رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثاني عشر
هل كان من أجلي؟
أقسمت ألا أغفر ما فعلت بي
ولم يجبرني سواك أن أحنث بقسمي
لم أفعلها إلا من أجل ما فعلت من أجلي
أن يقف أحدهم أمام جميع من رماك بما لم تفعل ويقول أنك صادق هو العالم بأكمله.
أن يقف ويخبر كل من ظلمك أنه لا يصدق سواك قادر على سلب فؤادك حتى نهاية كل شيء، حتى تفنى.
هذا الجمع يشهد ما هو محفز للأعصاب، كان الجميع متحفز وهو يرى ما يحدث خاصة بعد اعتراف خيري الملقى على الأرضية بأن جابر هو من حرضه على نشر هذا الحديث، تبع هذا دخول نصران برفقة ابنه حسن ويتبعه جابر و منصور، استدار الجميع ليرى خاصة حين نطق أحدهم: الحاج نصران هناك اهو، وجابر كمان.
كان الحشد يغطي على طاهر فلم ير والده ومن برفقته ما يحدث واستغل طاهر الوضع حين نبهه أحدهم أن جابر هنا فأسرع يجذب خيري ويلقيه داخل محل هادية مغلقا الباب خلفه بعد أن تركه بمفرده.
عاد من جديد يتوسط الحشد، الذي بدأ في إفساح الطريق للقادم، وصل نصران و حسن وجوارهم منصور وابنه وهنا فقط أردف منصور: ادينا جينا أهو يا حاج نصران، ايه اللمة دي كلها وايه اللي جرا.
كان هذا قول منصور الذي وصله اتصال من حسن يطلب منه الحضور إلى هنا برفقة ابنه، أخبره أنها دعوة من والده، لم يكن ليأتي إلا مع إلحاح ابنه، ابنه الذي لم يتوقع أنه سيجد هذا الحشد، توقع أنه سيأتي لمنزل هادية ويتحدثوا بهدوء عما يدور على ألسنة الجميع في القرية والنهاية متعارف عليها، سيطلبوا منه الزواج بها تجنبا للنهش في عرضها، سيحقق مراده ويجعل وجودها مع طاهر مستحيل بعد تشويه سمعتها، ويتدلل هو في قبول الزواج منها أمامه، بل ويرفض للحظات لقتل فؤاد غريمه، هذا ما ظن أنه سيحدث ولكنه تفاجأ، وكذلك كان والده الذي لم يرد الحضور إلى هنا أبدا ولكن فضوله لمعرفة سبب الدعوة وإلحاح ابنه جعله يرضخ.
كان وجه طاهر مكسو بالغضب الشديد، عروقه البارزة وجهه المكفهر، طالعه جابر بتحدي غير أبها بأي شيء حتى قال طاهر بنبرة عالية: طب كويس صاحب الشأن جالنا بنفسه أهو.
اتسعت عينا منصور بفضول شديد وحل الصمت عدا صوت طاهر الذي وجه سؤاله للسيدة التي تشاجرت مع هادية في الصباح: ما تقوليله يا ست، قوليله اللي قولتيه للحاجة هادية الصبح.
بان التوتر على وجهها وخاصة بعد هذا السؤال، كان حديث متقطع صدر عنها بصعوبة: أنا بس كنت بنبهها والله.
ابتسم طاهر بتهكم وقال هو بنبرة عالية بدلا عنها: طالما الجبن مسكك دلوقتي ومش قادرة تقولي زي ما كنتِ بتقولي وتلعلعي من شوية فهتكلم أنا، أدار نظراته المتوعدة ناحية منصور وابنه متابعا: البلد كلها يا جابر بتتكلم على شهد، بتقول إنها مرافقاك...
دفعه من فرط انفعاله صائحا: قولهم يلا يا راجل إن ده مش صح.
ما يحدث هنا لم يكن ما درسه وخطط له أبدا، رفع رأسه فوقعت عيناه عليها كانت تطالعه بمقت شديد تحمله ذنب ما حدث، كان والده في حالة من الذهول لما يحدث وسمع نصران الذي حث جابر: قول يا جابر كلمتك.
