قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السابع والسبعون

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السابع والسبعون

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السابع والسبعون

كان يبكي وكأن العالم بأسره هزمه ولم ينصفه أحد، حتى أتت هي، هذه التي أنقذته من أحلك لحظات حياته، هو الذي اعتاد أن يهزمه العالم، يسعد اليوم وقد نصفه ولو للحظات غالية.

مكان لم تعتد شهد دخوله، ورغم كل ثباتها الذي تحاول ألا تظهر دونه في حياتها، كانت خائفة الآن، يتواجد في الخارج طاهر برفقة شقيقتها ووالدتها، بان التوتر في عينيها وهي تسمع الضابط الجالس أمامها يسألها: امتى أخر مرة شوفتي مرات عمك فيها؟
كان الإجهاد مرافق لتقاسيمها وبان في نبرتها وهي تجاوب: بقالنا كتير مشوفناش بعض، أنا مش فاكرة امتى أخر مره شوفتها أساسا.

غريبة، مع إنها جات قبل الواقعة بكام يوم وبلغت إنك اتعديتي عليها أكتر من مرة، وهددتيها كمان.
وقوله هذا جعل شهد تطالعه باستنكار معترضة على كل ما تفوه به: لا طبعا ده كذب ومحصلش، أنا بقالي كتير مشوفتهاش ولا هددتها والكلام ده.

نظرات الضابط تجعلها تشعر وكأنها مذنبة، ارتكبت هذا الجرم وتنكره الآن، خاصة وهو يواجهها: المجني عليها كان معاها شاهدة وقت ما جت اشتكت، والشاهدة قالت إنك دخلت بيت عمك، وقابلتي مرات عمك هناك وهي بتجمع حاجاتها، ووقتها حصلت خناقة وسمعتك بتهدديها بسبب مشاكل قديمة بينك وبين بنتها.

أقسمت له تدافع عن نفسها بإصرار ضد هذا الهراء: حضرتك ده محصلش، أنا بقالي كتير مروحتش البيت ده ولا شوفتها أصلا، كمان أنا معنديش علم بموضوع إنها جت اشتكتني ده، وبعدين حتى لو بالفرض اتخانقت معاها مع إن ده مش حقيقي، عمري ما هفكر اعمل فيها حاجة أو أذيها.
لم تكد تنته حتى ألقى الضابط على مسامعها سؤال: إيه سبب الخلافات بينك وبين المجني عليها؟
ولا مكانش في خلافات كمان؟

سؤاله المتهكم جعلها تدرك أنه لا يصدق حرف مما تقول، الخوف الذي تسعى لمحاربته يداهمها بشراسة الآن، ولكنها ردت تحاول إثبات صدقها: لا كان في خلافات، مشاكل عائلية أيام ما كنا عايشين في بيت عمي الله يرحمه، مكناش بنتفق مع بعض، وكان في مشاكل دايما فسيبنا البيت، خناقات من نوع إننا مش مرتاحين، إن المعامله مش كويسة، في تضييق علينا، حاجات تخلي العيشة مش مريحة، لكن مش حاجه كبيره.

في التوقيت ذاته كان طاهر في الخارج وقد وصل إليه المحامي بعد أن طلب منه الحضور، ابتعد به عن والدتها وشقيقتها حتى لا تتلف أعصابهم أكثر، وانتظر حتى سمعه يخبره: أنا سألت يا أستاذ طاهر، مفيش قلق إن شاء الله على الأقل دلوقتي، الست في المستشفى وحالتها مش مستقرة، هو السبب في وجود مدام شهد هنا إن للأسف مرات عمها جت هنا من كام يوم واتهمتها انها بتهددها واتعدت عليها قبل كده، بس الموضوع متاخدش فيه اجراء لكن طبعا بعد اللي حصل بقى لازم يهتموا بيه.

رأى الرجل القلق في عينين طاهر قبل أن يسمعه في نبرته: يعني هي هتروح معانا؟
طب بقالها جوا كتير كده ليه؟
وسعى لطمأنته قائلا: إن شاء الله هتروح، هو بس الموضوع مش سهل، بالذات إن موضوع البلاغ القديم اللي كان ضد شاكر علشان فريد الله يرحمه بيلمح إن في عدواة بين العيلتين حتى لو كانت اللي مقدمة البلاغ أخته، وإن القضية مكملتش، لكن برضو بيتحط في عين الاعتبار.

شهد ملهاش دعوة بكل ده، أنا يهمني إنها تخرج معايا دلوقتي.
أكد طاهر على هذا، وعقله كاد أن يشت من فرط التفكير فيما وُضِعت به الآن وهو على يقين من أنها لا تستطيع تحمله.
ثم فجأة انتبه إلى شيء فسأل المحامي مسرعًا: هي لو خرجت هيبقى لحد ما الست تفوق ويسمعوا أقوالها؟
هز له الواقف أمامه رأسه مؤكدًا هذا قبل أن يسمع سؤال طاهر: هي لو فاقت واتهمتها، الوضع هيبقى إيه؟

أنا عايزك تتطمن وبلاش تفكير في الأسوء، وكمان في حاجه، الست كوثر في بلاغها قالت إن شهد هددتها علشان مشاكل بينها وبين علا ده غير خلافات تانية، وكان معاها واحدة كمان شهدت بده، علا طبعا هتتسأل لو نفت وجود مشاكل بينها وبين مدام شهد يبقى ده كويس جدا، وفي صالحنا.
لم يكد ينهي حديثه حتى أتت هادية، سألت طاهر وقد تبخبر كل ذرة ثبات لديها: عرفني يا بني لو فيه حاجه مش عارفاها.

كانت مريم تتابع ما يحدث بأنفاس سرقها الخوف، انتظرت على أحر من الجمر جواب طاهر، وبالفعل طمأن والدتها قائلا: شهد هتروح معاكي إن شاء الله، بس اهدي وارتاحي، خدي والدتك يا مريم وأنا هتصرف.
وبصعوبة استطاع أن يقلل من ذعرهما، وعاد من جديد للمحامي الذي نبهه: المهم دلوقتي نعرف هي ليه مرات عمها اشتكتها طالما محصلش انهم شافوا بعض اصلا، ده كإنها عارفة إن حد هيعمل فيها كده كمان كام يوم وعايزة تلبسهالها.

وفجأة أتى لذهن طاهر أمر ما، ظل صامتًا ثم نطق يتوقع ما حدث: أو يمكن حد هو اللي سلطها تيجي تتبلى على شهد، وعمل فيها كده بعدين، حد عايز يورط شهد.

قال هذا ثم تناول هاتفه يحاول محادثة عيسى للمرة الرابعة وهو يطلب من الواقف جواره الانتظار، ومن جديد مغلق أو غير متاح لذلك اضطر لمهاتفة ملك التي لا يرغب أبدا في أن يصيبها الذعر مثل والدتها وشقيقتها، ردت عليه في المرة الثانية، كانت نبرتها قلقة وهي تسأله: خير يا طاهر هو حصل حاجة؟
وسعى أن يكون طبيعيًا وهو يخبرها: لا أبدا، هو بس موضوع ضروري بخصوص يزيد ومحتاج عيسى بس موبايله مقفول.

دخل عيسى وهي تتحدث، وقد أنهى استحمامه للتو، اقتربت منه بالهاتف تعطيه له هامسة: طاهر عايزك، بيقول في مشكلة.
أسرع يأخذه منها بقلق، ويرد: في إيه يا طاهر، معلش أنا لسه راجع البيت من شوية ونسيت أشحن ال...
لو واقف جنب ملك ابعد عنها علشان أعرف أكلمك.
قاطعه طاهر ينبهه، الأمر الذي جعل عيسى يتيقن أن هناك شيء يجب ألا تعلمه زوجته، فهتف: أنا مش سامعك كويس يا طاهر.

قال هذا وهو يتحرك بعيدًا عنها مغادرًا الغرفة، وما إن تأكد من أنها لم تأت خلفه سأل: في إيه؟
قص له طاهر باختصار شديد ما حدث وختم: تعالى دلوقتي علشان أنا مش عارف أسيب هنا، وفي مشوار لازم يتعمل، قول لملك أي حاجه، قولها أي حوار يخص يزيد.
لاحظ عيسى زوجته فقال وهو يسعى لكي لا تنتبه لأي شيء: يعني هو لازم المشوار ده دلوقتي يا طاهر، عموما ماشي أنا هلبس وأنزل، عينيا ليزيد.

أغلق معه، ورسم ابتسامة على وجهه وهو يعتذر: معلش يا ملك أنا هنزل.
سألته بتخوف وقد شعرت أن هناك شيء لا تعلمه: ماله يزيد، وبعدين هتنزل دلوقتي؟
طمأنها وهو يربت على كتفها: مشكلة كده بس لما ارجع هحكيلك، علشان لازم انزل دلوقتي.
قال هذا وتوجه ناحية الغرفة ولكنه توقف حين قالت: اوعى يا عيسى تكون مخبي عليا حاجة.

عاد لها بعدما سمع نبرتها، طالعت عينيه فلم تجد فيهما إلا ما يطمأن، مسح على خصلاتها وهو يطالبها برفق: ارتاحي، ونامي، وبطلي تفكير وقلق وتوتر علشان نفسك
وأشار على موضع صغيرهما مكملا بابتسامة: وعلشان ده.
وفي النهاية وعدها: لما ارجع هحكيلك، وبعدين أنا لسه عندي عيد ميلاد ملحقتش احتفل بيه.

ابتسمت على قوله الأخير، وبعد أن هدأت تحرك هو من أمامها، لا يعلم كيف استطاع التمثيل بالبراعة هذه وكأنه لا يوجد شيء، تواجد شقيقتها في القسم الآن ونبرة ابن عمه التي ينهش فيها القلق أتلفت أعصابه، خاصة وأنه لا يعلم سبب لكل ما يحدث.

إخلاء سبيل مشروط، ربما في أي لحظة تعود الشرطة لدق بابها من جديد، هذا ما سمعته شهد قبل أن تخرج من الغرفة التي تم استجوابها فيها، وقعت عيناها على أمها وشقيقتها، رأت الانهيار في نظراتهما، هرولت والدتها تحتضنها، فسعت لجعلها تهدأ وهي تخبرها بنبرة واهنة بان فيها كذبها: أنا كويسة.

شعرت بكفه يحتضن يدها، استدارت لطاهر، ولم تكن في حالة تسمح لها بقول أي شيء، وأدرك هو هذا، أعطاها الطمأنينة التي تريد حين سمعت صوته وهو يقول: يلا نمشي من هنا.
وصل عيسى في هذه اللحظة، احتل القلق نظراته وهو يسأل: إيه اللي حصل؟
مال عليه طاهر طالبًا: خلي المحامي يفهمك ووصلهم البيت وأنا هكلمك.

قصد هادية و مريم، وقبل أن تعترض هادية نطق عيسى: طب طاهر هياخد شهد شوية يتكلموا وكمان مش حلو تروح البيت دلوقتي وهي مخضوضة كده
كان ابن عمه قد تحرك بشهد بالفعل والتي سارت معه طواعية نحو الخارج وقبل أن تلحق بها أمها اعترض عيسى طريقها قائلا: أنا هوصلكم.
شهد حالتها مش كويسة.

أخبرته هادية بخوف قد تمكن منها على ابنتها فطالبها برفق راجيًا أن تفهم مقصده: متخافيش عليها، طاهر هيعرف يتعامل مع الحالة اللي هي فيها.
وأيدته مريم بقول: عيسى عنده حق يا ماما، خليها مع طاهر دلوقتي أحسن.

اقتنعت بما قالا، وبالفعل رحلت مع عيسى و مريم دون ابنتها الأخرى، ركبت السيارة واستقرت مريم في الخلف، واستأذنهما عيسى في دقيقتين، وقف مع المحامي صديق طاهر الذي قص عليه كل ما حدث وختم: بنسبة كبيرة ممكن يستدعوها تاني، في حد بيحاول يلبسها الموضوع للأسف، أهم حاجة دلوقتي زي ما قولت لطاهر إن لما بنت الست تنفي وجود خلاف لأي سبب من الأسباب، ده هيبقى كويس جدًا، وتعرفوا بقى مين حاططها في دماغه.

كل كلمة في الحديث الذي سمعه شغلت عقله، ظل يفكر حتى عاد إلى سيارته، كلما ظن أنه فك العقد، يجد أنها ضاقت أكثر، وليس عليه سوى أن يسعى من جديد وكأنه لم يسع من قبل قط.

