة برأسها فلثم هو جبينها ثم قال بوجهٍ بشوشٍ بعدما ثبت عينيه في عمق عينيها لا يبغى نجاةً من هذا الغرق المحبب لقلبه:
عاوزة تمشي وتسيبيني؟ ههون عليكِ أفضل لوحدي أكلم نفسي؟ بعدين هو مش النونو عاوز بابا؟ هتدي بابا ضهرك كدا؟
اعتدلت، واجهته بعينين لامعتين بسعادةٍ بينما ضمها هو بكفه فاقتربت منه، وقد قالت هي بصوتٍ مكتومٍ إثر رأسها المستند على كتفه:
ماهو أنتَ نايم وسايبنا، نسيت يوم ما عرفت عملت إيه؟
أسبل عينيه لها، نظرة حنونة احتواها بعينيه بينما هي فلمعة الذكرى القاسية ظهرت تحاوط مقلتيها، ذكرى رغم سعادتها لم تخلُ من الحزن والقهر، وكذلك هو، تذكر كيف ظهر له الوتين الذي جعله يتشبث بالحياة مُجددًا قبل أن يترك كفه عن الاستمساك بحبال الحياة...
وقتها كان في زيارته ل يوسف خرج من عنده خاوي الوفاض، خائر القوى، صوت رفيقه وهو يوصيه على ابنه كان ينهش في جدار قلبه فيترك أثرًا لا يُمحى?، لمعت العبرات في عينيه وهو يرى وداع يوسف المقهور حينما سحبه السجَّان للداخل فأتت كلمته الأخيرة برجاءٍ ضعيفٍ:
ابني يا أيوب مش هيبقاله غيرك في ضهره.
وكان كما المحارب الذي دارت الحرب في الخفاء رغمًا عنه فوجد نفسه فيها بلا سيف ولا رُمحٍ ولا حتى يقف في الجهة المعتدلة، بل كان في المنتصف وكل السيوف أُشهرت في وجهه، رحل بكتفين متهدلين، الهزيمة ساورت عنقه، ولج السيارة بجانب شقيقه أيهم الذي لم يتركه وحده، وقد سارت السيارة بصمتٍ، لم يقطعها سوى حديث شقيقه حين قال:
تحب نروح نغير على الجرح؟
لم يسمعه وقتها، كانت العبرات عالقة في عينيه، تحجرت كما تحجرت الأحوال حوله، ولم يفق إلا عند وصوله للبيت، فعاونه شقيقه حتى صعد به لشقته ثم تركه بعدما فتح الباب ونزل مسرعًا احترامًا لتواجد زوجته التي بالداخل وقد ولج أيوب بصمتٍ، جلس على أقرب أريكة قابلته في الظلام دون أن يترك حتى ولو إضاءة خافتة، الظلام يحاوطه، وهو يجلس يركض بنبضاته باحثًا عن أنفاسه، وقد أتى القمر من وسط عتمة الليل، أتت بحركةٍ هادئة وجلست على الأرض تميل برأسها فوق ساقه...
انتفض إثر لمستها له ونزل بعينيه لموضعها فوجدها تقول بصوتٍ خافتٍ أقرب لمواء الهِرة الصغيرة:
عامل إيه يا أيوب. أنتَ وهو؟
كانت تسأل عن كليهما، وقد بكت، بكت لقلة حيلتها، ضعف إرادتها، حتى جلوسها هنا بالإجبار بسبب أيهم الذي احترم سرها لكنه لم يسمح لها بالحركة خوفًا على الجنين، هبط أيوب بكفهِ يمسح فوق رأسها ثم حارب نفسه حتى نطق أخيرًا بصوتٍ متعبٍ:
أدعيله يا قمر ربنا يفك كربه ويرده وسطنا.
لمعت العبرات في عينيها، ترقرق البكاء فكان مدرارًا، وقد تعجب هو من طريقة البكاء التي قهرت قلبه، فهي لتوها لم تصل للتعافي الكامل من بعد حادثة اغتصابها، ومن ثم تفاجئت بتلك الليلة التي مرت؛ قتلت فيها ما لم يُحيا من جديد، حينها سألها بلهفةٍ وهو يرفع وجهها له:
فيه إيه؟ فيه حاجة بتوجعك يا قمر.؟
أنا حامل يا أيوب.
