رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني
لملمت ما استطاعت تجميعه، وبتوتر وخوف بالغ نظرت لشباك غرفتها، أطلت برأسها لتجد أن المسافة ليست بالبعيدة، ولكن تلك الخطوة ستكون الفارق في حياتها، نقطة تحول ستقذفها لحياة أخرى لا محالة، وكأن الشيطان تلبسها ليُعمي بصيرتها للعواقب الوخيمة التي ستترتب على فعلتها.
أغمضت عيناها بخوف وصوت يهتف داخلها لا تفعلي، لكنها أبت الخضوع له، وبتردد صعدت إلى الشرفة ثم قفزت من المسافة القصيرة التي بين شرفتها والأرض، أمسكت بأشيائها ونظرت حولها بخوف من أن يكون رآها أحد، وعندما اطمئنت للوضع ذهبت إلى المكان المُتفقة عليه مع المدعو جابر.
بعد مدة تعدت النصف ساعة وصلت إلى تلك المنطقة النائية، ورغم خوفها تحلت بالشجاعة المُزيفة لتستكمل سيرها، وقفت عند مكان خالٍ من المارة لتجده يقف منزويًا عند بؤرة معينة، لتذهب إليه بسعادة حمقاء بينما هو لم يَلحظها بعد، وما إن اقتربت منه، إستمعت إلى صوت فتاة خافت، عقدت حاجبها بتعجب سُرعان ما أصدرت شهقة عالية عندما لاحظت وضعهم المُخجل للعين، فزع هو وابتعد عن الفتاة ليتوتر ولا يعلم كيف يُبرر موقفه الأحمق.
تذكر حينما جاء إلى هنا لإنتظارها، وكم ضجر من وقفته تلك، لتمشي من أمامه فتاة بملابس ضيقة للغاية أظهرت جسدها بسخاء، وكعادته ألقى على مسامعها بعض كلمات الغزل الوقحة، لتلتفت إليه بعبث لم يكن يتوقعه، فذهبت إليه بخطوات مائعة راقت له.
وبعدها غاب العقل ومعه الحياء ونسج لهم الشيطان أفعالهم وهم يخطون على خطواته الماجنة.
اقترب منها محاولًا خلق أي كذبة لإسترضائها: نوال حبيبتي، متفهميش غلط.
ابتعدت عنه متحدثة بصوت واهن وحتى الآن لا تصدق ما رأته عيناها: انت. انت كنت. بتعمل معاها إيه!
أنهت حديثها وهي تنظر للفتاة التي تعدل من وضع ثيابها المبعثرة، وما إن انتهت حتى فرّت من أمامهم هاربة، مدَّ يده مرة أخرى للإمساك بخاصتها، لتصرخ بنفور تزامنًا مع رجوعها إلى الخلف: ابعد عني يا حيوان، وأنا اللي صدقتك وهربت من بيتي عشان أجيلك! وانت طلعت قذر.
وللمرة الثانية رسم علامات الحب على وجهه محاولةً بإقناعها: والله ابدًا يا حبيبتي دا سوء تفاهم، خليني أشرحلك.
وهل القسم بالله أصبح هيِّن بهذه الطريقة! لا يكفي بأنه فاسق، بل منافق كاذب أيضًا، هطلت دموعها بكثرة من عيناها التي تميل إلى السُمرة، لتهز رأسها بعنف متشدقة بنفور منه: انت. انت كداب. كداب وحيوان وأنا غلطانة إني صدقت واحد زيك.
ذهبت من أمامه بنيّة الرجوع إلى منزلها، ليسقط قناع البراءة الزائف الذي كان يرتديه، ويحل محله تعابير وجهه الحقيقية، أمسك بها من ذراعها بعنف لإيقافها، لتضرب بيدها على ذراعه بعنف وهي تهدر به بغضب: سيب إيدي، بقولك سيب إيدي يا ز يا.
أسكتها بصفعة قوية من كف يده العريض، لتنظر له بصدمة مشدوهة، وسؤال يتكرر بعقلها، هل هذا هو من كان يُسمعها من عبارات الغزل الكثير! أم إنه كان يرتدي زي النقاء طوال الوقت! وهي الساذجة التي صدقته لتقع في شباكه التي نسجها بمهارة، لم يكفي صدمتها به بما فعلته، بل امتلأ وجهها بأمارات الرعب وهي تستمع لحديثه الماكر وعيناه تجول على جسدها: أسيبك دا إيه، انتِ مفكرة دخول الحمام زي خروجه!
بمنزل عائلة أبو زيد حيث أن المنزل يتكون من ثلاثة طوابق، كل طابق لأبناء الجد الأكبر ومعهم أبنائهم، الطابق الأول خاص ب طه أبو زيد البِكر الأول للعائلة وأبنائه هم عابد، وسجود، وتسبيح، الطابق الثاني خاص ب إبراهيم أبو زيد ومعه بناته غزل وميران، وأخيرًا الطابق الثالث خاص ب خليل أبو زيد ومعه ابنه الوحيد أحمد.
بالطابق الأول الخاص ب طه أبو زيد، كان يقف في صالون منزله، ممسكًا بيده عصى طويلة، وأمامه أولاده الثلاثة وأنظارهم متجهة للأسفل في خوف، منتظرين الحكم الذي سيُلقيه والدهم، ضرب طه بالعصا على الأرض لتصدر صوتًا عاليًا أفزعهم جميعًا، بما فيهم زوجته أميرة التي تُراقب الوضع بشماتة بادية للعِيان.