وكأن الحديث رفاهية تم سلبها منها، ركبت شهد جوار طاهر شاردة في عالم أخر، لا تدري بأي شيء يقوله طاهر فقط عالقة في ذكريات ظنت أنها استطاعت التغلب عليها، معاناة عرفتها منذ نعومة أظافرها، رغم كل شيء يمر على ذهنها كل يوم سؤال، ماذا لو بقى والدها على قيد الحياة، هل كان يقدر علىحمايتهن من كل ما حدث في منزل عمها؟

فاقت أخيرًا على لمسة طاهر الحانية على وجهها وقد أوقف سيارته في مكان هادئ، نظرت له ورأى في عينيها الدموع وهي تنطق أخيرا: أنا معملتش حاجه يا طاهر، هي ليه راحت قالت كده؟
طالبها برفق وهو يبذل كل جهده حتى لا تنهار: شهد متعيطيش، مفيش أي حاجة في الدنيا تستاهل،
أنا هعرف هي عملت كده ليه، وأنتِ مفيش أي حاجة تدينك، أنا عارف إنك مخضوضة من كل اللي حصل بس خلاص أنتِ هنا معايا دلوقتي، وشوية هتروحي بيتك.

ورغم لين كلماته ومحاولته في احتوائها، وصل لأذنيه نحيبها قبل أن تقول: الظابط مكانش مصدق أي كلمة بقولها، كان باين عليه، ليه يحصل كل كده، وليه دلوقتي، قبل فرحنا
وبضياع سألت: هو أنا مينفعش افضل متطمنة يا طاهر، مستاهلش افرح؟
احتضنها وقد داهمه الحزن على حالتها هذه، عبراتها تبلل قميصه، وهو يمسح على خصلاتها ويلقي على مسامعها: لو مش شهد اللي هتفرح، مين ينفع يفرح؟

أنا مش عايز غير إنك تطمني، متشيليش هم لأي حاجة، أنا موجود علشانك يا شهد.
بدأت تسكن تدريجيًا وتابع هو حتى لا يسمح لعقلها بالشرود مجددًا: مش عايز أقولك فين شهد اللي مبيهزهاش حاجة اللي أنا أعرفها، علشان الكلام ده متكرر أوي، اتقال في الأفلام كتير.

ابتسمت من بين دموعها وتابع هو يمازحها: بنجح في امتحانات خبيرة العلاقات بتاعتك اللي يتيجي تطبقيها عليا أهو، مش أخر امتحان باين خدت 2 من 10 علشان بستسهل وبقول كلام اتقال كتير في الأفلام؟
والمسلسلات.
أكملت له بهذه الكلمة ولم يتوقع أن يكون هذا ردها، ضحك وهو يرد عليها: أنا عامل مجهود جامد، متأكد إني هترقى قريب وأخد العشرة كاملين.

ضحكت هي الأخرى، واعتدلت حتى تنظر له، السحر في عينيه، وكم تحب هذا السحر الذي يدفعها لقول: أنا بحبك يا طاهر، أنا معاك حسيت إن في حد ممكن اتسند عليه، ومخافش وأنا بعمل ده، أنا ساعات بفكر هو لو أبويا كان عايش، كل اللي عشناه في بيت عمي كان هيحصل؟ و...
لم تكمل حديثها، صمتت فجأة، ويعلم هو سبب صمتها، ومع ذلك سألها: سكتي ليه يا شهد؟

لم تعلم بماذا ترد عليه، هل تخبره أنها تخشى من الانخراط في الحديث عن والدها أمامه، لأنها وعلى الرغم من نجاحها في تخطي أزمتهما، هناك نقطة تذكرها دائما بما قاله لها يوم اختفى يزيد.

توقعت كل شيء إلا أن يتفهم عدم ردها الآن، بان في نظراته كم هو نادم، الحاجز هذا الذي تنجح شهد في تفاديه مرة وتفشل مرات هو من وضعه، لذلك نطق: عموما أنا مش عايز أعرف باقي الكلام اللي كنتي هتقوليه وسكتي، بس عايز أقولك إنه جايز ظروف والدك هي اللي خلته وصلك إحساس إنه مش سند ليكم، يمكن لو الظروف دي كانت غير، كنتي اكتشفتي فيه حاجة تانية وشوفتي حبه خصوصا إنه اتوفى وسنك صغير، واللي بقوله ده طبعا مش مبرر لأي حاجة عملها بتخليكي تحسي بشعور صعب تتخطيه أو مسببالك أزمة.

وقبل أن تتحدث اعترف هو بذنبه الذي مهما حاول لا يستطيع أن يكفر عنه: زي بالظبط ما مفيش مبرر للكلام اللي قولتهولك قبل كده وجرحك، أنتِ مش مسؤولة عن لحظات عقلي راح مني فيها علشان ابني، ولا إني كنت مش في حالتي الطبيعية الفترة دي بسبب المهدئات، كل ده أنا عارف إنه مش عذر قدام اللي قولته، واللي خلاكي دلوقتي مكملتيش كلام قدامي عن اللي واجعك.

علي فكرة يا طاهر أنا سامحتك على الموضوع ده، وقبل ما اعرف إن نور دكتور مش كويس، كنت بروح عنده علشان أتخطى الحاجز اللي بقى بيننا من بعدها وهو ساعدني بالمناسبة، ومن قبل مساعدته أنا رغم كل غضبي منك معرفتش أخسرك، علشان أنت خلتني أحسن، قبل ما اقابلك ونقرب أنا كنت كتير ممكن مراعيش كلامي ولا تصرفاتي، ومركزش إذا كانت جرحت غيري أو لا، يمكن علشان محدش كان بيشاورلي على الحلو اللي فيا بنفس طريقتك، ولما الحلو ده ظهر معاك كل اللي أنا ممكن أكون جرحتهم في يوم سامحوني أولهم أهلي.

كان منصتًا لكل حرف مما تقول، يحاوطها بنظراته وهي تعبر عن نفسها كما لم تعبر من قبل، تعفيه من الإحساس بالذنب، وتضيف حقيقة ألقتها بمزاح: أنا سامحتك، ونسيت بنسبة ستين في المية، فاضل أربعين، هتخطاهم مع الوقت بس كله بيعتمد على شطارتك بقى.
ضحك على قولها، وقد تم تكليفه بمهمة جديدة ألا وهي أن يُحبها بالقدر الذي يداوي الأربعين المتبقيين.

ضحكت هي أيضًا، ضحكة سريعا ما راحت، وحل بدلا منها تنهيدة ثقيلة تنهدتها وهي تخبره بصدق: أنا كنت خايفة أوي يا طاهر وأنا بتسأل، هي لو فاقت واتهمت...
رأى الخوف في عينيها فقاطعها يضع سبابته على شفتيها مطالبًا: متفكريش في أي حاجة، متخليش دماغك توديكي بعيد، مفيش حاجة من دي هتحصل، لو فاقت مش هتجيب سيرتك، ولو جابت أنا هتصرف، ريحي أنتِ دماغك بس من التفكير.

هزت رأسها موافقة بابتسامة، وهو تلقي برأسها على كتفه، وتحدثه بنبرة بان فيها احتياجها لرفقته: متسيبنيش يا طاهر النهارده، مش عايزة أروح، خليك معايا، حتى لو هنفضل هنا في العربية لحد الصبح.
حاوطها بذراعه وقد وافق على طلبها يطمأنها: مش هسيبك، ومعاكي لحد الصبح يا ستي، كفاية إن شهد هانم راضية عني.
اتسعت ابتسامتها وعلق هو يمازحها: يارب تكون النسبة نزلت عشرة في المية ولا حاجة.
خمسة بس.

أخبرته بهذا ضاحكة قبل أن تغمض عينيها على كتفه، حيث أمانها، وسعادته، وجدت السكينة الآن، أما هو فكان عقله لا يتوقف عن التفكير فيما سيفعل من أجل ألا تدخل إلى القسم مجددًا، ومن فرط التفكير غفى هو الأخر، استندت رأسه عليها، وكأن العالم قد توقف ليعيطهما هدنة مؤقتة.

لم ترافقها الراحة منذ خروجه، تشعر بأن هناك خطب ما، تنهدت بيأس وقد كان أخر ما ترغب به هو خروجه بعد كل ما صنعته، ابتسمت حين تذكرت مساومتها له، تمنعه من جنتها إذا لم يصرح بسبب وجود رائحة قسمت في ملابسه ذلك اليوم، وكعادته يرواغ حيث قال لها وهو يدفن رأسه في عنقها: طب ما تخلينا في ملك دلوقتي.

ولكنها أصرت مما جعل عقله يذهب حيث ذلك اليوم، حين طلب منه باسم الذهاب معه لأمر هام، رفض في البداية، ولكن باسم لم يتركه حتى ذهب معه وفي النهاية وجد نفسه في معرض قسمت الذي أتي إليه ذات مرة برفقة ملك، أثار اسنغرابه هذا خاصة وأن أخر معلوماته أنها تركت المكان هنا بعد عملهما المشترك في شرم الشيخ، وقف عيسى أمام البوابه مبديًا اعتراضه: أنا مش هدخل هنا، أخر حاجه عندي قولتها لقسمت.

قسمت فعلا تعبانة ومنهارة، و...
لم يكمل باسم ما يقول بسبب عيسى الذي قاطعه مصرحًا: وأنا اتحملت تعب وانهيار قسمت واللي جالي من وراها كتير، بس خلاص خلصت كده.
مسح باسم على وجهه بتعب وهو يطالبه من جديد واستخدم معه اللين هذه المرة: هي لجأتلي، وأنت أكتر واحد عارف ازاي صعب عليها تلجأ لحد، اتكلم معاها بهدوء، وامشي بعد كده، اعتبره طلب، واقبله حتى لو أنا اللي بطلبه.

طالعه عيسى بضيق قبل أن يستجيب في النهاية، ويدخل إلى حيث توجد هي، كانت جالسة على إحدى الأرائك، تعبث بهاتفها، لم يدخل باسم معه، أما هي فمجرد أن رأته انتفضت بانفعال، وواجهته: أنت إيه اللي جايبك هنا؟
أنت مش طردتني من معرضتك وقبلت الإهانة عليا؟
اطلع برا.
والجواب كان دفاع عن زوجته والذي حاول الحفاظ على هدوئه وهو يقوله: وبالنسبة للي عملتيه مع ملك مكانش إهانة؟

ولا أنا المفروض أقبل الإهانة على مراتي ومقبلهاش عليكي يا قسمت؟
وبسأم علقت وهي تجاهد حتى لا تهاجم العبرات عينيها: مراتي، مراتي، صدعت دماغي يا أخي بالموضوع ده.
واقتربت خطوتين، كانت على حافة الانهيار وهي تسأله: هي تعرفك زيي؟
ورد بما أخبره به فؤاده: ملك هي اللي خلتني أعرف نفسي يا قسمت.

أغمضت الواقفة أمامها عينيها بألم، قوله هذا ضاعف جرحها، ولم يتوقف عند هذه النقطة بل أكمل يصفعها بالحقيقة: بصي يا قسمت أنا حابب ننهي الموضوع ده كله، مش أنتِ قبل كده قولتيلي مشاعرك دي، وافتكر إني رديت عليها، وافتكر برضو إني قولتلك قد إيه بحب ملك، وأنتِ بعينك شوفتي الفترة اللي بعدتها عنها كنت عامل ازاي.

أكمل وهو ينظر لمقلتيها وقد لمعتا بالدموع: ساعتها قولتيلي أنسى أي حاجة، ونشتغل سوا، وأفتكر لما اشتغلنا عرفتي بنفسك إن مفيش أي فرصة نكون مع بعض، وإن مشاعري لملك وبس، حتى أنتِ نفسك زهقتي ولبستيني في الشغل ورجعتي اسكندرية، وفضلت جدع للأخر ومسيبتش الدنيا تتعك، وشيلت أنا و جنا الشغل وكبرتهولك، حصل ولا لا؟

هزت رأسها مؤكدة حدوث هذا وداخلها مبعثر، تود لو تبخرت الآن ولا تسمع بقية حديثه، ولكن هذا لم يحدث حيث تابع هو معاتبًا: ليه بقى بوظتي كل ده، ليه مصرة تعمليلي مشكلة مع ملك وأنا يادوب لسه بلصم في العلاقة دي وعايزها تطمن، لكن أنتِ عندك إصرار تجرحيها و ملك أرق من كده يا قسمت، وأنا مش عايزها تبعد عني تاني، ولا عايز أجرحك تاني، لكن لكل فعل رد.

