رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع
مرَّ عشرة أيام تحسنت فيهم صحة كُلًا من «إسحاق وسليمان»، وجاء موعد فك جبيرة اليد الخاصة ب«إسحاق»، بعدما أكد له الطبيب أن كل ما كان لديه هو مجرد خدوش عميقة قليلًا كانت تحتاج للعناية، وكذلك قام «سليمان» بفك ما على رأسه بعدما تعافى منها تمامًا.
وها قد جاء اليوم المُنتظر لمدة ثمانية وعشرون عامًا، موعد عقد قِران كُلًا من «مدثر ولوچي»، لا يُصدقان أن هذا اليوم قد جاء بعد عَناءٍ طويل، تلك السنوات التي قضوها معًا قد تبدو للجميع بأنها مجرد أيام عادية مرت، لكن بالنسبة لهم؛ قد كانت حياة.
جلس «مدثر» أمام «فارس» الذي يُمسك بكف يده، وبالمنتصف يجلس المأذون الذي سيقوم بعقد قِرانهم، كاد أن يبدأ بحديثه التقليدي، لكنه صمت عندما سحب «فارس» يده من يد «مدثر» مُتحدثًا برفض: لأ أنا مستحيل أجوَّز بنتي لواحد باسها وهي صغيرة.
تشنج وجه «مدثر» بإستنكار وهو يُطالع «فارس» المُربع لذراعيه، ثم تحدث بسخط: جرا إيه يا عمي! أنت مش جاي تفتكر إني بوستها غير دلوقتي!
أجابه بعناد مُشيحًا بوجهه للناحية الأخرى: أه. وهو دا اللي عندي إذا كان عاجبك، معنديش بنات للجواز.
هبَّ «مدثر» من مقعده ليقف قبالته مباشرةً، ثم أمسك بيده كالطفل الصغير وهو يُتمتم: يلا يا عمي، يلا يا حبيبي عشان أكتب كتابي على بنتك وبعدين ابقى اعمل اللي أنت عايزه.
نفضَّ «فارس» يده منه، ثم تحدث بحدة: أنت كمان بتاخدني على قد عقلي! يعني أنت مش محترمني! طيب طلق بنتي، طلق بنتي بقولك!
لطم «مدثر» على وجهه قائلًا بحسرة: وهو أنا اتجوزتها لسه عشان اطلقها! يا عمي الله يهديك يلا.
أصرَّ «فارس» على قراره رافضًا زواج ابنته وابتعادها عنه: لأ يعني لأ، أنا بنتي مش هتبعد عن حضني أبدًا.
يأس «مدثر» من إقناعه بطريقة تُرضي الجميع، لذلك ذهب ليقف جانب «لوچي» المُتابعة لهم بضحك، ثم أردف يُوجه حديثه ل«فارس» بتهديد صريح: هتجوزني بنتك ولا أبوسها قُدام الكل وتبقى فضيحة بجلاجل! والله أفضحك وأبوسها ونتمسك أداب ونتحبس في زنزانة واحدة، وقتها بقى هعمل اللي أنا عايزه.
فتح «فارس» عيناه على آخرهما، بينما الباقون مُنفجرون في الضحك على تلك المُشاجرة، والتي تحدث دائمًا بين «فارس ومدثر»، صاح «فارس» بصراخ وهو يسأله بغضب: نعم! يعني أنت ناوي تبوس بنتي بعد ما تتجوزها!
أجابه «مدثر» بسخرية: لأ هنلعب تِنس متقلقش.
وبعد محايلات ومُجادلات من الطرفين، خضع «فارس» أخيرًا جالسًا على مقعده مرة أخرى، وقبالته يجلس «مدثر» الذي يُحاول إدعاء الإحترام بقدر الإمكان.
بدأ المأذون بإلقاء الكلمات على آذان الجميع المُتابعين للمشهد بإبتسامة سعيدة واسعة، وها هو بِكر العائلتين يتزوج من حبيبته منذُ الصِغر، بينما «لوچي» تُحاول التحكم في دموعها، تنظر إليه بكل حب وعشق داخلها، وها قد حانت اللحظة التي ستُكتب بها على اسمه، سيتزين اسمها وتكون «لوچي مدثر ريان الطحاوي».
انهي المأذون كلماته قائلًا: بارك الله لكما وبارك عليكما وجميع بينكما في خير.
وما إن أنهي حديثه؛ حتى جذب «إسحاق» المنديل الأبيض بسرعة البرق، مُتحدثًا بضحكة مرحة: عقبالي بعدك يا نِمس.
قهقه «مدثر» بخفة، فذهب «إسحاق» لإحتضانه مُربتًا على ظهره: مُبارك يا حبيب أخوك، عقبال الفرح يا رب.