بترت حديثه قبل أن يُكمل وصلة القلق عليها، وقتها توسعت عيناه وفرغ فاهه، تيبس كأنه أصبح تمثالًا من الحجارة، بينما أضافت هي بصوتٍ باكٍ:
لسه في الأول خالص، واللي وجعني إني مش قادرة أفرح، فرحتي مطفية، ومش هقدر أفرح وأخويا غايب عني، كأن ربنا باعتلي أمل يخليني أعيش بعدما كنت هتجنن عليكم، أعمل إيه يا أيوب...
وازداد البكاء بكمدٍ وقهرٍ حتى نزل يجاورها ثم حاوط وجهها بكلا كفيه وقال بصوتٍ مختلط المشاعر؛ بين الحيرة والفرح والقهر وكل ما يمكن للمرء أن يعايشه:
أنتِ حامل بجد؟
أومأت له موافقةً ببكاءٍ حاد، فضم رأسها لصدره وظل يُردد بامتنان للخالق الذي في كل مرةٍ يكرمه بلطفه الخفي:
اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد يا عظيم الجلال والمَّن.
كان الخبر كخبر ظهور الشمس لأناسٍ يعيشون بالكفِ.
وقتها تيقن أن مهما كان الدربُ معتمًا فليس هناك لضوءِ الشمس من حاجبٍ، ظهرت الشمس لأيامه واحتضن القمر في بقوةٍ، كان الخبر كشمسٍ مشرقة من خلف غمامٍ سوداء غطت لون الحياة في عينيه، لذا تيقن أنه رجلًا محظوظٌ بما يكفي حتى يكون القمر بين يديه والشمس في قلبه.
خرج من شروده في الذكرى على يدها التي تتمسك به في عناقه فاعتدل وضمها في نومها ثم مرر كفه فوق بطنها وكرر حمده لربه ثم شرد في تلك اللحظة التي ازداد قُربها، وأصبحت مجرد شهور قليلة ويحتضن الجزء الأصغر، الأحن، الألطف في حياة المرء.
< لولا العلم واليقين فيك لا كنت خسرت نفسي جهلًا >.
يترك المرء جزءًا منه برغبةٍ منه.
ليس لقوة استغنائه، وإنما لقلة حيلته، تلك الحيلة التي قد يفقدها فيصبح أصعب و أسهل ما عليه فعله هو أن يترك شيئًا منه يمر هكذا كأنه لم يكن يومًا جزءًا من الروحِ.
في صبيحة اليوم الموالي.
استيقظت نورهان في الصباح الباكر وخرجت من غرفتها لتتفاجيء بزوجها لازال نائمًا فوق الأريكة، تخطى الوقت موعد عمله ولازال هُنا بالبيت! ولجت ترتدي ثيابها وتتجهز بينما هو فالنوم هاجره، طوال ليلةٍ بأكملها لم ينم سوى أقل الساعات فيها، فقد سقط في بئر النوم رغمًا عنه، واستيقظ بعد الفجر بغصةٍ في قلبه، تذكر أمر تلك التي كانت ببيته وخشى أن تكون هربت منه زوجته، هرول من فوق الأريكة يبحث عنها، ولج يحاول فتح باب الغرفة فلم يستطع.
طلب رقم هاتفها فوجده بالداخل وهي تغلق على نفسها، عاد وارتمى فوق الأريكة بأنفاسٍ مهدورة في ساحة الخوف، وقد تحرك وقضى فرضه ثم عاد وجلس فوق الأريكة حتى شروق الشمس ونام بعد السادسة صباحًا، خرجت من الغرفة فوجدته ينتفض أمامها ثم سألها بصوتٍ جامدٍ به أثر النوم واضحًا:
أنتِ رايحة فين؟ الساعة لسه 8 الصبح.