لم يأبه أمام كل هذا الحشد أن يطعن في عرضها ويزيد من الشكوك حولها وهو يقول لطاهر بتبجح: بعيد عن الكلام ده كله أنا عايزها وهتجوزها ونلم الفضيحة دي.
أتى صوت عيسى من الخلف ساخرا: دي فضيحتك يا حيلة أبوك.
أتت جملته بعد تخلصه من الضابط الذي سأم من الدخول وخاصة مع وقوف أهل البلدة معه فرحل وقال له عيسى أثناء ذلك الرحيل: متقلقش يا باشا، نخلص بس ونمشي الناس ونصيبك من الدبيحة هيجيلك.
بعد مغادرة الضابط دخل من وسط الجمع حيث والده و من برفقته ليسمع جابر يقول هكذا فكان هذا رده عليه الذي استنكره منصور بغضب: شوف ابنك يا حاج نصران.
وجذب ذراع جابر متابعا بانفعال: وأنا كمان هشوف ابني اللي جاي عايز يلم فضيحة غيره ويعرني.
كان حديث ميار يرن في أذنه عن أخلاق شهد الغير منضبطة ودفعه هذا لسؤال ابنه: عايز تتجوزها وهي فضيحتها على كل لسان؟، ومن قبلك كمان؟
لم تستطع منع نفسها فصاحت من الأعلى بنبرة وصلته: مش عيب على سنك تخوض في عرض واحدة ما شوفتش عليها حاجة.
لم تخش أحد وهي تبصق عليه وتقول: اتفو عليك راجل ناقص.
رفع نصران رأسه وطالع هادية يحثها على إصمات ابنتها حتى ينتهي هو من كل شيء، لم تكن معه شعرت بأنها أخر أنفاسها وستفنى بعدها، كانت مريم جوارها تحاول تهدئتها، و ملك من الجهة الأخرى تحاول مواساة شقيقتها وهي تراقب ما يحدث وانتبهن ثلاثتهن حين سأل طاهر: قولي يا حاج منصور شوفت عليها حاجة تخليك تقول إن فضيحتها على كل لسان ومن قبل ابنك كمان؟
لم تقل حدة نظراته أبدا وهو يرد على حديث طاهر: لا مشوفتش، بس سمعت ومن ناس تعرفها كو...
قاطع حسن قوله ناطقا باستهزاء: عيب عليك يا حاج منصور، ده حتى المثل بيقول يا عين مشوفتيش يا ودن متصدقيش.
طب أنا هجبلكم العين اللي شافت وعلشان أسمع المحروس ابني كمان.
كان هذا قول منصور الذي أخرج هاتفه واتصل على زوجة ابنه، استغربت ندى المكالمة ولكنها ردت فبادر هو: ألو يا ندى، بنت عمك روحت؟
قصد ميار التي كانت تجمع أشيائها للمغادرة إلى منزلها قبل أن يأتي إلى هنا وحمد الله حين ردت ندى: لا يا عمو لسه أنا هوصلها أهو.
متوصليهاش، هاتيها وتعالي على عند الحاج نصران وواحد من اللي واقفين على المدخل هيجيبكم.
قول غريب للغاية ولم تستطع معرفة السبب أبدا، أصبحت تأخذ الحذر من والد زوجها كثيرا وخاصة حين كانت تحاول سرقة ما كتبه والدها على نفسه من خزنة منصور وسمعت صوت سيارته في الخارج، لا تعلم كيف استطاعت اغلاقها بسرعة والهرولة نحو الخارج، كانت حركاتها مرتبكة وهي تعيد غلق باب الغرفة بالمفتاح وتسمع في نفس اللحظة اقتراب خطوات والد زوجها، وما إن انتهت حتى هرولت إلى المطبخ المجاور لغرفة المكتب تحتمي بأركانه في اللحظة ذاتها التي دخل فيها إلى المنزل والد زوجها، وقفت تلتقط أنفاسها بصعوبة، هي تعلم أن منصور يراقب أقل حركاتها خاصة بعد وضعها للحبوب في قهوة ابنه حتى تظهره بمظهر المختل أمام أهلها، فاقت من شرودها وتوجهت إلى غرفة ابنة عمها حتى تحثها على الذهاب معها إلى حيث طلب منها.