أجابه «مدثر» بود: حبيبي يا جدع واللهِ.
جاء دور «سليم» الذي قام بإحتضانه هو الآخر، ثم أردف بمرح: يكش نبطل قِلة أدب بعد كدا بقى.
أطلق «مدثر» ضحكات عالية، ثم غمز له مُشاكسًا: عيب عليك لما تقول كدا، أنا طول عمري محترم.
قام «مدثر» بالرد على التهاني والمُباركات من الجميع، حتى جاء دور والده والذي يُحدجه بتأثر، ذهب إليه «مدثر» ثم قبَّل يده بحب شديد، وبعدها احتضنه بقوة.
خرج صوت «ريان» متحشرجًا من جوفه: كبرت امتى يا حيوان! كدا هتعجزني بدري بدري.
ضحك «مدثر» بخفة، مُغمضًا عيناه براحة ومازال في أحضان والده، وكأنه في كل مرة يُعانقه بها؛ يشعر بأنه ذلك الطفل الصغير الذي يحتاج لوجود والده بجانبه دائمًا، ليُقسم بأن والده سيظل هو بطله الأول والأخير.
دفعت «غزل» زوجها قائلة بضجر: ما خلاص يا ريان عايزة أحضن الواد! أنت هتاخده مني ولا إيه!
قهقه «مدثر» بمرح، ثم احتضنها بحب قائلًا بمرح: محدش يقدر ياخدني منك يا غزالة يا قمر.
حاوطته «غزل» وتجمعت الدموع بمقلتاها بكثافة، مُتحدثة ببكاء: كِبرت واتجوزت يا مفعوص، هتفضل أول فرحتي في الدنيا حتى لو مكنتش من لحمي ودمي، بس في الآخر أنت ابني.
حديثها أثر على الجميع، وعليه هو تحديدًا، تذكر معاناتها معه، وإهتمامها به، وخوفها عليه، ومرت ذكرياته معها كشريط سينيمائي يُعرض أمامه، تحدث بتأثر وحب واضح لتلك المرأة التي أفنت حياتها في تربيته هو وشقيقته:
وأنتِ أحسن وأجمل أم في الدنيا، ربنا يديم وجودك ليا أنتِ وبابا.
خرجت من أحضانه عندما استمعت لصوت «لوچي» المتذمر: يعني بدل ما تحضني أنا رايح تحضن عيلتك! دي مش جوازة بقى يا جدع.
ترك «مدثر» الجميع يضحكون، ثم اقترب منها بعبث، ونظرات المكر تتقازف أمام عيناه، مُردفًا بخبث: أنا مش هحضنك بس يا روحي.
وقف قبالتها مباشرةً، لتقول بنفس العبث والوقاحة وهي تضع يدها موضع قلبه: أومال هتعمل إيه تاني يا حياتي!
أخفض وجهه لمستوى وجهها مُقتربًا منها ببطئ، ثم أردف بصوت خفيض ماكر: هقولك بس لما نكون لوحدينا.
كل ذلك وكانت جميع العائلة تتابعهم بصدمة، هذان الأحمقان لم يتم تربيتهم بشكل صحيح، وقحان بدرجة لا تُصَدق، حديثهم العابث والوقح أوقف رؤوسهم عن العمل بطريقة صحيحة، وأول مَن استفاق من غيبوبته كان «فارس»، الذي صرخ به ينهره بحدة: أنت يا ولد يا سافل يا قليل الأدب، ابعد عن البت يلا بدل ما أشرحك.
اعتدل «مدثر» في وقفته مُبتعدًا عن «لوچي» قليلًا، فوضع يد بجيب بنطاله الأسود، واليد الأخرى أمسك بيدها هي بكل تملك، غامزًا ل«فارس» بعبث، قبل أن يأخذ «لوچي» ويخرج من المنزل بأكمله:
بقت مراتي يا حمايا اللذيذ، عن اذنكم بقى عايز مراتي في كلمتين.
قال جملته ثم أخذها من وسط الجميع وغادر بها هابطًا إلى الأسفل، صاح به «فارس» يُناديه بغضب: خُد ياض واخد البت ورايح على فين!
كاد أن يذهب خلفه، لكن أوقفه «ريان» المُنهمك في الضحك على تصرفات ابنه: خلاص بقى يا فارس متبقاش قِفل كدا! وبعدين متقلقش هو هياخدها ويروحوا يتعشوا في مطعم سوا.
جعد «فارس» جبينه بسخط وهو يُجيبه: هو إيه اللي مقلقش! ابنك سافل يا ريان.
أجابه «ريان» بسخرية وهو يلوي شفتيه بإستنكار: على أساس إن بنتك من أولياء الله الصالحين! ما هي زيه يا حبيبي، يعني حَلَّة ولقت غطاها.