أردف بصوت مُحذر وهو ينظر لوجوههم بحقد: لآخر مرة هكررها، مين اللي خد الشيكولاتة!
لم يُجيب أحدهم، والصمت مازال يعم المكان، لترفع تسبيح رأسها وكادت أن تتحدث، فإستمعت إلى صياح والدها العالي: أنا قولت لحد يتكلم!
أخفضت رأسها مجددًا وهي تلوي شفتها بإمتعاض ناقمة على أخواتها، تمتمت بصوت خفيض هادئ: يعني مش كفاية إن أنا مكلتش معاهم، لأ بتعاقب زيي زيهم! يخربيت الظلم.
بينما عابد و سجود كادا أن يموتان من الرعب، تلك العصا التي يمسكها أباهم تشهد على الكثير من الصراعات بينهم، ذاقوا منها الويلات، وكم كانت تؤلم بحق، جال ببال سجود خطة دنيئة لهذا المأزق، لذلك رفعت إصبعها بخوف لإستئذان أباها في الحديث، نظر لها بصرامة ثم أمرها بالتحدث، لتقول هي بصوت متلجلج: أنا. أنا عارفة مين يا بابا اللي أكلها.
وفي ثوانِ رسم على وجهه تعابير الحنان الزائفة، ليبتسم بود زائف لها، مردفًا بإبتسامة خافتة: مين يا سوچي يا حبيبة بابا.
عابد يا بابا.
نطقت بها بثقة وهي تنظر لتعابير وجه أخيها المصدوم، فأشاحت بوجهها للناحية الأخري بغرور والشماتة تُزين وجهها، شمر طه عن ساعديه مُسددًا ل عابد نظرات وعيد، ازدرق عابد لعابه بخوف مردفًا بتلعثم: إيه. إيه يا بابا، هتغسل المواعين ولا إيه يا حبيبي!
أردف طه بخفوت تزامنًا مع إمساكه بالعصا مرةً أخري: أه يا روح أبوك هنغسلها سوا.
ومن بعدها صدحت صرخات عابد بألم عندما هبطت العصا على ذراعه، جرى مسرعًا ليلتف حول الطاولة وهو يقول برجاء صارخ: اسمعني بس يا بابا، هفهمك والله، ااااه.
أنزل العصا تلك المرة على ظهره متشدقًا بصراخ: بقا أنا نايم وسايب صندوقي مع شوكلاتي في دولابي، أقوم الصبح ملقهمش! كلت الشيكولاتة كلها يابن المفجوعة!
طه!
خرج اسمه بصراخ من فم أميرة عند لفظه لجملته الأخيرة، لتلين ملامح وجهه وهو يجيبها: عيونه!
أسبلت عيناها للأسفل بخجل من غزله بها، فتراجعت عن التوبيخ الذي كانت ستقذفه في وجهه، متشدقة بصوت خافت: اتوصى عليه شوية.
غمز لها بمشاكسة وهو يُجيب: انت تؤمر يا جميل.
كل ذلك وكان ثلاثتهم يتابعونهم بإستنكار، بينما وجه عابد تشنج عندما استمع لحديث والدته الحنون، وما زاده رعبًا هو وجه أبيه المرعب الذي إلتف إليه الآن، تمتم بحسرة ناظرًا ل سجود بحقد: كله منك يا وجه البرص انتِ، اصبري عليا أخد العلقة التمام وبعدين أفضالك، ااااه.
ليالِ شتوية قارصة، الغيوم مُلبدة في السماء وكأنها على وشك الإمطار، وتيارات الهواء الشديدة تجول من حولهم، برودة تضرب الأبدان، فيمكث الجميع بمنازلهم طامعين لدفئ أجسادهم، صعد أبناء عائلة النويهي إلى أعلى سطح المنزل المكون من خمس طوابق لإشعال النار بحزمة الأخشاب التي أمامهم.
أمسك ريان بالقداحة (الولاعة) ناظرًا للآخرين ببسمة شرسة، لاحظ فارس نظرته تلك ليبتلع ريقه بتوتر مردفًا: يعني مش كفاية كنت عايز تموت أبويا دلوقتي عايز تموتني وتيتم بنتي وتأرمل مراتي!
رد عليه ريان ببرائة وهو يقول بصدمة: أنا! أنا اللي كنت هموت أبوك! إخس عليك إخس.
اقترب منه معتصم ل ُيربت على كتفه موجهًا حديثه له: متزعلش ياخويا متزعلش. هي الناس طول عمرها ظالمة.
سايره ريان في حديثه مردفًا ببكاء زائف: أنا مش عارف ليه الإنسان بيعمل في أخوه الإنسان كدا!
عشان إنسان ابن.
نطق بها شهاب الذي كان ينظر لفارس بعتاب، ثم مصمص على شفتيه كالعجائز وهو يكمل: مش عارف هو رمي جتت وخلاص! ولا إكمنك غلبان يعني!
أمسكه فارس من ياقته ناطقًا بصرامة: ولاااا اظبط كدا بدل ما اظبطك.
يوه! في إيه يا دلعادي. هو أنا جيت يمتك (ناحيتك)!
كاد فارس أن يُجيبه لكن قاطعه صوت طفولي قائلًا بسعادة: بابا.
ارتمى الصغير ذو الست سنوات في أحضان ريان، فإلتطقته الآخير بين ذراعيه وهو يقول بحنان أبوي صادق: روح بابا، عامل إيه يا وَحش!
