رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل مئة وواحد وعشرون
الحُر لا يموت.
أو بالأحرى? صورته لا تندثر مع بقايا الزمنِ.
ستراه في كل سربٍ من الطيور الحُرة بالسماء، تحاوطك ذكراه كُلما تكرر على مسمعك اسمه، سوف تراه بقلبك وإن لم يكن بين وجوه الحاضرين، يخبرك أنه هُنا، يخبرك بتوقٍ أن اسمه لازال محفورًا لن يموت وإن مات صاحبه
فمن قال أن الحُلم يموت؟
ليلة هادئة، جلسة رائعة، طعامٌ شهي، عائلة تشد عضدها ببعضها، وكبيرهم يجلس معهم وهم يرددون كلمات الأغنية بنفس الرتم الهادىء، وفي تلك اللحظة توقفت سيارة على مقربةٍ منهم، سيارة نزل منها شابٌ يبدو عليه الرُقي، يسير بخطواتٍ هادئة، يحمل فوق ذراعه طفلًا صغيرًا في الأشهر الأولى من عمرهِ، وما إن اقترب وسرق الأنظار نحوه، ارتكز بعينيه على أحدهم وقال بتهكمٍ:.
ما أنتَ حلو أهو وبتشيل عيال صغيرة، مش الأحق تشيل ابنك؟
دارت النظرات نحو من يحدثه فلم يكن إلا مُحي الذي عقد حاجبيه ورمقه بتيهٍ، لحظة غريبة وخاطفة للأنفاسِ، وقد استنكر مُحي طريقته وحديثه فأشار لنفسه بسؤالٍ مذهولٍ:
أنتَ تقصدني أنا؟ حضرتك عاوز مين؟
آه بكلمك أنتَ، مُحي نَعيم الحُصري العيل الصايع التلفان اللي ضحك على أختي وخلع، بس يا أنا يا أنتَ يا مُحي.
صدر الحكم.
الماضي عاد وبقوةٍ.
الثائر عاد، ورُفعت الجلسة.
ترك مُحي موضعه واقترب يحمل ابن شقيقه ثم وازى وقوف محدثه وهو يعقد حاجبيه بذهولٍ كان لابُد من حتمية تواجده بهذا المشهد، فأتى السؤال من جديد، مستنكرًا، مندهشًا، مخبولًا:
أختك مين وأنتَ مين؟ أنا بقالي سنتين وأكتر معرفش حد، منهم 8 شهور زاهد في الدنيا كلها، يعني أكيد حضرتك غلطان في العنوان، اتأكد من معلوماتك وبعدها تعالى أتبلى على الناس براحتك.
رمقه الشاب بذهولٍ، تعجب من هيئته، لا هو لن ينخدع بتلك الطريقة في طلته، هو كان ولازال آثمًا في حق الجميع أولهم شقيقته، لذا هدر بسخريةٍ وهو يتوجه بنظراته لوالده:
جرى إيه يا حج نَعيم هترمي لحمك؟ الواد اللي على دراعي دا ابن ابنك، ابنك اللي ضحك على أختي أيام ما كان خاربها، بصله هتلاقيه شبهه حتى.
وتلك هي الكارثة بالفعل، الطفل يشبه مُحي بعينيه الرمادتين، وجهه الوسيم بملامح دقيقة، خصلاته الداكنة بدُكنة الليل اللامع، وفي هذا الحين وقف إيهاب ينطق بسخريةٍ تهكمية:
بص يا. إحنا عندنا فرح بكرة، فلم ليلتك وقبلها لم نفسك وشوف طريقك، هتلاقيك عيل تايه قولت أطلع بقرشين وأنتَ عارف كويس إن اللعبة مش راكبة، عندك دليل هاته، بعدين إحنا ناس ولاد أصول مبنرميش لحمنا.
وحينها جاءه الرد ساخرًا بتحدٍ من مُنذر حين قال:
يا راجل؟ طب قول كلام غير دا.
كان يشير بقوله إلى أبيه وما فعل، وقد جاء الرد بالصمت، والحديث من العين، حيث نظرة خبثٍ رمق بها الشاب وجه مُحي قبل أن يرمي بُرهانه الخبيث:
شقة المعادي يا مُحي بالتحديد ريناد فاكر.
توسعت عيناه بهلعٍ، تلك كانت الخطوة الأولى له في أيام العربدةِ، أولى خطواته في وكر الملاذات المحرمة، تلك الشقة التي كانت بداية السقوط، وقتها وجد هناك فتاة تقارب عمره، صغيرة، وحيدة، تركته صاحبة المكان بصحبتها ليفعل ما يحلو له.
وقتها ولج الغرفة، بعنفوان شابٍ يخطو نحو الآثام دون أن تهتز خطواته، كان واثقًا، ثابتًا، رأى تلك الصغيرة تتكوم على نفسها فوق الفراش، ابتسم بسخريةٍ واقترب يقول بوقاحةٍ:
ما تقومي تصلي ركعتين بالمرة، أنتِ عاملة كدا ليه؟
رفعت عينيها له، باكية، حزينة، مغلوبة على أمرها، كان يعلم هويتها من قبل، فزادت سخريته حين قال ما يُهين شرفها:
أنتِ طلعتي. مش تقولي.
كانت جارة في بيتٍ قديمٍ يجاور مسكنه، يقع في عشقها رفيقٌ له بنفس المنطقة، وهو أتى للشقة هنا عن طريق إمرأة كانت تذهب لمقر عملهم قرب الأهرامات وتصيدته ببراعةٍ، كان في أول عامٍ له بالجامعةِ، وما إن حصل على دعوةٍ لتلك الشقة المشبوهة، ذهب لهناك، رحب بالعرض وفتح ذراعيه بعنفوانٍ، لكن نصيبه وقتها أتى له بتلك الفتاة، انتفضت هي تواجهه وقالت ببكاءٍ تستجديه:.
أنا مش كدا والله، دي مرات أبويا ودي شقتي، بس من بعد ما بابا دخل السجن وهي قالبة الشقة كدا، وبتجبرني كل يوم، بس أنا والله مش كدا، أنا مخليتش حد يقرب مني، تقدر تساعدني؟
كرر خلفها باستهجانٍ مستنكرٍ:
أساعدك؟ بقى أنا جاي أتبسط وأنتِ عاوزاني أساعدك؟ طب ما تعملي فيا أنتِ خير الأول وبعدها نشوف حوار مساعدتك دا.
رمقته بخيبة أملٍ، زادت حدة البكاء في عينيها، رمقته بمقتٍ، هو رجلٌ كبقية الرجال، لن يرحم فتاة ضعيفة مثلها في وضعٍ مثل هذا، لكن هناك شيءٌ من رحمةٍ ظهر فيه، ربما هي لم تكن مثلهن هُنا، فجلس على طرف الفراش يسألها بقنوطٍ:
لخصي، عاوزة إيه؟
توهجت عيناها، التفتت له تقول بلهفةٍ:
تخرج بعد شوية تقولها إني مضايقتكش، وإنك مش عاوز تقعد هنا علشان مش واخد راحتك، وإنك عاوز تروح بيتك وأنا معاك، وقتها هي هتوافق وتصدقك وتخليني أنزل بس هتدفع شوية.
رفع حاجبيه بسخريةٍ، مع بسمةٍ شيطانية ناورت شفتيه، رافقها قوله المتهكم بازدراءٍ وسخريةٍ:
دا واضح إنك خبرة بقى، ياترى بقى روحتي مع كام واحد بيته؟
امتهان كرامتها، أنوثتها، دحض بشرفها، دهس كبريائها، فقالت بصوتٍ مختنقٍ والعبرات تحرق عينيها:
ولا مرة، والله العظيم ولا مرة، محدش قبل يساعدني، كلهم خافوا وخرجوا ليها يغلطوا فيا وهي تدخل تضربني وتعريني أكتر، أنا عرفاك وعارفة باباك، ومعرفش أنتَ جاي هنا تعمل إيه، بس أكيد جاي تعمل حاجة غلط وذنب كبير.
مش بقولك ناقص تصلي ركعتين، ما تديني تمر ولبن أحسن قبل ما نبدأ.
أشعل لهيب سعيرها، التفتت حولها وخطفت مزهرية تضعها قرب رأسها ثم قالت تهدده بجنونٍ جعله يبتسم:
خلاص، هموت نفسي وأنتَ هتروح فيها، وساعتها تبقى خسرت من كل ناحية، لا طولت اللي جيت علشانه ولا حافظت على سرك، هتتفضح أنتَ وأبوك الراجل المحترم اللي طوب الأرض بيحلف بيه، ومش بعيد يموتك.
يبدو أنها تعلم أكثر من المفترض، تدرس دفاعاته، عدوٌ ماهر درس الخصم خير الدراسة، لذا اعتدل وتحرك يواجهها، فوجدها تترك المزهرية ثم قالت ببؤسٍ على حالها:
أنتَ آخر أمل ليا هنا، يا تساعدني يا تغرقني في الوحل.
وهبقى استفدت إيه بقى؟ في كل الحالات خسران.