كانت «ميادة» تُتابعهم بشرود، فانسلتت من بينهم واتجهت إلى شُرفة المنزل المُطلة على الشارع تنظر أمامها بدون تركيز، وعقلها يدور ويطرح آلاف الأسئلة، وهي لا تجد إجابة سوى الصمت.
شعرت بخطوات من خلفها تتجه ناحيتها، فنظرت بهدوء لصاحب تلك الخطوات، فوجدته هو، «سليمان» يتجه إليها بإبتسامة واسعة مُمسكًا بيديه كوبين من الشاي بالنعناع، وضع الأكواب على الطاولة ثم وقف قبالتها قائلًا وهو يُشير للطاولة: كوبايتين شاي بالنعناع بس إيه مزاج يا بت دودي.
رسمت إبتسامة خفيفة على ثغرها وهي تُحاول قدر الإمكان عدم النظر إليه حتى لا تفضح عيناها أمر عشقها الخفي له، أمسك بكوب من الشاي ماددًا يده إليها: اتفضلي يا ستي.
أخذته منه تشكره بصمت، ثم ارتشفت منه القليل ولم تتحدث، لذلك بدأ هو حديثه الخافت: أقولك سِر وتساعديني فيه بس متقوليش لحد؟
انقبض قلبها خوفًا، تشعر بأن الحديث القادم لن يُعجبها، لا هي ولا قلبها، ورغم ذلك تسائلت بإرتعاش: سِر إيه؟
نظر «سليمان» حوله يتأكد من خُلو المكان من أي فرد من أفراد عائلته، فتوقف بنظراته عليها وهو يُجيبها بخفوت: موضوع خاص بأختك زينب.
حاولت السيطرة على دموعها بقدر الإمكان، هي بأي لحظة ستنفجر في البكاء حقًا، تشعر بقوتها تخفت تدريجيًا، لكن مع حديثه الأخير حدجته بصدمة ظهرت واضحة على محياها:.
فيه واحد صاحبي مُعجب بزينب، وهو بصراحة محترم جدًا، وطلب مني إني أفاتح عمي شهاب بس مش بلاقي فرصة مُناسبة أفاتحه فيها.
رمشت عدة مرات تنظر له ببلاهة، تُحدج به وكأنه كائن فضائي غريب المظهر، ما هذا الهراء! لقد ظنت بأنه سيعترف بعشقه لشقيقتها! لكن ذهب كل هذا هباءً الآن، ألا يُحبها مثلما كانت تظن!
لحظة، والثانية، وكانت تنفجر في البُكاء المرير، هي تكرهه. بل تحبه، لِما جعلها تعيش ذلك الشعور السئ! هو نذل وحقير وأحمق، هكذا همست داخلها وهي تستكمل وصلة بكاؤها.
بينما هو كان ينظر لها بصدمة شديدة، لا يعلم ما عليه فعله، لما تبكي الآن! ماذا قال هو لتنفجر هكذا دون سابق إنذار، خرج صوته تائهًا وهو يسألها بقلق: مالك يا ميادة! بتعيطي ليه!
وضعت يدها على وجهها تُخفي وجهها، فتحدثت بصوت مكتوم من بين شقهاتها: أنا بكرهك، أنت حيوان، وحقير، و...
قاطعها وهو يُشيح بيده أمام وجهها بضجر: لأ حيلك حيلك، مالك يا بت أنتِ! أنتِ دماغك تعبانة!
ظلت تبكي قليلًا حتى هدأت شهقاتها تمامًا، وهو فقط يُتابعها بشعور ما بين الضجر والقلق عليها، أراد التخفيف عنها لذلك تحدث بمزاح: ميادة أنتِ مريضة نفسيًا! يعني بني آدمة بكامل قواكِ العقلية!
توقفت عن البكاء ناظرة له بحدة، ثم مسحت دموعها مُجيبة إياه بقوة: وأنت مالك أنت!
أجابها بردح: مالي في جيبي يا روح خالتك، لأ بقولك إيه اقفي عِوج واتكلمي عِدل، بدل ما وربي أجيبك من شعرك.
قهقهت بخفة عليه، وهي تمسح أثار دموعها المُتعلقة بأهدابها، أمسكت بكوب الشاي الذي وضعته عندما بدأت في البُكاء، ثم ارتشفت منه القليل لتُسيطر على ذاتها، استدارت له عندما سألها بهدوء: مالك يا ميمو؟ كنتِ بتعيطي ليه!
حمحمت بحرج ولا تعلم بما تُجيبه، أتُخبره أنها كانت تبكي لسعادتها! سيقول أنها بلهاء بالتأكيد، لذلك هزت رأسها بنفي راسمة على ثغرها إبتسامة لطيفة: ولا حاجة متشغلش بالك، أنا كويسة.