رمقته بنظرةٍ مبهمة لم يفهم كنهها، ثم سألته بجمودٍ:
ماروحتش الشغل ليه؟
تعجب من تغييرها للحوار فقال بنفس الجمود:
مقدرتش، نمت الصبح ومعرفتش أقوم، أنتِ رايحة فين؟
لم تجاوبه، بل استعدت للرحيل وقد وقفت تقول بعدما عادت له:
رايحة مشوار مهم، مشوار لازم أروحه قبل ما أتجنن.
وقتها لعبت الأفكار برأسه، خشى أن تكون صدمة الأمس أثرت عليها، قد تكون تاهت بها السُبل فتعود لذاك السبيل القديم الذي لا تعرف سواه، رأتها في عينيه، لمحت الخوف فقالت بثباتٍ:
ممكن المفاتيح علشان أنزل؟ ولا لسه مش واثق فيا؟
رمقها بقلة حيلة، غُلِبَّ على أمره أمامها فتنهد بثقلٍ ثم مد يده لها بالمفاتيح التي أخذها بالأمس من حقيبتها خوفًا من هربها، تركها تنزل وتفعل ما يحلو لها، فهي لازالت إمرأة مصدومة، وقد تحركت بالفعل ونزلت من الشقة.
مر الوقت عليها وانتهى بها في النادي الذي لازالت لها عضوية كاملة به، ولجت النادي من جديد وطيف الذكرى يمر بعقلها، لم تنس الأمس ومع ذلك لم تعد تتذكر التفاصيل المزعجة به، لمحت هدفها يجلس فوق الطاولة المعتادة؛ فابتسمت بانتصارٍ ثم اقتربت منه، اقتربت تقف فوق رأسه ثم قالت بسخريةٍ تهكمية:
لسه فيك صحة وشباب زي ما أنتَ، مش باين عليك السن.
انتبه الجالس لها، فرفع أبوها عينيه لملتقى عينيها ووقتها رفعت حاجبيها ثم وقفت تقول بنزقٍ:
لأ بس بسم الله ما شاء الله عليك، لسه زي ما أنتَ.
ثم جلست تواجهه وفي يدها هاتفها، فتحته على صورة والدها برفقة فتاةٍ تعمل كراقصةٍ بملهى ليلي، صورة له معها وهو يتحرك بصحبتها من الملهى الليلي، توسعت عينا والدها، ظهر السعير في قعرهما، النيران كانت تلمع في مُقلتيه، بينما هي ضحكت بخبثٍ ثم قالت بشرٍ كأنها تبدلت:.
مش هما بيقولوا برضه الطيور على أشكالها تقع؟ وأكيد الشياطين بتعرف بعضها برضه، وأنا تربيتك، الصورة دي عندي من بدري، من زمان أوي حد من حبايبك كان باعتهالي، وسكت قولت أنا مالي هو حر وأنا حرة، بس حاجة كدا قالتلي أخليها للذكرى معايا، ووقتها خليتها في الحفظ والصون وأكيد مراتك متعرفش، بس وماله نعرفها، هبعتها ليها لحد عندها، وأهو تبقى واحدة قصاد واحدة، مش أنتَ برضه اللي بعت البت بتاعة إمبارح؟ هي حركة رخيصة أتوقعها منك عادي.
صدمته، حقًا تفوقت على نفسها في الإنتقام منه، بينما هي ابتسمت ثم وقفت أمامه وعلى حين غرةٍ ضربت الطاولة بكفيها وقالت بصوتٍ عالٍ:.
دي آخر مرة هحذرك فيها، مالكش دعوة بيا وبجوزي تاني، سيبني زي ما أنا سيبتك كدا ومعتبراك مش موجود معايا، أنتَ بِعت مرة وأنا المرة بتاعتي ب 100 من عندك، ومش هقولهالك تاني، أنا مش هسيب باسم لو على موتي، حتى لو رميته في النار هرمي نفسي وراه، أنتَ بس صعبان عليك إنه طلع أرجل منك، عمل اللي أنتَ المفروض تعمله مع بنتك، صعبان عليك إنه راجل وقد المسئولية وبحبه، عاوز تثبت إنه واطي وخلاص بس ريح نفسك يا نبيل بيه أصله ابن أصول، متربي كويس.