كان هذا رده عليها، بينما هي قالت برقة قلبٍ لازال يحمل لوحة النقاء وراية الشرف بعيدًا عن لوث العالم ودنسه:
هتكسب إنك متقعش في الذنب دا، إن ربنا يقفل في وشك طريق المعصية الكبيرة اللي زي دي، هتستفاد إنك تحرر بنت زيي وتخليها حرة من الذنب والمعصية، والله أنا مش زي ما أنتَ فاكر، أنا بس مجبرة علشان ماعنديش مكان تاني أروحه، ومضمنش الشارع ممكن يحصلي فيه إيه.
وقتها لامس حديثها قلبه، رق لأجلها، صحيح لم يقع بفخ حبها وبراءة عينيها لكنه أراد أن يحررها، وقبل أن يخرج أوقفته بلهفةٍ تقول:
أنا ليا أخ أكبر مني، مرات بابا قالت إنه حاول يقرب منها وبابا طرده من البيت، حافظة رقمه بس مش معايا موبايل أو حاجة، ممكن تكلمه وهو ياخدني؟ والله هيفضل جميلك في رقبتي، هدعيلك طول عمري، وهتمنالك ربنا يردلك الخير أضعاف مضاعفة.
أخذ منها الرقم، تكلم مع شقيقها، خرج وطلب من صاحبة البيت مرافقتها لبيته الخاص، ورغم شكها لكنها طلب نظير خروجها ألفينْ جُنيهًا، فدفع الضعف، أربعة آلاف نظير حُريتها، وأخبرها بفجاجةٍ تليق بسيدةٍ ساقطة مثلها:
لو أتكيفت تاني هدفعلك قدهم أكتر بس تخليهالي.
لم تكترث بها، تركتها ترحل معه بعد أن خلع سترته وأخفى جسدها بها ثم رحل وهي في يده، ولج بها السيارة ثم رماها بنظرةٍ بثت فيها الرعب، نظرة جعلتها ترتعد للخلف خوفًا من نواياه بينما قال هو بشرٍ يفصح عما ينتويه:
مين قالك إني أمان؟ مش يمكن أكون ناوي على شر وأخدك وأعمل اللي أنا عاوزه كله براحتي؟ واثقة فيا ليه مش فاهم؟
علشان شكلك ميقولش إنك وحش كدا، أنا لجأت ليك من ضعفي وقلة حيلتي، ربنا وقعك في طريقي تلحقني، ناوي تغدر بيا؟ كلم أخويا وسيبني ليه بس، مش عاوزة منك حاجة تانية.
وقتها خاطب شقيقها، تواصل معه وأخبره أنها في حيازته، والآخر بعد مرور ساعات ترك مدينة الغردقة التي يعمل بها ونزل لأجل شقيقته، وجدها بحوزة غريبٍ تنام بسيارته بينما هو يجلس على مقدمة السيارة يلعن حظه الغريب، فيوم أن قرر يسقط ببئر الفجور، وجد نفسه محترمًا ومبجلًا بعيني إحداهُن، تركها تنام بالسيارة يراقب شروق الشمس برفقة تبغه، حتى هاتفه شقيقها وأرسل له الموقع فأتى الآخر.
وجدها ترتمي عليه تعانقه وتبكي، تبكي وتصرخ بقهرٍ، بينما هو ضمها بذراعيه وتركها في عناقه تأمن، حتى اقترب مُحي وقال بهدوءٍ:
أختك معاك إهيه، سليمة مقربتش منها، والفلوس اللي دفعتها مش عاوزها ياعم، بس خليك معاها ومتسيبهاش لوحدها، المرة دي أنا كنت موجود ومزاجي كان رايق، لو حد غيري الله أعلم كان هيعمل إيه، وأنتِ روحي مع أخوكِ فين ما يروح، مالكيش حاجة هنا تقعدي علشانها.
وسرعان ما تذكر أمر جاره الذي يعشقها، يراقبها من بُعدٍ، يشتهي قربها وهي بعيدة عنه، بعيدة للغاية، وقتها أخبر شقيقها أن يعتني بها ثم رحل، رحل وأخذ عهدًا ألا يذهب لتلك الأماكن مرة أخرى?، سيكتفي فقط بنيل القليل من المُتعة المسروقة، حتى غلبه بئر الفجور وأصبح يتردد على الملاهي الليلية، يرافق الراقصات، حتى من عليه الخالق ببابٍ للنجاة.
خرج من الذكرى على مواء الصغير، انتبه لعيني من يحدثه فتنهد بقوةٍ وقال بصوتٍ تاه في غياهب الذكرى المُظلمة وهو يتوضح وجه من يواجهه:
أنتَ أخو ريناد صح؟
أومأ له الشاب ببسمةٍ بشوشة، بينما هو سأله بضيقٍ مما فعل:
وكان لازمتها إيه الدَخلة دي بس؟ يا جدع قطعتلي الخلف.
اعتذر الشاب بملامحه ثم حرك رأسه نحو إسماعيل وقال بهدوء شابته بسمة يائسة:.
عندي أنا دي، بس هو بقى صمم أني ألعب معاك شوية، روحت أسأل عليك في الكافيه بتاع والدك وقابلته هناك، حكيتله الحكاية، وهو قالي إنك بقيت إمام مسجد، وروحت شوفتك بنفسي قاعد مع الولاد الصغيرين بتعلمهم يصلوا، بصراحة استغربت، ما أنا عارفك من يومك، كنت بتعاكس بنات النزلة كلهم وياما عملت مشاكل عند المدرسة، بس سبحان الله يهدي من يشاء.
وقف إسماعيل يختبيء خلف إيهاب الذي همس له بنصف التفاتة:
ورب الكعبة ما ليا دعوة، خليه ياخد حقه، برة عني.
أبوس إيدك الواد عينه متطمنش، فرحي بكرة أقف مع أخوك.
خليه يباركلك بطريقته.
دار الحوار بينهما بهمسٍ قطعه مُحي الذي سحب عصا والده وعلى حين غرة هرول خلف إسماعيل الذي صرخ بملء فاهه وركض، ركض لوجهةٍ لا يعلمها، يركض ويقفز ويصرخ بينما الآخر تخلى عن أدبه، ترك لجام لسانه ينفلت بالشتائم والسباب، كان ينعته بكل نعتٍ فاجرٍ، سافرٍ، حتى سقط أسفل قدمه فقال يستجديه:
ولا، إحنا عرسان زي بعض، فرحي بكرة عديها.
ونظرة عين مُحي لم تُشيء بخيرٍ حتى رمى عصاه، ثم قفز على الآخر وأخذ يُكيل له الضربات، يضربه ويلكمه، حتى اعتدل إسماعيل وقام بخنقه بكلتا يديه، عاد لشقاوته، لمقالبه التي كانت على سابق عهده، عاد لتعافيه في الحياة، فهو كما هو لن يتبدل، سيظل أكثرهم شغبًا وشقاوةً حتى وإن هدأ موج بحره.
تدخل يوسف يفصل بينهما ثم قال بثباتٍ:
خلاص بقى أنتَ وهو، مقلب وعدى والراجل بيضحك معاك، متبقاش قفوش كدا يا مُحي وأنتَ يا حوكشة روح غير هدومك وأغسل وشك، وأغسل عارك بالمرة.
لكمه إسماعيل في وجهه ثم مر بجوار مُحي وقال بنبرةٍ ضاحكة، لكنها مكتومة بقدر ما استطاع:
بكرة تفرح بيه وتشوفه أحسن ظابط في كل الدنيا، ظابط إيقاع.
يلا يا ابن الكلب.
هكذا قال مُحي قبل أن يستأنف ركضه خلفه، بينما يوسف منعه ضاحكًا رغمًا عنه، في هاته اللحظة ظل مُحي يستغفر ربه، ظل يُطهر نفسه ولسانه من السباب والشتمِ حتى ربت يوسف فوق كتفه ثم قال بهدوء:
خلاص بقى كان بيهزر، هو قال إن الشاب دا راح يسأل عليك ووقتها عرف اللي حصل وطلب منه يلعب معاك شوية، ما أنتَ ياما عملت فينا أنتَ وهو، مرة من نفسه يردهالك.
مسح مُحي وجهه بكلتا كفيه فيما أتى تَيام يحمل ابنه ثم اقترب من شقيقه وقال بصوتٍ هاديءٍ:
تعالى يلا علشان تقعد مع الراجل اللي جاي علشانك.
تحرك بجواره فوجد شقيقه يوقفه ثم أخرج من جيبه شيئًا ومد يده به وقال بنفس الجدية المُغلفة بضحكةٍ خبيثة:
خد دي هتحتاجها الأيام الجاية.
التقط منه مُحي الشيء يقلبه في يده، فضحك تَيام وهو يقول بسخريةٍ على الموقف:
دي سكاتة أكيد هتحتاجها، يتربى في عزك يا موهي.