يابت قوليلي دا أنا ستر وغطا عليكِ، قولي قولي، ما هو أنا مش هسيبك غير لما تتكلمي.
ضجرت من كثرة حديثه فحدقت به بإستنكار، وكادت أن تخبره بأنها تمر بفترة عصيبة فقط، لكن غيرت خطتها وقررت إخباره بمشاعرها ولكن بطريقة غير مُباشرة، سحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل، ثم بدأت حديثها ب: بحب واحد من فترة كبيرة، وهو حلوف مش بيحس.
ركَّز على حديثها مُوليًا كامل انتباهه لها، فتحدث مُشجعًا إياها على الإكمال: وبعدين؟
استرسلت حديثها مُحيطة بالكوب تمتص منه دفئه وهي تتحاشى النظر إليه: مش عارفة إذا كان بيحبني ولا لأ، خايفة يكون بيحب واحدة تانية غيري، خايفة يروح مني.
أجابها ببساطة وهو يهز كتفه بلامبالاة: خلاص روحي اعترفي ليه.
رفعت بصرها إليه بصدمة تُحدجه بإستغراب شديد، هذا ليس حديث «سليمان» أبدًا، فشخصيته غيورة على فتيات عائلته لأقصى درجة، ماذا تغير الآن يا تُرى!
انتبهت له عندما أكمل حديثه بحماس: بصي هنعمل برو ا، اعتبربني أنا حبيبك المجهول دا واعترفي ليه بِ حُبك.
طالعته بصدمة ثم هزت رأسها بنفي: بطَّل هبل يا سليمان إيه اللي أنت بتقوله دا؟
أصرَّ عليها بشدة مُحاولًا إقناعها: يلا بس. أنا بحاول أساعدك.
رفضت ما يقوله مُغمضة عينها بقوة وهي تهز رأسها بنفي: لأ لأ مش هعمل اللي بتقول عليه دا.
يا بنتي متبقيش نكد كدا، أنا بحاول أسهَّل عليكِ الموضوع.
ومع إصراره الشديد وافقت على مضض، بينما هو اتسعت ابتسامته بشدة وهو يُصيح مُهللًا: أيوا كدا شطورة، يلا ابدأي.
شعرت بالتوتر، بالتخبط، بالخوف، والخجل، ورغم أنها على علم بعدم معرفته بشئ، إلا إنها تشعر بالحرج منه وكأنه يعلم، خرج صوتها مُتلعثمًا وهي تردف بإرتعاش: ب. ب. بحبك.
وأنا كمان.
أجابها على بغتة وها قد تحولت نظراته تمامًا، من الحماس، إلى أخرى عاشقة، شُلت أطرافها، وتصلب جسدها مكانه بعدم تصديق، تعلم بأن هذا من ضمن الخطة التي يتبعها، لكن كان لتأثيرها أثرًا غير متوقع على قلبها المسكين.
اقترب هو منها غير مُبالي بحالتها، ثم همس بجانب أذنها بخبث بما جعل أطرافها ترتعش: مش عيب عليكِ لما تحبيني الحب دا كله وتخبي عليا وعلى قلبي المسكين دا؟
ثَقُل تنفسها وشعرت بالدوار يجتاحها، انقبض قلبه عندما رأى ترنحها، فسحب الكوب من يدها قبل أن يسقط منها قائلًا: يلهوي الكوباية هتنكسر!
طالعته بسخط وهي تُحاوا بقدر الإمكان السيطرة على الدوار الذي أصابها، فخرج صوتها ضعيفًا خافتًا: هو. هو أنت قولت إيه أصل أنا مسمعتش.
تحولت نظراته للخبث، ثم تشدق وهو يُحدجها بهيام: بقولك إني بحبك يا بنت شهاب، بحبك ومحدش سمَّى عليا.
صمت «سليمان» قليلًا مُتابعًا إنفعالات وجهها، ثم استكمل حديثه قائلًا: كنت مفكرك مبتحبنيش وعشان كدا كنت ببين عكس اللي حاسس بيه، بس ربنا يباركله اللي رجعني لدماغي، وقالي إنك كمان بتحبيني وأنا مش حاسس.
كل تلك الإعترافات كثيرة على قلبها، لم تُجيبه، ولم تجد ردًا سوى الهروب، هربت من أمامه ومن نظراته التي تُعريها أمام نفسها، تابع أثر ذهابها بإبتسامة والهة، واضعًا يده موضع قلبه النابض بإسمها.
شعر بكف غليظة تُوضع على كتفه، فإستدار ليجده «إسحاق» يُطالعه بإبتسامة سعيدة واثقة: مش قولتلك إنها بتحبك!