في نفس التوقيت لم يفهم جابر سبب اتصال والده بزوجته وطلبه منها إحضار ابنة عمها لذلك قال بضجر: يا حاج نصران الله يكرمك لم الليلة دي وأنا هتصرف مع أبويا، وأنا قولتلك عايزها وهتجوزها.
ردعه منصور بقوله الغاضب: وأنت مين علشان تقول أصلا، طول ما أنا عايش أنا اللي أقول، وجوازك من البت دي على جثتي.
استوقف عيسى نقاشهم الدائر بسؤاله: بقولك، لو طلعت مظلومة وبرائتها ثبتت قدام الكل هنا، نعمل ايه في اللي قال عليها الكلام ده؟
تنزل وتاخد حقها بالطريقة اللي يعجبها.
هذا القول جعل طاهر يبتسم وهو يطالعهما باستهتار، لم يستغرق الأمر كثيرا، عشرون دقيقة أو أكثر بقليل حتى حضرت ندى برفقة ابنة عمها، أفسح الجميع الطريق حتى يدخلا ولم يرد منصور أن يدور الحوار أمام زوجة ابنه فقال: روحي يا ندى استني في العربية.
انكمش حاجبيها ودارت بعينيها حولها باستغراب سائلة: ايه اللي بيحصل يا عمو؟
قول صارم صدر عن منصور جعلها تتراجع: على العربية يا ندى.
تنهدت بانفعال وعادت تتحرك بالفعل ناحية السيارة بعد أن تم إفساح الطريق لها، حينها فقط استطاع منصور أن يتحدث موجها الحديث إلى ميار التي كانت تنظر حولها بخوف امتزج باستغرابها وخاصة حين رأت طاهر وسمعت منصور يقول: شهد بنت الست هادية زميلتك في الكلية ولا لا يا ميار؟
تسابقت الأنفاس وهي ترد بتوتر: اه زميلتي.
شجعها منصور بقوله: اتكلمي يا حبيبتي متخافيش، اتكلمي وقوليلهم عن أخلاقها.
هي ميار هي اللي قالتلك إن أخلاق شهد مش ولا بد؟
كان هذا سؤال طاهر الساخر والذي تبعه سؤاله الذي حمل التحذير بين طياته: تحبي تحكي أنتِ يا ميار ولا احكي أنا؟
طالعت طاهر بخوف ثم منصور وهربت من كل هذا بجملة: أنا مقولتش حاجة عن حد.
بهت وجه منصور ثم صاح منفعلا: ازاي مقولتيش، اتكلمي و متخافيش أنا معاكِ.
تحدث طاهر بنبرة متشفية: لا ما هي معندهاش حاجة تقولهالك
كان نظراته تحمل الكثير من التهديد بأن يفضح أمر ما حدث في الجامعة، حين نشرت الشائعات حول شهد وذهب هو معها ولم يغادر إلا حين علمت العميدة بالأمر ووعدته بأن يعتذر كل من تخطى حده.
هذا جعل ميار تكرر مسرعة للمرة الثانية: أنا مش عارفة حضرتك بتتكلم عن ايه يا عمو، شهد زميلتي وأخلاقها كويسة.
كان منصور في حالة من الصدمة وابتسم نصران برضا وأتبع ابتسامته بقوله الرزين: روحي يا بنتي لبنت عمك في العربية.
وكأن هذا القول هو النجاة ففرت مسرعة وحينها سأل نصران: عندك حاجة يا جابر عايز تقولها؟
تحدث بكبر: اللي عندي قولته أنا مستعد نخلص الليلة دي واكتب عليها، غير كده معنديش وهمشي.
بس أنا بقى عندي.