أخرجت مرار السنوات الفائتة بأكملها أمامه، انتقمت وبالغت في الانتقام وقد وقف أبوها ورفع كفه كي يسترد حق نفسه وقبل أن يلمس كفه وجهها، كانت هناك القبضة القوية التي منعته، ظهر من العدم وأبعده عنها ثم هدر من بين أسنانه الملتصقة:.
لو إيدك دي فكرت ترفعها على مراتي تاني أنا هكسرهالك، أنتَ دلوقتي غريب، ومالكش حق يخليك ترفع حتى عينك فيها، ومن دلوقتي أهو بقولهالك، مراتي خط أحمر، لو فكرت تعديه هقلبها نار فوق دماغك.
ابتسمت هي، ببلاهةٍ تمسكت بقميصه وقبضت فوقه تستمد منه القوة، وقد التفت لها هو يراها بعينيه فوجدها تطالعه بنظرات سعيدة على عكس توقعها، ابتسم مرغمًا لها ثم أمسك كفها واستعد للرحيل يوجه نهاية حديثه لوالدها:
سلام ياللي كنت حمايا.
وأخذها ورحل، رحل وهي تبتسم بسعادةٍ في يده كونه أتى في وقته المناسب، وما إن خرجا بجوار دراجته أدركت أنه هنا، فتوقفت تسأله بضجرٍ تلبسها:
أنتَ جيت ليه؟ شاكك فيا ولا إيه؟
التفت لها وتنهد بقوةٍ ثم استند على الدراجةِ وهو يقول:
لأ، بس خوفت عليكِ، خوفت يجيلك انتكاسة تخليكي ترجعي تاني تقفلي على نفسك وتهربي من وجعك، بس والله أنا مش خاين، دي أكتر حاجة بكرهها في حياتي، بكره الخيانة بكل أشكالها، ومن ساعة ما عرفتك وأنا ناوي أصون وعدي ليكِ.
ابتسمت له من جديد ثم اقتربت تضع رأسها فوق صدره، التحدت من الخوف في عناقه هو وحده، كادت أن تبكي وهي تفكر فيما مرت بدونه، حتى أنها كانت تتمنى لو يعانقها أحدهم من باب الشفقةِ، لكن هذا يحتضنها بكل حبٍ، يحتضنها وكأنه مناضلٌ يرتمي في حضن موطنه، وما إن رفعت رأسها بعينيها الباكيتين، مرر إصبعه يمسح عبراتها ثم سألها ببسمةٍ حنونة:
تيجي معايا الشغل أعزمك على الفطار؟
توهجت عيناها بغير تصديقٍ، بينما هو ركب الدراجة وهي خلفه تتمسك به بقوةٍ فبدأ الحركة بقيادةٍ مسرعة كأنه أسيرٌ نال الحرية فوق أرض موطنه، أو رُبما كان كما الطير الحبيس وخرج يرافق الفراشات والزهور يوم حلول الربيع، والربيع هُنا مقصده في عينيها اللامعتين بفرحٍ.
< كان الخيار بين الماضي والحاضر في غاية السهولة >.
الماضي رغم إنتهاء وقته لم يمر.
والمستقبل رغم أنه لم يحِن لازال هناك الخوف من قدومه، وما بينهما تاه الحاضر في خوفٍ من شيءٍ أتى ومر وشيءٍ لم يحضر ولم يمر، لكن الخوف هو آفة القلوب التي تتعلق بحبالٍ واهية.
كان يجلس في وقت راحته بالبيت، يتصفح الهاتف وهو يتمدد فوق الأريكة، وقد أتى له الصغير الذي لم يعد صغيرًا كما هو، فبدأ عقله يعمل أكثر من اللازم، خاصةً في تلك الفترة الأخيرة بعد اعتياده على أماني من جديد، فكان دومًا يشعر بالتيه، والحيرة، الغضب، الشوق، الخيانة للأم التي اعتانت به، مشاعره تضاربت مع بداية نضجه، وقد جلس بجوار والده يحاول فتح الحديث معه.