كانت صامتة، تنصت لحديثه ونحيبها يرافقها، حزن على حالتها هذه، ولكن لا فرار من المواجهة، يجب أن تسمع كل ما عنده، حتى يختفي أي أمل لديها تجاهه: لو أنا مهم عندك فعلا كفاية لحد كده، وافتكر إني ياما استحملت حاجات مكانش ينفع لا اقبلها ولا استحملها علشانك، وقعدت وقت كتير بحاول أكفر عن ذنب أنا معملتوش علشانك، أنا بيني وبين والدك خلافات كانت تخليني أقاطعك لباقي العمر حتى لو كنت خدت حقي منه، ورغم كده لما بتحتاجيني كنتي بتلاقيني.

مسح على وجهه بتعب وهو يصرح بصدق: ملك أخر أمل ليا إني أعرف أعيش الحياة اللي نفسي أعيشها، أنا سعيت معاكي كتير علشان أمل إنك ترجعي تمشي حتى لو كان من بعيد، بلاش يبقى هو ده ردك علشان متضطرينيش لحاجات أنا مش عايز أعملها، خصوصا إني متأكد إن التصرفات اللي بتعمليها دي مش شبهك.
سألته باستنكار وقد وقفت أمامه، عبراتها تتحدث قبلها عن خذلانها: يعني علشان أمل ملك يفضل عايش، أملي أنا يروح.

هتلاقيه مع حد غيري، لكن أنا لا، أنتِ محتاجة تستغلي حاجات كتير أنتِ مش شايفاها، شغلك ده محتاجك، استغلي فنك، عندك القدرة تعملي حاجات كتير، تخليكي تعرفي نفسك أكتر، وأنا متأكد إنك هتقابلي حد أحق بمشاعرك مني.
قال هذا برفق، وكل أمنيته أن يكون قد وصل لها كل ما أراد إيصاله.
وبالفعل سمعها تعده وقد وصلت لذروة انهيارها: أوعدك مش هتشوفني تاني أبدا.

ابتسم وهو يرد عليها: هشوفك زي ما بتمنى أشوف رفيدة، وأنتِ ناجحة ومع الإنسان اللي يستاهلك.
وكان تعليقها على حديثه أنها احتضنته، تتمسك به وكأنه روحها التي تفارقها، ودموعها على قميصه، لم يحاوطها بل أبعدها عنه مبديًا اعتراضه على هذا، ولكنه اطمأن حين سمعها تقول: أنا أسفة على كل حاجة، ولو حابب تكلمها دلوقتي اعتذرلها معنديش مانع.

كانت صادقة في كل حرف تقوله، تتخلى بإرادتها لأن سعادته مع غيرها، هو على حق، كل أفعالها في الفترة الحالية لا تشبهها، ولكن الألم يمزقها ولا يرحم، ورفض هو طلبها يخبرها بابتسامة: بلاش، أنا هوصلها اعتذارك ده.
قطع حديثهما هذا صوت جنا وهي تنزل من الطابق العلوي هاتفة: أنا بصيت على الدنيا فوق بس...
توقفت حين رأت عيسى، والذي أبدى استغرابه من تواجدها ولكنها سريعًا ما أزالت فضوله: مش تقول إنك هنا يا عم.

ثم نظرت إلى قسمت تسألها بزهو: قولتيله قد إيه اترجتيني علشان نصفي الخلافات، واشتغل معاكي في الجالري هنا؟
لم تكن قسمت في حالة تسمح لها بالرد، كانت نظراتها تحمل الألم فقط، نشاط جنا وحيويتها وهي تشير ناحية ركن العطور الجديد لم يجذب انتباهها إلا حين نطقت: البرفيوم ده فكرتي أنا وهي، تعالى أفرجك.

فاق عيسى من شروده في كل ما حدث، حين نطقت ملك معترضة على صمته الذي طال: الموضوع مش محتاج كل ده، قول ريحتها جت في قميصك ازاي؟
وتحدث يطالبها بالرفق به: لا صدقيني الموضوع طويل، لو تخلي في رحمة شوية ونركز مع العيد ميلاد الجميل ده ونأجله لوقت تاني هكون مبسوط أوي، وبعدين النهاردة المفروض أي حاجة اطلبها توافقي عليها.

صوت الهاتف الذي علا قطع انخراط ملك في لحظاتها معه قبل أن تنتهي الليلة بنزوله، كان على وجهها ابتسامة واسعة سريعا ما راحت حين فاقت وهرولت ناحية الهاتف لتيقنها من كونه المتصل ولرغبتها في الاطمئنان وجواب يريحها عن سبب نزوله الآن.

لم يكن بشير يعلم كيف يخبر زوجته بما حدث، بمجرد أن بدأت رحلة تعافيها حل على رأسه هذا الخبر، سمعه من عيسى الذي طالبه بالتريث، والذهاب للمشفى بصفته زوج ابنتها ولكن قبلها إخبار زوجته أن تنفي وجود أي خلافات بينها وبين ابنة عمها، انتبه بشير على صوت علا في الغرفة تسأله إن كان مازال مستيقظًا، ذهب إليها بابتسامة وهو يقول: اه لسه صاحي، قولت استناكي تاخدي الدوا الأول.

بادلته الابتسامة قبل أن يسألها باهتمام: اجيبلك الأكل؟، أنتِ مكلتيش كويس.
هزت رأسها نافية تخبره أنها لا تريد، ثم سألته بعد تردد: بشير أنا عارفة إنك هتزعل من اللي هقوله وأنا أسفة، بس أنا عايزة موبايلي، وكمان ماما حتى مشيت من المستشفى معاك من غير ما ت...
لم تكمل عباراتها بسبب تعبيراته التي أنذرت أن هناك خطب ما لذلك سألت بقلق: مالك يا بشير؟
هو في حاجة؟

مسح على وجهه بتعب قبل أن يطالعها محاولا طمأنتها وهو يمهد لها الأمر، جلس جوارها وقال برفق: مفيش حاجة يا علا، هي بس والدتك تعبانة شوية.
هوى فؤادها أرضًا وبان هذا في نبرتها وهي تسأل: تعبانة مالها يعني؟
بصي يا علا اهدي واسمعيني.
طالبها بهذا وهو يمسح على وجهها قبل أن يخبرها مضطرا بما حدث بدلا من معرفتها بأي طريقة أخرى.

كان يتوقع انهيارها، ولكنه لم يكن على استعداد لاستقباله، تحدثت الدموع قبل أي شيء، وحاولت القيام وهي تقول: أنا هروحلها.
ولكنها تأوهت بشدة مما جعله يرجوها ألا تفعل هذا وهو يطمأنها حتى ولو بالكذب: علا مش هينفع تروحي، أنتِ تعبانة، المفروض تبقي في المستشفى دلوقتي، وأنا سمعت كلامك وجيبتك على البيت، وبعدين اطمني صدقيني هي كويسة، وأنا هروحلها وهفضل معاكي على التليفون واطمنك.

لم تكن تسمع حرف مما يقال، فقط تردد من بين دموعها بأنفاس مسروقة وإنكار للحقيقة التي عرفتها للتو: مين اللي عمل فيها كده؟
ونظرت له، تسأل من يداهمه الحزن الشديد على حالتها: طب عمل فيها كده ليه يا بشير؟

كيف يطالبها الآن بأن تنفي عن وجود أي خلافات بينها وبين شهد حال سؤالها، وكيف يخبرها من الأساس عن شكوى والدتها ضد شهد قبل مقتلها، حالتها هذه لن تسمح لها بالتريث والتفكير، فقط تحتاج لمن يخمد ثورتها، نحيبها الذي علا وشهقاتها، احتضنها يلقي على مسامعها برفق وكأنه يعامل طفل: علشان خاطري كفاية.

يكمل وهي تتمسك به بشدة: اهدي خالص، وأنا معاكي، وهي هتبقى كويسة، وكمان لما تكوني أهدى هنعرف نتكلم سوا ونفكر، ونشوف مين عمل كده.
شهقاتها تخفت رويدًا رويدًا، وهو لا يتركها بل يكمل على نفس الوتيرة حتى تطمأن وتغادر حالة الانهيار هذه، لا يريد الآن سوى أن تنعم بالسكينة، حتى ولو لحظة.

هناك لحظات تربكنا، ونفقد فيها حسن التصرف وكذلك كانت رزان التي أفزعها اتصالات عيسى بها في أول ساعات الصباح، لا يتوقف وهي ليس لديها ما يمكن قوله، في النهاية أرسل لها ما ضاعف ذعرها: يا تردي، يا تخرجي تستنيني برا علشان عايزك.

تجاهلت الرسالة، وبقت مع توترها الذي أوشك على التهامها، خرجت إلى حديقة المنزل، تحاول للمرة المائة بعد الألف الاتصال بزوجها جابر، ولكنها توقفت حين لمحت شيء غريب، اقتربت بقلب وجل من سيارتهم التي رأت أحدهم راقدًا أسفلها وكأنه يقوم بإصلاحها.

داهمها الخوف، خاصة أن المتواجد أسفل السيارة لم يخرج ليطالعها بل ظل محله، فضربت على بابها حتى تنبهه وقد خمنت من هو ولكن تمنت أن يكون تخمينها خطأ وهي تسأل: أنت مين يا جدع أنت؟

خرج عيسى لها من أسفل السيارة يحمل بيده مفك وعلى وجهه ابتسامة يطالعها وهو ممدد على الأرضية هكذا أمام السيارة أما هي فشعرت بأن الدماء قد فرت منها، وهو لا يبالي بل يقول وعسليتيه يطالعا السماء: الجو حر جدا النهارده، والبشر في الحر بيبقوا مزعجين أكتر.
تراجعت إلى الخلف، استدعت ثباتها حتى تسأله بقلق: أنت بتعمل إيه يا عيسى هنا، وعايز إيه؟

ظل محله ولوح لها بالمفك ضاحكًا بتسلية قبل أن يخبرها: مش أنتِ روحتي لعز الورشة قولتيله إن في عربية عندكم بعافية شوية، أنا بصراحة مهانش عليا لما عرفت قولت لازم أجي اعمل الواجب وأشوف مالها.
وأكمل وهو يراقب تعبيراتها باستمتاع: ما أنتِ عارفة المبدأ عندي
الله، الوطن، و ملك واللي يخصوني، ثم العربيات.
ورفع عينيه يطالع السيارة وهو يتابع أثناء استلقائه: حلوة العربية دي.

استقام واقفًا وقد نجح في جعل إتلاف أعصابها، ظنته سيتقدم نحوها ولكنه مسح على السيارة مدندنًا: وأنا أحب أقول الشعر في الحلوين، والحلو أقوله يا حلو في عيونه.
قررت أن تسايره في طريقته هذه فقالت بابتسامة: إيه يا اخويا الروقان ده كله، بتغني لمنير، وطالع من تحت العربية قمر، والله لايق عليك الشحم والمفك.
وفجأة تبدلت طريقته، رأت اقتضابه وهو يسألها وكأنه لم يسمع ما قالت: جوزك فين؟

لم تعد تعلم كيف تتعامل معه، وجدت نفسها تتحدث وقد فقدت صبرها: معرفش يا عيسى، وخليك عارف أنا مليش دعوة بأي حاجه، و...
راح الاقتضاب، يبتسم الآن وهو يقاطعها: مالك متعصبة ليه، شكلك متوترة شوية، تحبي نرجع لمنير تاني؟، ولا تقوليلي جوزك فين أحسن علشان فقرة منير الجاية مفتكرش هتعجبك.

وأخيرا يدق هاتفها برقم زوجها، هذا الذي لا يفعل شيء سوى أن يضعها في المأزق دائما، وما أصعب مأزق يتواجد به عيسى التي لا تفلتها نظراته الآن ِ
طالبها وكانت نبرته حاسمة: ردي.
وسعت هي للتغلب على خوفها وهي تقوم برفض المكالمة قائلة: مش هرد يا عيسى، أنا حرة.

لم تكد تكمل جملتها حتى وجدته يجذب مرفقها بعنف، بان الألم على وجهها وقبل أن تنطق بأي شيء نطق هو: رزان أنا أخر واحد يتلعب معاه اللعب ده، ولو مفكرة هتتحامي في اللي أنتِ متجوازه فده أول واحد ممكن يبيعك عادي جدا وميبصش وراه، جربي مره تبطلي تلعبي على كل الحبال، شوية تقولي لابويا أنا عينك هنا، وشوية تقوليلي أنا الحقني من جابر واللي هيعمله، وكمان ساعتين جابر يبقى حبيبك وماشياله في مشاوير كمان تخص أخويا أنا معرفش عنها حاجة.

وقبل أن تعلق على أي شيء من حديثه ترك مرفقها وهو يحذرها: لو مش هتقولي حاجة دلوقتي، هتبقي زيك زيه عندي وليا...