كان هذا قول طاهر نظراته في هذه اللحظة أشبه بإعصار، وهو يفتح باب محل هادية ويقوم بإخراج خيري من الداخل، ما إن وقعت عينا جابر عليه حتى فرت الدماء من وجهه وانعدمت تماما وهو يستمع لطاهر يحث خيري: قول يا خيري للحاج منصور اللي عندك.
كان ألمه من ضرب طاهر مازال طازجا وإمساك طاهر به حثه على قول: الأستاذ جابر اتصل بيا وقالي انشر الكلام اللي بيتقال على لسان الناس عن الست شهد وهيراضيني.
كداب.
هكذا صاح جابر وهو يقول بتوتر: كداب طبعا، أنا هكلم الأشكال دي ليه.
أخرج خيري هاتفه من جيبه حتى يعفي نفسه من هذه التهمة ورفعه أمام وجه منصور قائلا: والله كان بيكلمني يا حاج، حتى رقمه أهو.
جذب منصور الهاتف مسرعا، كذب عينيه وأخرج هاتفه حتى يتيقن زيادة على تيقنه من أنه رقم ابنه، بالفعل كان رقمه فطالع جابر بغير تصديق وشردت نظرات جابر هاربة من كل شيء هنا.
تبع هذا نداء طاهر للواقف في الصف الأمامي: تعالى يا مؤيد.
حين تقدم طلب منه طاهر: قول اللي عندك.
بدأ من استدعاه في الحديث بلا خوف: أنا بشتغل في كافيه كانت الأنسة شهد بتقعد فيه، وأكتر من مرة كان جابر ابن الحاج منصور يتعرضلها وكانت تصده و تتخانق معاه قدامنا هناك.
تعالت الهمهمات والدماء التي فرت من وجه جابر دبت في وجه شهد وعادت الحياة له، هي ووالدتها التي أخيرا استطاعت التقاط أنفاسها، لم يكن منصور بحاجة لتكذيب ابنه هو يعلم أن حديث الشاب حقيقي فحين كلف أحدهم بمراقبة ابنه أخبره أنه يتعرض لها وتصده.
كل هذا دفع السيدة التي أتت لهادية في الصباح أن تقول: اخس عليك يا خيري، اخس على الرجولة...
دافعت عن نفسها مبررة فعلتها: والله العظيم يا حاج خيري هو اللي جه وقالي روحي نبهي أمها لبنتها، وأنت عارف ميعجبنيش الحال المايل، بس مكنتش أعرف إنه ملعوب.
احتدت نظرات نصران وهو يسألها بغضب جعلها تخشى: مبتحبيش الحال المايل ولا بوقك اللي مبيحبش السكات ومبيهداش غير بسيرة فلانة وحكاية علانة؟
انتهى كل شيء، أصبح الجميع الآن يتجه بنظرات الاستنكار والغضب نحو جابر بدلا من الاتهام إلى شهد وهنا صاح طاهر بنبرة عالية: سمعتوا.
أكمل بغضب: أظن دلوقتي كل واحد جاب سيرتها المفروض يتقطع لسانه، وبالذات شلة القهوة اللي سايبة مصالحنا وفاضية للكلام.
اقترب عيسى من منصور قائلا بشماتة: أنت اللي حكمت ومحدش غيرك قال لو طلع اللي بيتقال غلط تنزل وتاخد حقها بالطريقة اللي تعجبها.
وهنا ارتفع صوت نصران الذي وجه نظراته ناحيتها قائلا: انزلي يا شهد.
لم يكن مجرد طلب بل كان رد لروحها المسلوبة، نزلت بالفعل وأصبحت تقف أمام منصور الذي لم يعرف ماذا يقول أو يبرر، قتلته بنظراتها وهي تخبره: لولا إنك راجل كبير أنا كنت قلعت اللي في رجلي وخليتك فرجة للخلق.
طالعها بغضب لم تهتم به بل استدارت للسيدة التي تشاجرت مع والدتها في الصباح وأكملت: و أنتِ زيه بالظبط.
توجهت بعد ذلك ناحية جابر وقبل أن تفعل أي شيء أبعدها طاهر فبصقت في وجه جابر وأسرع والده يقف أمامه سائلا نصران بغضب: ايه يا حاج نصران هتخلي واحدة تمد ايدها على راجل وسط الخلق.