احتضنه «سليمان» بسعادة مُهللًا بفرح: روح ربنا يباركلك يا شيخ، دا انا كنت معمي ومش شايف قدامي.
بادله «إسحاق» العناق مُردفًا بمزاح: عشان أهبل، البت باين عليها بتحبك وأنت غبي وعامل نفسك أهبل.
ابتعد عنه «سليمان» ثم قال بإبتسامة واسعة: أنا هروح أفاتح عمي شهاب في موضوعنا وإني عايز اتقدم لميادة في أقرب وقت.
وصل كُلًا من «مدثر ولوچي» إلى أحد المطاعم الراقية الموجودة بالمدينة، ترجل «مدثر» أولًا من سيارته، ثم التف للناحية الأخرى ليفتح بابها لها بلطف، أمسك بكف يدها يُحثها على الهبوط.
أمسكت باليد الأخرى بفستانها الكريمي الواسع من الأسفل، ثم رفعته قليلًا عن مستوى قدمها ثم هبطت من السيارة، ابتسامة عاشقة ارتسمت على ثغره للمرة الأولى بعد الألف عندما رأى هيئتها الخاطفة، لقد سلبته للمرة التي لا يعلم عددها، وبكل مرة يقع صريعًا لهواها.
خرج صوته مُنهكًا من عشقها: مش معقولة كل مرة أبصلك فيها أحبك أكتر من الأول كدا!
أحنى ذراعه قليلًا، فوضعت هي يدها بين ذراعه ليُحيطها، ثم دلفا للداخل لبدأ تناول عشائهم، وصلا للطاولة الذي احتجزها منذ عدة ساعات، فأبعد كرسيها لتستطيع الجلوس عليه.
مرت نصف ساعة تناولا فيها طعامهما، وتبادلا فيها الأحاديث العاشقة، وها قد جاءت فرصته للتعبير عن شغفه بعد أن أصبحت حلاله، عَلىَ صوت الموسيقى فأخذها من يدها ثم وقف بالمنتصف يُراقصها أمام الجميع.
خجلت هي لفعلته خاصةً عندما أحاط بخصرها وبدأ بالميل على ألحان الموسيقى الهادئة، تحدث بصوت خفيض حرج: مدثر مينفعش كدا الناس بتبص علينا.
أمسك بيدها التي ترتدي بها دبلتها، ثم قبَّل موضع خاتم زواجهما قائلًا بعشق: ودي لازمتها إيه! خلي اللي يتفرج يتفرج، دلوقتي مفيش غيري انا وأنتِ وبس.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على محياها وقررت التماشي مع جنونه، فيكفي ما يظهر بعينه تجاهها، لا يخجل من إظهار حبه أمام الجميع، أغمضت عينها بإستمتاع عندما استند برأسه على كتفها، تلاه همسه المُحِب لقلبها: بحبك، ولو فيه كلمة توصف إدماني بيكِ فأنا بعشقك.
أجابته بذاتِ الشغف وذاتِ العشق: وأنا بموت فيك.
تغيرت الموسيقى وجاء بدلًا منها أغنية تصف حالتهم تمامًا، جعلتهم يهيمون أكثر، لكن لم يصمت «مدثر» عند ذلك، بل قام بالغناء معها يُوجه لها كل كلمة تُقال:
وماله لو تُوهنا بعيد وسيبنا كل الناس...
أنا يا حبيبي حاسس بحب كبير، ماليني دا الإحساس.
وأنا هنا جمبي أغلى الناس، جمبي أغلى الناس.
حبيبي ليلة! تعالى ننسى في اللي راح، تعالى جوا قلبي وارتاح...
انتهت الأغنية ومعها استمعا لتصفيق حار من جميع الموجودين، بل وجميع هواتفهم موجهة ناحيتهم تُسجل رقصتهم سويًا، لقد رأوا ذلك الحب المُشيد والمنسوج بين قلب الإثنان، عشقهم يظهر للعِيان، وتناسجهم يُوضح هيامهم.
عضت «لوچي» على شفتها بخجل مُتحاشية النظر للجميع، بينما سدد لهم «مدثر» ابتسامة مجاملة للجمهور المُلتف حولهم، فمال على أظن «لوچي» يسألها بمزاح: تيجي نهرب!
اتسعت ابتسامتها، ثم أومأت له موافقة، ليلتقط يدها بين كفه ثم هرول بها من بين جميع الموجودين يختفون من أمامهم، وضحكاتهم تعلو الأرجاء من حولهم.
صدح هاتف «عدي» يصدح بصوت عالٍ في الأرجاء، فانتشله من حالة الهيام التي تُسيطر عليه بوجودها، أخرج «منار» من أحضانه مُنحنيًا قليلًا للأمام؛ ليلتقط الهاتف من على الطاولة أمامه، ثم عاد لمحله مرة أخرى، جاذبًا إياها مُجددًا لتستقر داخل أحضانه.