قبَّله على وجهه بحب مردفًا بإشتياق: الحمد لله يا بابا. وحشتني أوي.
وانت كمان يا قلبي. قولي بقا كنت مختفي فين.
نظر له مُدَّثر ببرائة بعيناه الرمادية التي تُشبه عين أباه ثم أردف بوقاحة مماثلة له: لوجي بنت عمو فارس كانت زعلانة مني وأنا بوستها وصالحتها.
طالعه ريان بفخر شديد مردفًا بغرور: ابن أبوك بصحيح. وهي اتصالحت من بوسة على طول كدا!
هز مدثر رأسه بنفي، ومن ثَم بدأ بشرح ما فعله بيداه كأنه يشرح مسألة علمية شديدة الخطورة: لأ. ما أنا حضنتها الأول. وبعدين شيلتها. وفي الآخر بوستها.
احتضنه ريان بفخر وعيناه تدمع بتأثر واضح متشدقًا: حبيب بابي، الإبن المثالي دا ولا إيه!
كل ذلك و فارس يقف مصدومًا وكأن على رأسه الطير مما سمعه، أشار لذاته مردفًا وهو ينظر للصغير: انت، انت بتتكلم على بنتي أنا!
خرج مُدثر من أحضان والده وهو يومأ له بالإيجاب: أيوا يا عمو، هي لوچي.
الشرف يا بنت ال.
صرخ بها فارس وهو يهبط درجات السلم منتويًا لفتاته المنحرفة بأن يبرحها ضربًا، فتح باب شقته بعنف وهو يهدر عاليًا: انتِ فين يا طاهرة يا شريفة! بت يا لوچي.
خرجت تلك الفتاة القصيرة والتي تبلغ من العمر الخمسةُ سنوات، واضعة على رأسها غطاء حراري لتجفيف خصلاتها القصيرة وبيدها سائل من اللون الأحمر، وهي تقول بتأفف: بتزعق كدا ليه يا دادي!
تشنج وجه فارس عندما رأى هيئتها وما زاد الطين بلة هو متابعتها للحديث بقولها الغاضب: وبعدين كام مرة قولتلك متقوليش بت! أنا إسمي لوجي.
يا زهر.
صرخ بها بغضب حارق وهو ينادي على زوجته التي أتت مهرولة تجاهه، نظرت لإبنتها بشك فعلمت بوجود شجار عنيف بين الأب وابنته كالعادة، فتحدثت بهدوء لتلطيف الأجواء المشتعلة: في إيه يا فارس!
تحدث بغضب وهو يُشير لإبنته التي تتخصر تزامنًا مع تلك النظرات الحارقة التي ترميها إليه من الحين للأخر:.
تعالي يا هانم شوفي بنتك، ربة الصون والعفاف سايبة الواد ابن ريان يحضنها، ومش بس كدا لأ، دا شالها وباسها كمان، بكرا نلمها من الكباريهات بنت ال دي.
خافت زهر من ردة فعل زوجها إن علم أن هي من اقترحت على مدثر بأن يفعل ذلك لمصالحة إبنتها العنيدة، وقبل أن تُبادر بالحديث، سبقتها لوجي وهي تشيح بيدها مردفة بصوت غاضب: دي مبقتش عيشة دي، وفيها إيه يعني لما يبوسني! مش بيصالحني! ولا يسيبني زعلانة مثلًا!
ليصرخ هو بالمقابل: وانتِ شايفة اللي عملتيه دا صح!
أجابته بثقة وقوة نابعة من طفلة قصيرة سليطة اللسان: أيوا صح، ماما أصلًا هي اللي قالت ل مدثر يعمل كدا عشان يصالحني.
الصمت يعم المكان، ولا يوجد سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، خافت لوجي من صمت أباها، لذلك نظرت لوالدتها التي كادت أن تفر هاربة بإستجداء، لحظات وكان فارس يخلع حزامه لاففًا إياه حول يده وهناك بسمة شريرة تتشكل على ثغره، ثم أردف بخفوت خطير: انتوا الإتنين هتتقطعوا دلوقتي.
بالطابق الخاص بمنزل بكر النويهي، كانت إهداء تجلس على الأريكة واضعة عيناها أرضًا، وعلى مقربة منها يجلس مهاب خطيبها المزعوم، كان يتحدث بلا توقف وعيناه تجول عليها، يخبرها كم هو سعيد لموافقتها عليه، يعدها بأن تعيش معه بسعادة مدى الحياة، وظل يتحدث ويتحدث بلا توقف حتى أحست بالملل منه، ما كان عليها سوى الإبتسام لمجاملته، بينما هي كادت أن تصرخ منه.
في نفس الوقت كان شهاب يهبط للأسفل تاركًا ريان يُعلِّم إبنه المبادئ العشرة للتعامل مع النساء، ضحك بخفوت عندما تذكر ما حدث بالأعلى، لتبهت إبتسامته تدريجيًا عندما شاهد هذا السمج كما يلقبه يجلس ببيت عمه، يبتسم بل يضحك بسعادة، تنغصت عليه سعادته ليزعم بتنفيذ ما برأسه.
دخل بخيلاء إليهم، ثم جال بنظراته على مهاب الذي يبتسم له بإستفزاز، ليردف شهاب وهو ينظر إليه بإحتقار: أهلا بعريس الندامة.