ردت عليه شهد بانفعال: راجل!، ده محسوب عليهم بالغلط
طلب منها طاهر الصمت وتحرك نصران ليصبح في مقابل منصور وهو يسأله: مش ده حكمك؟
احتدت نظرات نصران وهو يقول ما عنده: لو مش هي اللي هتضربه، يبقى هتضربه أنت وسط الخلق كلهم، غير كده هتبقى قصاد البلد كلها راجل ملوش كلمة وأنت عارف الراجل بيتربط من كلمته.
تسارعت أنفاس منصور وهو يطالع ابنه بغضب على ما وضعه فيه، وكرر نصران: تضربه أنت ولا تضربه ه...
لم يكد يكمل جملته حتى رفع منصور عصاه ونزل بها على ساق ابنه فوقع على الأرضية متأوها بألم وهو يطالع والده بغير تصديق، اعتاد منه أن يفعلها ولكنه لم يتوقع أن تكون أمام الجميع، ضربة تلتها الأخرى والجميع يشاهد بانتباه وخاصة هي، نالت العصا هذه المرة من كتف جابر فتأوه عاليا وحينها أبعدها منصور عنه وسأل طاهر الواقفة جواره بنبرة مسموعة للكل: راضية يا شهد.
قالت بعينين كساهما الحقد على من فعل فيها هذا: لا مش راضية.
ربت طاهر على كتف منصور قائلا: يبقى كمل ضرب يا حاج منصور.
طالعها منصور بمقت شديد ولم يضرب إبنه إلا ضربة واحدة ثم قال بعدها: حقك وخدتيه والبلد كلها عرفت انك مش كده، وهو والخلق كلهم اتفرجوا عليه، معنديش أكتر من كده أعملهولك.
لا عندك.
هكذا ردت عليه ثم أخبرته وهي تطالع الملقى على الأرضية باشمئزاز: ابقى ربيه.
هكذا قالت له ثم صعدت إلى أعلى حيث والدتها وهتف نصران: لو سمعت تاني إن حاجة زي دي حصلت اللي عملها مش هيطلع عليه صبح في البلد هنا، عرض الستات وشرفهم مش للكلام يا رجالة.
كانت جملته موبخة وتبعها نظرته نحو خيري قائلا: أما انت تجيلي على البيت، علشان حسابي معاك كبير.
كان منصور يطالع ابنه بأسى فسأله عيسى ضاحكا بسخرية: أشيلهولك يا حاج؟
نظرة جانبية لو كانت تقتل لقتلته، مد منصور يده لابنه ليساعده على القيام، وسنده بعد ذلك ليسير به ناحية السيارة أمام نظرات الجميع الذين شهدوا على ما حدث منذ لحظات، دخل بغرور والآن يخرج مستند على والده ومنكس الرأس وهو يسمع صوت طاهر يقول من الخلف: لو ضربتك دلوقتي هيقولوا اني استنيتك انا ابوك عجزك علشان أضربك، تتعوض وأنت بصحتك يا جابر.
أجبر منصور ابنه على الصمت وهو يرحل معه، انتهى كل شيء وذهب عيسى ناحية والده يهمس له بما حدث مع الضابط فقال نصران لابنه: خلي حسن يروح يكلم الجزار وياخد عز وبعد الدبح يوزعوا اللحمة على أهل البلد، وأنا هوصل لبتوع المركز نصيبهم.
في الأعلى كانت هادية مازالت في حالة من الصدمة، جلست على الأريكة وهرولت ابنتها تجلس أمام قدميها سائلة بعينين دامعتين: أنتِ كنتِ مصدقة عليا حاجة من اللي اتقالت تحت؟
لم ترد هادية وبقت ملك تتابع هي و مريم في صمت حتى سمعن شقيقتهن تقول من وسط نحيبها: والله العظيم أولع في نفسي لو مصدقة.
طالعتها هادية تخبرها بهدوء: مش مصدقة يا شهد، بس اللي أنا عارفاه ومصدقاه كويس إن اللي حصل ده مكانش المفروض يحصل كله من الأول ولا سيرتنا تبقى على كل لسان و...