لمحه أيهم فرمقه بطرف عينه ثم عاد للهاتف وسأله:
عاوز إيه يا إياد؟ فيه حاجة؟
هو ينفع تتجوز اتنين صح؟
كانت الجملة غبية، مباغتة، لم تكن جملة مُرتبة، بينما الآخر ابتسم بزاوية فمه ثم أغلق الهاتف وحرك رأسه نحو ابنه يقول بسخريةٍ تهكمية:
ما شاء الله لحقت تلعب في دماغك؟ مش سهلة برضه.
كان يفهم أن الحديث يخص أمه البيلوجية، تلك التي أنجبته وفقط، ورغم محاولة إخفاء أثر الحديث إلا أن أيهم اقترب يهمس له بحنقٍ حفاظًا على مشاعر زوجته:.
لو هينفع ودي آخر واحدة في الدنيا لأ، مش علشان حاجة، بس الست اللي هنا دي متستاهلش مني كدا، متستاهلش مني أكسرها الكسرة دي، وقولتلك وهقولها تاني، اللي باع مرة متشتريهوش مرتين، هي عمرها ما تعرف تشتري، لو لقت فرصة حلوة بكرة هتبيعك تاني، وأنا لو يهمني حاجة في الدنيا دي هتبقى أنتَ، قلبك دا حتة من قلبي، اللي يوجعك أنتَ نقطة، يوجعني أضعافها، بلاش تفكر فيها، خليك بعيد عنها.
بكى إياد وقتها، بكى بكاء التائه الذي ضل الطريق وظل في العتمة وحده، وبصوتٍ مغلوبٍ قال:
أنا تعبت، تعبان من غيرها وتعبان وهي معايا، كل يوم أقول خلاص ماليش دعوة بيها وأرجع أقول حرام عليا، هي صعبانة عليا، وفي نفس الوقت أنا صعبان عليا نفسي منها، وفوق كل دا أنا بحب نهال ومش عاوزها تمشي، مش عاوز سيف يكبر كدا زيي.
زار الخوف قلب أبيه، أدرك أن الصغير لم يعد بصغيرٍ،
فكلما ازداد العمر زادت تكلفة النضج، وتلك التكلفة تكون جزءًا من الروح لا شك، وهذا الصغير دفع من روحه ثمنًا باهظًا، وقتها وقف وسحب كف ابنه خلفه بقوةٍ، تحرك به من غرفة الصالون ووقف يواجه المطبخ حيث وقوف زوجته مع صغيرها سيف الذي تحمله فوق ذراعها وهي تصنع الطعام لهم.
أشار له بعنفٍ عليها وقال بجمودٍ قاسٍ:
بص على دي كدا وملي عينك منها، شوفها بتعمل إيه؟ بتعمل اللي غيرها معملتهوش لما كان دا واجب عليها وحقها في نفس الوقت، بص على أخوك اللي فوق كتفها وأنتَ هتعرف مين اللي تستاهل يا إياد المكان دا، لو هي بحركاتها لعبت في راسك، أنتَ كبير كفاية علشان تقدر تختار اللي يريحك.
حرك إياد عينيه نحوها، وجدها تهز الصغير بذراعٍ ثم لثمته وقالت وهي تُهدهده:
نعمل كيكة شوكلاتة لأخوك، ولا نعمل كيكة برتقان لأبوك؟ ولا نطلع جدعان ونعمل الاتنين ومنزعلش حد منهم؟ نعمل إيه قولي، ولا أكلك أنتَ وأحلى بأخوك بعدها؟ رد عليا.
أنهت حديثها مع الصغير ثم تصنعت عضه في بطنه حتى ملأ صوت ضحكاته البيت، ضحكت له ثم ضمته بذراعٍ لصدرها، بينما أيهم فابتسم بسخريةٍ على ملامح ابنه المشدوهة، غسيل الأدمغة الذي صنعته أماني له في فترة التقارب بينهما جعله يتوه من نفسه، لذا قال بضياعٍ وندمٍ:.