نظرت إهداء له بغضب، فحاولت جاهدة ضبط ذاتها حتى لا ينتهي اليوم بمشاجرة عنيفة بين كِلا الطرفين، وجهت حديثها ل شهاب المتعصب والذي يظهر الغضب على ملامح وجهه بقوة: خير يا ابن عمي، جاي ليه!
ورغم إستفزازها له وشعوره بالسخط تجاه الآخر الذي يطالعه بغضب، جلس على المقعد المجاور لهم، واضعًا قدمًا فوق الآخرى متشدقًا بتكبر: جاي بيت عمي يا بنت عمي. خير في حاجة!
جزت على أسنانها بغيظ من حديثه البارد ولم تُعقِب عليه، ولكن ما استثار غضبها بحق، هو وقاحته عند أخذه للمشروب الخاص ب مهاب مبررًا له عند الإنتهاء منه: لموأخذة يا جماعة، كنت عطشان قولت أبِل ريقي.
ثم وجه حديثه ل مهاب وهو يقول بإستفزاز: ولا عندك إعتراض يا عريس!
هبَّ مهاب من مكانه بغضب، هادرًا بصياح: انت بني آدم قليل الزوق. وانا ليا كلام مع عمي بكر لما يجي من برا. ومن غير سلام.
أنهي حديثه ليخرج من المنزل بهياج، فردد شهاب من خلفه: في ستين داهية يا سي الأستاذ.
أتت سميحة والدة إهداء من المطبخ بفزع عندما استمعت لصوت الصراخ بالخارج، لتقول بخوف: إيه الزعيق دا يا ولاد. وفين مهاب.
كادت إهداء أن تتحدث ووجهها ملئ بإمارات الغضب، ليقاطعها شهاب موجهًا حديثه لزوجة عمه: عنده حالة وفاة يا مرات عمي. ادعيله هو كمان.
وبحُسن نية حزنت سميحة فرددت: لا حول ولا قوة إلا بالله، إما أروح أكلم الحاج وأبلغه.
ذهبت من أمامهم لتبقى المعركة مشتعلة بين الإثنان، اقتربت منه وهي تصيح عاليًا: انت اتجننت! إيه اللي انت عملته دا!
وضع يداه في جيب بنطاله قائلًا بجهل مصطنع: عملت إيه!
ظنت إنه جُن بالفعل، فهي بالأصل تمقته، أو ربما تدَّعي ذلك،! أطالت النظر به وبهيئته التي كانت تعشقها سابقًا ولكن الآن حل محله النفور والكره، لاحظ هو نظراتها، ليقول بثقة: عارف إني حلو ومسمسم. بلاش تبصيلي كدا عشان بؤحرج.
لوهلة توترت منه ومن حديثه، لكن سيطرت على ذاتها وتلك المرة طالعته بإشمئزاز حقيقي: متاخدش مقلب في نفسك أو كدا، أنا أصلًا مش بطيقك.
وقف قبالتها مباشرة، حتى أصبح قريب منها للغاية، باتت أنفاسه تضرب بشرتها الخمرية، وعيناه تجول على ملامح وجهها التي يعشقها بحق، تمتم أمامها بصوت هامس قبل أن يذهب من أمامها بل يذهب من المنزل بأكمله: ومالو. بكرا تحبيني زي الأول وأكتر كمان.
بعد ذهابه مباشرة، وضعت يدها على صدرها الذي يعلو ويهبط بعنف، مازال لوجوده تأثيرًا قوي عليها، رغم محاولتها جاهدة بأن تكرهه، ولكن يبدو بأن محاولاتها بائت بالفشل، أدمعت عيناه فتكونت سحابة من الدموع على عيناها، لتردف بهمس باكٍ: حرام عليك. ليه بتعمل فيا كدا! ليه مُصِر تعذبني وتجرحني أكتر!
جميع الصالحين يُخطئون، ولكن ليست كل الأخطاء متشابهة، فهناك أخطاء يَسهُل إصلاحها، وأخطاء أخرى لا تنمحي بسهولة.
ظلت نوال تقاوم جابر بشدة، فلقد تحول عما كان به من قبل، غرائزه الحيوانية أصبحت هي التي تُحركه، لا يريد الآن سوى نيلها، ضربت بقبضتها على ذراعه وهي تصرخ به: سيبني يا حيوان.
ولكن لا حياة لمن ينادي، اقترب منها أكثر، غير عابئ بحرمة الطريق، وأكثر ما اطمئن له هو أن المكان نائي لا يوجد به أحد من المارة، كادت يداه أن تمتد لثيابها فوجد قبضة تُوجه إلى وجهه أزاحته عن تلك المرمية في الأرض.
رفع جابر رأسه بخوف، ليجد رجل بجسد عريض يرتدي جلباب صعيدي ينظر له بشر.
أفزعه، ارتعدت فرائسه ليزحف للخلف من هيئته التي بثت في نفسه الخوف والفزع، شمر الآخير عن ساعديه قائلًا بصوت راعد أرعب نوال قبله: مالك نخيت كيف الحريم إياك. دلوجتي عتعرف الرجالة على حج يا.