قاطعته تقسم له وقد تلفت أعصابها كليًا: أنا معرفش حاجة والله العظيم، هو مبيقوليش غير اللي عايز يقوله وبس، كل اللي أعرفه إنه قال لكوثر تروح القسم وتقول إن شهد بتتعرضلها ومعرفش حتى هي سمعت كلامه ولا إيه اللي دار بينهم كامل، ويوم ما بعتني اسأل عن ميعاد الفرح كده وقولتله ليه قالي إنه هيحضر، وحتى اتخانقنا علشان قولتله إن اللي بيعمله ده هيورطه في مشاكل، غير كده والله ما اعرف، أنا لسه امبارح سامعة باللي حصل لكوثر، وهو مش هنا بقاله يومين ولا عارفة أوصله.

كما توقع طاهر تماما جابر هو المتسبب في شكوى كوثر ضد شهد ولكن كيف جعلها تفعلها، طالع عيسى رزان ثم أشار على هاتفها قائلا: كلميه اسأليه هو فين.
ترددت فأخبرها بابتسامة: يلا علشان مبدأش اتضايق.
حاضر يا عيسى.
قالتها وهي تطلب رقم زوجها، وتفتح مكبر الصوت تنفيذا لرغبة الواقف جوارها، ولكن أتتها الإجابة بأن الرقم المطلوب مغلق أو غير متاح، إنه حسن الحظ لمنع كارثة قد تحدث بين جابر و عيسى وابن عمه.

بان الضيق على وجه عيسى، ونظرت هي له تحاول قول أي شيء لتهدئة الأوضاع ولكنه قال قبلها: بصي يا رزان أنا همشي دلوقتي، أي حرف هيحصل بعد ما امشي من هنا لو موصلنيش مش هيحصل خير
سألته باستنكار وقد استوقفتها جملته الأخيرة: ويعني هو لو وصلك هيحصل خير؟
وبحسم جوابها: ملكيش دعوة، ولو اتصل بيكي وكان كل اللي عمله في المكالمة إنه كح، هتتصلي تقوليلي جابر كلمني يكح، وافتكري إني هعرف برضو حتى لو مقولتيش.

تمنت لو استطاعت سب جابر الآن، هذا الذي لا تعلم ما يدور في رأسه، وبدلا من أن تستقر بحياتها معه يورط نفسه مع عائلة نصران بأكملها الآن، وبسببه تتلقى هي تحذيرات عيسى وتوبيخه، ولا تدري ماذا عليها أن تفعل.

ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، هذا ما كان شاكر على يقين منه وهو محتجز الآن لدى كمال، هذا الرجل الذي ذهب إليه يفاوضه، يسلمه عنق حماه السابق ثروت مقابل أن يدبر له أمر خروجه من البلد تماما، يبدو أن الرجل اصطاده بدلا من الوقوع في شباكه، في البداية نفذ له طلبه، وحقق له الاستقرار في إحدى الشقق الواقعة بمنطقة نائية حتى يفكر في عرضه، ولكن بعدها تفاجأ شاكر بزوجته وبرفقتها ملك، زوجته تعلم عنوانه، أتت إليه وكان انهيارها يسبقها، صارع شاكر لحظات لا تُنسى وهي تسقط بين يديه ويرى نزيفها، وفي اللحظة التي قرر أن يخرج فيها إلى المشفى حتى يسعفها متناسيا أي شيء أخر، وجد رجال كمال على الباب، أخذوها منه عنوة وذهب بها بعضهم، وهو تم احتجازه.

احتجاز لم يُقطع إلا بعد أيام بدقات على باب الغرفة المتواجد بها تبعها دخول كمال، استقام واقفًا يواجهه وهو يتحدث منفعلا: أنا عايز أعرف إيه اللي بيحصل بالظبط، وقبل أي حاجة اطمن على بيريهان.
واجهه الرجل وهو يخبره بغلظة: أنا بسببك كنت ممكن أروح في ستين داهية.

ألقى شاكر في وجهه الاتهامات دفعة واحدة وهو يسأل: رجالتك كانوا على الباب يومها ليه؟، خدتوها ودتوها فين، وجت ازاي أصلا، أنت اللي عرفتها مكاني؟، أنا عايز أفهم دلوقتي حالا إيه اللي بيحصل بالظبط، أنت معايا علشان أسلمك ثروت، ولا عليا علشان تسلمني ليه؟

لم يعطه الراحة، لم يخبره أنه ذهب لثروت حتى يتفاوض معه، ويحصل على ما يريد متفاخرًا بالكارت الرابح الذي حصل عليه، زوج ابنة ثروت والذي كان على استعداد تام للإيقاع بحماه، فكر في تسليمه لثروت مقابل ما يريد، ولكن التفاوض لم يحدث بسبب غياب ثروت، التقى بابنته هذه الحمقاء التي طالبته بعنوان شاكر ووعدته بأنها ستجعل والدها يرضخ لكل طلباته، وبعد تفكير أعطاها العنوان ولكنه لم يشعر بالأمان حيالها، أمر رجاله ألا يتركوا أماكنهم ويتابعوها، ليجدوا أنها برفقتها إحداهن وخلفها سيارة بها رجل ربما تابع لها، بقى الرجل في الخارج ودخلت هي برفقة السيدة التي اصطحبتها، تفاجأ رجاله بعد ذلك بهذه المرأة تهرول من المنزل وكأنها تهرب، وتيقنوا من حدوث كارثة حين خرج شاكر بعد وقت ويحمل بين يديه بيريهان فاقدة للوعي، فأمرهم كمال بالتعامل مع الأمر.

تنهد كمال قبل أن يخبره: بيريهان في المستشفى، لسه فيها نفس لحد دلوقتي وده كويس، لإنها لو كان حصلها حاجة، كنت هلبس أنا المصيبة بسبب أغبيا زيكم.
علي الأقل حية، هذا ما زرع بعض الاطمئنان في قلب شاكر قبل أن يحاول تخطيه هاتفًا بإصرار: أنا عايز أخرج من هنا.
اعترض كمال طريقه وهو يرد عليه بحدة: مش بمزاجك، أنت هتفضل هنا لحد ما هشوف هعمل إيه، يا هتسلملي ثروت وهعملك اللي أنت عايزه، أو...

ثم توقف عن الحديث وهو يخبره بابتسامة: ولا بلاش أكمل، خلي الباقي لوقته.
تحرك للخروج وتجاهل تمامًا اعتراضات شاكر، ورفضه لهذا الوضع، النتيجة النهائية أنه سيبقى في هذا الحبس ولا يعلم إن كان هناك إفراج أم لا.
ولم يكن يعلم أن هذا الإفراج سيأتيه بعد أيام على يد جابر الذي ذهب إلى كمال، هذا الرجل الذي لا يعلم هويته، نزل لمقابلته وتفاجأ به يسأل: شاكر فين؟
شاكر مين؟

رد عليه وكأنه لا يعلم عما يتحدث عنه ولكن فاجأه جابر بما لديه من معلومات: شاكر قايل للست والدته إنه عندك، وفجأة اتقطعت أخباره، فمن غير لف ودوران، وعلشان أنا عارف إن سمعتك تهمك تقولي هو عندك لسه ولا، ولو عندك هتسلمهولي.

في بداية الأمر طرده وأخبره ببساطة أنه لا يعلم عنه شيء، كان ينتظر إفاقة بيريهان القابعة في المشفى، بالتأكيد ستخبر والدها عن عرضه وتواجد شاكر معه، ينتظر فقط أن تتحسن حالتها، ولكن قطع انتظاره هذا تحذير أحد العاملين برفقته ومستشاره في كل شيء: سيبه يا باشا، هيفتح علينا مشاكل مبتخلصش، ثروت لسه راجع ومشغول ببنته ومستحيل يفكر في حاجة غيرها دلوقتي، ده غير كمان إني عرفت وأنا بدور ورا جابر اللي جالك ده في بلدهم، إن أم الواد اتقتلت، وهناك بينهم مشاكل وأنت عارف إن قبل حكاية موته دي كان بيتحقق معاه في حاجة مش سهلة، ومش بعيد سيرة الموضوع ده تيجي تاني بعد اللي حصل لأمه، واحنا منضمنش هي ممكن تكون قايلة لمين تاني إنه عندك، وحتى لو مأمن نفسك، ومحدش هيعرف يوصله وهو عندك، مش هنخلص برضو من إن كل يوم والتاني جابر ده ولا غيره يجولك ويعملوا دوشة، ولا البوليس يدخل في الموضوع ويتقال إنه مش ميت ولا حاجة وعندك، وندخل بقى في صداع ملوش أخر، في كل الأحوال هنطلع منه خسرانين، مجرد بس إن اسمك يتجاب في الموضوع ده خساره ليك حتى لو محصلش أي ضرر تاني.

بدى على كمال أنه يفكر جديًا في حديثه، ودفعه للاقتناع به أكثر متابعة من يحدثه: أنا أكتر واحد عارف قد إيه نفسك ثروت يقع أو حتى نخليه ينفذ اللي عايزينه وعينه مكسورة، وكنت بقنعك تخلي شاكر عندك طالما وجوده هيساعدنا في ده، لكن بعد اللي بيحصل ده، نشوف صرفة تانية لثروت بعيد عنه، ويا سيدي وهو ماشي ابقى ارميله معلومة اللي حصل لأمه هو أكيد ميعرفش حاجة، ولمحله إن ثروت السبب، وسيبه منه ليه، بعد حاجة زي دي الواد ده لو يقدر يوقع ثروت فعلا هيوقعه من غير ما يطلب مقابل من حد.

والنتيجة أنه وافقه وقد اقتنع بكل ما قيل، أفرج عنه ولكن بشروطه التي ألقاها على مسامع شاكر هاتفًا: هتخرج من هنا، لو احتاجتك هجيبك، وسيرتي متجيش على لسانك لا بخير ولا شر ده لو لسه عايز يبقى في فرصة إني أفكر أساعدك.
لم ينطق شاكر بحرف، فقط يندم على حسبته الخاطئة حين فكر في اللجوء لهذا الشخص، الذي ظنه سيتفق معه ليحقق كل منهما مبتغاه ولكن وجده يتلاعب به لتحقيق ما يريد هو فقط.

طالعه شاكر بظرة مستهترة، وفي أول خطوات رحيله سمعه يقول من الخلف: وألف سلامة على الوالدة، زعلت على اللي حصلها، الظاهر إن ثروت ناويلك على الأذى جامد.
هوى فؤاده أرضًا، توقف مكانه واستدار لمحدثه وسأله بنبرة قلقة: أمي مالها؟
في المستشفى بتودع.

هكذا ببساطة يخبره عن حالة والدته وخبر مقتلها، يرى ذهوله، والفزع الذي ارتسم على وجهه، فعلم أنه وصل لمبتغاه بينما في نفس التوقيت هاتف مساعد كمال جابر، وما إن رد أخبره: كمال باشا هيخرجه كمان شوية، باقي الفلوس توصلني على حسابي وهبعتلك ال location، وخلصت كده لا أنت تعرفني ولا أنا أعرفك.

وأخيرًا نال ما أراد، تحرير شاكر، وللدقة شقيقه، حتى هذه اللحظة لا يصدق جابر حقيقة أنهم إخوة، كان ينتظر بسيارته على مقربة من الموقع الذي أُرسل له، لم يطل انتظاره حتى لمحه، كان هائمًا على وجهه، غارقًا في صدمته، وحينها قرر جابر ألا رحيل إلا به.

أسوء ما قد يمر به إنسان هو الخوف من لللحظة القادمة، كان هذا ما يسيطر على نصران، وهو يجلس في منزل من توقع أن يكون الحل لديه، كان شاردًا حتى أتي من يستضيفه قائلا: منورني يا حاج نصران، معلش كان عندي مكالمة شغل مهمة.
ولا يهمك يا بني.

قالها وهو يربت على كتفه، ثم استمع له وهو يخبره: يا حاج نصران أنا بحب شغلي، لكن أنا مقدرش أساعد طول ما الكلام خارج إطار قانوني، الحاجات دي عندي مبتمشيش كده، ومع ذلك وعلشان أنا عرفت من فترة وجودي هنا إنك راجل محترم وافقت اجي معاك بيتك لما طلبت، لكن ابنك هو اللي رفض يقابلني.