ألقاها شقيقه فوق الأرض ثم دخل يلعنهم جميعًا، يلعن مزاحهم ومزاجهم الرائق، وقد ولج الغرفة التي جلس بها الشاب يحمل الصغير فوجد الشباب معه ومعهم والده، جلس يقابله بجوار باسم الذي كان حاضرًا، فقال الشاب بهدوءٍ:.
أولًا بكرر أسفي ليك، مكانش ينفع آجي أعمل كدا، بس والله إسماعيل طلب مني وصمم أهزر معاك، ثانيًا أنا جيت أشكرك، أشكرك علشان أختي والخير اللي عملته ليها اليوم دا، بالمناسبة دا ابنها، وللأسف فيه شبه منك، باباه شبهك برضه.
اقترب مُحي يحمل الصغير مبتسمًا ثم ذكر ربه وذكر اسم الخالق، احتوى الصغير بين ذراعيه ثم لثم وجهه، تذكر الحياة التي سبقته والحياة التي تلته، ثم سأل عن اسمه فقال خاله:
حمزة اسمه حمزة.
رفع باسم عينيه نحو الصغير يتعلق به، يبدو كأن القصة لم تنتهِ بعد، حمزة وإن مات يُولد من جديد، تحرك يقف في مواجهة الصغير ثم مسح فوق قبضته الناعمة، حمزة جديد ولد في الدنيا ولعله يكون شعلة أملٍ وجهة نورٍ كما الفقيد، استوطنت الغِصة قلبه، فتحرك من المكان طاويًا حب رفيقه بين جنباته يتألم عليه وحده.
< كأنك أتيت رسالة من الدنيا تحمل أسفًا عما بدر منها >.
في القلب نورٌ وفي الطريق عتمة.
ومع ذلك لم يخرج النور من القلب لينير الطريق، ولم تغطِ العتمة نور القلب فتفقده نفسه وحواسه، فالنور وحده هو الذي يطرد الظلام، والظلام أبدًا لن يُجابه النور.
رحل وترك الجلسة يذهب لشقته.
مؤخرًا أصبحت تلك الشقة ملاذًا له، مهرب يحتويه من الفساد في العالم الخارجي، هي وحدها تُشبه النور ليجابه ظُلمة روحه، ولج ومر على شقة خالته فأخبرته أن زوجته بالأعلى?، صعد لها بخطى خاملة، كسولة، وئيدة، ثم فتح الباب، على غير العادة وجد فقط إضاءة خافتة، رائحة جذابة، ناعمة، خلابة، طاولة تشبه طاولات العشاق في الروايات الرومانسية، وهي. أين هي؟
بحث عنها بعينيه فلم يجدها إلا حينما جلس، خرجت من الداخل تخطو نحوه بخطوات ناعمة، تتبختر في مشيتها له، ترتدي فستانًا باللون الأبيض الكريمي، من طبقة الشيفون وأسفله طبقة أخرى تستر جسدها، يتسع من عند الخِصر ومنطقة الكتفين تتسع كما أجنحة الفراشة الحُرة.
غُرتها تُداعب جبينها بنعومةٍ وهي تبتسم له، شتان بين اليوم وأمسٍ، اليوم هي حُرة كما الطير من بعد الأسر، ساطعة كما الشمس من بعد الغروب، هي شمسٌ لا تنطفيء، وطنٌ لا يُحتل، حُرية لا تُغتصب، وقوةٌ لا يستهان بها، هي نوران في الطريق، نور البداية، ونور النهاية، وقف مشدوهًا أمامها بينما هي اقتربت وقالت ببسمةٍ هادئة:
لو حلفتلك إن دي نصايح كِنز هتقول إيه؟
كتم ضحكته وجاب بعينيه تفاصيلها بالكامل انتهاءً بوجهها ثم قال ببسمةٍ مشرقة:
هقول ربنا يكرمها ويكتر من أمثالها.
تورد وجهها خجلًا ثم اقتربت منه تقول بهدوءٍ:
قولت أصلح اللي باظ إمبارح بسببه، أنا بس حبيت أقولك إني مش بشك فيك والله، أنا من الأول فهمت اللي عمله هو علشان يخليني أروحله أقوله يلحقني منك، يخليني أرجعله وأركعله ويبقى هو البطل في القصة، صعبان عليه أكون مرتاحة من غيره، بس دا محصلش ومش هيحصل، أنا مأمنالك أنتَ وبس.
ابتسم، ابتسم وكأنه له كامل الحق في التبسم، راقبها وهي تقترب منه ثم وقفت مباشرةً في مواجهته، تقف نظير عينيه، ثم مدت يديها تضعهما فوق كتفيه وهي تقول باسمة الوجه بعشقٍ يفيض من عينيها:.
أنا مش بس شايفاك جوزي، أنا شايفاك super hero بيعمل المستحيل علشاني، أنا عمري ما حد عمل حاجة علشاني، وربنا يوم ما كرمني كرمني براجل بيعمل المستحيل ويقوم حرب علشان بس أكون معاه في أمان، كل اللي في حياتي معرفوش يحبوني، أو خلوني ماتحبش، بس أنتَ لأ، أنتَ خدتني على عيبي، خدتني كدا بحالي زي ما أنا، قابل العيب قبل المميزات، علشان كدا تستاهل عمري كله، العمر كمان شوية عليك.
ضمها بقوةٍ، أحكم حصاره عليها، تركها تستند على جسدهِ، بينما هي كانت تضحك ثم تذكرت أمر الفستان فرفعت رأسها تسأله بلهفةٍ:
الفستان حلو؟ عجبك عليا؟
دار بعينيه يُراقب الفستان الجديد الأبيض على جسدها المنحوت بمثالية شديدة، راقب نور وجهها، راقب كل التفاصيل المميزة ثم عاد لعينيها حيث مستقره ثم قال بحنوٍ:
أي حاجة جنبك أنتِ لازم تحلو، بس كان فيه حاجات تانية حلوة برضه جربيها، هتشيط في الدولاب كدا.
تذكرت أمر الثياب الأخرى الخليعة فضربته بصدره وقالت بحنقٍ:
بس يا قليل الأدب، مين اللي جاب الحاجات الخليعة دي؟
كتم ضحكته وقال ببراءةٍ يجيد رسمها:
والله ما أنا، أما دفعت فلوس بس، كِنز هي اللي نقت وجابت والله، بس الشهادة لله أرفعلها القبعة، تستحق التقدير والاحترام وبوسة ليكِ وبوسة ليها.
ضحكت بصوتٍ عالٍ ضحكة مُجلجلة رنت بأذنه، ثم عادت تستقر فوق صدره برأسها، طال الصمت بينهما حتى قطعته هي وقالت بلهفةٍ:
صح، أنا لحد دلوقتي مش فاهمة حاجة مهمة، بس وعد تصارحني ووعد مش هزعل من أي حاجة، بس تفهمني بدل ما أنا تايهة في نفسي كدا، ينفع؟
سحب المقعد وجلس وأجلسها أمامه يستعد لسؤالها، بينما هي باغتته بالسؤال الذي حتى الحين لم تصل لجوابٍ مريحٍ يخلص حيرتها من مرقدها:
مين اللي خلاك تجيلي اليوم اللي جيتلي فيه علشان تخطفني؟ وجيت ليه وأنتَ متعرفنيش؟ مش كان ممكن ترفض؟
اقترب للأمام يميل نحوها ثم ضم كفيها بعناق كفيه ثم زفر زفرة حارة أعربت عن تيهه، ثم جاوب أخيرًا بثباتٍ:
نور مرات سراج تعرف مُنذر عن طريق چودي وقتها طلبت منه يساعدك تتعالجي، لما شافتك في النادي بنفسها وزعلت علشانك، وهو وقتها سأل عمه وعمه وافق، بعدها كلمني وكان كل اللي عليا إني أسلمك ليهم بس، وهو كان هيوديكِ من برة برة و نور ترعاكِ الفترة دي، معرفش وقتها حصل إيه، قررت أخدك عند كِنز.
لمعت العبرات في عينيها، شعرت بظلام المآسي يحاوطها، مسحت العبرات بظهر كفها، ثم قالت بصوتٍ باكٍ:
يعني المفروض وقتها كنت هروح مكان معرفهوش علشان الغُرب يعالجوني من اللي أنا كنت بتعطاه؟ طب ليه كملت أنتَ؟
رفع عينيه لعينيها يُلاقيها، ثم حرك كتفيه ببديهيةٍ وقال:.
معرفش، صدقيني معرفش بس استخسرتك في الوحدة، شوفت نفسي فيكِ، كنت تايه زيك كدا برضه، ماليش حد، لاقيت نفسي التايهة مني فيكِ أنتِ، خوفت أسلمك ليهم، خليتك معايا وقصاد عيني، وروحت ل مُنذر قولتله إني ملزوم بيكِ، وهو لو واثق فيا يسلمك ليا وميسألنيش عن حاجة، وقتها وافق، وقالي إني لو مش قد الأمانة هيقطع معايا، وقتها أنا مش بس كملت علشانه، أنا كملت علشانك أنتِ، خوفت منك بصحيح، بس أمنتلك، أمنت وسلمت لموج بحرك وأنا واثق إني لو غرقت هبقى في أمان معاكِ.