حاول جابر أن يستعيد جزء من شجاعته الهاربة ليُعيد من كرامته المهدورة، استند على الغبار ثم وقف معتدلًا، فشعر بتورم وجهه وخاصة أسفل عينه من قبضة الآخر، كاد أن يتحدث ويُهاجمه، ليُناطحه الآخر برأسه فعاد للخلف أثر ضربته القوية ثم وقع أرضًا مرة أخرى، أمسكه الآخر من تلابيبه يهزه بعنف، جابرًا إياه على الوقوف مرة أخرى، ورغم الإنهاك والتعب البادي عليه، إلا أنه لم يهتم فضربة مرة أخري في معدته، ليطلق جابر صراخًا متألمًا دوى من حوله، هبط الآخر لمستواه وعيناه تطلقان شررًا، وأخيرًا تحدث بفحيح مرعب: اللي يچي يَمة حد تبع بدر الأباصيري، تبجى نهايته الموت يا.
علم جابر خطورة الوضع الذي به حاليًا، لم يكن يعلم بالعواقب التي ستترتب على فعلته الفحشاء، لذلك لم يجد مخرجًا من الموقف إلا برجاءه: أبوس إيدك. أبوس إيدك سيبني وأوعدك مش هتشوف وشي تاني، آاااه.
قام بدر بلكمه بعدما أبعد يداه عنه بإشمئزاز كأنه آفة، أمسكه من خصلات شعره الطويل وهو يردد محذرًا: صوتك مسمعوش واصل، اجفل خشمك.
هز الآخير رأسه بهستيريا يُنفذ أمره تجنبًا لغضبه، بينما ذهب بدر ل نوال التي كانت ترتعد من الخوف، ودت لو قتلها جابر أفضل من جحيم بدر الذي ستناله الآن، ابتلعت ريقها بخوف عندما رأت إقترابه منها، وعندما وصل أمامها همس بجملة واحدة جعلتها ترتعش فزعًا وتعلم أن القادم لن يكون يسير بالمرة: أهلًا بالعروسة اللي هربت. چهزي نفسك كتب كتابك الليلة، وبدال ما تكون خطوبتك هتكون دُخلتك يا بت عمي.
أسمعتهم ما قالته للمرة الألف، فخورة بذلك الإنجاز الذي حققته، قد يكون الأمر لا يستحق من وجهة نظر الآخرين، لكن بالنسبة لها فالأمر يستحق الإحتفال، أعدت غزل كعكة الفراولة التي تعشقها لها وللجميع، وللمرة العاشرة تخبرهم ما فعلته في المحكمة، حتى ضجر وتأفف الجميع منها، لتعترض ميران متمتة بسخط وهي تقف: ما خلاص بقا يا غزل، عرفنا يا ستي إن انتِ شوحتي بإيدك كدا وقولتي سيدي القاضي إن موكلي برئ.
رمتها غزل بنظرات حارقة من إفساد حفلتها، لتصرخ بها مُعنِفة وهي تشير تجاه الاريكة: اترزعي يا بت وخليني أكمل.
نفخت ميران بغيظ، لتجلس محلها مرة أخري.
وبعد مرور قرابة الساعة ونصف كانت غزل مازالت تروي لهم تفاصيل ما حدث، تثائب أباها ومالت والدتها عليه وأعين ميران على وشك الإنغلاق، لتصرخ بهم جميعًا محذرة: انتوا نمتوا!
فزع الجميع من صراخها، فما كان على والدتها سوى أن تخلع نعلها وتقذفه في وجهها بغضب: ما خلاص بقا يخربيت خلفتك الهباب، غوري من وشي.
وضعت يدها على وجهها بألم، لتنظر لهم بشك هاتفة بحنق: اوعوا تكونوا زهقتوا!
طالعها الجميع بسخط ووقفوا ذاهبين كلًا منهم لغرفتهم، لم يتبقى سوا غزل وحدها والهواء من حولها، تمتمت مع نفسها ببلاهة: هما زهقوا ولا إيه!
وبداخل غرفة ميران، فتحت شرفتها علها تستطيع رؤيته، تهللت أساريرها عندما رأته يقف في شرفته يدخن سيجارته بشرود، ارتدت حجابها بسرعة وعادت مرة أخري للشرفة، نادته بمشاكسة: بِس بِس.
قطب جبينه بتعجب ونظر تجاه مصدر الصوت ليجدها هي، مقتحمة أحلامه، وحبيبة وجدانه، صديقته منذ الصغر، وملاذه وقت الحاجة، مصدر سعادته الأول والأخير، حلمه البعيد والذي يكاد أن يكون مستحيل.
رغمًا عنه قرر تجاهلها، ابتلع تلك الغصة المؤلمة التي في حلقه رغمًا عنه، لاحظ انطفاء إبتسامتها وهي تسأله: مالك يا محمود!
نظر لها بجمود اصطنعه جيدًا، مجيبًا إياه بجفاء آلمها: مالي يا بنت الناس ما أنا كويس أهو! انتِ اللي طالعة الشباك في انصاص الليالي تكلمي شاب غريب عنك، مش عيب بردو!
صُدمت من تحليله للموقف بهذا الشكل، وأكثر ما صدمها هو حديثه عنها بتلك الطريقة، هو من كان يُعاملها برقة كالفراشة أصبح كالمهاجم لها، إغتصبت ابتسامة وهي تقول بصوت مختنق: معاك حق. عن إذنك.
دخلت ودخل قلبه معها، أغمض عينه بقهر وهو يكاد يبكي ألمًا، تفكيره أوصله إلى أن اللقاء مستحيل، هو فقير. وهي من أصحاب الطبقة المتوسطة، كان هذا لا يهمه فقد كان يسعى من أجلها، ولكن الآن، أصبح رد سجون.! زفر بإختناق عند وصوله لتلك النقطة، اتجه لفراشه مرتميًا عليه بإنهاك، نظر لسقف الغرفة بشرود متمتمًا بحسرة: انتِ كتير عليا أوي يا ميرانِ...