سمير هذا الذي استلم عمله في مركز الشرطة التابع لهم قبل مدة، اعترض خلالها على أشياء كثيرة منها أن خلافات أهل البلدة مهما بلغت يعود الأهالي فيها إلى نصران بدلا من الشرطة، يتذكر نصران جيدا هذا اليوم حين تشاجر طاهر مع جابر على مرأى الجميع وحين حاول سمير معرفة ما يحدث اعترض طريقه عيسى مبررا هذا التجمع بشيء بعيد عن الحقيقة.

لم تتوطد علاقته بنصران إلا حينما ذهب لتقضية واجب العزاء في والدته وساعده بعدها حينما أراد الانتقال إلى منزل أخر، تحدث نصران ردًا على ما قال: وهو أنا يا بني قولتلك اعمل حاجة برا القانون، أنا كل اللي بطلبه منك إن الموضوع لو اتفتح يبقى بعيد عن أهل...

لم يكمل نصران عبارته بسبب مقاطعة الجالس أمامه له وهو يخبره بهدوء: يا حاج مع اعتذاري طبعا لقطع كلامك، الموضوع مش هيتفتح علشان شاكر اللي أنت بتتكلم عنه ده في الورق الرسمي متوفي، قولتلك لو تعرف سكته بلغ وسلمه وموقفكم هيبقى الأقوى خصوصا بعد تزييف حكاية وفاته دي زي ما أنت بتقول لكن محدش سلمه، أنا عارف إنك خايف على عيسى وفاهمك، لكن مش هينفع حماية عيسى تبقى على حساب شغلي خصوصا لو هو مش متعاون، كمان بعد اللي حصل لوالدة شاكر والبلاغ اللي كانت مقدماه قبلها الدنيا هتتعقد أكتر وأنا فعلا مش هعرف أعمل أي حاجة غير إني أنفذ شغلي.

تنهد نصران بقلة حيله قبل أن يسأله مستفسرًا: بس يا بني هي معملتش كده، اللي سلط كوثر تشتكيها هو اللي عمل فيها كده، وبعدين أنت عايز عيسى يبقى متعاون ازاي؟

واحنا مش ساكتين وبنحقق، أنا كل اللي يهمني الحقيقه وإن محدش يتظلم، أما عن عيسى فيقدر يبقى متعاون بإنه يساعدني نوقع شاكر، على اللي أنا سمعته منك فشاكر مش سهل إطلاقا، بس بيغلط كتير، وأنا متأكد إن أي غلطة من دول في محيط عيسى ممكن تساعد إنه يتمسك بسهولة، اتكلم مع عيسى خليه يجيلي بكرا مكتبي وصدقني لو هو ساعدني أنا هعرف أساعد.

لم ترافق نصران الراحة حتى بعد هذا الحديث، الحقيقة هذه التي يتحدث عنها سمير يستطيع الكثير من الأطراف التلاعب بها وتزييفها، بداية من والدة شاكر التي يحاول أحدهم إلصاق تهمة التخلص منها بشهد، أو شاكر ذاته الذي يطالبه سمير أن يساعده ابنه في الإيقاع به في نفس التوقيت الذي يخشى فيه نصران أن يمكر بابنه ويصيبه أذاه أو حتى يتورط فيما يجعله يفقده.

لم يرغب عز أبدًا في الذهاب إلى منزل نصران، ولكنه اضطر من أجل عيسى الذي لم يجده، وحدث أخر ما أراد، وجد رفيدة في الحديقة برفقة يزيد، أكمل طريقه متصنعا عدم رؤيتها حتى أوقفه اسمه الذي صدر منها: عز.
لم يستدر لها، تحركت هي لتقف قبالته وتسمع سؤاله: خير يا رفيدة؟

يفتقدها، هذا ما كان على يقين منه وهو يرى توترها، الحديث الذي فر منها، ونظراتها التي تعاتبه تارة، وتعتذر منه تارة أخرى، كان صعبًا للغاية ولكنها في النهاية تحدثت بما لم يتوقعه أبدًا: تيسير عملتلنا النهاردة مكرونة بالبشاميل، في العادي كنت ببقى مبسوطة وبقولها إنها أحسن حد بيعملها، بس النهارده حسيتها مش حلوة أبدًا، لقيتني مفتقدة المكرونة اللي أنت عملتهالي مرة،.

كانت عبراتها ستخذلها تحت نظراته التي لا تفارقها وهو يسمعها تكمل بنبرة باكية: اكتشفت إن أنت أحسن حد بيعملها مش تيسير.
وبرفق طالبها وهو يرى دموعها في مقلتيها: ممكن متعيطيش طيب؟

حاولت ألا تبكي بالفعل، ومسحت عبراتها وهي تكمل ما بدأته: أنا أسفة يا عز لو اتجرحت بسببي، بس ده كان غصب عني، أنا فجأه اتلغبطت ومبقتش عارفة أخد قرار، وصدقتي أنا مكنتش أعرف الكلام اللي اتقال لوالدتك وإنها تخليك بعيد، ولو كنت أعرف كنت منعت ده يحصل، وارد كل اللي بقوله ده ميفرقش معاك، بس أنا حقيقي محتاجة أقوله.

نظرت إلى الأرضية بأسف ولم تستطع إكمال حديثها، حزنها يمنعها، وتشتتها يردع مقاومتها لهذه الحالة، وانتقل حزنها له، كما يراها دائما، رقيقة، هشة، ربما لو قسا عليها أحدهم قليلا لتبخرت، وصل إلى أذنيها نبرته الحانية وهو يطالبها: رفيدة بصيلي.

لم تقدر على تنفيذ طلبه، ولكن حديثه الذي بدأ فيه دفعها لتنظر إليه وهو يقول: أنا فاهم يا رفيدة على فكرة، فاهم كل اللي فكرتي فيه وقلقتي منه، أنا زعلي بس كان بسبب إني فجأة حسيت وكإني فارض نفسي عليكي، وأنتِ مكانش في من ناحيتك أي حاجة مع إن ده مش حقيقي وأنا مخدتش خطوة غير لما اتأكدت منك، كمان زعلت لما رفض والدتك جه معاه تلميحات أنا مقبلهاش، أنا حبيتك يا رفيدة، ولو كنت هطمع في أي حاجة كان هيبقى حبك بس، نظرة والدتك عني موجعتنيش قد ما وجعني إنك مدافعتيش عني قصاد النظرة دي حتى لو كنا مش هنبقى مع بعض.

قاطعته تقسم له وهي تدافع عن نفسها وترجو أن يصدق ما تريد إيصاله: والله أنا دافعت عنك يا عز، أنا قولتلك الحقيقة، لما ماما اتكلمت معايا عن إن لو بقينا مع بعض أنا مش هرتاح والحب ده هيروح علشان هنكون حمل تقيل على بعض أنا اتلغبطت، وبقيت خايفة، مكنتش عارفة حتى أفكر كويس، وأي حاجة قولتها أو عملتها كان بسبب ده، لكن أنا عمري ما سمحت يتقال عنك أي حاجة تقلل منك، الكلام اللي اتقال لوالدتك ده أنا مكنتش أعرف عنه حاجة، مكنتش هرضى إن حد يقولك خليك بعيد عني وكإنك فرضت نفسك عليا زي ما أنت قولت، لإن أنا اللي سمحتلك تبقى موجود من الأول، أنا معرفتش أوصلك ده من اللغبطة اللي كنت فيها، قولت كلام أنا عارفه إنه ممكن يكون جرحك، وبان منه إني موافقة على اللي بيحصل، لكن ده كان غصب عني والله.

ودلوقتي مبقتيش متلغبطة؟
سألها وكانت هي على يقين مما تريد فأعطته الجواب: أنا دلوقتي عارفة إني عايزة أكون معاك من غير تفكير في أي حاجة تانية.

ابتسم على جوابها هذا، تقف أمامه التي بقى أيام في عذاب حتى عرفت بحبه تخبره الآن أنها تريد أن تكون معه، ولم يجد ما يقوله إلا: أنا مش متأكد من حاجة في الدنيا قد ما أنا متأكد إن الحب اللي حبيته ليكي عمره ما هيروح علشان حتى لو بقيتي في يوم حمل تقيل عليا أنا هبقى راضي بده.
حكت عيناها عن سعادتها رغم الدموع التي علقت بها، ثم ابتسامتها وقبل أن ترد عليه سمعا صوت والدتها يناديها: رفيدة.

اقتربت سهام منهما، ومسح عز على وجهه بضيق خاصة وهو يرى النظرات التي تطالع بها ابنتها ثم انتقلت إليه قبل أن تسأل: خير يا عز؟
حاولت رفيدة الحديث بدلا منه، أن تفصح عن كونها من استوقفته فقالت: عز كان جاي لعيسى، وأنا اللي...
قاطعتها والدتها بحدة: أنا مسألتكيش أنتِ.

وهنا تدخل عز يخبرها بما لن يعجبها أبدًا: جيت ل عيسى زي ما رفيدة قالتلك يا ست سهام، ووقفت لما هي ندهتني، أصل أنا طلبتها تاني من الحاج نصران، وهو قالي هياخد رأيها ويعرفني الرد، و رفيدة حبت توصلي الرد بنفسها.

لم تصدق رفيدة الواقفة خلف والدتها ما قاله، اتسعت ابتسامتها وهي تحرك رأسها بموافقة مما جعله يضحك، فاستدارت لها والدتها التي تمكن غضبها منها ترى ماذا تفعل، فوأدت رفيدة الابتسامة لتبدو طبيعية وأمها تسأل: وردت عليك بقى رفيدة قالتلك إيه؟
أشار عز ناحية ابنتها قائلا: والله تقدري تسأليها.
وختم بابتسامة قبل أن يغادر: عن إذنكم.

وما إن رحل من أمامهما حتى أمسكت سهام بمرفق ابنتها بضجر وهي تسألها: هو الموضوع ده مش كنا قافلناه؟
أبدت تألمها وهي تنبه والدتها: إيدي يا ماما، وبعدين أنا قولتلك هفكر لكن مكانش اتقفل ولا حاجة، والحقيقة إني موافقة على عز، والفتره اللي فاتت خلتني متأكدة من ده.
بان انفعال سهام في نبرتها وهي تسألها وقد طفح كيلها: هو أنتوا حد مسلطكم عليا؟

ثم دفعت ابنتها وتحركت لتغادر وهي تكمل بانزعاج: اوعي من وشي، مبقتش طيقاكم كلكم.
حزنت رفيدة من أفعالها، ترددت في اللحاق بها خاصة مع انفعالها هذا، ثم انتبهت لهاتفها الذي أضاء، فتحته لتجد رسالة منه، بعد قطيعة قد طالت وتسببت في ألمها أخيرا يراسلها، دق فؤادها، وفتحت رسالته وعينيها تلمع بالشغف حيث أرسل: هعملك المكرونة، وهحاول أبعتهالك، احنا عينينا للأستاذة رفيدة.

ضحكت، خاصة وهي تقرأ اللقب الذي لطالما أخبرته كم تبغضه، وبالفعل ردت عليه ترسل له بسعادة: أنا مش أستاذة، وعموما مستنية المكرونة.
أغلقت هاتفها، وقررت العودة إلى الداخل، وهي تتنهد بارتياح، وكأنها كانت فراشة سجينة، والآن فقط تم إطلاق سراحها، أخيرًا تستطيع التحليق بحرية.

كانت ملك ترغب في زيارة والدتها، ولكنه يخشى أن يقلقها أحد بأمر ما حدث مع شهد، طالب والدتها ألا تخبرها وحتى تيسير نبه عليها، يعلم كيف يقتلها خوفها، استمع لها وهو يطالع حاسوبه حيث أخبرته: حاسه صوت ماما مش كويس، أنا هنزل أروحلهم شوية.
صرف نظره عما يفعله، وطالبها وقد انتبه لها: خليكي النهارده ونبقى نروح سوا بكرا، ومتقلقيش طاهر كان لسه عندكم ولو في حاجة كان قال.

تشعر وكأنه يخفي شيء، تركت مكانها وذهبت لتجلس أمامه، وكأنه في تحقيق الآن وهي تسأله باتهام: مخبي عليا إيه يا عيسى؟
فترة هرمونات الحمل اللي مطولة معانا دي بقت جايبالي توتر، هخبي عليكي إيه يعني، لو عايزة تنكدي عليا اختاري حاجة مقنعة.
قال جملته الأخيرة مبتسمًا وعلقت هي عليها باستياء شديد: أنكد عليك؟، نسيت تعبي من كام يوم علشان أخليك مبسوط؟

ضحك، ومسح على أنفها بسبابته وهو يخبرها: ده كان فخ يا حبيبتي، علشان تعرفي حاجة عايزة تعرفيها، وبعد ما عرفتي نكدتي عليا برضو، هو أنا مبصعبش عليكي يا ملك؟
تصنعت وكأنها تفكر في الأمر قبل أن تجاوب: ساعات.