حتى وهي معاه برضه بتفكر فيا أنا، عملت اللي التانية مبتعرفش تعمله غير لما تحتاج حاجة مني، علشان كدا بخاف منها، عمري ما أرتاحت في حضنها زي ما برتاح في حضن نهال.
تفتكر بقى يا إياد واحدة زي نهال دي تستاهل إني أكسرها الكسر دا وأخليها مقهورة على نفسها وحياتها اللي اختارتها معانا هنا وأنا وأنتَ ضايعين مش لاقيين حد يقف في صفنا؟ لو ضميرك هيرضاها عرفني علشان ألحقك.
كان هذا هو رده الوحيد كي يعتبر جرس الإفاقة لعقل ابنه المُغيب، ابنه الذي عاد لرشده وفي طرفة عينٍ ركض يحتضن نِهال وهي في مطبخها، ارتجف جسدها من قوة العناق وداعبت خصلاته ثم قالت بعتابٍ طفيفٍ:
بقالك كتير ماجيتش في حضني، كنت مستنياك.
رفع عينيه لها بندمٍ وقال بصوتٍ باكٍ:
حقك عليا، متزعليش مني علشان خاطري.
حركت رأسها نحو أيهم ففطنت أن هناك ما يتم إخفاءه عنها، لذا نزلت لمستوى الصغير وقالت بحنوٍ بعدما ابتسمت له:
مفيش أم بتزعل من أبنها، صحيح بتتقمص شوية صغيرين منه بس مش بتقدر تزعل منه، إلا لو مش معتبرني أمك بقى فدي مشكلة تانية، وكدا نبدأ نعاقب بقى ونكسر ونضرب.
استقر بعناقها بقوةٍ بعد غيابٍ دام لما يقارب الشهر منذ عقد قران الشباب، وقد اقترب أيهم يهتف بمزاحٍ كي يبدل تلك اللحظة:
أنا كنت سامع سيرة كيك وحلويات وبتاع، بصي نقسم البلد بالنص، أعملي كيكة شوكلاتة للواد إياد وأعملي كيكة برتقان للواد سيف وأنا هاكل من الاتنين وخلاص، مش مهم أنا.
التفت له إياد وقال بسخريةٍ:
طب وأنتَ مالكش نفس تطلب حاجة؟
حرك أبوه عينيه حتى استقر على ملامح زوجته وقال بمشاكسةٍ:
لأ أنا طول عمري أحب البسبوسة، كييف البسبوسة بصراحة.
خجلت هي من طريقته وحدجته بتحذيرٍ فيما قرر إياد أن يعتذر بطريقته وهي أن يساعد أمه فيما تفعل، بينما والده حمل صغيره ثم تحرك به نحو الأريكة يجلس به فوجد الصغير يميل على عنقه يحاول عضه، وقد ضحك أيهم ثم ألقاه فوق الأريكة وبدأ يدغدغ صغيره الذي ملأ أركان الشقة بصوت ضحكاته العالية التي املأ القلوب بكل أملٍ، وفي الجهة الأخرى تبتسم نِهال لهذا الذي يجاورها ويبدأ المعاونة بكل حبٍ.
< الماضي عاد من جديد، والمستقبل ليس ببعيد >.
الليل أتى بصفوٍ.
القمر ضيف السماء، السُحب تقوم بواجبها، النجوم ترشد التائهين، والفرح يتجهز للقدوم بعد ساعات قليلة، فالمسألة وقتية لا شك، بمجرد أن تنتهي الليلة، الغد سوف يعلن عن الفرح.
وفي بيت نَعيم كان العمل على قدمٍ وساقٍ بسبب أفراح الغد، البيت كان هادئًا على عكس الساحة قرب الأهرامات وأماكن عمل الشباب، اختيار الموقع كان مناسبًا للحضارة المصرية برونقها الذي لازال حاضرًا، وقد عاد نَعيم أولًا للبيت، أمر بتحضير وجبة العشاء للجميع، وبعد مرور القليل بدأوا الشباب يأتون بالتباع خلف بعضهم وخلفهم يوسف الذي أشرف على شئون زفاف أخوته.