دلفت غزل لغرفة شقيقتها، لتجدها تجلس على فراشها تبكي، جزعت من مظهرها لتذهب إليها مسرعة وهي تقول: ميران حصل إيه يا حبيبتي، مالك!
لم تجبها بل ظلت تبكي على حالها، احتضنتها غزل وهي تربت على خصلاتها بحنان والقلق ينهش بقلبها، فقالت بنفاذ صبر: قولي يا ميران فيكِ إيه متقلقنيش أكتر من كدا.
هدأت قليلًا لتبدأ في سرد ما حدث وملامح غزل ثابتة مُبهمة، هي تقريبًا تفهمت موقف محمود من شقيقتها، كونها محامية جعلها تضع ذاتها في موضع الآخرون، لذلك كان من السهل معرفة سبب تغيره، ربتت على كفها بحنان مُهدأة إياها: متقلقيش وكفاية عياط، و محمود أنا هتكلم معاه. بس الصباح رباح.
هزت رأسها بالنفي رافضة بشدة، متشدقة وهي تُزيل بقايا دموعها عن أهدابها الكثيفة: لا يا غزل. أنا مش هشحت حب منه.
بررت لها غزل حديثها قائلة بتفهم: أنا بس هفهمه غلطه، وبعد ما أديله كلمتين في جنابه صدريله انتِ الوِش الخشب.
ضحكت ميران بخفوت ممتنة لوجود شقيقتها بحياتها، لتستمع لعتاب غزل التي أكملت: وبعدين مش قولتلك تبطلي كلام معاه علشان ربنا يبارك في حبكوا! طول ما انتِ بتغضبي ربنا وبتكلميه وهو مش حلال ليكِ إعرفي إنك هتتعبي أوي، سواء نفسيًا أو جسديًا، عززي نفسك علشان اللي جاي يتقدملك يعرف إنك غالية وإنك تستحقي التعب.
عضت ميران شفتها بخجل مردفة بخفوت: حاضر والله، بس أنا عملت كدا لإنه كان واحشني أوي.
ضربت غزل كفها بالآخر بيأس وهي تقول: أقولها طور تقولي احلبوه، يا بنتي يا بنتي بقولك عززي نفسك أصوت!
نظر أمامه لجسد زوجته المُلقى على الأرض كالجثة الهامدة والدماء تُحيطها من كل مكان، تجمد جسده ولم يقوى على الحراك، يشعر بأن الكون يقف من حوله وصورة الدماء من حولها لا يذهب عن عينه، نعم لقد رأى ذلك المشهد من قبل، عند وفاة والدته كانت بنفس المشهد، يكاد يجزم من يراه بأنه تمثال من تصنمه، أفاق عندما شعر بتجمهر المارة من حولها، ذهب مسرعًا يدعو الله ألا يكون بنفس الموقف مجددًا، انحنى على قدميه رافعًا وجهها بين يديه، يمرر عينه على ملامحها الساكنة المليئة بالدماء، تحجرت الدموع في عينيه قائلًا بهمس يكاد يُسمع من شدة ضعفه: رنا، رنا ردي عليا يا حبيبتي.
لم تجبه بل كانت غارقة في دمائها، استفاق من غفلته على صوت أحدهم يُصيح به: قوم يا استاذ الحق وديها المستشفى.
هز رأسه بهستيرية كأنه وجد طوق النجاة، وبسرعة قام بحملها وأوقف أحد السيارات صارخًا بعجلة: اطلع على أقرب مستشفى بسرعة يسطا الله يخليك.
انطلق السائق بسرعة جنونية، وما هي إلا دقائق قليلة وأوقف السيارة أمام باب المشفى قائلًا بمواساة: وصلنا يا أستاذ، ربنا يطمنك عليها.
لم يجيبه بل أخذها وولج للداخل بسرعة مناديًا للطبيب: دكتور، دكتور هنا بسرعة.
أسرع إليه الممرضين بحملها، وقاموا بوضعها على عربة الترولي مُدخلين إياها إلى غرفة العمليات.
مر ساعة وأخري والقلق ينهش بقلبه ودموع عيناه متحجرة لا يستطيع استيعاب ما حدث حتى الآن، ظل يدعو كثيرًا إلى أن انفتح باب الغرفة، فذهب إلى الطبيب متحدثًا بلهفة: طمني يا دكتور هتفوق امتي؟
نظر إليه الطبيب متحدثًا بأسف: شد حيلك، البقاء لله.
نظر إليه بصدمة لا يستوعب ما قاله الآن، تركه وولج للداخل بسرعة، وقف أمام جسدها الموصل بالأسلاك وجلس على طرف فراشها ممسكًا بيدها الباردة متحدثًا بذهول: رنا! الكلام اللي بيقوله دا أكيد غلط صح؟ انتي قولتي إن عمرك ما هتسبيني، قولتيلي هتفضلي معايا دايمًا، قولتيلي إنك عمرك ما هتمشي، ليه مش بتوفي بوعدك دلوقتي، ليه عايزة تسيبيني.
ظل يهز جسدها لعلها تستجيب له ولكن لا فائدة، فروحها قد غادرت جسدها تاركة زوجها يلتاع من ألم الفراق، تحدث مرة أخري عندما وجد منها الصمت: طيب بلاش عشاني، قومي عشان خاطر مُدثر، قومي عشان خاطر ابننا.