ثم أكملت تذكره بأقواله وهي على وشك قتله بنظراتها: لكن لما بتاكل وتنكر كده مش بتصعب عليا، أنا منكدتش عليك يومها، أنا زعلت شوية وده من حقي وبعد كده صالحتك لما حاولت تصالحني علشان أنا قلبي طيب، ده أنا إيدي وجعتني من كتر الورق اللي كنت كاتباه ليك على الترابيزة، لكن أنت متستحقش، هات الورق ده.
رفع كفيه باستسلام وهو يطالبها برجاء ضاحكًا: خلاص بقى قلبك أبيض، حقك عليا يا ملك، محدش نكدي غيري، كده مبسوطة؟

ورغم عدم رضاها ولكنها قالت وقد أعطته عفوها: بتحل أمورك علشان تريح دماغك بس ماشي، خلينا في المهم.
سألها باهتمام عما تريده، وأخبرته هي وقد التصقت به وأراحت رأسها على كتفه: أنا كنت بكلم ميرفت، قولتلها تيجي تقعد كام يوم بس مرضيتش، ابقى تعالى نروح نشوفها، هو أنا مكسلة عموما، بس بيصعب عليا إنها لوحدها.

ابتسم على جملتها الحانية وطمأنها قائلا: من غير ما تقولي، أنا كده كده هروح واجيبها معايا تقعد هنا شوية، بس على فكرة يا ملك...
لم يكمل، مما جعلها تعتدل وتنظر له مستفسرة: على فكرة إيه؟
بدا جادًا وهو يقول ببراءة شديدة برع في تمثيلها: أنا بقالي فترة برضو بعاني من الوحدة، وحاسس إني مش كويس، وحالتي النفسية محتاجة تتحسن.

تعلم أسلوبه هذا في المراوغة فتصنعت أنها تجاريه وهي تسأل: يا نهار أبيض، لا طبعا مينفعش، بس متقلقش
وتابعت بابتسامة: أنا هدعيلك إنها إن شاء الله تتحسن لوحدها.
أبدى اعتراضه وهو يكرر خلفها بخيبة أمل: تدعيلي!
لا كتر خيرك، أبويا بيدعيلي.
ضحكت على قوله، ثم حاولت مراضاته سائلة: طب عايز إيه؟

ابتسم قبل أن يخبرها وهو يحاوطها بذراعه: والله ده سؤال حلو جدا، وأحب أكون طماع في الإجابة عليه، بس أنا مش هعمل كده المرة دي.
طالعت عسليتيه وهو يكمل بنفس ابتسامته التي تأسرها: عايزك جنبي بس، وتخلفي بقى، علشان أنا عايز أحب حد أكتر منك شوية.
أخبرته بصدق وهي تحتضن كفه: وأنا مش هزعل لو حبيت اللي جاي أكتر مني.
رقتها غلبت مشاكسته وجعلته يصرح: وأنا عمري ما هعرف أحب حد أكتر منك يا ملك.

ضحكت قبل أن تريح رأسها على صدره باطمئنان قطعه هو حين سأل: كان في فستان كده جبتيه وأنتِ مع مريم، أنا معرفتش عنه حاجة، في أمل أشوفه ولا هتدعيلي بداله ده كمان؟
هدعيلك بداله.
قالتها وهي تضربه على صدره، قبل أن يعلو صوت هاتفه، وحينما وجد المتصل والده، قال: يبقى أقوم أروح للحاج بقى مليش غيره، وخليكي أنتِ هنا.

علت ضحكاتها وهي تراه يقوم بالفعل من أجل النزول لوالده، انشغلت مع هاتفها، وحين اقترب هو من الباب سألها: تنزلي معايا؟
لا، حاسة إني مش قادرة.
وبعد جوابها، ابتسم لها وهو يخبرها: نص ساعة وهطلع تاني.
هزت رأسها موافقة وهي تتابعه أثناء خروجه، تود لو بقت صورته دائما أمام عينيها، هذا الذي يخبرها فؤادها في الدقيقة مائة مرة أنه يهيم به.

أحيانا نعجز عن التصديق، لحظات نظنها فقط في مسلسلنا الدرامي الذي نتابعه وبغتة تصدمنا الحياة بأننا نعيشها، هذا ما كان يفكر به جابر حينما جلس شاكر جواره في سيارته، سمع سؤاله وكان على أتم الاستعداد للرد: عايز إيه؟، ومين اللي عرفك سكتي؟
وبعينين لمع الغضب فيهما نطق: وأمي مين اللي عمل فيها كده؟
كان جابر ثابتا، أبدى تأثره وهو يرد: اهدى وأنا هفهمك كل حاجة.

لو ليك إيد في اللي حصل لأمي هتبقى أخر لحظة في عمرك.
أخبره شاكر بهذا مما جعل جابر يرد عليه متظاهرًا بالضيق: لو ليا إيد مكنتش هاجي للراجل ده وأقوله يسيبك، وأهدده إني هعمله مشاكل لو مخرجتش من هنا، وعلى فكرة أمك قبل اللي حصلها هي اللي جت طلبت مساعدتي، وعرفتني إنك عند الراجل ده.
أنصت شاكر لكل حرف مما قيل، وما إن انتهى جابر حتى علق سائلا: ومساعدتك دي بقى كانت مقابل إيه؟

وكان الرد حاضرًا: عندك حق تسأل، وأنا مش هكدب عليك وأقولك إني وعدتها أساعدها لله، هي عملتلي خدمة كبيرة، وصلتني باللي المفروض يبقى أبويا، بس للأسف طلع راح قبل ما ألحق أحاسبه.
أخر ما يعلمه شاكر حسب شردية والدته أن جابر ابن لأحد أفراد عائلة منصور الممتدة ولكنها لا تعلم من هو، هذا كل ما تعلمه بالإضافة إلى أن والدته هي الخادمة التي كانت تعمل في منزلهم.

واستنادًا إلى ما يعرفه نطق شاكر: أنا أمي متعرفش مين أبوك، ساعدتك توصله ازاي؟
وصلتني باللي تعرف ومخبية، أخت الست اللي المفروض تبقى أمي.

قال جابر جملته الأخيرة بسخرية مريرة، ولم يترك شاكر لأفكاره، بل أكمل مجيدًا تنفيذ خطته التي برع في رسمها: أمك قالتلي مكان الراجل اللي مقعدك عنده، قالتلي أجيلك وأعرض عليك المساعدة وأحميك، بس أنا لما جيتله أنكر إنك عنده، وعرفت بطريقتي إنه رافض يخرجك، افتكر أنا كده عملت اللي عليا، كون إني ساعدتك تخرج من عنده دي أكبر مساعدة، الجاي بقى مليش دعوة بيه.
وديني المستشفى عند أمي.

هذا ما يرغب به الآن ولا شيء سواه، وحذره جابر من تبعات هذا قائلا: الحكومة في كل حته هناك، وكمان عيون الحاج نصران.

طالعه شاكر بعدم فهم، ووضح له جابر وبداخله سعادة عارمة أن كل شيء على ما يرام حتى هذه اللحظة: أصلهم بيقولوا إن الست كوثر قبل ما يحصلها اللي حصل راحت اشتكت في القسم إن شهد بنت عمك اتخانقت معاها وهددتها، وطبعا بعد اللي حصل جابوا شهد، وأخر حاجة عرفتها إنهم سابوها لحد ما يشوفوا حالة الحاجة هتوصل لإيه.

وتابع يطرق على الحديد وهو ساخن: أنت الوحيد اللي تقدر تعرف هي بنت عمك تعمل كده فعلا ولا لا، بس واجب برضو عليا أقولك إن اللي الست كوثر طلبت أحميك منه هو عيسى، واللي لولا تهديده ليها مكانتش طلبت مساعدتي.

يلقي جابر على مسامعه كل ما هو على يقين من أنه سيشعل حقده في أكثر لحظاته ضعفًا، حيث يشعر بالعجز وهو لا يستطيع حتى إلقاء نظرة واحدة على والدته التي تصارع الموت، يراه الآن وهو مشتت، وسمعه أخيرا بعد صمت يقول: أنا عايز موبايل وخط، هتجيبلي ولا أتصرف؟
طالعه جابر بهدوء قبل أن يقرر الرد، شعر بالقلق الآن حيال ما ينتويه شاكر حين رأى نظراته، وأصبح لا يشغله سوى معرفة ما الذي يخطط له الجالس جواره.

لم يقدر على زيارة أمه، يجلس الآن في مكان دبره له جابر الذي يشك به حتى هذه اللحظة ولكنه مضطر لقبول مساعدته، ليس أمامه غيره، وخاصة أن والدته أخبرته بمكانه، وهذا يعني أنها وثقت به، طال انتظاره وقد طلب من جابر أن يرسل أحدهم ويخبره بحالة والدته بالتفصيل، وأخيرا أعاد توجيه مقطع صوتي له عبر تطبيق التليجرام أسرع شاكر في فتحه ليسمع: أنا روحت يا أستاذ جابر وحاولت أعرف من واحد حبيبي هناك رغم إنهم مشددين الدنيا أوي والله، الست حالتها صعبة مبتتحسنش، وكل اللي هناك قالوا إن المسألة مجرد وقت مش أكتر.

لم يتحمل سماع المزيد، ألقى بالهاتف على الفراش، وأغمض عينيه عاجزًا عن تصديق ما تلقاه، الألم حين فقد والده لم يكن بنفس القدر، ربما لأن الآن لم يتبق له سوى والدته، هذه التي كانت على استعداد تام أن تهبه حياتها، شعر بدموعه التي فرت من عينيه، وهو على إدراك تام من أنه يخسر كل شيء، تمر أمامه لحظات عاشها مع أمه، يتذكر دعمها اللامتناهي، خوفها عليه من كل شيء، يرن صوتها في أذنه حين كانت تقف أمام والده عندما يرفض له أحد مطالبه: اللي شاكر يشاور عليه بس يجيله لحد عنده، أنا هعمله اللي هو عايزه لو أنت هتفضل تقوله على كل حاجة لا كده.

المزيد من الدموع، تائه، متكورًا على نفسه كصغير خائف بحاجة لأمه، ويفكر ما الذي حدث، من الذي فعل هذا بها، لحظات الفزع التي بالتأكيد عاشتها أمه تقتله، أمه التي لطالما ظن أنه لا يقدر عليها أي انسان، حتى حينما تم إبلاغه في وقت سابق عن غيابها أثناء احتجاز جابر لها، لم يقلق مثل أخته، بالتأكيد هي هنا أو هناك تفعل شيء ما وستعود، حتى وهو يبحث عنها كان على يقين من هذا.

شعور المرارة هذا لن يتجرعه وحده، هذا ما قرره، وقد حمل في عينيه غضبه وقهرته على كل خسارة خسرها، كل شيء تم إفساده عليه بعدما سعى وخطط له، قرر أنه لن يخرج من هذه الحرب مهزومًا بمفرده، حتى لو كان هذا أخر ما سيفعله في عمره.

السيارات، شغفه الذي لا ينتهي أبدًا، لولا والده لاستقر في القاهرة جوار معرضه هذا، جلس عيسى في انتظار بشير، وقضى الوقت في مطالعة أوراق العمل التي أحضرها له أحد العاملين، قطع تركيزه دخول صديقه والذي رحب به عيسى ممازحا: بشير باشا بنفسه جاي هنا.
أنت بتقولي اللي المفروض أقولهولك ولا إيه؟

سأله بشير ضاحكًا رغم سوء حالته، ورد عليه عيسى يدافع: والله أنت ظالم، ده أنا بقالي شوية شايل الشغل كله، سواء نزلت القاهرة أو حتى لا، وبعدين أنا بفكر أغدر بيك وأنقل شغلي اسكندرية.
لم يأخذ بشير حديثه هذا على محمل الجدية خاصة قوله الأخير الذي رد عليه قائلا: بس يالا.

ضحك عيسى، وقرر ألا يتطرق لهذا النقاش الآن، ذهب إلى ما هو أهم مستفسرًا: طيب سيبك من موضوع إني هنقل ده دلوقتي علشان هيجيب مشاكل، وخلينا فيك، إيه اللي حصل، ومال شكلك كده؟
تنهد بشير بثقل قبل أن يخبر صديقه بتعب: معرفش يا عيسى، كل حاجة بتتعقد، علا انهارت أول ما عرفت اللي حصل ومقدرتش اتكلم معاها في أي حاجة ساعتها، وعلشان اتكلم واقنعها إنها لما تتسأل تقول إن مفيش خلاف مع شهد كان صعب أوي.