ولأن نَعيم يعيش أسعد لحظات حياته طلب تناول الطعام بالخيمة في الخارج وسط الشباب، كانت مناسبة تستحق أن يحتفل بها، وقد تحرك تَيام يتوجه لشقته، حيث ابنه وزجته في انتظاره وهو يشتاق لهما، وما إن ولج وجدها تجلس بمفردها، فولج لها وهو يقول بشوقٍ لم يخفيه:
وحشتيني يا آيات بقيت بشوفك صُدف.
ابتسمت له وقالت بقلة حيلة:
الفرح واخدك مننا، عقبال فرح تَميم يا رب.
توسعت بسمته بشأن صغيره صاحب الأعين الساحرة، ثم جلس على الأريكة وفرد ذراعه فاندست هي تحتضنه ثم تمسكت به، ظلت بقربه لمدة دقائق بعد أن أخبرته بنوم صغيرها، وفي تلك اللحظة وقبل أن يغازلها وصلها الألعاب بفراش صغيرها، كدليلٍ على صحوه، فتنهدت هي بقوةٍ ثم سخرت من ابنها تقلده بقولها:.
والله العظيم الواد دا حد مسلطه عليا، علشان كل ما أنيمه يصحى؟ وياريت يصحى يعيط ولا يديني إنذار، دا بيصحى يقعدلي على السرير، المرة الجاية هلاقيه بيعاتبني ويقولي بت يا آيات فين كوباية الشاي.
ضحك تَيام على سخريتها من ابنها فيما تحركت هي تأتي بصغيرها الضاحك دومًا، صاحب الملامح البشوشة بعينيه الرماديتين، وقد ارتمى على أبيه الذي حمله ولثمه ثم ظل يداعبه ونزل به من الشقة للخارج حيث مجلس الرجال، وما إن ولج به ارتمى الصغير على مُحي الذي حمله في أحضانه يلثم قمة رأسه ثم كبله في عناقه، وقد أتت چودي تحمل دهب وجلست بجوار مُنذر الذي ضم الاثنتين في عناقه...
وقد قام إسماعيل بتشغيل صوت مطربة المفضل الشيخ إمام بأغنية قديمة فلكورية كانت ولازالت مفضلة لديه ولدى مُنذر وكذلك البقية:
البحر غضبان مبيضحكش.
أصل الحكاية متضحكش،
البحر جرحه مبيدبلش
وجرحنا ولا عمره دِبِل.
ليلة هادئة، جلسة رائعة، طعامٌ شهي، عائلة تشد عضدها ببعضها، وكبيرهم يجلس معهم وهم يرددون كلمات الأغنية بنفس الرتم الهادىء، وفي تلك اللحظة توقفت سيارة على مقربةٍ منهم، سيارة نزل منها شابٌ يبدو عليه الرُقي، يسير بخطواتٍ هادئة، يحمل فوق ذراعه طفلًا صغيرًا في الأشهر الأولى من عمرهِ، وما إن اقترب وسرق الأنظار نحوه، ارتكز بعينيه على أحدهم وقال بتهكمٍ:.
ما أنتَ حلو أهو وبتشيل عيال صغيرة، مش الأحق تشيل ابنك؟
دارت النظرات نحو من يحدثه فلم يكن إلا مُحي الذي عقد حاجبيه ورمقه بتيهٍ، لحظة غريبة وخاطفة للأنفاسِ، وقد استنكر مُحي طريقته وحديثه فأشار لنفسه بسؤالٍ مذهولٍ:
أنتَ تقصدني أنا؟ حضرتك عاوز مين؟
آه بكلمك أنتَ، مُحي نَعيم الحُصري العيل الصايع التلفان اللي ضحك على أختي وخلع، بس يا أنا يا أنتَ يا مُحي.
صدر الحكم.
الماضي عاد وبقوةٍ.
الثائر عاد، ورُفعت الجلسة.