نظر لإسم المتصل فوجده «إسحاق»، ليُجيب عليه بهدوء وهو يُربت على خصلاتها السوداء الناعمة بحنان: أيوا يا إسحاق!
جاءه صوت «إسحاق» الخبيث مُرددًا: فينك يا كبير! اختفيت أنت والمدام بعد كتب الكتاب ومحدش عارفلكم طريق.
ارتسمت ابتسامة طفيفة على ثغر «عدي» وهو يُجيبه بمشاغبة: ملكش دعوة ياض، انجز عايز إيه!
أتاه صوت «إسحاق» الماكر مُخبرًا إياه بخبث: كل خير يا حبيبي، طالعين عاركة دلوقتي، هتيجي معانا ولا فاكس!
صدحت ضحكات «عدي» عاليًا ثم أجابه بمكر وهو يعتدل بمكانه: لأ فاكس إيه! معاكم يا حبيبي، ربع ساعة وهكون عندكم.
فُل يا زميلي، مستنينك.
أملاه «إسحاق» المكان المُتجمعين به، ثم هاتف «مدثر» أيضًا، والذي كان في طريقه للعودة إلى المنزل مع «لوچي» بعد قضاء وقت طويل ومُمتع معًا، وكان مع «إسحاق» في جلسته يوجد «يزن الراوي، رياض البدري، وسليمان»، بعدما قرروا جميعًا الثأر لحق «سليمان» من ذلك الجزار الذي ضربه على رأسه.
بعد نصف ساعة تقريبًا، تجمع الست شباب معًا يُخططون للإنتقام، ها قد جاءت فرصتهم على طبقٍ من ذهب، الساعة مازالت لم تتعدى العاشرة مساءًا، ومواعيد عملهم مازالت مُستمرة، هُنا وتحدث سليم يُملي عليهم خطتهم التي سيسيرون عليها حتى لا يقعوا في مأزق:.
سليمان قال إن اللي كانوا مع الولد كان عددهم تقريبًا أربعة، واحنا ستة، يعني احنا اللي غالبين بإذن الله، هنحمي ضهر بعض، مش عايزين أي تخلف، دول جزارين والغلطة معاهم بموتة، تمام يا رجالة!
رددوا جميعًا في صوتٍ واحد: تمام يا شقيق.
رفع رأسه للأعلى مُحدجًا إياهم بفخر، ثم أردف بغرور: بينا يا رجالة.
أنهى حديثه، فاستقلوا جميعهم سيارة واحدة بالكاد أخذتهم، فجلس «سليم» أمام عجلة المقود، وبجانبه «مدثر» الذي هرول للجلوس جانبه، وبالخلف جلس كلًا من « إسحاق وعدي وسليمان» ولم يتبقى سوا «رياض» الذي وقف مُتخصرًا بمكانه، ثم أردف بإستنكار: وحياة أمك أنت وهو! وأنا هقعد فين إن شاء الله!
أشار له «سليم» ببرود قائلًا: اقعد على رِجل سليمان وانجز.
انتفض «سليمان» صائحًا بسخط: واشمعنا سليمان بقى إن شاء الله! وبعدين مين دا اللي رقعد على رجلي! دا زي العِجل بكرشه دا.
نعم نعم! نعم نعم! نعم نعم! نعم نعم! هو مين دا اللي بكِرش يا بأف أنت! أنت مبتشوفش ولا إيه! دا أنا حتى رجل وسيم ذو جسد رياضي.
حدجه الجميع بإستنكار ناظرين لمعدته الممتلئة حقًا، قصاح «سليم» به بنفاذ صبر: هتنجز تركب ولا نسيبك ونمشي!
وافق «رياض» على مضض، ثم أردف بإبتسامة خبيثة: هركب، بس على رِجل إسحاق حبيبي.
وما كاد «إسحاق» أن يعترض، حتى وجده يقفز على قدمه جالسًا عليها بإسترخاء، تبعه بقوله الشامت مُتصنعًا الرقة: هاي يا بيبي.
طالعه «إسحاق» بإشمئزاز، ثم أجابه تزامنًا مع هبوط كف يده العريض على ظهره بقوة: هاي يا قلب البيبي. يارب. تكون. الخدمة. عجباك.
كان يضرب على ظهره بغل بين كل كلمة وأخرى، تأوه «رياض» بقوة ثم لكمه في وجهه يصرخ به: إيدك يا حيوان.
وضع «إسحاق» يده على وجهه موضع لكمته، ثم سأله مشدوهًا: أنت بتضربني!