بان الضيق على وجه عيسى والذي علق على ما يقال: ما هو مفيش خلاف فعلا يا بشير على الأقل دلوقتي، ولا هي كانت عايزة تشهد بحاجة محصلتش وتورط واحدة ملهاش ذنب؟، وبعدين أنا هستغرب ليه ما هي عادت...

لم يكمل حديثه بسبب بشير الذي استوقفه هاتفًا بانزعاج: عيسى لو سمحت بلاش كلام يخلينا نزعل من بعض، وبعدين هي مقالتش أنا عايزة أشهد بحاجة محصلتش، بس دي دلوقتي واحدة مش كويسة صحيًا ولا نفسيًا وفجأة بيتقالها أمك حصلها كذا وفي المستشفى والدكاترة بيقولوا مش هتقوم منها، وبعدين يتقالها إن الست اللي أنتِ مقهورة عليها دي قبل ما يحصلها اللي حصل قالت إن بنت عمك عاملة معاها مشكلة وبتهددها بس أنتِ لما تتسألي قولي إن مفيش بينكم مشاكل.

تراكمات كثيرة ليس من اليسير تحملها لذلك أكمل بشير بعد ذكرها: عايز كل ده يعدي عليها بالساهل؟
وبعدين خلاص هي اتسألت لو في مشاكل بينها وبين شهد وقالت مفيش، كفايه عليها اللي هي فيه بقى، وإني حتى مش قادر أخدها المستشفى تشوف أمها علشان حالتها متبقاش أسوء.
ورد عيسى من كل هذا على جملة واحدة وكأن باقي الأمر لا يعنيه: أصلا الزيارة ممنوعة، يعني حتى لو أنت عايز تاخدها مش هتعرف.

هو ده كل اللي سمعته يا عيسى من اللي أنا قولته؟
سأله بشير وهو يحاول تمالك كل ذرة هدوء لديه ورد عليه عيسى بجدية مقررًا وضع خطوط النهاية لهذا النقاش: لا سمعت الباقي ومش عارف أنت عايزني أرد أقول إيه، تحب أروح أشكرها علشان مورطتش شهد؟

وقبل أن يتحدث صديقه تابع هو: بص يا بشير أنا عارف إنك بتحبها، زي ما أنت عارف بالظبط إنك لو حد تاني أنا كنت قطعت معاك، وعموما أنا قولتلك قبل كده اختيارك أنا مش هتدخل فيه، مع إن اختيارك ده كان هيخليني أخسرك قبل كده، لما راحت سمعت كلام أمها ونزلت من وراك، وخدتك وراها واتسببت في اللي حصلك.

وكان يعلم عيسى ما يريد صديقه قوله فهتف به: عارف إنه حصلها هي كمان، ولسه لحد دلوقتي مرجعتش زي الأول، ومتأكد إنك هتبرر غلطها بإن مهما حصل دي أمها علشان كده نزلتلها، وأنا لو مكانك على فكرة هبلع الزلط عادي وهعدي، لكن يا بشير أنا بس عايز أفكرك إن زي ما أنا قبلت وجود علا في حياتك أنت كمان لازم تفهم وتقبل إنه لما تحكيلي دلوقتي قد إيه هي كانت بتعاني وأنت بتقنعها تقول الحقيقة علشان شهد متتاخدش في الرجلين أنا مش المفروض أشفق عليها، ولا أقولك يا سلام دي مضحية جدًا، متستناش مني ده، وحتى لو اتغيرت علشان كده بقيتوا سوا أنا برضو مش سهل عليا موقفي يتغير من ناحيتها.

لم يجد بشير ما يرد به ولكن بان على وجهه أنه لم يرد يوما أن يقع في هذا الفخ أبدًا، صديقه وحبيبته، ربت عيسى على كتفه مطمأنًا: أنا فاهمك متقلقش، أنت أخويا، وللأسف أخويا حب أخر واحدة كان ينفع يحبها، بس أنا مقدر أسبابه، واللي هي إن في ناس ساعات ممكن يعملوا حاجات مش شبههم بسبب اللي حواليهم أو حتى التربية اللي اتربوها، وارد هي فعلا كويسة ووجودها في العيلة دي هو سبب في كل اللي حصل، وارد مكانتش كويسة أصلا بس فاقت واتعدلت، حاجات كتير أوي أنا فهمتها علشان أقدر موقفك وأتقبل وجودها في حياتك، فياريت أنت كمان تحاول تفهمني لو ملقتش مني الرد اللي أنت عايزه.

هز بشير رأسه بابتسامة قائلا: ماشي يا عيسى، خلاص هقول إيه بقى بعد اللي أنت قولته.
قوم يلا اطلبلنا قهوة وأنت دمك بقى تقيل كده من ساعة ما اتجوزت، أنا هشوف حد غيرك، الصحوبية دي جاية عليا بخسارة.
مازحه عيسى مما جعل بشير يبتسم وهو يخبره: هروح اخلص حاجة وهطلب قهوة ليا أنا لوحدي، هات لنفسك.

تصنع عيسى أنه سيلقي بالأوراق عليه فخرج بشير مسرعًا وهو يضحك، وأخيرًا استند على مقعده وأغمض عينيه بتعب، يفكر في نقاشهم هذا، حتى سمع صوت هاتفه، ظنها ملك ولكن تفاجأ بأن الرقم غير مسجل لديه، إحساس قوي أخبره بأنه هو، كل الأحداث الأخيرة تؤكد أنه سيظهر، رد عيسى على المكالمة وصدق ظنه حين سمع صوت شاكر يقول: والله ليك وحشة يا عيسى.

تجمعت الأفكار في رأس عيسى في هذه اللحظة، هل عرف بما حدث لوالدته، مصاب بيريهان التي خسرها وخسر ابنه وبسببه لن تستطيع الإنجاب أبدًا، قطع شروده هذا شاكر الذي سأله: مبتردش ليه؟
ولا أنت مكنتش مستني المكالمة دي؟
عايز إيه؟
سأله عيسى وهو يرغب في إنهاء هذه المهزلة وكان رد محدثه قول: عايز اسألك سؤال.
وبسخرية علق عيسى: وسؤال إيه ده بقى اللي خلاك طلعت من جحرك وكلمتني!

استطاع عيسى سماع ضحكة شاكر، أدرك أنه ليس في حالة طبيعية أبدًا خاصة وهو يعيد طلبه بإصرار: سؤال واحد بس وترد عليا فيه، بعد السؤال ده أوعدك إني هعرفك كل اللي جاي.
رد عيسى عليه يخبره بتهكم: لا خلي اللي جاي عندك مش محتاج أعرفه، وعموما اسأل يمكن أردلك على السؤال اللي مخليك مخصوص تتصل بيا، بس خليك فاكر هو سؤال واحد بس.
إيه أكتر لحظة حسيت إنك مش فارقة معاك روحك فيها؟

كان سؤال هام، يعلم عيسى الجواب عليه، اللحظة التي انقلبت حياته بعدها رأسًا على عقب، قرر أن يعطيه مراده، وجاوب بلا تردد: وقت الحادثة لما قلبت العربية، مكنتش خايف على أي حاجة، لكن لو الوقت رجع مش هعمل كده تاني.
وسأله من يحدثه يرغب في جواب بعينه: ليه مش هتعمل كده تاني؟
ملكش دعوة.
رد عيسى ولم يعطه ما رغب فيه، نفذ قواعده، سؤال واحد فقط ولم يصرح بأسبابه، أبقاها مجهولة، وانتظر ما سيقال.

ولم يطل انتظاره، حيث وصل إلى أذنيه قول محدثه يخبره: بس أنا بقى حابب أعيد الأمجاد تاني يا عيسى، ومتقلقش أنا مجهز كل حاجة، من أول المسرح، لحد الضيوف اللي هيقعدوا في الصف الأول، أوعدك إنك هتسمع تصقيف عمرك ما سمعته في حياتك، هتبقى ليلة مش عادية
رغب عيسى في مقاطعته، في إيقاف ما يحدث، ولكن كان إصرار المتحدث هو الأقوى حيث أكمل ما بدأه والشغف يملأ نبرته: وأول ضيفة من ضيوف الصف الأول هتكون ملك.

هناك أقوال تهز ثباتنا، ورغم كل قوتنا تجعلنا نشعر بالخطر، وكأن شيء مهيب يتم تحضيره لنا، كان واحد من هذه الأقوال ما وصل إلى عيسى الآن، ملك المفاجأة يشعر ولأول مرة بمفاجأة لا يعلم عنها شيء.
أغلق شاكر المكالمة قبل أن يتلقى أي رد من عيسى الذي أسرع يهاتف زوجته والتي ذهب بها إلى خالته قبل أن يأتي إلى هنا، ردت عليه وحاول هو أن يبدو عاديًا وهو يبلغها: أنا جاي كمان شوية، متتغدوش بقى استنوني.

مش قولت هتتأخر يا عيسى؟
سألته باستغراب ورد هو يشاكسها: يا ستي غيرت رأيي، أنتِ مش عايزاني أرجع ولا إيه؟
ضحكت وهي تخبره: لا طبعا ترجع، أنا أصلا كنت هستناك يا عيسى.
أقوالها تحمل رقتها، أنهى مكالمته معها وهو يحاول ألا يترك عقله للأفكار السيئة، عاد بشير يحمل معه القهوة، رأى وجه صديقه فسأله بقلق: مالك يا عيسى؟

أخرج أخيرا انفعاله وهو يسب من حدثه قبل قليل: ال ××× اتصل بيا، أنا مش متطمن يا بشير، حاسس إن في حاجة هتحصل.
طب اهدى بس يا عيسى، قالك إيه؟
حاول بشير أن يعرف ما الذي دار بينهما، ولكن في نفس اللحظة كان عيسى يهاتف أحدهم وقبل أن يسأل بشير عن هويته سمع صديقه يقول: ألو
وما إن تلقى الرد حتى عرف عن نفسه: أنا عيسى ابن الحاج نصران.

علم بشير أنه يُحدث شخص يُدعى سمير، واستطاع بيسر تخمين أنه ضابط، ولكن ظلت حيرته قائمة حول علاقة عيسى به، وأخذ ينتظر على أحر من الجمر انتهاء المكالمة لمعرفة ماذا يحدث.

إنه من المؤلم جدًا أن يفقد المرء نفسه، هذا ما تيقنت منه بيريهان التي خسرت كل شيء حتى روحها، عادت إلى المنزل بعدما غادرت المشفى، وتجلس الآن على الفراش أمام والدها وكأنها شبح، ليست ابنته التي عرفها، حتى لومها لا يقدر عليه، بسبب حالتها النفسية التي حذره الطبيب منها حتى أنه رجح لو بقت في إحدى المصحات العلاجية لفترة، قطع هو الصمت يمسح على خصلاتها بابتسامة سائلا: بيري حبيبتي ندى قالت مش هتمشي غير لما نتغدى سوا، أنا خليتهم عملوا كل الأكل اللي بتحبيه، ممكن ناكل سوا؟

لم تعطه إجابة، كانت عيناها تطالع السقف بصمت وكأنها تبحث عن ضالتها فيه، مرارة لا توصف شعر بها وهو يراها هكذا، ربت على كتفها يخبرها بما تمنى لو تسمعه: كل حاجة بتتعوض يا بيريهان، هتبقي أحسن، ولو على الأطفال، في طرق تانية تخليكي تبقي أم من غير ما تخلفي، المهم أشوفك كويسة.

من جديد لا رد، حينها فقط لمعت الدموع في مقلتيه وهو يتوسلها: علشان خاطر بابا اوعي تفكري تعملي في نفسك حاجة تاني، أنا محتاجك جنبي يا بيري، هنسافر سوا، وهوديكي مكان كويس أوي نفسيتك هتتحسن هناك، انسي كل اللي فات، أنا خلاص شكل كده مش هيبقى في وزارة تاني، وهنقضي مع بعض وقت كتير يا حبيبتي.
خليهم يجهزوا الغدا، وسيبني ارتاح شوية لحد ما يجهز.