واخيرًا هطلت دموعه بقوة هاتفًا ببكاء: رنا قومي، قومي عشان خاطر ريان حبيبك، قومي متسبنيش كدا يا حبيبتي، عشان خاطري قومي.
ولكن لا حياة لمن تنادي فها هي جثة زوجته الهامدة، يحتضن جسدها التراب تاركة زوجها وفلذة كبدها وحدهم يخوضون الحياة بدونها.
انتفض ريان من نومته متعرق بشدة، وضع يده على صدره الذي يعلو ويهبط بإنهاك، قام من مكانه ليقف أمام الصورة التي تجمعه بزوجته الراحلة ناظرًا إليها بحنين، متذكرًا حنانها وعشقها التي كانت تغدقه به بلا مقابل، وهو أحب روحها، أحب عشقها له، على الرغم من أن زواجهم كان تقليدي، لكنه بُنيَ على الود والإحترام بينهم، إحترام متبادل، وهي. هي أحبته وهو أيضًا أحبها، ولكن استطرد الله أمانته بعد أن وهبته قطعة من روحها، مدثر. والذي يُمثل له الأبن والعائلة.
والحقيقة الصادمة هنا أنه لا يَمُتُ بِصلة لعائلة النويهي، بل هو ريان الطحاوي، لكن ما الذي جمعه بعائلة النويهي! وما علاقته بهم، لغزٌ مفقود وحلقات تدور حول بعضها، علاقة معقدة تتشكل حول حياته، وها هو يشعر بالخطر يحوم من حوله من جديد.
ذهب لغرفة ولده ليجده نائم ببرائة، جلس جانبه بهدوء مُمسدًا على رأسه بحنان، طبع قبلة رقيقة على رأسه وهو يدعي الله أن يحفظه له، يكفي خسارته لزوجته، لن يستطيع خسارته هو الآخر، حينها فقط سيكون وحيدًا، بلا أهل أو أبناء أو عائلة وحتى زوجة، نفض عن رأسه تلك الوساوس ليقف منتويًا الوضوء لطردها.
نهار يوم الجمعة. يوم التجمع العائلي الخاص بجميع العائلات، حيث يتجمع الأفراد وتدور الأحاديث بينهم بود ومحبة خالصة، بمنزل عائلة أبو زيد، تجمع الجميع بالطابق السُفلي الخاص بالجد الأكبر، جلس الرجال ومعهم زوجاتهم بالغرفة، والأحفاد بغرفة متصلة ولكن على بُعد كبير منهم لكي تسنح لهم الفرصة بتبادل الأحاديث، كانت سجود تحاول عدم النظر لجدها بعدما شعرت بأن نظراته تخترقها، ظنت بأنه علم بصداقتها بأحد أفراد عائلة النويهي، لكنه لم يُصرِح لها حتى الآن بذلك، لذلك تجاهلت نظراته وتشاركت الحديث المرِح مع أبناء عمومتها.
كانت عيناها تجولان على ابن عمها أحمد من الحين للآخر، تتشرب تفاصيله بتمعن، تحتفظ بضحكاته في قلبها، لا تعلم متي وأين أحبته، لكنها غرقت به الآن، أصبحت تحب قربه، لاحظ نظراتها فغمز لها بمشاكسة: إيه يا سوچي بتبصيلي كدا ليه!
توترت عيناها خاصةً عندنا وجه الجميع أنظارهم تجاهها، لتقول بتلعثم: ا. ابدًا. أصل. أصل كنت سرحانة شوية.
لم يكن مقتنعًا بكذبتها لكنه لم يُعقب، التفوا بشكل دائرة، فجلست ميران بجانب غزل و تسبيح و سجود بجانب عابد، وأكمل أحمد نهاية الحلقة الذي أردف بمزاح: أربع نسوان على رجلين. شوفوا الظلم.
وافقه عابد في ذلك وهو ينظر لهيئتهم: معاك حق. ومش أي نسوان، دي نسوان قادرة.
رفعت غزل حاجبها بإستنكار وهي تقول بتحذير لهم: اتمسى انت وهو ويلا نلعب كوتشينة.
تحمسوا للفكرة وبدأ عابد بتوزيع الأوراق عليهم ووضع بعضها على الأرض، ثم بداوا باللعب، بعد وقت قليل صاحت تسبيح بإعتراض موجهة حديثها ل أحمد: لا كدا حرام انت غشاش. جبت الولد الخامس دا منين.
هز أحمد كتفه بجهل مُدعيًا البراءة متمعنًا بالنظر إليها: مش عارف إيه اللي جابه.
لوت ميران شفتيها بسخرية مُعلقة: ليكون بيتكاثر ذاتيًا واحنا منعرفش، متظلمهوش يا جماعة.
ضحكت تسبيح بصوت عالي على حديث ميران تزامنًا مع إرتفاع نبضات قلب أحمد لضحكاتها، ولا إراديًا ابتسم معها، فيصرخ القلب بالعشق والعقل يطلب التقرُب، نظر ل عابد بنظرات مُبهمة، فرغم غيرته الشديدة منه والتي لم يستطيع السيطرة عليها منذُ الصِغر، إلا إنه لا يستطيع كرهه، وفشل أيضًا في منع ذاته من حُب تسبيح.
عابد يُعتبر الأخ الكبير لهم، يعمل ك معلم للغة العربية، هو من اقترحه ل وصال للعمل معه، لتشترك معه في النصب عليه، للحظة شعر بالندم يتخلله ولكنه نفض كل تلك الأفكار عن رأسه، هو معلم ناجح ويأتي لديه كثير من الأموال شهريًا، فلا بأس ببعض الأموال التي لن يُلاحِظ غيابها.