قاطعتها ابنتها تسأل بانفعال: وأنا اعمل ايه لو هو ابن ستين.
بترت والدتها عبارتها وهي تشير لها بكفها محذرة: بس خلاص أنا مش عايزة اسمع كلمة تاني في الموضوع ده، حقك ورجعلك قدام الناس كلها ملهوش لزمة الكلام فيه.
تحدثت مريم هذه المرة بحذر: ماما عمو نصران قالي أبلغك إنه جاي بالليل وعايز يتكلم معاكِ.
هزت والدتها رأسها وقبل أن تقوم مسكت شهد بها وهي تقول بعينين دامعتين: طب احضنيني طيب.
ضحكت ملك و مريم على أفعال شقيقتهما وبالفعل احتضنت هادية ابنتها وأثناء ذلك اهتز هاتف ملك في يدها، قرأت شيء ما ثم قالت: ماما أنا نازلة أشوف عيسى وطالعة تاني.
لم تنتظر أكثر سحبت وشاحها وهرولت إلى الأسفل، بقى في القاهرة يومين لم تلمحه فيهما، نزلت لتجده يقف أمام بوابتهم، اتسعت ضحكته وهو يسألها: لا ده أنا وحشتك لدرجة إنك نازلة تتكعبلي على السلم كده.
رمقته بغيظ ثم سألته بانزعاج: عايز ايه باعتلي أنزل ليه؟
علشان وحشتيني.
جملته هذه جعلتها تبتسم وترد عليه وعيناها تتجول على وجهه وكأنها تحفظه: أنت كمان وحشتني يا عيسى.
فتح ذراعيه قائلا بابتسامة: يبقى حضن كبير بقى.
نبهته بغيظ: احنا في الشارع وبالنهار على فكرة.
ما شاء الله، لسه بتتعاملي معايا أنتِ والست والدتك على إني ماشي معاكِ مش جوزك.
انكمش حاجبيها بضجر فقال ضاحكا: طب خلاص متكشريش، أنا راجع القاهرة تاني علشان ورايا حاجات كتير هناك، جيت النهاردة بس علشان أبويا طلبني.
ظهر الحزن على وجهها وهي تسأله: يعني هتروح تاني؟
مسح على وجنتها قائلا بابتسامة: أنا هروح النهاردة بالليل وهرجع بكرا على اخر اليوم، تيجي معايا؟
توترت للغاية وهي تقول: لا مش عايزة.
رفع حاجبيه بدهشة فأسرعت تصحح: قصدي يعني الدنيا مش أحسن حاجة فوق ومش هينفع اسيب ماما واخواتي.
وجه لها سؤاله يكشف ما تخفيه: ماما واخواتك!، ولا أنتِ بتتهربي؟، خوفك اللي بيبقى قبل كل خطوة تحسي فيها إننا ممكن نكون لوحدنا بيضايقني على فكرة.
هربت بعينيها وهي تسأله: ليه بتقول كده؟، أنا فعلا علشان ماما وشهد ك.
قاطعها وهو يسألها بانفعال: هو أنتِ مصدقة نفسك؟، أنتِ مش بصالي أصلا وأنتِ بتتكلمي يا ملك.
طالعته سريعا فاسترسل هو: أنا وعدتك مش هقرب منك طول ما أنتِ مش مستعدة لده، خوفك الدايم ده كأنك بتقوليلي فيه إني مش قد كلمتي، كأنك بتقوليلي إنك مش مصدقاني.
تلألأت الدموع في عينيها وهي تقول بألم: أنا أسفة إني خليتك تحس بده.
كان رده على أسفها حتى لا تنفلت أعصابه أكثر: اطلعي يا ملك.
استغلت هي جملته واتجهت نحو الداخل وأثناء صعودها الدرج سمعت إحداهن تناديه فتوقفت مكانها في مدخل المنزل.