أنهى تساؤله ثم هبط على وجهه بلكمة قوية من يده، أدت إلى ترنحه للخلف على قدم «عدي»، طالعه «عدي» بشماتة مُربتًا على وجهه أثر لكمة «إسحاق»، ليقول بضحكة مكتومة: معلش يا بيضة، تعيشي وتاخدي غيرها يا جميلة.
كان الجميع يُتابعهم بإبتسامة حاولوا قدر الإمكان إخفاؤها، لكن مع قول «عدي» الأخير انفجروا في الضحك، حرك «سليم» رأسه بيأس على أفعالهم الطفولية تلك، مُركزًا على الطريق أمامه، وشرد عقله بها هي، تلك الفاتنة التي آسرته بمشاكستها وحديثها العفوي!
بعد نصف ساعة؛ وصل الجميع إلى وجهتهم، ليترجلوا من السيارة بمظهر مُهيب للأنفس، وللمصادفة فجميعهم يرتدوا نفس الثياب تقريبًا؛ قميصًا من اللون الأسود مع بنطالًا نفس لون القميص، فأعتطهم رجولية مُفرطة.
استداروا جميعًا على شكل دائرة، وهنا تحدث «مدثر» بجدية يدعمهم بقوله: هنخش عليهم، اي حد هيعصلج معانا هننزل فيه ضرب، مش عايزة حِتة في وشهم سليمة، هنحمي بعض، عايزهم لما يشوفونا بعد كدا يموتوا من الرعب...
وبعد خمسة دقائق، كان «سليمان» يصرخ كالنساء طالبًا النجدة منهم: الحقوني. ماسكين سكينة يالهوي.
لطم «مدثر» على وجهه وهو يُهرول، يُحاول أن يجد مكانًا للإختباء به: الحقني أنت. هموت. كتب كتابي كان النهاردة. سيبوني أعيش يا ولاد ال.
بينما «عُدي» كان قد وقع بين يد أحدهم، فهزه بطريقة أثارت دورانه وهو يسأله بغلظة: بقى شوية عيال معاتيه زيكم يلا جايين يضربونا في وسط حارتنا!
أجابه «عدي» وهو على وشك البكاء: نضرب مين بس يا معلم أنت فهمت غلط، احنا كنا جايين نشتري لحمة واختلفنا على السعر مش أكتر.
شايفني عيل صغير يلا! دا انتوا سنة أبوكوا سودة السنادي.
أمسك «عدي» بكفه الغليظ يُحاول ردعه عن رأيه، قائلًا برجاء: أبوس إيدك فرحي آخر الشهر، يرضيك أموت قبل ما أتجوز!
أجابه ببرود لاكمًا إياه في عينه لكمة قوية أطاحت بجسده: أيوا يرضيني.
بينما كان هناك رجلين يُمسكان ب«سليم» المُهتاج، والذي يصرخ بأصدقائه قائلًا: يلعن أبو معرفتكم الهباب يا أخي، أبقى راجل وسخ لو اتقابلت مع أشكالكم العِكرة دي تاني، انتوا عارفين أبويا لو عِرف إني اتمسكت الماسكة المُهزأة دي هيعمل فيا إيه! وعهد الله هيبيتني في أوضة الكلب يا ولاد ال.
صعد صدره صعودًا وهبوطًا بغضب مُحاولًا الإفلات منهما، لكن محاولاته بائت بالفشل، وذلك لضخامة أجسادهم، حوَّل بصره تجاه «رياض» الذي يجلس على مقعد القهوة يرتشف قليلًا من الشاي مع أحد أخوة هؤلاء التيران المُتحركة: وبس يا سيدي، فضلت أقولهم مينفعش اللي هتعملوه دا، دول مهما كانوا ناس محترمة وأكيد سليمان هو اللي قليل الأدب بس مسمعوش كلامي.
لوى «بدير» شفتيه بأسى ثم نظر لأشقائه: بيني وبينك أخواتي دول مفتريين، أنا الطيب اللي فيهم، زي ما تقول كدا جيت بينهم غلط.
صحح له «رياض» حديثه قائلًا: قصدك إنك بسكوتة العيلة يعني!
أكد له بحديثه المُتحسر: وبسكوت نواعم وحياتك.
كاد «رياض» أن يُجيبه، لكنه استمع إلى صوت «سليم» المنادي له بهياج: أنت بتعمل إيه يا حيوان!
أشار تجاهه مُوجهًا حديثه ل«بدير»: شايف المُعاملة!
وما كاد ان يُجيبه «بدير» هو الآخر، حتى استمع إلى صوت أحد اخوته: ورب محمد يا بدير بعد ما نخلص لهعلقك مكان اللحمة دي بس الصبر، يا عاق.
أشار «بدير» هو الآخر تجاه شقيقه قائلًا بأسى: شايف نفس المُعاملة!