تضاعفت نبضات خافقها، لمعت مُقلتاها أمامه، ارتمت عليه في عناقه، بينما هو شدد قبضة ذراعيه عليها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
الحكاية كلها مكانش ليها حِسبة تانية غير دي، الحِسبة دي كان لازم تمشي علشان أكسبك أنا في الآخر، مكانش هينفع أخسرك، هو أنا لاقي نفسي غير معاكِ؟ أنا موافق وراضي أكون ضهرك وسندك وونسك في كل الدنيا، أنا من غيرك مسجون والله مشافش شمس الحُرية قبل كدا، من ساعة ما لاقيتك وأنا بقيت حُر.
اعتدلت تنزل على الأرض بركبتيها ثم حشرت نفسها بعناقهِ، اندست تدفن نفسها وكأنه الكهف الأكثر أمنًا لها، بينما هو فطوقها بذراعيه يمسح فوق ذراعها ثم سألها بعبثٍ:
طب إيه؟ هنقضي اليوم كله أحضان ومشاعر فياضة؟
رفعت عينيها له بوهجٍ مُضيءٍ، فوجدته يستعد لحملها ثم قال بخبثٍ محبب لقلبها وهو يحملها فوق كفيه:
أدعيلي أفرح كِنز وأجيبلها اللي عاوزاه أحسن أنا نقطة ضعفي فرحتها.
ربنا يقدرك وتفرحها؟ بس هتجيبلها إيه؟
حفيد.
هكذا جاوب استفسارها بمراوغةٍ، بينما ضحكت هي وهزت ساقيها برفضٍ لتجده يخبرها عن أمانيه، يخبرها عن حلم أمه، دعاء خالته أن ترى صغاره يصولون ويجولون بالبيت، حُلم الجميع وهو وحده من يملك راية التحقيق، لكنه لم يتخيل قط أن تكون هي الهدف فيما بعد، هي الوطن الذي سعى? لأجل حمايته،.
الأمل الذي ناضل كي يبقى مُضيئًا، الحياة التي جاهد كي تبقى حُرة من كل لوثٍ قد يحتلها، هي وعينيها الوطن وهو وقلبه لأجلها النضال.
< ربما القلب مات لكن الطفل بداخلي لن يموت >.
لعل خيرًا تقدمه، يأتيك بالنورِ.
في غمرة الظلام، بعمق الليالي الظلماء يأتيك النور من حيث لا تحتسب، كأنك تشاء قطرة ماءٍ فيفاجئك الله ببئرٍ عميقٍ يرطب جفاء روحك.
كان الشاب لازال موجودًا بالبيت، يجلس برفقة نَعيم الذي كان يحدثه عن تاريخ والده، يجمع بينهما تاريخٌ قديمٌ، حيث والده الذي كان يعمل كموظفٍ بإحدى المصالح الحكومية، وقد جمعت بعض الأعمال بينه وبين نَعيم الذي ابتسم للشاب وقال بهدوءٍ:
نورت الدنيا والله، والدك الله يرحمه كان راجل محترم، لولا بس هي الست اللي لفت عليه دي بعد وفاة والدتك الله يرحمها، متزعلش نفسك وخلي بالك من أختك، دي اللي فضلالك دلوقتي.
ابتسم الشاب ثم طاف بعينيه حتى وجد مُحي يحمل ابن شقيقه، فابتسم له ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
ريناد جت معايا الغردقة وخليتها كملت دراستها، مدير الفندق اللي كنت فيه طلبها مني لابنه، وطلع ابن حلال وراحت السنة دي عملت عمرة مع جوزها، فضلت تدعيلك ربنا ينور بصيرتك ويهديك لطريقه، ماكنتش أعرف إن دعواتها هتستجاب كدا، ووصتني لو لو وصلتلك أقابلك وأشكرك، وحظي حلو جيت قبل فرحك بحاجات بسيطة.
ابتسم مُحي بوجهٍ مشرقٍ وقال بغير تصديقٍ:
والله أنا كنت ناسي أصلًا إني ممكن أكون عملت خير زي دا، وقتها مكانش في دماغي حاجة غير شوية مزاج بجري وراهم، متخيلتش إن ممكن موقف زي دا يكون أثر للدرجة دي، وعمومًا بلغ سلامي لمدام ريناد وقولها شكرًا لدعواتها، ربنا يبارك في حمزة ويجعله ذرية صالحة تتباهى بيه قدام أشرف الخلق سيدنا محمد?.
ابتسم الشاب ثم اقترب منه يقدم له حقيبة بُنية وقال بنفس ذات البسمة:
دي هدية بسيطة، الهدية دي جيبتها ليك لما شوفتك في المسجد، مصحف تدبير، ومجلد الداء والدواء، وفيه سِبحة وإزازة مسك، هدية بسيطة من الحرم يا رب تعجبك.
التقطها مُحي ذاكرًا اسم ربه، تفحص الهدية ثم رفع عينيه المُبتسمتين ثم قال بأدبٍ وهدوءٍ:
أكيد هتعجبني، كفاية إنها منك أنتَ، ومن الأرض الطاهرة، بس مكانش ليه لزوم تتعب نفسك كدا يا أستاذ جلال بس بجد الهدية حلوة أوي وفي وقتها، متشكر جدًا لذوقك.
ولج لهم إسماعيل بعد أن بدل ثيابه بأخرى بيتية أكثر راحةً، عبارة عن سترة قطنية باللون الأسود، وبنطالًا باللون الرمادي الداكن، جلس نظير جلسة مُحي الذي رمقه بنظرة شرٍ ثم عاد يواجه الشاب الذي استعد للرحيل بقوله:
طب عن إذنكم بقى يدوب هلحق أتحرك علشان متأخرش أكتر من كدا، بس معلش أعذرني مرة تانية على موقف دخولي، بس واضح إن إسماعيل ليه طُرقه وبيعرف يقنع أي حد، هو وأخوك تَيام مُبهرين بصراحة.
توسعت عينا تَيام الذي افتضح أمره، بينما مُحي ابتسم ساخرًا ثم ردد مستنكرًا:
أخويا كمان؟ عمومًا محصلش حاجة، كفاية إني شوفتك وشوفت حمزة بخير، ودا بيتك في أي وقت تيجي براحتك وأبقى هات والد حمزة نتعرف عليه.
رحل الشاب، رحل وبدأت الأجواء تعود لسابق عهدها، حيث الأنس والضحكات والمزاح، ومن وسط سخط مُحي كان يوسف يجلس وسطهم ضاحكًا وقد صدح صوت هاتفه يَصدع مستقيم الصمت، أخرج الهاتف فوجده رقم أيوب وهو بالفعل توقع هذا الرقم، لذا تنحى جانبًا يجاوب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أيوب.
أنتَ فين سيادتك؟ اتأخرت برة ومكلمتنيش تطمني.
أتاه الرد القلق فابتسم، ابتسم باطمئنانٍ ثم قال بهدوء لازال مُحتفظًا ببسمته:
انشغلت معاهم والله، بس متقلقش أنا بخير ومبسوط، شوية وهقوم أمشي، كنت هبات بس مش هعرف أبات وأسيب عهد و يامن لوحدهم، أنتَ عاوز مني حاجة؟
ترجع بالسلامة، قولت أتطمن عليك بس، هلحق أخطفلي ساعتين قبل ما النونو يكون عنده نقلة طوب ولا حاجة ويحتاج أبوه يفك ضيقته، يلا متتأخرش برة وأرجع بسرعة.
أغلق الهاتف، ثم خرج وودع الشباب وتركهم لجلسة المزاح والسخرية ثم استأذن ورحل، رحل لبيته بعد أن شعر بالغُربةِ تساور عنقه، أراد أن يعود ويرى بيته، أو جنته الجديدة، لذا هرب بسيارته مسرعًا وما عاونه هو فراغ الطريق في هذا الوقت المتأخر.
ولج الشقة بصمتٍ، وولج غرفته فوجد عهد تنام فوق الفراش الكبير من جهةٍ وابنها بجوارها، والجهة الأخرى تسدها بوسادةٍ أخرى كبيرة حتى لا يسقط، وقف يراقبهما ببسمةٍ هادئة، ثم سحب ثيابه وولج المرحاض يتحمم، خرج بعد مرور دقائق وقد ارتدى ثيابه فوجد ابنه بدأ يفيق، حينها هرول والتقطه فوق ذراعيه بحنوٍ خشيةً من إفاقتها، ثم ربت فوق ظهره بحنوٍ ودثرها وخرج من الغرفة.
ولج الغرفة الأخرى الخاصة بالأطفال، جلس على فراشٍ بها ثم وضع صغيره يُهدهده حتى وجده فتح جفونه وبدأ يغمغم بصوتٍ ناعمٍ أقرب لمواء الهِرة حديثة الولادة، وضع الصغير بعمق الفراش ثم جلس بقربه ومال عليه يراقبه بشغفٍ، عيناه تلمع بفرحةٍ تشبه فرحة يعقوب حين عاد إليه قُرة عينه، يراقبه بشغف طفلة تتراقص أسفل الأمطار وتُراقب بداية الغيث، يراقبه وقلبه يخبره أن اهتدى من بعد الشتات أخيرًا.