كانت ندى في الخارج، انتظرت في سيارتها حتى رحل الجميع، كانت ستنزل لتحدثه ولكن نزلت ملك قبلها والآن أصبح بمفرده، كان وجهه يبدو عليه الغضب وكأن أحدهم ارتكب جناية في حقه، سألها بهدوء: نعم؟
هو أنا ممكن أفهم اللي كان بيحصل هنا؟
هز رأسه مؤكدا وهو يخبرها: اه ممكن، روحي اسألي جوزك وهو هيفهمك.
تجمعت الدموع في عينيها وهي تقول: أنت قولتلي مرة إني لو احتاجت منك مساعدة وأنت تقدر هتقدمهالي صح؟
حالتها هذه أجبرته على الهدوء، تنهد بانزعاج ثم مسح على وجهه قبل أن يسألها: اقدر اساعدك ازاي يا ملك؟
انفرجت شفتيها وهي تراه ينطق اسم زوجته بدلا منها وتخطى هو ذلك بقوله: معلش اتلغبطت، قوليلي أساعدك ازاي؟
زاد نحيبها وهي تطلب بضياع: أنا عايزاك تطلقني من جابر.
عند هذا لم تحتمل ملك هل تطلب ممن ما زالت تحبه أن يقوم بتطليقها من زوجها، خرجت من المدخل ووقفت عند الباب أمامهما فصمتت ندى واستدارت تمسح دموعها وطالعت ملك عيسى بانزعاج وهي تخبره: أنا جاية معاك بالليل.
لم يعلق إلا حين قالت بغيظ وهي تلقي نظراتها على ندى: ماما عايزاك في كلمتين فوق، ودلوقتي.
رفعت ندى حاجبها باستنكار وهي تطالع ملك بنظرة تخبرها فيها كم تحتقرها، نظرة دفعت ملك لجذب عيسى من ذراعه وهي تدخله نحو الدرج وتقول بضحكة صفراء: معلش يا حبيبتي ابقى اتكلمي معاه وقت تاني.
تبعت قولها هذا بإغلاقها جانبي بوابة المدخل بانفعال في وجهها.
أظلم المدخل وقد منعت عنه الضوء الخارجي تماما، وقفت أمام عيسى تطالعه بتعابير غاضبة فوجدته يجتهد بصعوبة حتى لا يضحك وسألت هي: اشتغلت مأذون امتى بقى؟
حاول أن يتصنع الجدية وهو يسألها: هو أنتِ مش قولتي مش عايزة تيجي وطلعتي؟
نزلت تاني علشان أشوف حلال المشاكل، أتفرج على أستاذ أسامة منير تخصص مشكلات عاطفية.
لم يتحدث حيث سمع نداء والدتها من أعلى الدرج: يا ملك قوليله يطلع بدل ما تقفوا تحت.
جذبها يحتضنها وهو يسمع خطوات والدتها المتوجهة لهما، شهقت ملك بصدمة فرد هو على ذلك بقوله: مش أنا تخصص مشكلات عاطفية، خلي أمك تنزل تحللي مشكلتي معاكِ بقى.
طب ممكن إيدي؟
قالتها بنبرة ناعمة استغربها وما إن أفلتت يدها حتى ثنتها وفي غفلة منه كان ستضربه في جانب وجهه ولكنه تفاداها وابتعد، وهنا نزلت والدتها لتجدهما يقفا أمام بعضهما بلا حديث فقالت: ما تطلع يا بني.
كانت ملك تطالعه بتحدي جعله يقول لوالدتها ما لم تتوقع أن يقوله أبدا: يرضيكي مدخلاني هنا وقافلة الباب بتاع المدخل، وعمال أقولها مينفعش يا ملك ميصحش يا ملك، وهي مصرة تحضني!
اتسعتا عيناها بصدمة وضحك هو وهمس غامزا: ماهو أصل الضرب مش كله بالإيد، فيه بالكلام.
كعادته يصدمها دائما، بردوده، بأفعاله، بكل صغيرة، وكبيرة تصدر منه، دائما مبهر، وقادر على تقديم كل جديد، دائما أبدا ملك كل ما هو غير متوقع، ملك المفاجأة.