قاطع ذلك العِراك الدائر صوت كبير المنطقة، والذي لم يكن سوى والد هؤلاء الرجال يُصيح بهم بقوة وهو يضرب بعصاه بحدة على الأرض: إيه اللي بيحصل هنا دا!
صدح صوت أحد الأخوة يهتف بإحترام جلي لأبيه: يابا العيال دي كانوا جايين في حارتنا ومطرحنا وعايزين يضربونا.
خرج مدثر من خلف أحد الطاولات التي كان يختبأ خلفها، ثم صاح بنفي وشعور الظلم يتلبسه: كِدب، دا كله كِدب، احنا كنا عايزين لحمة عشان نعمل حواوشي، بس هما فهمونا غلط منهم لله.
أشار له «يعقوب» بغضب وهو يتحدث لأبيه: شايف يابا! والله لو ادتني الإذن هروح أكسر دماغه دلوقتي.
حدجه أباه «هارون» بحدة، ثم أردف بغضب مُوجهًا حديثه لأبناءه: إيه البلطجة اللي بقيتوا فيها دي! سيبوا العيال يلا أنت وهو.
اعترض «يعقوب» بأدب: يابا بس...
قاطعه «هارون» بأمر قاطع: مبسش. سيبوا العيال قولتلكم. وأنا ليا تصرف تاني معاكم.
ترك الرجال الشباب جميعًا، فصاح «عدي» بألم وهو يُشير لوجهه: شايف يا حاج ابنك عمل إيه في عيني! حسبي الله ونعم الوكيل، الواحد عشان ياكل أكلة حواوشي يتضرب كدا يا عالم! يتضرب كدا يا خلق!
قاطعه «هارون» ناظرًا له بسخرية: خلاص ياخويا متبقاش عامل زي المرا النتاتة كدا، أنا عارف إن ولادي مبيكدبوش، بس خليتهم يسيبوكوا رأفة مني بس.
حمحم «عدي» بحرج، فجاء إسحاق مُتحدثًا بشماتة جانب أذنه: جبهتك طارت.
حدجه «عدي» بسخط قائلًا: اسكت أنت خالص وشوف جبهتك سابتك وراحت فين وأنت متعلق على باب المحل.
عض «إسحاق» على شفتيه من الداخل بغيظ ولم يُجيبه، بل اكتفى بتسديد نظرة حارقة له جعلته يود أن ينفجر في الضحك.
وقف «سليم» أمام «هارون» قائلًا بغضب: يعني ينفع اللي ولادك عملوه دا يا حاج!
صعد صوته قائلًا برزانة: أولاد هارون مبيغلطوش غير في اللي غِلط فيهم، ولو غير كدا وليكم حقك فهو عندي.
تحدث «سليم» مُشيرًا لصديقه: واحد من عيالك من عشر أيام ضرب صحبي على دماغي، وفضل محجوز في المستشفى أسبوع، كدا لينا حق ولا ملناش يا حاج!
نظر «هارون» لأبنائه السبعة مُتسائلًا: مين فيكم اللي عمل كدا!
ابتلع أحدهم ريقه خوفًا من والده، ثم أردف بتذبذب: أ، أنا يابا. بس دا زعق للواد ا...
قاطع حديثه صوت والده الصارم: أنت تخرص خالص.
ثم نظر ل«سليم» وجميع الشباب قائلًا: وزي ما قولتلكم حقكم عندي، بس ابني غِلط هحاسبه بيني وبينه مش قدام الناس.
أومأ «سليم» بموافقة، ثم أردف بإمتنان: تسلم يا حاج. عن إذنك.
إذنك معاك يابني.
ذهب الشباب وصعدوا للسيارة بالطريقة التي جاءوا بها، التفت «سليم» الذي كان يجلس أمام عجلة المقود ل«رياض»، مردفًا بتوعد: حسابك معايا بعدين، وعهد الله ما هحلك.
لوى «رياض» شفتيه بسخط مُتسائلًا بحنق: وأنا عملت إيه يعني!
مرَّ يومان أخران، كان «مدثر» حينها يخرج من محل الصاغة الكبير الموجود بالمدينة، مُمسكًا في يده سلسال يحمل اسم «لوچي»، لقد وصى عليه مخصوصًا منذ عدة أيام؛ ليُعطيه لها في يوم ميلادها القادم، والذي يكون في الغد.
كان في طريقه تجاه سيارته، لكن قاطع سيره هو ظهور هؤلاء الشباب الذين قام بضربهم منذ عدة أيام هو و«سليم»، وما كاد ان يتحدث حتى أخرج أحدهم ماديته غارزًا إياها في معدته بقوة، وبعدها هربوا بدرجاتهم النارية، تاركين إياه غارقًا في دمائه.