مد كفه لصغيره فاحتضنه الآخر بكفيهِ الصغيرين، ثم بدأ يأنِ بصوتٍ مسموعٍ كأنه يحكي معه، فمال عليه يوسف أكثر ثم التقط صورة كفه في عناق كفيْ صغيره، وقتها شعر كأن الربيع يغمر قلبه ماحيًا في طريقه كل خرابٍ، دام الوقت عليه دون أن يشعر به برفقة صغيره، وقد أتت هي تهرول بخطواتٍ واسعة وخوفٍ ثم ولجت الغرفة ترتمي بعناق يوسف.
أجفل جسده من رميتها عليه لكنه شدد ضمته واحتواها في نوبة هلعها، تركها تبكي بصوتٍ في عناقه، ثم أبعدها وسألها بقلقٍ وعيناه تجولان فوق ملامحها المُجهدة:
حصل إيه، أنا معاكِ هنا أهو متخافيش.
أغمضت جفونها تسرق أنفاسها المسلوبة ثم قالت بصوتٍ مقطوعٍ وكأن حبل تماسكه بُتِرَّ:
كابوس، شوفت كابوس وحش أوي، حد كان بيحاول يخطف يامن مني وأنا كنت بصرخ وأدور عليك، ماكنتش شايفاك وقتها، بس شوفت حد شبه باباك معاه وعمال يقولي متخافيش، وكنت بدور عليك أنتَ، بعدها صحيت مالقيتهوش جنبي، خوفت أكتر.
رفرف بأهدابه ثم ابتسم لها بهدوءٍ وقال:
أنا جيت من شوية لاقيتك نايمة وهو بدأ يصحى، علشان كدا خدته وقولت أسيبك تنامي شوية، يعني أنا آخده علشان تنامي تقومي صاحية بكابوس؟ شوفتي بقى إنه مش ذنبي؟
بدأت تستفيق وتعي ما حولها، لذا حركت عينيها نحو صغيرها ثم اقتربت تلثم كفه وهي تقول بصوتٍ بدأ يعود لطبيعته:
حتى لو من غير كابوس، كنت هصحى مجرد ما أحس إنه مش قريب مني، ريحته أول ما تغيب عني بحس بيه، ربنا خلق قلب الطفل على أعلى درجة من التواصل مع قلب أمه، أصله مش هيقدر يتكلم ولا يعبر، فأنا هحس بيه وأحس باللي فيه وأكيد أكتر واحدة هفهم هو عاوز إيه.
اقترب منها يُلثم وجنتها ثم عاد وحاوط صغيره في عناقه ينام بصمتٍ، اكتفى فقط بتلك الحركة ثم وضع ذراعه يدعم جسد صغيره في عناقه وبدأ يغفو؛
وكأنه قفصٌ من ذهبٍ يضم عصفورًا بقلبٍ من ألماسٍ.
< من رحم الظلام رأيتك لي نورًا وضيًا >.
أول الفساد خطوة،
والخطوة الأولى تتبعها كل الخطوات، وهو أولى? خطواته كانت فسادًا ألقاه في عمق الظلام، ومن ثم اعتاد العتمة، رافق الظُلمة، صاحب الليالي الظلماء، ومن رحم الظلام وجد نورًا.
صباح العيد أشرق.
صباح الجمع بين العاشقين، النصف يتجهز للإكتمال بنصفٍ آخرٍ، وهناك نصفٌ مكتمل بنصفه الآخر يقف في الانتظار حتى يشهد على شروق الشمس، وها هي الخطوات بدأت، حيث ولج سراج البيت يحمل حلته الجديدة احتفالًا بالزفاف، ولج ووجد زوجته تجلس برفقة ابنته التي انتفضت تسأله بلهفةٍ:
جيبت الفستان بتاعي؟
حرك رأسه نفيًا ثم ألقى حلته وقال بسخريةٍ:
لأ طبعًا، دا بعيد أوي وإحنا لسه هنلبس هنا الأول، أبقي روحي ألبسيه هناك، مش سيادتك نسيتيه في شقة إيهاب؟ أبقي روحي ألبسيه هناك.
توسعت عيناها بغضبٍ، ثم ضربت الأرض بقدميها وهي تغمغم حانقةً على أفعاله، ثم تركت المكان واختفت وهي لازالت تتحدث بما لم يفهمه فرفع صوته ردًا عليها:
برطمي كويس يا چودي لسه الجيران معرفوش.
فتحت باب غرفتها وقالت بصوتٍ عالٍ:
مش هروح الفرح، روح أنتَ بقى.
كتم ضحكته، ثم جلس باسترخاءٍ، هو الوقح الذي يتلذذ بمضايقة كل من حوله وخاصةً ابنته التي أصبح يغار عليها مؤخرًا، حبها يزداد ويتضخم في قلبه بمجرد أن أصبحت تناديه بابا حيث كلمته المحببة التي اختصته هو بها، لمحت زوجته شروده فوبخته بقولها تعاتبه:
مفيش فايدة فيك، لازم تنكشها؟ روح صالحها أحسن والله أخليك تروح لوحدك وأقعد معاها هنا.
ناوشت البسمة شفتيه ثم سحب غلاف الحلة وولج حيث الصغيرة، وجدها تتصنع النوم، فتوسعت بسمته ثم اقترب منها يقول بصوتٍ حنونٍ:
قومي شوفي الفستان اللي جيبتهولك، أحلى من بتاعك.
توسعت عيناها، بينما هو فتح الغلاف ثم أخرج فستانًا، عاري الذراعين، يبدأ من بعد عنقها باللون الوردي الفاتح، ثم ينتهي باللون الرمادي حتى أنتهى بتنورةٍ واسعة سوداء اللون، كان مزيجًا من الألوان المُريحة للعين، قفزت من فوق فراشها، بينما هو رفع رأسه بزهوٍ وقال بسخريةٍ:.
علشان تبطلي تتحديني وتقوليلي مش هقدر أجيبه، أديني جيبته أهو وأحلى، من ساعة ما عجبك وعرفتي إنه مش هنا، روحت ل زيزي ووقفت فوق دماغها، قولتلها يا تعملي الفستان يا أخطف نور.
سألته الصغيرة بعينين لامعتين:
وهي عملت إيه؟
التوى ثغره بامتعاضٍ وقال بخيبةٍ:
قالتلي مش مهم كدا كدا أنتَ خاطفها، بس عملته علشان متزعلكيش، وقالتلي لو مش علشان خاطر چودي ماكنتش سألت فيك، ماقولكيش بتموت فيا إزاي، مش عمة مراتي؟ بس نفسي أمكسها أقصلها لسانها.
ضحكت الصغيرة ثم دست نفسها بين زراعيه، فاحتواها هو بقوةٍ حتى شعر بنبضاتها تقارب عِدو نبضاته، ثم عادت للخلف تسأله بخجلٍ من الموقف:
هو الفستان طلع غالي صح؟
تلاقت الأعين ببعضها، كأنهما بحران صافيان التقيا سويًا في مروجٍ غير مقصودٍ، نسخة منه ألطف، أحن، أكثر رقة، أكثر براءة، لين قلبها يخبره أنها لؤلؤة في يديه وهو محارتها ويتوجب عليه حمايتها، لذا قال بحنوٍ ماسحًا فوق خصلاتها:
مفيش حاجة تغلى عليكِ، الغالي يرخص علشانك.
ابتسمت، ابتسمت وطالعته بحبٍ قبل أن يدحض بحديثه ما سبقه ويبعثر مشاعر الموقف بكلماته الجديدة:
كله هيتخصم من ورثك اللي عندي.
توسعت عيناها بذهولٍ ورمشت بتيهٍ فضحك بملء صوته وضحكت هي الأخرى ثم ارتمت عليه تضمه، رغم كِبر كلماته التي لم تدرِ كنهها في هذا السن، إلا إنها قالت ما يعلو فوق بلاغة تلك الكلمات:
مش عاوزة ورث ولا حاجة، كفاية أنتَ يا بابا.
وتلك الكلمة الأخيرة له حياة.
نُطفة نورٍ في رحم الظلام، كلمة تأتيه بها فتسرق من نفسه، تجعله يفكر هل هي حقًا تراه أبًا لها؟ صغيرته تكبر أمام عينيه، تزداد جمالًا، نُضجًا، حُبًا، امتلكت خبرات أكبر من عمرها وسط البشر، ورغم ذلك لازالت بنفس نقاء القلب.
خرج من الغرفة فلمح حماه يجلس مع زوجته بالأسفل، ثواني قليلة لا تُحتسب مرت وولجت زيزي عمة زوجته من باب البيت تقول بسخطٍ:
هو فين البجح قليل الأدب، نفسي أعرف إزاي عايشة معاه؟
وجهت السؤال لابنه شقيقها التي ضحكت رُغمًا عنها، فيما نزل هو بثباتٍ ورأس مرفوعٍ يواجهها، فوجدها تنهار في وجهه بقولها الموبخ:
نفسي أعرف إحنا ساكتينلك ليه؟
مشربكم حاجة أصفره.
جاء رده بسخريةٍ تجاهلتها وهي تتجه لشقيقها وتقول:
جالي الاتيليه إمبارح ومعاه صورة فستان عاوزه، قولتله صعب أقدر أخلصه أقل حاجة يومين، حبسني في الاتيليه، قالي لو مخلصتيهوش هخطف نور طب ماهو خاطفها، أكيد دي مُغيبة علشان تعيش معاه.
ضيق جفونه يرمقها بسخطٍ ثم رفع مقدار الوقاحة بقوله:
بنيمها مغناطيسيًا، أنتِ مالك أنتِ.
قرر حماه فض العراك فوقف يشير لشقيقته أن تسبقه كي يتجهز هو وهي أيضًا قبل الزفاف، ولأنها كانت على عجالةٍ استجابت له، حيث يذهبون مع بعضهم لمقر الحفل الذي صممه إيهاب وأشرف على تجهيزه، فتغاضت عن مشاكسة أكبر الرجال نصيبًا في الوقاحة، وبعد مرور ساعة وأكثر.
ارتدى سراج حلة سوداء داكنة من ماركة شهيرة، تخلى عن رابطة عنقه وفتح أول زرٍ بقميصه، ربما هو وقح، ماضيه ملوث، ربما يكون وغدًا، ذئب يعيش بين الضواري، لكنه وسيم، وسيم ويحب نفسه حُبًا جمًا، وقف أمام المرآة، يراقب كل ملامحه، خصلاته الشقراء اللامعة، دُكنة بشرته القمحاوية، زُرقة البحر في عينيه، ثم التفت.
التفت يرى النور من وسط الظلام.
حيث فستانٍ كُحلي، ينسدل حولها، حجاب بنفس لون الفستان، عقد من حبة لؤلؤ بسيطة ناقض دُكنة فستانها، زينة رقيقة، هادئة، بسيطة، وهي الأجمل بلا شك، فإضافة لكل ما سبق من صفاتٍ، هو محظوظٌ كي تكون هي نصيبه.
تغافل عن تواجد حماه بالخلف، وتغافل عن زيزي التي وقفت مع صغيرته تُتمم على زينتها، وتغافل عن الكون بما فيه عداها هي، اقترب يضم خصرها بكفٍ، وبالأخرى مسد فوق بطنها التي لم تظهر بعد بجنينه، ثم قال بوقاحةٍ:
خير يا رب، مش شايفله أثر، وديتي اللي مني فين؟
كتمت ضحكتها وهي تنفض يده ثم أشارت بعينيها نحو والدها تقول بهمسٍ خجول وهي تعلم أنه لا يخجل البتة:
بس بقى، بابا واقف وراك وكدا عيب.
التفت يرمق حماه ببسمةٍ سمجة، ثم عاد لها يهمس بذات الوقاحة:
خلاص لما بابا مايكونش ورايا هبقى أعيد البحث بعمق أكبر.
تحدث بمنتهى الأريحية وهي لن تجد معه حلًا.
فخلصت نفسها من بين يديه بأعجوبةٍ،
بينما تتبعها هو بنظراته حتى وجدها تميل نحو تلك الصغيرة التي تشبه حورية من الجنة، ثم ظل يراقبهن حتى ركضت صغيرته له فضمها بقوةٍ يثني على جمالها وكأنها هي الأجمل بين كل فتيات الأرض، وعيناه تنطق بالحديث ذاته لزوجته التي لم تنفك عن حصار عينيه أنها كانت ولازالت النور رغم ظلام الطريق...
< ويوم أن أتيت لي في ظُلمة الليل وجدت معك كل نورٍ >.
الفرح لحظة، بينما الحزن عمرٌ.
وبين اللحظة والعمر تسكن ذكرى لا تنسى، ذكرى باسم الحياة، وكأن الحزن احتلالٌ، يداهم، يستوطن، يستقر، ويمحو أثر كل ماضِ بطريقه، لكن وحدها الفرحة هي مقاومة هذا الاحتلال.
كانت ضُحى بغرفتها تتجهز، تتزين لأجل موعد اللقاء المُحدد بالليل، قلبها ينبض بعنفٍ وهي تتذكر موعد اللقاء، تتذكر الحبيب الذي طال انتظار جمعها به، تنتظر لحين انتهاء الانتظار وتأتي لحظة الاقتران، وفي الخارج انتهى عُدي وارتدى الحلة وأصبح جاهزًا للقاء، وقد صدح صوت زغاريد أمه فأجفله، التفت لها بدهشةٍ فضحكت هي وقالت بسعادةٍ طاغية استوطنت كل ملمحٍ بوجهها:
زغاريد الفرح يا واد، مالك خفيف كدا؟
ابتسم عُدي ثم اقترب يُلثم جبينها وضمها بقوةٍ، الفاتح الظافر بهدم حصون عَكا المُحصنة، على وشك دخول الأراضي رابحًا ومالكًا، سعادته تخطت كل الحدود، هي أخبرته أن قلبها تهيأ وأصبح ينتظره، هي لم تكن خائنة، وهو لم يكن طامعًا، هي مالكة القلب، وهو الفاتح الذي حارب لأجلها.
فُتِح باب الغرفة المقابلة، حيث خرجت ضُحى منه بعدما وضعت زينتها وارتدت فستان زفافها الجديد، فستان جديد، بحلم جديد بعدما خرجت من نفقٍ مُظلمٍ نحو النور الساطع، بمجرد أن رآها شقيقها نسى نفسه، ونسى فرحته ونسى العالم حوله، اقترب منها مبتسمًا بحنوٍ، لا يصدق أن تلك القصة التي كان أكبر دعامةٍ لتوطيدها؛ تنتهي كما تمنت القلوب.
وجد صوت شقيقته يخرج مختنقًا وهي تستفسر ببكاءٍ:
جميلة؟
والنظرة الحنونة أيدتها النبرة العطوفة حيث قال بعاطفةٍ:
أنتِ أجمل بكتير مما شايفة نفسك يا ضُحى.
كانت تبتسم له وفجأة وجدها تتعلق بعنقه، تتمسك به وتبكي بصوتٍ عالٍ جعله يمسح فوق ظهرها ويُهديء نوبتها حتى عادت للخلف وقالت بصوتٍ باكٍ:
معرفش من غيرك كنت هعمل إيه، حقك عليا علشان كنت بقولك إنك مش أخ جدع، علشان كل مرة وقعت فيها كنت بلاقيك قبل الكل معايا، أول مرة ساعة خطوبتي، وطول طريقي مع إسماعيل وأنتَ ضهر ليا، أنا محقوقة ليك علشان كل مرة زعلتك فيها مني.
لتوهِ أيقن أنها سترحل، تلك التي تشاركه اليوم بأدق تفاصيله سترحل ويصبح لآخرٍ حق الرؤية والمشاركة كل يومٍ، لذا ولأول مرةٍ يفعلها، ترك عبرة تترقرق وتظهر في عينيه ثم قال بصوتٍ مختنقٍ:
هتسيبيني يا ضُحى وتمشي؟
انفجرت في البكاء حينها، ارتمت عليه تتشبث به كأنها تخبره أنها حتى لو كانت غارقة في عشق إسماعيل وقد تترك العالم بأكمله لأجله، لكن يعز عليها فراقه هو تحديدًا، ازداد العناق بينهما قوةً وكأنه يستعد للوداع، فهذه الفتاة التي تقف أمامه وينفك رباطها عنه، كانت ولازالت شريكة الحياة بأكملها، خرجت قمر ورأتهما سويًا فضمت أخوتها ونظرة العين بينها وبين ضُحى تسرد تفاصيل كل الحكايا، حيث الوقوع، السقوط، الهزيمة، ثم الصمود، الانتصار، القوة، التجبر، المعاندة، حيث الحياة بينهما، وكأنهما شمسٌ وقمرٌ جمعتهما سماءٌ واحدة.
في بيت العطار ارتدى عبدالقادر حلة رمادية داكنة وأسفلها القميص باللون الأسود، وطابقه حفيده في الحلة بنفس التفاصيل، أراد أن يكون مثل جده الذي كان يبتسم لرؤياه بجواره يهندم ثيابه معه، ضمه عبدالقادر لعناقه، وقد ولج أيهم يقول بسخريةٍ حينما رأهما سويًا:
بقى أقولك عاوز ألبس زيك تقولي لأ، وييجي الشبر ونص دا يلبس زيك توافق؟ نفسي تقتنع إني أنا اللي ابنك يا عبده.
التفت الآخر وقال بتأكيدٍ لما يخبره به الآخر:
مقتنع، ولما فكرت لاقيت إني بحبه أكتر منك.
رفع حاجبيه ثم نظر لابنه الذي غمزه بعبثٍ ومكرٍ، جعله يبتسم له بسماجةٍ ثم اقترب من أبيه ووقف يهندم له ثيابه وابتسم بتأثرٍ وهو يقول بطريقةٍ صبغها بالعاطفة يخفي مكر كلماته:
مش مصدق إن جه اليوم اللي أقف أسلمك فيه لعروستك بأيدي، كبرت يا عبده وكبرتني معاك، يعز عليا فراقك يا عُبد والله بس دي سنة الحياة.
ضحك والده رغمًا عنه ثم رفع عصاه يضربه في كتفه، وقد ضحك أيهم هو الآخر ثم قال بمراوغةٍ وقحة:
بقولك إيه أنتَ كدا لا تقاوم، شاور على اللي تعجبك النهاردة وبكرة هتكون عروستك، أنا مش هشيل همك كدا كتير، عاوز أتطمن عليك خليني أفوق لنفسي شوية.
لأ وأنتَ مش فايق فعلًا لنفسك، يا عيني الواد خلاص شايلني فوق كتفه وماشي، دا أنتَ أكتر واحد مخليني أضرب أخماس في أسداس، روح، روح شوف حالك.
في تلك اللحظة أتاه صوت زوجته تحتاج لمساعدته، فابتسم بزهوٍ وقال بمكرٍ لذيذٍ يليق به كثيرًا حين يقصد هذا النهج:
عن إذنك علشان حالي كله بيناديني.
خرج لها بعد ضحكات من ابنه ووالده فوجدها تناوله صغيرها وتركض الدرج كي تصعد شقتها وتُكمل تجهيز نفسها، وحينها عاد لأبيه يمد يده بالحفيد الثاني وقال بثباتٍ:
خُد بقى علشان تتأكد إنك مبطيقش وش اللي جابوني.
وهرب، الوقح هرب للأعلى حيث مكان زوجته.
وحينها ضحك عبدالقادر ثم ضم سيف البشوش لعناقه يذكره بطفولة أيهم و أيوب مع بعضهما في الصغر، وقد جلس رفقة حفيديه وتمم على مظهر الصغير كما كان يعتني ب أيوب الذي يشبهه لحدٍ كبيرٍ بنفس الضحكة السارقة.
< هذا المشهد يليق بنهاية بطلٍ مغوارٍ هزم الفساد >.
قالوا أن النهايات السعيدة لا وجود لها بعالمنا.
ففوق الأرض هنا لن تجد إلا نهاية سوداوية، حزينة، هزيمة ساحقة للخير، حيث انتصار الشر الحتمي، وكأن العالم بأكمله أصبح على يقينٍ أن النهايات السعيدة لا وجود لها بيننا، لكن هل غفلوا عن وجود الجنة والنار؟ غفلوا عن نهاية الكافر حيث النار وجحيمها، وتناسوا نهاية المؤمن حيث الجنة ونعيمها.
ألعاب نارية تظهر في دُكنة السماء.
خيول حُرة تشبه أصحابها في زفةٍ عربية أصيلة، ممر مُضيء بالزهور يستقبل سير العروسين عليه نهايةً بديكورٍ أشبه بجناحي الفراشة، خلفه الزهور، الزرع، بالونات سوداء وذهبية، أضواء ساطعة، والجميع يقفون مع بعضهم، مقر الزفاف بفناء بيت نَعيم الحُصري قرب الأهرامات الشامخة برفعةٍ وعزةٍ تسرد بحجارتها قوة الماضي، وتسبق في الحداثة وجود الحاضر وكأن الجدران تصرخ معلنة هويتها.
دقائق مرت وبدأ كل عريس ينزل من سيارته رفقة عروسه، فأولًا نزل إسماعيل يمسك بكف ضُحى ثم اقترب من نَعيم يحتضنه بقوةٍ، أبوه هو رغمًا عن أنف العالم، وابنه الذي لم ينجبه من صلبه لكنه كان أحن عليه من قلبه، بارك لهما نَعيم وأوصى الزوج على الزوجة ثم استقبل الثاني.
حيث مُنذر الذي كان يخطو بتيهٍ، لازال الأمر يضربه برهبةٍ، فُلة بجواره تتعلق بذراعه، عيناها لا تصدق ما تراه، رجلها الغوغائي في طريقه معها للحياة، هي إمرأة بنكهة الحياة، وهو رجل بمذاق الموت، اليوم الموت والحياة يتحدان سويًا، لتأتي النتيجة التي لطالما تمناها القلب، وقف أمام عمه، أو عفوًا أبوه.
لمعت عيناه بحبٍ ثم ترك كفها واقترب بخطواتٍ رتيبة يقف قرب عمه ثم قال ببسمةٍ حنونة:
النهاردة مش شايفك الحج نَعيم اللي بشوفه كل مرة وأفضل مستغرب إزاي أنتَ وهو أخوات، أنا النهاردة شايف نفسي ابنك ومن صلبك، شايفك أبويا ويعز عليا إن واحد زيي يكون ابن ليك.
ضمه نَعيم لعناقه، تركه يختبر معنى عناق الأب تلك المرة، يعلم أن جرحه حيٌ لكنه يرغب أن يمر عليه كمرور البلسم فوق جرحٍ عميقٍ، ضمه مُنذر الذي تعلق به كما يتعلق الغريق بحبال النجاة، فوصله همس عمه:
أنتَ شرف لأي حد في الدنيا، وأنا كنت أتمنى تكون ابني من صلبي، مش ابنه هو، أنتَ الحسنة الوحيدة في حياة شوقي.
وابتسم كلاهما للآخر، ومر بعروسه، مر بها عبر الممر المُضيء وهي تمسك بيده وحينها همست له بقولها:
عيونك مرتاحين، أول مرة أشوف النظرة دي في عينك من بدري.
رفع عينيه لها يبتسم بهما، ثم ابتسم بشفتيه وقال:
عيوني دايمًا بيلاقوا راحتهم في عيونك.
توسعت بسمتها، تورد وجهها، التفتت تبحث عن اللاشيء هربًا من لقاء عينيه، فوجدته يقف في المنتصف ثم جذب وجهها بنعومةٍ وقال بهدوءٍ يليق به وهو يشبه الرجل الذي خرج لتوهِ من الكهف وبدأ يتعلم مقصد الحياة:.
أنا وعيني مبنرتاحش غير قصادك أنتِ، فاكرة لما شبهتك بالنيل؟ كنت دايمًا أسمع إن اللي جرب مياة النيل لازم بيرجع ليها، أنتِ زيه، ساقيتي عطشي، عرفتي إزاي تخليني أجرب ومفارقش، علشان كدا حتى الموت لما كان إجباري، كنت مختاره عند عيونك، على الأقل أبقى ميت مرتاح قصادهم.
تتذكر، تتذكر الفراق والوداع، تتذكر رحيله للموت بعد أن ودعها واختار الموت فضلًا عن ضررٍ يَمُسها، تتذكر يوم وقف يبتر جزءًا من الروح حتى يحافظ على الكل المُتبقي وهي روحها مقارنةً بحياته، لذا تيقنت أن هذا الذي يقف أمامها لن تجد أجدر منه كي يكون شريكًا لحياتها، شردت وغرقت بالشرود، ولم يخرجها إلا حين وجدته يقترب ويقف خلفها استعدادًا للالتقاط صورة الزفاف.
كانت ترتدي فستانًا أشبه برقة الفراشات، يظهر عنقها، خصلاتها لملمتها بشكل فراشة رقيقة وتركت غُرة تستقر فوق جبينها، تلك هي الإضافة الجديدة لوجهها، حيث الفستان الأبيض يتسع من عند الذراعين بطبقةٍ من الشيفون الناعم، والفستان ينسدل بنعومةٍ ويتسع من عند الخِصر، ضمها من الخلف وترك عينيه تقابلان عينيها، فكانت مرسى من بعد تيه السفينة بعمق البحر.
تكرر الموقف من نَعيم مع ابنه، ابنه الذي تبدل كُليًا، حيث بسمة بشوشة، نظرة مهذبة يغض بها الطرف عن كل نساء الأرض عداها، التزام بتعاليم دينه الإسلامي، تاركًا مفترقات طرق المعاصي والذنوب وقد بدل حياته بطريق الحق، ترك الضلال واهتدى، ترك الشهوات والتزم، باع الدنيا لأجل الجنة، وكأنه بدل الرخيص بالنفيس.
نزل وفي يده زوجته، عروس تشبه حروف اسمها، جنة بعينيها الخضراوتين، خمارها الأبيض، وجهها المميز الخالي من زينةٍ، أرادت أن تكون هكذا، وهو وافق وأيد، بخلاف الزفاف الذي صمم عليه والده، كي تكون فرحته عُظمى، فلم يملك قرار الرفض، بعيدًا عن العالم المثالي هو يعلم أن والده يحتاج لتلك الفرحة، وقد وقف نَعيم عنده تتعالى نبضاته، يتذكر وصية ندى? له، يتذكر حديثها حين وضعته بين ذراعيه وقالت بحزنٍ كأنها رأت النهاية من عندها:.
كان نفسي أربيه وأكبره قصاد عيني يعوضني عن اللي راح مني، بس مش هلحق ومش هقدر، ربنا مش رايد ليا أكون معاه ولا مع أخوه، خلي بالك منه يا نَعيم وحطه في عينك، متضيعوش منك زي اللي راح، ولو لقيت محمد خليه يدعيلي.
نزلت عبراته، نزلت حين رأى تَيام يحتضن مُحي ويبارك له ويجاوره ويكاتفه، تذكر الفقيدة وتمناها بجواره، لمعت عيناه وهو يرى تميم فوق ذراع آيات التي تجاور أبيها، تمناها معه في يومٍ هكذا، وقد طلَّ عليه صغيره ثم وقف أمام عينيه، يرى نظرة الفخر، الاعتزاز، الاعتراف أن ابنه جعله يشعر بالزهو كونه هو أبيه.
ابتسم نَعيم وقال بصوتٍ حنونٍ وهو يمسد فوق وجنة صغيره:
ربنا يبارك فيك ويردلك فخري بيك في ولادك، وتعيش وتشوفهم زي ما عيني شايفاك دلوقتي، متعرفش أنا رافع راسي وسط الناس بيك إزاي، روح قلبي راضي عنك ليوم الدين.
ارتمى عليه صغيره يعانقه، يتشبث بالعناق يستمسك به ثم يعود ويلثم جبينه ويستقر برأسه فوق كتف والده الذي ضمه ماسحًا فوق خصلاته بحنوٍ كان ولازال موجودًا طوال الوقت، لم يندثر أسفل الرُكام كما ظن ابنه، وإنما هو باقٍ فوق الأرض شامخًا.
أتى عُدي ماسكًا زوجته في يده بعد أن استلمها من خالها و حازم زوج شقيقتها وشقيق الراحل، كان حينها أكثرهم سعادة، كأنه تخلص من همٍ كان يُجثم فوق صدره، أدى الأمانةِ لأهلها، سلم وصية شقيقه الراحل لمن يستحق، هو يعلم أن الرجل الذي يجاورها عاشقًا حدَّ النخاع، لذا شعر كأن روح حمزة تتحرر من القيد، شعر كأن شقيقه يبتسم له من علوٍ ويخبره أنه فعل الصواب، ترقرقت عبرة في عينيه، وهمس مبتسمًا وهو يرى طيرًا يحلق في السماء رغم الليل المعتم:.
الله يرحمك يا حمزة وينور قبرك.
كان عُدي يتمسك بكفها، يراقب لمعة عينيها، يخبرها أنه هنا معها ولا داعي للخوف، وهي بدورها تبتسم له ثم تربت فوق كفه وهي تقف بجواره استعدادًا لصورة الزفاف بجوار الزهور التي تشبهها، تقف معه، ترفع عنه الحصار، تستسلم لغزوه، تخبره أن عكا المُحصنة سقطت للفاتح.
اقترب نادر يقبل كف أمه التي كانت تجاوره وعائلته كلها معه، لكنه اختار عناق عبدالقادر وارتمى فيه، كان يتمناه أبًا له، يتمناه حاميًا له منذ صغره، هذا الذي فرد له جناحه واحتواه بصدقٍ كان أول الناس اللذين رحبوا بقدوم نادر للحياة، لذا قال يمتن له بقوله:
كان نفسي أكون ابنك أوي وأكون زي أيوب و أيهم عندك، بس أنتَ هتفضل خالي وحبيبي وسندي في الدنيا.
اقترب يضمه، يطوقه بالعناق، يخبره دون حديثٍ أنه حاميه، فيؤكد الحديث غير المنطوق بلسانه:
طب ما أنتَ ابني يا عبيط، هو أنا لو بعتبرك ابني كنت هخليك وسطنا كدا؟ ربنا يعوضك يا ابني خير ويكرمك بنور بصيرتك وبذرية صالحة ليك ولمراتك، يلا روح علشان تتصور.
ودعهم ثم اقترب منها، حنين التي كانت تبتسم، تلك التي ترتدي فستانها الأبيض للمرة الثانية لكن شتان بين المرتين، تلك المرة هي إمرأة ناضجة، محبة، تفرق بين العاطفة وبين الحب، تفرق بين الرجل وبين الصبي، تلك المرة هي سقطت في عمق بحره، تعلم أنه رُبان السفينة ورغم ذلك اختارت الغرق فيه، هي تغرق وهو لا ينجو بها، وإنما يغوص ويُغرقها نحو الأعمق.
التفت والتفتت في ذات الوقت تقابله فوجدته يلثم جبينها، ثم ضمها كأنها الأمل الوحيد الباقي، تشبث بها بقوةٍ ماحيًا بذلك كل ذكرى أليمة، ماحيًا ما سبق كي يُرسخ الحياة لما هو قادمٌ، ابتعدت تبتسم بعينين لامعتين ثم قالت ببسمةٍ رقيقة:
قولتلك إنك شكلك حلو قبل كدا؟ وجميل أوي.
لا يعلم هي تقصد المضمون أو المظهر، لكن في كلتا الحالتين هي أسعدته، لذا ضم يدها بين يديه ثم همس بوقاحةٍ محببة لقلبها:
دا كلام كبير خدي بالك وهرد عليه بطريقتي.
وفقط دفعها بجوار الخيل والزهور ثم جاورها ولأول مرةٍ يرى نفسه في خانة صحيحة، خانة لا تستحق غيره، خانة هي حقه وحده مهما كان الأمر، لأول مرةٍ يرى الإطار يحمل صورته وصورة أخرى تليق به هو وحده، بطل الحكاية منذ السطر الأول حتى كلمات الخِتام.
ولأن البطولة حقها المكتسب كان لابد من مشهدٍ يليق بهما.
حيث يوسف الذي يقف حاملًا ابنه وزوجته تجاوره بفستانها الأسود الذي يشبه فستان أختها وعد وتقف بجوار عالمها الصغير، بينما أيوب يدعم بكاء قمر على فراق نصفها الثاني، كانت تراقب رحيل ضُحى مع زوجها زيادةً مع لعب هرمونات الحمل بها، تزايد البكاء، فضمها أيوب كاتمًا سخريته عليها حتى قالت هي بصوتٍ باكٍ:
دي مش فيها نكد 9 شهور، دي فيها نكد 9 سنين.
علي قلبي زي العسل، بس بالراحة الله يكرمك.
هكذا جاء الرد منه، حتى سحبه إيهاب وسحب يوسف أيضًا، ليبدأ المشهد الختامي الحقيقي، حيث كلٍ منهم يصنع الصورة الخاصة به، الدين، القوة، العلم، العمل، التاريخ، الذكاء، الطفولة، النفوذ، المال، السُلطة، كلٌ منهم يمتطي خيله ويسبح في الأرض التي هي ملكه، أرض الأحرار وإن أبى العالم كله، كل منهم امتطى الخيل وراح يحفر تاريخه وأصله فوق الأرض، هم في الوسط، وحولهم خيول كثيرة برقصة المرماح، وقف أيوب بجوار الخيل مبتسمًا، يبتسم وهو يرى الحق ثابتًا أمام ضعف الباطل، وجاوره باسم الذي قال بثباتٍ:.
حمزة الله يرحمه كان علطول بيقول إن أي دولة علشان تبقى ثابتة لازمها حاجتين، عقول واعية متدينة، وأقلام حُرة تحرر العقول من سجنها، كل ما أشوفك بفتكر كلامه، تفتكر يا أيوب فيها أمل لسه؟
طاف أيوب بعينيه، يصول ويجول ثم يعود لحيث مُحدثه ويقول بنبرةٍ حملت الحزن الممزوج بالأمل والشجن بين طياتها:
قال ?: الخير فيّ وفي امتي الى يوم القيامه
صدق رسول الله ?.
وقَالَ رسُول اللَّه صلّى اللَّه علَيه وسلّم: ((يُحشر قوم من أمتي يوم القيامة على منابر من نور، يمرُّون على الصراط كالبرق الخاطف، نورهم تشخص منه الأبصار لا هم بالأنبياء، ولا هم بصدِّيقين، ولا شهداء، إنهم قوم تُقضى على أيديهم حوائج الناس)).
أن الخير في أمة الرسول الأعظم باقٍ، رغم نظريات أهل التشاؤم، الذين يرون أن سلوكيات البشر لم تعد مثلما كانت بالأمس القريب، بعد أن تلوَّثت النفوس ورا كل خير جنود تتنافس، وإحنا لسه بنحاول وهنفضل نحاول، ونحاول لحد ما نموت، ولو محصلش، يبقى على الأقل نولنا شرف المحاولة ونموت وإحنا بنحاول زي حمزة ربنا يرحمه.
رفع باسم عينيه نحو السماء الداكنة، لمح وجه الراحل، ترقرق الدمع في عينيه، تذكره، تذكر الماضي، تذكر الحرية، الحلم، تذكر الوطن، ثم أغمض جفونه وكرر وصوت حمزة يكرر في سمعه وخُلده:
علي الأقل يبقى اسمنا حاولنا ونولنا شرف المحاولة.