أفاق من شروده عندما صعد صوت المؤذن لصلاة الجمعة، بعدما انتهي ورددوا خلفه أظهرت تسبيح خوفها وهي تسأل بخشية: جماعة انتوا متأكدين إن الكوتشينة مش حرام؟
كم هي بريئة بحق تلك الفتاة، لطالما كانت تخشى فعل الذنوب، هي أكثرهم تدينًا هنا، وملابسها المحتشمة مع خمارها الطويل يشهدان على ذلك، أتاها الرد من غزل وهي تبتسم لها بحنان: لأ يا حبيبتي مش حرام. طالما مش بنلعبها بفلوس وبغرض التسلية، لكن لو لعبناها بفلوس دي تبقي شبه القُمار كدا. لكن احنا بنقضي مجرد وقت لطيف سوا مش أكتر.
أومأت لها براحة، لتقف وهي تُعدل من وضع ثيابها قائلة قبل أن تذهب من أمامهم بعجلة: انا هروح اتوضى بقا علشان أصلي في المسجد.
ذهبت من أمامهم لتنظر سجود إلى شقيقها عابد متحدثة بمزاح: وانت يا أبو لهب مش هتروح تصلي!
حدقها بغيظ غير ناسيًا ما فعلته به بالأعلى وكذبها على والده، ليرمي بالورق على وجهها ثم أمسك بذراع أحمد الذي يتابعهم بتسلية وهو يقول: يلا يابني نقوم نصلي بلا هَم.
تجمع الرجال بالمسجد بصفوف متساوية بعدما استمعوا إلى الخُطبة، قلوبهم خاشعة، نادمين على ما اقترفوه بحق الله، صوت الإمام الخاشع جعلهم يبكون تأثرًا وندمًا، جبالٌ من الهموم أُذيحت عن أكتافهم، راحة شعروا بها بأفئدتهم، سجدوا راكعين لله، ومعهم تسقط ذنوبهم، ذنوبٌ مقصودة وغير مقصودة تُمحى من كتابهم، وقفوا مرة أخري ليبدأ الإمام بالتلاوة المؤثرة.
ليبدأ بتلاوة سورة الزمر بصوت وكأنه آتٍ من الجنة، ثم ردد آية معينة بطريقة غريبة: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.
قام بترديدها ثلاث مرات، ومع كل مرة يزداد صوته خشوعًا وحبًا بتلك الآية، أنهى المرة الثالثة ليسقط أرضًا بعدها، سقط وصعدت روحه تُهلل بنيِّل الجنة، وجهه متبسم يشع ضوئًا، ودموع تهبط فرحًا، أكمل إمامًا آخر محله دون تخريب الصلاة وكان هو طه أبو زيد، وبعدما انتهى، تجمهر الجميع من حوله، منهم من بكى تأثرًا ومنهم من بكى لموته، ليأتي طه بجانبه ويهمس بدموع: طلبتها ونولتها يا شيخ إمام، في الجنة إن شاء الله. إن لله وإنا إليه تُرجعون.
رددها الجميع من خلفه، ثم أخذوا يدعون له بالرحمة، فتبقى السيرة الصالحة من خلفه، وانتهت خاتمته بالحُسنى، انتهى مشواره في الدنيا ليبدأ خلوده في الجنة، فاللهم أحسن خاتمتنا جميعًا.
وسط هذه الأجواء الحزينة في الشارع، ذهب الجميع لحضور مراسم الدفن الخاصة بالشيخ إمام، أتت مكالمة غامضة ل غزل فأجابت عليها مسرعة عندما شاهدت إسم والدها يُنير شاشة هاتفها: أيوا يا بابا!
ليأتيها الرد من رجل غريب: حضرتك صاحب التليفون دا في المستشفى.
إيه مستشفى إيه، طيب أنا جاية حالًا.
وعلى الجانب الآخر، أتت مكالمة ل ريان الذي كان يحضر مراسم الدفن، فأجاب على مضض بعدما تكرر الصوت مرارًا وتكرارًا: ألو.
ابن حضرتك عمل حادثة وهو دلوقتي في مستشفى
بتقول إيه، طيب طيب أنا جاي.
ولتخيط مُسبق صعد كلاهما لسيارة التاكسي بنفس اللحظة ليتحدث ريان بسرعة: مستشفى لو سمحت يسطا.
أومأ له السائق بهدوء، لينطلق متجهًا إلى وجهته، فلمح من بعيد عدد كبير من الضباط، فاقترب وعندما حان دوره، همهم السائق للضابط ببعض الكلمات المُبهمة لاحقها توجيه نظره حيث يجلسون، لاحظ علامات الخوف والفزع المرتسمة على وجوههم، ليأمرهم بالنزول، فكاد ريان أن يتحدث فقاطعه الضابط بصرامة: بقولكوا انزلوا ومش عايز شوشرة.
هبط كلًا منهم من السيارة ليأمر الضابط الشرطي بتفتيش أماكنهم، فعل مثلما أمره وجاء بحقيبة سوداء بلاستيكية بها مادة بيضاء، قطبت غزل جبينها بتعجب وكادت أن تتحدث، ليقاطعها الضابط بسخرية: إيه دا يا روح أمك انت وهي، بتتاجروا في المخدرات والصبح كدا،!