قالت هذا وهي على نفس حالتها، رأفت به حين سمعت توسله، وسعد هو بردها كثيرًا، بوادر الاستجابة هذه أعطته أمل، نفذ لها ما أرادت، تركها لتستريح، وما إن خرج حتى تنهدت هي بتعب، وتناولت هاتفها الموضوع جوارها، ذهبت إلى الصور، تحديدًا صورها قبل أن تعرف شاكر، كان تطالع هيئتها في هذه الأيام بألم شديد، ثم تخطتها إلى صورها معه في بداية زواجهم، تمكن القهر منها وبكت، كيف استطاع أن يجيد التمثيل بهذه البراعة، أغلقت كل هذا، وأخذت تعبث في هاتفها، تتجول هنا وهناك، حتى لاحظت تسجيل صوتي وصل لها قبل يومين على أحد تطبيقات المحادثات من رقم لا تعرفه، فتحته ولم تصدق حين وصل لأذنيها صوته، شعرت بأنفاسها تُسرق منها وهو يقول: صعب عليا أوي يا بيريهان إني مش عارف حتى اتطمن عليكي، مكنتش عايزك تتأذي، بس اللي كان مصمم يأذيني، خلاكي تتاخدي في الرجلين، معرفش هتسمعي الكلام ده ولا لا بس لو سمعتيه عايزك تعرفي إني والله العظيم حبيتك، دي الحاجة اللي أنا متأكد إني مش بكذب فيها، كنت عايز أبعد عن كل حاجة وابتدي معاكي، بس مخدتش فرصة.

تعالت شهقاتها، وشعرت وكأنها على وشك الموت، لأخر لحظة يقسم بما لم يفعل به أبدًا، يقسم بأنه أحبها، استمعت إلى باقي حديثه حيث أخبرها: اطمني، أنتِ مش هتشوفيني تاني يا بيريهان، وعايزك تتأكدي إني هاخد حقي وحقك، زي ما أنا متأكد إنك أحسن حاجة في كل اللي عيشته.

أغلقت الهاتف، لا تريد أن تسمع أي شيء أخر، يكفي روحها التي خسرتها، ولكن تكرر في أذنيها قوله هاخد حقي وحقك، أي حق، وأي مصيبة ينوي هذا المختل فعلها بعد كل ما فعل، تمكن الخوف منها، وهي التي لم تنعم بالسكينة منذ كل ما حدث ولو لدقائق.

أخرجت رزان هاتفها وهي تنظر حولها تتيقن من أن لا أحد يتابعها، أجرت اتصال ب عيسى الذي سريعًا ما رد عليها لتخبره هي: جابر تقريبًا مخبي شاكر في البيت بتاع منصور اللي عند الأراضي، أنا مش متأكدة، بس أنا سمعت جابر بيكلمه وبيقوله هيروحله بالليل، لما يخرج هبعتلك إنه خرج، وأنت اتأكد بطريقتك.
وصلته هذه المعلومة أثناء جلوسه برفقة عز على المقهى، والذي سأله: طب وبعدين يا عيسى؟

لازم اتأكد هو هناك ولا لا قبل أي حاجة.
أخبره بهذا وعرض عليه عز: طب اجي معاك.
ورفض عيسى عرضه قائلا: لا خليك أنت، كده كده لو احتاجتك هبعتلك.

كل ما يريده الآن هو معرفة ما إن كان متواجد أم لا، انتظر على أحر من الجمر خبر من رزان بخروج زوجها، وأتاه مراده في الليل كما وعدته، فتحرك بسيارته ناحية الأراضي التابعة ل منصور، كان يقود حين سمع هاتفه الذي علا صوته، رأى أنها ملك فرد وسألته هي بقلق: عيسى أنت نزلت ليه، وسألت عليك تيسير تحت قالت مش هنا.
وطمأنها قائلا: كان في مشوار بس كنت متفق عليه روحت اخلصه، ومحبتش أقلقك كنتي نايمة.

وعدها ألا يتأخر عليها، وما إن أغلق معها حتى هاتف سمير وأخبره: هتأكد لو كان موجود ولا لا، وبعدها هتصل بيك.

انتهت المكالمة ومع نهايتها ظهرت سيارة من الخلف بغتة تدفع سيارته، ستار الليل أفضل وقت لإعادة إحياء ما فات، خاصة على طريق مثل هذا، من حولهم الأراضي الزراعية والسكون يطبق على المكان، والبشر نيام، وإن استيقظوا لن يغامر أحدهم ويمر من هنا الآن إلا نادرًا، توقف عيسى عنوة نتيجة الدفع الذي لا يتوقف، نزل من سيارته ليجد جابر ينزل من السيارة الأخرى برفقة اثنين، قبل أن ينطق، سأله جابر: خير يا بن الحاج نصران، رايح فين كده، هو مش السكة دي بتودي ناحية بيتنا اللي في الأراضي ولا أنا غلطان؟

طالعهم عيسى بهدوء قبل أن يرد عليه ساخرًا: وهي السكة دي مبتوديش غير ناحية بيتكم ولا إيه؟، وبعدين حتى لو رايح تخبط عربيتي كده وكإنك لسه متعلم تسوق من ساعة؟
مش العربية بس اللي هتتخبط.
أخبره جابر بابتسامة، وانتظر أن يرى الخوف في عينيه، ولكنه لم ير إلا ثباته، وسؤاله ليعرف نهاية كل هذا: عايز إيه يا جابر؟

فأخبره برغبته صراحة وهو يعلم أن الواقف أمامه ليس لديه حل أخر: تركب العربية دي، ولو مش عايز براحتك، أنا جايب معايا اللي يخلوك تعمل أي حاجة.
طالع عيسى الأرضية وهو يضحك بتهكم قبل أن يعلق: مش أنا بقولك أنت بتسوق ولا اللي متعلم سواقة من ساعة، عموما أنا معنديش مانع أعلمك، ومن غير ما تحتاج اللي معاك.
أشار له جابر ناحية السيارة قائلا بابتسامة: حصلنا الشرف طبعًا، اتفضل اركب.

قال هذا وهو يقترب منه برفقة الذين معه، تحرك عيسى ناحية السيارة، وفتح له جابر بابها، دفعه نحو الداخل وتفاجأ عيسى وهو يرى الجالس على مقعد القيادة، لم يكن سوى شاكر.
فورًا انطلقت السيارة، لا يوجد بها سواهما، هو و شاكر، وكأن مشهد يعرفه جيدًا يعاد الآن، مشهد تحولت حياته بعده، استدار شاكر يطالعه بابتسامة وهو يسأله: بتفتكر صح؟
مش محتاج افتكر حاجة.

أخبره عيسى بهذه الجملة، ولكنه على يقين أن نسخته الحالية ليست تلك التي قررت أن تغامر بروحها في الحادثة، هو لا يريد هذا مجددًا
سمع شاكر يتحدث وبيسر رأى الحقد في عينيه: بس ليلتها كنت أنت اللي سايق مش أنا، فاكر يومها قولتلي إيه عنك؟
وفي صوت واحد رددا: عيسى هو الإنسان اللي لو حطيت في دماغك 100 احتمال لردة فعله، هيعمل ال 101 اللي مجاش في دماغك أصلا.
وما إن انتها حتى سأله شاكر: شوفت أنا حافظ ازاي؟

ثم أبدى شاكر استغرابه واستفسر: بس أنا ليه حاسك خايف على نفسك؟
ليلتها أنت مكانش فارق معاك حاجة؟
ولا أنت بقيت خواف يا عيسى.
وهنا واجهه عيسى بنظراته وهو يرد عليه: ولو مش أنا اللي هخاف على نفسه مين هيخاف، على الأقل ورايا ناس محتاجين وجودي ومش عايز أقهرهم، لكن كلب زيك هربان ولعنة على كل اللي حواليه يخاف على نفسه ليه؟

علت ضحكات شاكر وكأنه سمع للتو مزحة، أخذ يسعل وبمجرد أن انتهى أخبر الجالس جواره: بغض النظر عن اللي أنت قولته، أنا بقى حابب أعرفك حاجة عني، وهي إني تقليدي جدا يا عيسى، مش هختار الاحتمال 101 ولا حاجة، لكن أنا اتعلمت منك إن التجديد حلو برضو، علشان كده دلوقتي هتتفرج على اختياري أنا.

قال جملته الأخيرة وكل منهما يطالع الأخر، شاكر الذي انتوى أن هذه الليلة يجب ألا تُنسى، و عيسى الذي لا يمر أمام عينيه سوى ملك وطفله الذي كانت أقصى أمانيه أن يضمه بين يديه.

هناك لحظات نعيش أعمارنا نهرب منها، نتمنى ألا نواجهها، أن تصادقنا النجاة لننأى عنها، كان من هذه اللحظات بالنسبة ل ملك ما تعيشه الآن، لا تصدق أنه بين يديها، في ليلة مظلمة كهذه خسرت روحها، وردها لها عيسى الذي يصارع الموت الآن بين يديها في هذا الطريق المظلم، مسحت على خصلاته وهي تنطق اسمه بلوعة: عيسى.
عيناه تحتضن عينيها، وكأنه يحفظ صورتها، لمساتها، صوتها وهي تتوسله: خليك معايا يا حبيبي،
يا عيسى.

اسمه الذي لطالما أحبه، واعتز به، يسمعه في أذنيه، يتكرر بنبرة محببة إلى قلبه، وكأنه نغمة مميزة يحفظها عن ظهر قلب، تتغنى بها صغيرة تحمل ملامحه وبالأخص عينيه، هو في سبات عميق، وهو لا تتوقف عن النداء، وتحريك ذراعه: بابا اصحى، يا عيسى اصحى بقى.
فتح عينيه، أعطى ابتسامته لتلك الساحرة التي خطفت بصره، تحمل ابتسامة والدتها، وشقاوته، تربت بكفيها على وجنتيه وهي تحسه: قوم علشان نعمل اللي اتفقنا عليه.

اعتدل وحملها وهو يسألها بابتسامة: واللي اتفقنا عليه ميستناش لما اصحى.
هزت رأسها نافية، فوضعها على الفراش وأخذ يدغدغها وهو يقول: طب تعالي بقى.
تعالت ضحكاتها، وهي تسعى للفرار منه، ولكنه لم يفلتها، بل سألها: هتصحيني وأنا نايم تاني؟
هزت رأسها بالإيجاب، وضحكت من جديد وهو يعيد الكرة، ولم يتركها إلا حين رفعت ذراعيها تطالبه: شيلني يلا.

حقق لها مرادها وحملها وقد ترك فراشه واتجه بها نحو الخارج، ليجد نفسه بعد وقت قليل يقف جوارها في المطبخ وقد أحضرت له حبات التفاح، وبدأت في الاستعداد وهي تحثه: يلا نعمل تفاح بالعسل.
قصيرة للغاية جواره، ترتدي فستان كساه اللون البني، وخصلاتها تحاول ربطها الآن كما تفعل والدتها تماما قبل الدخول للمطبخ، فشلت للمرة الثانيه فأعطته رابطة الشعر قائلة: عيسى اربطهولي.

يشعر وكأنه في عالم أخر، عالم تحققت فيه أمانيه، وخاصة تلك القطعة الصغيرة التي تشبهه في كل شيء، يقف جوارها الآن يصنع لها ما أرادت عن طيب خاطر، وهي لا تفعل شيء سوى المشاغبة، أخر ما فعلته مسح سبابتها التي أغرقتها بالعسل على وجهه، فرت من أمامه بضحكات عالية، ونظرات حملت مشاكسته، وهرول هو خلفها، ولكن ما إن خرج من المطبخ لم يجد لها أثر، عجز لسانه عن نطق الاسم، وكأنه لا يعرف لها اسم، فهتف: أنتِ روحتي فين؟

كان خائفًا، يتجول هنا وهناك غي المنزل الذي يحفظ كل شبر به بحثًا عنها ولكنها لا يجدها، أخيرًا وصل لأذنيه صوتها تقول: يا بابا لاقيني.
كيف يجدها وهو لا يراها في أي مكان، هرول إلى الحديقه الخارجية يدور بعينيه بحثًا عن أي أثر لها، ولم يجد سوى حذاء صغير، مطابق لما كانت ترتديه وهي تقف معه، فناداها بصوت عالي: تعالي بقى يلا أنا تعبت من التدوير.
ليصل إلى أذنيه نبرتها التي خطفته: لا، دور على غالية شوية كمان.

همس بالإسم الذي ألقته على أذنيه وهو عاجز عن فهم أي شيء، كل ما هو على يقين منه الآن أنه يريدها، ابتعد صوتها للغاية، وبقى هو واقفًا مكانه وكأن الخوف من فقدها شل حركته، ولم يستطع سوى النداء باسمها، أن ينادي بلهفة وهو يدور بعينيه حوله أملا في لقياها: غالية.
ليكسر السكون صدى صوته، الذي لم يحمل إلا اسمها، يحمل أجمل من مرت أمام عينيه، وشعر في دقائق رافقته فيهم شعور لا يوصف، يحمل غاليته وابنته غالية.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة