رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الخامس والثلاثون
مالك يا ريتال وشك قلب كده ليه؟
مفيش حاجة يا ماما،
تاني يا ريتال؟ عايزة تخبي عليا تاني؟ وريني التليفون اللي في إيدك ده كده،.
يا ماما ثواني، لم تُكمل ريتال كملتها حيث كان الهاتف في يد زينة بالفعل، قرأت زينة الرسالة بتعبيرات وجه جامدة قبل أن تقول الآتي: طب أيه مش هتردي؟
أرد؟ أرد ازاي يعني يا ماما؟ أنتِ مش شايفة اللي مكتوب في المسدچ؟ سألت ريتال بإستنكار شديد لتدعس زينة على قدمها بخفة قبل أن تقول: أومال تقعدي تعيطي وتتقهري؟ هو ده اللي باعت المسدچ عايزه يا عبيطة.
طب أرد أقول أيه؟ مش عارفة، أنا أصلًا معرفش الكلام ده حقيقي ولا لا وطبعًا معرفش مين،
مش مهم، اصبري أنا هقولك تكتبي أيه.
- أخص عليكِ أو عليك على حسب يعني حرقتلي المفاجأة اللي تليد كان عاملها، على العموم مش مشكلة حصل خير.
أرسلت ريتال ما أقترحته والدتها، لقد كانت الرسالة مستفزة إلى حدٍ كبير ومؤكد أنها أزعجت صاحب أو صاحبة الرسالة وإن كانت ترجح ريتال أن الفاعل أنثى بلا شك.
دلوقتي بقى هتقولي لتليد على الرسالة دي ولا أيه؟ سألت زينة لتتنهد ريتال تنهيدة طويلة قبل أن تقول الآتي: أحنا متفقين منتكلمش لحد ما يحصل حاجة كده وبصراحة مش حابة إن الموضوع يكبر.
ما أهو طول ما أنتِ سلبية كده هيفضل في ناس بتضايقك وبتتنمر عليكِ.
ماما الله يكرمك أنا راجعة من تعب امتحانات وتعب مذاكرة سنة من غير نوم ولا راحة وعايزة أفرفش كده، تعاليلي كمان أسبوع كده أكون نمت وصحيت ونشوف موضوع التنمر ده. حاولت ريتال الهروب من المواجهة كالمعتاد، قلبت زينة عيناها بتملل وهي تتابع الطريق قبل أن تقول بقلة حيلة:.
خلاص على راحتك، أبقي كلمي نانسي أطمني عليها وشوفيها عملت أيه النهاردة وكده.
هكلمها وبالمرة أشوف الجلسات بتاعتها خلصت ولا لسه.
عادت ريتال إلى منزل جدها لتعانقه وتُقبل يده كما تفعل كلما رأته قبل أن تذهب لتحظى بنومٍ عميق تعويضًا عن سهر الليالي الماضية وعدم النوم براحة لأشهر طويلة، استيقظت ريتال في الثانية صباحًا تشعر بالعطش والجو الشديد، غادرت حجرتها ببطء حينما صدر إلى أذنها صوت مُحبب دافئ والذي أتضح أنه جدها كان يجلس في حجرته يُصلي قيام الليل وفي المنتصف كان يتلو القرآن بصوتٍ مسموع.
جدو؟
أنتِ صحيتي يا حبيبتي؟ صح النوم.
صباح الفل على عيونك يا حبيبي.
أكيد جعانة، أنا عملتلك عصير مانجا بإيدي وكمان طلبتلك أكل من المطعم اللي بتحبيه هحط الأكل يتسخن على ما تغسلي وشك وكمان لما تخلصي أكل في مفاجأة علشانك. أردف جدها بحماس شديد وحب حقيقي لتبتسم ريتال بسعادة وهي تعانق جدها قبل أن تسأله الآتي بأعين لامعة: يا حبيبي كل ده علشاني؟ ربنا يخليك ليا ويباركلي في صحتك وعمرك يارب.
ويخليكي ليا يا حبيبتي وربنا يطول في عمري وأمسك شهادة تخرجك بإيدي وبعدها كده ربنا يكرمك بشغل كويس وبعدها كده بقى أسلم لإيد عريسك وأشهد على عقد جوازك بنفسي.
يارب يا حبيبي يارب، خليك أنتَ يا جدو كمل صلاة أنا هروح أسخن الأكل وهستناك تيجي تاكل معايا لقمة.
لا يا حبيبتي أنا أتعيشت حاجة خفيفة كده من بدري علشان الضغط والسكر أنتِ عارفة.
ماشي يا حبيبي.
غادرت ريتال حجرة جدها وذهبت لتجهيز العشاء ومن ثم سكبت القليل من عصير المانجو الطازج قبل أن تُحضر الجهاز اللوحي خاصتها لتشاهد أحد المسلسلات الكورية والتي كانت ترغب في مشاهدته منذ بداية العام لكن لم يكن هناك وقتٍ كافي.
سبعة أيام مرت في هدوء تام، ريتال كانت تقوم بتقسيم وقتها بين جدها وفريدة ووالدتها وزوجها وفي المنتصف كانت تعبث قليلًا في هاتفها وتهاتف صديقاتها من المدرسة القديمة ونانسي كذلك، أما عن صالح فلم يهاتفها منذ مكالمتهم الأخيرة.
في مساء أحد الأيام كانت ريتال تجلس وحيدة داخل حجرتها في منزل والدتها، وقفت أمام المرآة وكشفت عن كتفها وهي تنظر بأعين دامعة إلى الآثر الذي خلفته إصابتها على يد والدها، لم تكن الندبة كبيرة للغاية أو واضحة لكن الآثر الذي خلفه ما حدث غير قابل للنسيان أو الإندثار، بعض من المستحضرات الطبية أو حتى بضع جلسات (ليزر) يمكنها إزالة الآثر وكأنه لم يحدث لكن كيف يمكنها إزالة تلك الذكرى من داخل رأسها؟
أخرجها من شرودها صوت الباب وهو يُفتح ولقد كانت والدتها، اضطربت معالم ريتال على الفور وهي تُخفي كتفها وتعيد ضبط ثيابها.
أيه ده معلش يا ريتال مخبطتش أفتكرتك مش جوا، أصلي مش سمعالك صوت.
تعالي يا ماما أنا كنت واقفة ببص على شعري في المرايا أصله خف أوي بسبب حالتي النفسية وكان بيقع جامد.
طب بسيطة نروح لدكتور جلدية ونشوف زيوت أو شامبو يتقل الشعر. أعلنت زينة ببساطة لتبتسم ريتال ابتسامة صغيرة قبل أن تقول:
شكرًا يا حبيبتي، كنتِ عايزاني في حاجة؟
بصراحة عايزة أقولك حاجة بس أتمنى تسمعيني للآخر، ريتال أحنا عندنا جلسة مع الدكتورة بكرة أن شاء الله.
جلسة ليه يا ماما؟ أنا كويسة أوي وحالتي النفسية بقت زي الفل، ملهاش لازمة.
تحدثت ريتال بأستنكار واضح وهي تتحاشى النظر إلى والدتها، عقدت زينة حاجبية وهي تسألها بالنبرة ذاتها قائلة:
يعني أيه ملهاش لازمة؟ مفيش حاجة اسمها بقيت زي الفل أنتِ مكنش عندك زُكام ولا صباعك وارم مثلًا، أنتِ مريضة إكتئاب واضراب قلق يعني لازم تكملي علاج وجلسات مش هتخفي فجأة.
يا ماما صدقيني من ساعة ما خلصت امتحانات وأنا زي الفل، بنام كويس وباكل كويس ودماغي رايقة خالص ومفيش أي panic attacks.
كانت ريتال صادقة أو هكذا كانت تظن، أجل لقد شعرت بتحسن بعد انتهاء الضغط الذي استمر لمدة عام لكنها لم تتعافى تمامًا من أي شيء قد حدث خاصة ما حدث يوم زفاف والدتها والذي كتمته ريتال داخل قلبها ولم تفصح عنه لأي شخص حتى والدتها وجدها بل كتمت ما حدث داخل قلبها خشية حدوث المزيد من المشاكل وكي لا تُحزن والدتها.
مخك بيوهمك إنك بقيتي كويسة، لو ممشتيش على العلاج والتمارين والجلسات لحد ما الدكتورة هي اللي تطلب نوقف هيحصلك إنتكاسة وهتبقى حالتك أسوء من الأول وبدل ما كنتِ شايفة الحياة سوداء مش هتشوفي حاجة خالص!
يا ماما يعني هتوديني بالعافية يعني؟
لا هساومك على حاجة وأنا واثقة أنك هتوافقي.
يعني أيه بقى؟
يعني لو حضرتي الجلسة بتاعت بكرة هيبقى في حد مستنينا عالمطعم اللي بتحبيه عالبحر لكن لو مروحتيش الجلسة هلغي الخروجة وإحتمال أقفل المطعم وأحبس المدير شخصيًا. أعلنت زينة بمراوغة شديدة لتعتدل ريتال في جلستها بحماس وهي تسألها:
قصدك مين يعني؟ تليد؟
عينك بتطلع قلوب يا ست ريتال.
بس تليد كان واعدني إنه مش هيقابلني غير، أيه ده أنا مش فاهمة حاجة،.
هو استأذن مني أنا وفؤاد وطبعًا أنا وفريدة هنبقى فوق دماغكوا وياسين صاحبه هيبقى معاه.
موافقة طبعًا، قولتيلي الجلسة هتبقى الساعة كام يا مامتي؟
دلوقتي الجلسة بقت مهمة؟ ياه عالبني آدم. علقت زينة ممازحة إياها لتضحك ريتال وتعانقها عناق سريع قبل أن تنتفض من سريرها وتتجه نحو الخزانة لتبحث عن شيء مناسب لترتديه.
مرت الجلسة مملة بطيئة بالنسبة إلى ريتال التي كانت تتحرق شوقًا لمقابلة تليد، كانت والدتها تنتظرها في الخارج برفقة فريدة والتي كانت تريد من الجلسة أن تنتهي سريعًا كذلك حتى تذهب لرؤية ياسين، بعد انتهاء الوقت المحدد غادرت ريتال حجرة الطبيبة بسعادة شديدة وقبل أن تسألها والدتها عن أي شيء سحبتها ريتال بقوة من يدها متجهة نحو مخرج المكان.
ريتال بقولك أيه الطرحة مضبوطة؟ شكلي حلو؟ السلسلة حلوة ولا أقلعها أحسن؟
في أيه يا فريدة هو أنتِ رايحة تجيبي شبكتك؟ وبعدين أنا اللي المفروض أبقى عاملة كده مش أنتِ فوقي!
يا ستي أهو أي حد يدخل دبلة في العائلة يعني وبعدين أنتِ نسيتي إن أنا أكبر منك ولا أيه؟
أيوا ده أيه علاقته؟ أمشي أمشي بس علشان منتأخرش. تمتمت ريتال بنفاذ صبر وهي تسحب فريدة من يدها في حين أن زينة قلبت عيناها بسبب شجارهم الطفولي السخيف.
في غضون نصف ساعة تقريبًا كان ثلاثتهم قد وصلوا إلى وجهتهم، كان تليد يجلس هناك بالفعل برفقة ياسين وقد وُضع أمامهم صحن كبير يحمل بداخله (بيتزا Sea food)، بمجرد أن لمح تليد ريتال ترك الطعام من يدها وأستقام من مقعده على الفور وهو يبحث عن منديلًا مبللًا لمسح يده وفمه.
مساء الخير، خليك خليك متقومش من على الأكل، كمل أكلك.
لا أكل أيه بقى أنا شبعت خلاص، ياسين حبيبي، يلا هوينا.
أهويكوا ازاي يعني مش فاهم؟ سأل ياسين ببلاهة حيث أنه كان ينظر بطرف عيناه نحو فريدة، قلب تليد عيناه بتملل قبل أن يوضح له أكثر مُردفًا:
يعني طارئنا، روح جبلك حاجة حلوة من الكشك اللي جنبنا أي حاجة يعني.
وهو حضرتك يا طنط هتسبيهم يقعدوا يتكلموا لوحدهم؟
يااه عالغتاتة بتاعت البني آدم يا ياسين!
أنا هقعد عالترابيزة اللي جنبهم دي، عيني عليهم وودني معاهم متقلقش وأنتَ وفريدة كمان هتقعدوا معايا، عمومًا ممكن تجيب أكلك يا ياسين وتقعد تكمله. قلب تليد عيناه مرة آخرى قبل أن يسحب الكرسي من أجل ريتال ويذهب للجلوس على المقابل لها.
خير يا تليد أيه سر الزيارة السعيدة دي؟
بغض النظر عن التريقة يعني بس ريتال أنا عايز أقولك على حاجة مهمة مكنش ينفع أبعتها في مسدچ أو تتقال في مكالمة علشان كده أصريت أن أنا أجي أتكلم معاكي بعد ما استأذنت طنط زينة ودكتور فؤاد يعني.
خير يا تليد إن شاء الله. قالت ريتال وهي تأخذ نفسًا عميق إستعدادًا لسماع ما سيقوله والذي لم يكن يدري أنها على علم به بالفعل هذا بالطبع إن صحت إدعاءات صاحب أو صاحبة الرسالة مجهول/ة الهوية.
بابا عايزني أقدم ورقي في جامعة برا مصر، في بريطانيا، بابا عايزني أدرس هناك في كلية الطب يعني هقعد حوالي من خمس لست سنين على حسب الجامعة اللي هدرس فيها.
تسبب حديث تليد في حبس أنفاس ريتال، لقد صُعقت على الرغم من أنها كانت تعرف منذ ما يقرب من أسبوعين تقريبًا إلا أنها كانت تتمنى بداخلها لو أن ما أُرسل إليها كان مجرد كذب أو إفتراء، هي لا تستطيع تخيل قضاء خمس سنوات بعيدًا عن تليد بعد أن أعتادت وجوده كما أنه قد أخبرها بأنه سيقوم بطلب يدها للزواج فماذا سيحدث لوعده الآن؟
أنا عارف إن الخبر صادم شوية، أنا خدت وقت طويل في التفكير ولسه بفكر، محبتش أتكلم معاكِ أول لما بابا قال الإقتراح ده لأني كنت محتاج أخد وقتي وفي نفس الوقت كنت عايز أقولك الكلام ده في وشك وأحنا قاعدين مع بعض.
هو أكيد، يعني هي فرصة متتعوضش،.
أنا كنت متوقع ريأكشن الزعل منك زي ما أنا شايف على وشك بس أنا مش حاسس إنك متفاجئة كأنك مثلًا كنتِ عارفة أو متوقعة.
أنا كنت عارفة فعلًا، يعني في حد بعتلي مسدچ، بنت غالبًا وقالتلي إنك مسافر تدرس. كانت ريتال تتحدث بتوتر واضح وهي تتحاشى النظر بعيدًا عن أعين تليد والذي صُعق حينما سمع ما قالته قبل أن يسأل الآتي بإستنكار شديد:
تاني؟ مسدچات تاني يا ريتال؟
أنا مالي طيب هما اللي بيبعتوا والله!
أنتِ محتاجة تغيري رقمك على فكرة علشان مش كل شوية يجي حد يقرفنا، المهم سيبك من كل ده دلوقتي، أنا عايز اسمع رأيك!
في أيه؟
في لون التي شرت اللي لابسه أيه رأيك؟ أجبلك منه؟ أكيد في موضوع السفر يعني يا ريتال! صاح تليد جاعلًا إياها تنتبه لحديثهم الهام، ابتسمت هي ببلاهة قبل أن تهمس بصوت بالكاد مسموع مُردفة:
لا بس التي شرت حلو والله.
لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يهديكي يا حبيبتي، طيب خليني اسأل سؤال تاني، أنا دلوقتي لو جيت وطلبت إيدك نقرأ فاتحة يعني ربط كلام وسافرت ولما أرجع نتجوز هيوافقوا؟
كان تليد يتحدث بتملل في البداية بسبب سذاجتها قبل أن يعاود الحديث بجدية لكن على ما يبدو أن عقل ريتال قد تشوش تمامًا حيث أنها سألته بالبلاهة ذاتها مُردفة:
هما مين؟
يا بنتي فوقي، أهلك!
يوافقوا على أيه؟ سألته ببلاهة مرة آخرى، صفع تليد هاتفه على الطاولة بنفاذ صبر قبل أن يُعلق ساخرًا وبغيظ شديد:
لا أنتِ شكلك كده شاربة حاجة قبل ما تيجي.
أنتَ متعصب عليا ليه يا عم أنتَ! ما أنتَ عمال تفاجئني بكلام غير متوقع!
غير متوقع أيه؟ أنا قايلك آخر مرة أنا بحبك وكمان لمحت إني ناوي أخطبك المفروض كنت أعمل أيه أكتر من كده؟ سأل تليد بإستنكار واضح وهو يُحرك كلتا يديه بقليل من العصبية، أغمضت ريتال عيناها لثوانٍ وهي تأخذ نفس عميق قبل أن تطلب من الآتي:
طيب أتكلم براحة لو سمحت، وناوي تتقدم لمين بقى؟ ماما ولا جدو ولا بابا فؤاد ولا تكون ناوي تروح لأبويا البيولوجي؟
أكيد مش هروح أطلب إيدك من الراجل اللي أنا ضربته المرة الوحيدة اللي شوفته فيها، وبعدين أنا هسأل بابا وماما أيه أنسب حاجة نعملها في خطوة زي دي أنا بس عايز أسمع رأيك قبل أي حاجة!
تحدث تليد بسخرية في البداية حينما تذكر ما فعله في والد ريتال يوم حفل زفاف والدها لكن سرعان ما عدل من نبرته ولمعت عيناه حينما تحدث عنها، رمشت ريتال عدة مرات وهي تحاول إستيعاب الموقف قبل أن تقول الآتي بتوتر واضح:
تليد أنا بجد متفاجئة وبحاول أستوعب اللي أنتَ بتطلبه فبراحة عليا بعد إذنك.
لا حول ولا قوة إلا بالله، حاضر يا ريتال حاضر، محسساني إني بضربك بالنار!
كان كلاهما بتناقش بحدة، لم تستطع ريتال بعد استيعاب ما يقوله تليد وطلبه لقد أخبرها في السابق أنه يُحبها ولقد صُعقت في ذلك اليوم لكن الآن هو يتحدث عن مستوى آخر من التعبير عن مشاعره فهو يطلب منها الزواج بطريقة غير مباشرة، لكن تلك المحادثة لم تدوم حيث هرول ياسين نحوهم وهو مُعلنًا الآتي:
تليد، ريتال النتيجة ظهرت!
يا نهار أزرق لا لا، أنا كنت عايزة أشوفها في البيت، حرام عليكوا والله! قالت ريتال بنبرة تنم عن توتر مختلط بنحيب وكأنها على وشك البكاء، اضطربت معالم تليد كذلك لكنه حاول تهدأتها بل وفعل المثل مع نفسه مُردفًا الآتي:
بس بس أهدي مفيش حاجة دي درجات يعني لا راحت ولا جت متوترنيش!
طب الموقع فتح معاك؟ سألت ياسين بتوتر واضح ليُشير بلا قبل أن يقول الآتي:
هو مهنج جربوا من عندكوا أنتوا.
طيب ثواني، بسم الله الرحمن الرحيم، تمتم ريتال بتوتر شديد وبيد مرتجفة، أخذ الأمر دقائق قليلة أثناء (تحميل الصفحة) قبل أن تظهر عدة خانات، الإسم، رقم الجلوس، اسم المدرسة، وأخيرًا المجموع الكلي ومجموع كل مادة دراسية على حدة.
أنا نجحت نجحت، ماما أنا جبت 91 يا ماما! صرخت ريتال بأعين قد أمتلئت بدموع الفرحة للمرة الأولى تقريبًا، في تلك اللحظة نسيت ريتال تمامًا وجود تليد وغادرت المقعد مهرولة نحو والدتها والتي بدأت في البكاء بدورها وهي تعانق ريتال عناق قوي.
الحمدلله يا حبيبتي الحمدلله، تعبك مراحش هدر، الحمدلله شوفتي ربنا عوضك ازاي؟
الحمدلله يا ماما أنا مش مصدقة نفسي بجد، أردفت ريتال وهي تفصل العناق عن والدتها وتعانق فريدة التي قالت الآتي بحماس شديد:
ألف مبروك يا ريتو، شكلك كده هتبقى زميلتي في أسنان يا ستي.
طب تليد عمل أيه؟
يالهوي أنا نسيته أساسًا. قالت ريتال وهي تبتعد عنهم وتعود أدارجها نحو تليد وياسين.
ها يا تليد طمني، معلش أنا من الفرحة جريت على ماما وكده.
ألف مبروك يا ريتال، أنتِ مش متخيلة أنا فخور بيكي ازاي حقيقي وبجد مش فارقة معايا نتيجتي طالما أنتِ نجحتي وجبتي المجموع اللي كان نفسك فيه الحمدلله. قال تليد بأعين لامعة تنم عن حب حقيقي، ابتسمت ريتال بخجل وهي تنظر في الإتجاه الآخر وقبل أن تُعقب على جملته سبقها ياسين مُردفًا الآتي بنبرة ساخرة:
طيب يا عم الحنين الموقع فتح.
أحلف!
ههزر معاك يعني؟ سأل ياسين بإستنكار لتضطرب معالم تليد أكثر قبل أن يُخفي وجهه بيده وهو يسأل الآتي بتوتر واضح:
طب انجز جبت كام؟ سقطت؟ 50?؟ شايل مادتين انطق بسرعة!
88? يا ليدو يا جامد! أعلن ياسين بحماس شديد وهو يسحب تليد في عناق قوي بينما يقفز كلاهما بسعادة حقيقية وبحركات عشوائية حتى كاد كلاهما أن يسقط.
أنتَ مش متخيل يا تليد أنا ازاي فخور بيك، ربنا يوفقك يا صديقي ويكتبلك الخير كله!
أردف ياسين قبل أن يفصل العناق لتقترب ريتال بضع خطوات بحيث تقف أمام تليد قبل أن تقول الآتي بقليل من الخجل:
ألف مبروك يا تليد، كنت واثقة إنك هتقدر تجيب مجموع كبير وتتفوق على نفسك بعد ما كانت مهمل في دارستك ومش مركز. كان تليد يبتسم في البداية لكن سرعان ما تلاشت ابتسامته حينما اتخذ حديث ريتال منحني عبثي ساخر ليعقد حاجبيه وهو يسألها بإستنكار شديد:
أنتِ بتباركيلي ولا بتذليني علشان مش فاهم؟
لا لا بقولك إني فخورة بيك يعني بس التعبير خاني شوية.
طيب يا ريتال أتمنى متتكلميش تاني أنتِ آخرك تشاوري بس ما علينا، كده أحنا الحمدلله اتطمنا على مجموعي ومجموعك.
طب نانسي؟ نانسي جابت كام؟ وعالية وحنين؟ طمنوني عليهم كلهم،.
معرفش لسه محدش كتب حاجة، خدي كلميهم طيب من عندي لو مش معاكي رصيد.
لا لا معايا. تمتمت بقليل من التوتر قبل أن تبتعد عن الجميع قليلًا لكي تهاتف نانسي براحة وحتى لا تقوم بإحراجها في حالة لم تكن نتائجها جيدة.
نانسي طمنيني يا حبيبتي عاملتي أيه؟ سألت ريتال بتوتر واضح ليأتيها صوت نانسي المتحمس صارخة معلنة الآتي:
الحمدلله يارب، مش مصدقة نفسي جبت 70? يا ريتال! الحمدلله بجد الحمدلله. تعجبت ريتال قليلًا من ردة فعل نانسي قبل أن تسألها بسعادة:
مبسوطة يا نانسي بجد؟
طبعًا الحمدلله يارب أنا كنت فاكرة هشيل مواد بسبب الظروف اللي حصلت بس الحمدلله ربنا كرمني وعرفت أعدي السنة أيًا كان هدخل أيه.
في الواقع رضا نانسي وسعادتها ضاعف من سعادة ريتال إن لم تكن قد شعرت بالسعادة من أجلها أكثر من سعادتها بمجموعها شخصيًا، الآن لقد أطمئنت على أن الجميع قد نجوا من ذلك العام العصيب على خير على الرغم من وجود اختلافات في الدرجات النهائية والكليات فيما بعد كما هو متوقع لكن كل ذلك لا يهم طالما أن الجميع ناجحون.
يالهوي نسيت اسألك يا ريتال عملتي أيه؟
الحمدلله، تمتمت ريتال دون الإفصاح عن النسبة خاصتها ولم يكن ذلك خوفًا من الحسد أو شيء من هذا القبيل بل في فعلت ذلك إحترامًا لشعور نانسي لكن الأخيرة أصرت على ريتال أن تُخبرها.
يا ستي قولي جبتي كام ما التنسيق هينزل وهنعرف كلنا الكلية اللي هتجبيها، وبعدين أنتِ خايفة أحسدك يا ست ريتال ولا أيه؟
لا والله مش ده قصدي طبعًا، جبت 91? الحمدلله.
ألف مبروك! أيوا يا عم الناس اللي هتدخل طب.
هو طب هيقف معايا على درجتين تلاتة غالبًا وأنا بصراحة حابة طب أسنان زي فريدة بنت خالتي وإن شاء الله تجيلي.
ربنا يوفقك يا ريتال أنتِ طيبة وتستاهلي كل خير حقيقي.
بعد دقائق قليلة أنهت ريتال المكالمة مع نانسي وهاتفت عالية وحنين لتفاجئ بأن كلاهما حصل على المجموع ذاته، 90? وكان ذلك متوقع من كلتاهما، بعد أن انتهت ريتال من التهاني أخبرها تليد أن عليه العودة إلى القاهرة ليُخبر شقيقته ووالديه بما حدث لكن لحديثهم معًا بقية فهو لم يحصل على جواب من ريتال ولم يصل إلى أي حل.
بمجرد أن عاد تليد وياسين إلى القاهرة وبعد أن إخبار العائلة بأكملها والإنتهاء من المكالمات صعد إلى حجرته ومعه ياسين ليحظوا بقليل من الراحة بعد رحلتهم المُرهقة.
ياسين بقولك أيه ما تجيب تليفونك كده ثواني؟ طلب منه تليد بثبات شديد محاولًا إخفاء قلقه لكن ياسين كان منشغلًا في قراءة الكتاب الذي في يده في لذا لم يلحظ تعبيراته المضطربة بل قال الآتي ببساطة وبنصف انتباه:
هتلاقيه مرمي على المكتب هناك خلص اللي عايزه ورجعه مكانه.
أومئ تليد وهو يذهب لإحضار هاتف ياسين، لا يدرِ تليد كيف فعل ذلك وكيف أمكنه أن يضع صديقه المقرب في موضع الشك لكنه كان قد وضع ياسين من ضمن قائمة المشتبه بهم في مراسلة ريتال حيث أنه لم يُخبر سوى عدى قليل من المقربين منه بأمر سفره فمن غير ياسين وشقيقته قد يُرسلوا تلك الرسالة؟ هكذا كان يتسأل لكن التفتيش في هاتف ياسين لم يُجدي نفعًا فلم يكن هو المُرسل والآن أصبح تليد حقير في نظر نفسه لأنه قام بالتشكيك في صديقه بل وشقيقه الأقرب.
والآن بغض النظر عن شعوره بالذنب فمازال السؤال مطروحًا ولم يجد الإجابة بعد، من مُرسل الرسالة إلى ريتال؟ فهو بالتأكيد شخصًا مقرب منه لكي يعلم بشأن سفره إلى الخارج، أخرجه من شروده صوت ياسين وهو يسأله عن الآتي فجأة:
تليد بقولك أيه؟ تعرف واحدة اسمها لُجين؟
أنا أعرف خمس بنات بالإسم ده، اسمها لُجين أيه طيب؟ ولا المفروض أخمن؟
مش فاكر، هات الموبايل أبص كده وبعدين مالك مخنوق كده ليه؟ لم يُجيب تليد عن سؤال ياسين بل منحه الهاتف بقليل من التوتر.
اسمها لُوجين سامر، دي صورتها، عملتلي أدد عالفيس بوك ولاقيتها عندك أنتَ وأختك وطنط وعمو والعائلة كلها تقريبًا.
دي قريبتنا من بعيد، في مقام بنت خالتي يعني بس بقالي كتير مشوفتهاش، هي عايشة برا مصر من زمان وهي أصغر مني بسنة تقريبًا أو نفس سني بالضبط مش فاكر، تلاقيها أفتكرتك من العائلة علشان دايمًا بتشوف صورنا مع بعض. وضح له تليد الأمر بلا مبالاة ليعقد ياسين حاجبيه قبل أن يقول الآتي متعجبًا:
غريبة محكتليش عنها قبل كده يعني.
مجتش مناسبة، لُوجين دي كانت حب الطفولة، لما كانت بتيجي إجازة آخر السنة كنا بنقضيها مع بعض في الساحل أو شرم، أسرتي وأسرتها يعني متفهمش غلط.
أممم ماشي، عالعموم أنا مش هقبلها علشان مش بقبل بنات معرفهمش.
يا عم المؤدب، أنا فاكر إن تسنيم قالتلي أن لوُجين كانت هنا قريب بس مش فاكر أمتى بالضبط لأني مقعدتش معاها أصلًا سلمت ومشيت على طول.
ماشي ماشي، خلينا نشوف بقى توقعات تنسيق السنة دي. أردف ياسين ليومئ تليد ويُلقي بجسده إلى جانبه بينما يسحب منه الهاتف.
بالعودة إلى الإسكندرية، في تلك الليلة لم تتسع الحجرة أجنحة ريتال من فرط السعادة فدعواتها لعام كامل قد اسُتجيبت والحمدلله، كانت ردة فعل جدها وفرحته ونظرات الفخر في عيناه هي أفضل شيء حدث في يومها، لقد أنشغلت بأمر ظهور النتائج وسعادتها حتى نسيت تمامًا ما تحدثت بشأنه هي وتليد ولم تُخبر والدتها بعرضه.
قضت ريتال الليلة في أحضان والدتها في منزل جدها وفي صباح اليوم التالي استيقظت على صوت طرقات مميزة، ارتدت إسدال الصلاة سريعًا وخرجت تبحث عن جدها أو والدتها لكنها لم تجدهم لذا اضطرت إلى فتح الباب بنفسها.
صالح! غادر اسمه شفتيها بنبرة لا تخلو من الدهشة وهي تنظر إليه بعدم إستيعاب ولبرهة شعرت بأنها لا تُدرك أين تكون، هل عادت إلى منزل أبيها وجدتها أم أنها في منزل جدها؟ هل حقًا صالح هنا؟ الأمر برمته لا يُصدق، قاطع تفكيرها العميق صوته وهو يقول الآتي بفخر حقيقي:
ألف مبروك يا أشطر ريتال في الدنيا كلها.
الله يبارك، فيك، أنتَ، أنتَ أيه اللي جابك هنا؟ سألته بصدمة ودون أن تستوعب ما يقوله ليعقد صالح حاجبيه وهو يبتسم بقليل من الحرج لتحمحم هي على الفور وتعدل من حديثها قائلة:
أهلًا وسهلًا بيك طبعًا بس أنا، متوقعتش خالص بصراحة إنك تيجي هنا.
كان لازم أقولك مبروك بنفسي، قصدي أباركلك وأبارك لطنط زينة طبعًا يعني. عدل من جملته على الفور بعد أن حمحم بحرج، ضحكت ريتال بقليل من الخجل قبل أن تقول الآتي:
طيب أتفضل هنفضل واقفين عالباب ولا أيه؟
هو طنط زينة وجدك هنا؟
أيه ده ثواني، أنا مش عارفة، استنى اتأكد.
تمتمت ببلاهة قبل أن تذهب لتبحث عنهم لكن لسوء الحظ لم تجد كلاهما، لقد تذكرت الآن أن والدتها قد ذهبت إلى عملها بالتأكيد أما عن جدها فربما ذهب لإحضار الفطور من أجلهم، صفعت ريتال وجهها في حرج وهي لا تدرِ كيف ستخبر صالح بأن عليه الرحيل أو الإنتظار على المقهى لحين عودتهم.
توجهت ريتال نحو الباب لتزف إليه الخبر وقبل أن تتحدث سبقها صوت الباب وهو يُصفع من خلفها بفعل هواء الشرفة التي نسي جدها أن يُغلقه على الأغلب، اضطربت معالم وجهه بعد أن فتح عيناها التي أغلقتها بقوة بسبب الصوت المُزعج، نظرت إلى صالح بنظرات تدل على الصدمة لينظر إليها بنظرات ذات مغزى قبل أن يسألها الآتي من وسط ضحكاته:.
قوليلي إنك معاكِ مفتاح الشقة. أشارت برأسها ب لا لينفجر صالح ضاحكًا قبل أن يقول الآتي:
وبعدين يا فالحة؟ بدل ما كنت هستنى أنا عالسلم لحد ما حد فيهم يجي بقينا هنستنى أحنا الإتنين.
معاك موبايل طيب نكلم ماما؟
معايا أكيد، خدي العدة اللمس الجديدة بتاعتي. علق ساخرًا وهو يُخرج هاتفه الجديد والذي كان ماركة باهظة الثمن، أندهشت ريتال قليلًا من ذلك لكنها لم تُعلق بل شرعت تبحث عن رقم والدتها.
أيوا يا ماما، أنا ريتال، عارفة إنه موبايل صالح، مفيش قرر يعمل مفاجأة ويجي مش مهم ده كله دلوقتي المهم إن باب الشقة أتقفل علينا وأحنا برا ودلوقتي أنا عالسلم، ماشي متتأخروش،.
كان هذا الحديث الذي دار بين ريتال ووالدتها من ناحية ريتال، لقد أخبرتها والدتها أن ذهبت لشراء بعض الأغراض برفقة جدها ولم تذهب إلى العمل اليوم وأنهم قريبون من المنزل لحسن الحظ.
منحته ريتال الهاتف قبل أن تجلس على أحدى درجات السلم ليجلس صالح على التي تلي التي تليها بحيث يترك بينهم مسافة كافية، ساد الصمت لبرهة قبل أن يقاطعه صوت ضحكات صالح متبوعًا بجملته التالية الساخرة:
شكلنا مسخرة وأحنا قاعدين عالسلم كده، ناقص اللي طالع واللي نازل يدونا حسنة.
ماما خلاص على وصول وبعدين الباب أتقفل من الهواء غصب عني أعمل أيه؟
ولا أي حاجة، لو كنا في القاهرة كان زماني ناطط من شباك أوضة تيته وأفتحلنا. تمتم بنبرة مشوبة بقليل من الحزن وقد نمت ابتسامة جانبية صغيرة على ثغره قبل أن توافقه هي الرأي مُردفة:
تصدق عندك حق، كان بتحصل كتير زمان كنت أنتَ أو نانسي بتنطوا تجيبوه أنا كنت بخاف.
طول عمرك بتخافي على نفسك أوي يا ريتال.
وهو عيب إن الإنسان يخاف على نفسه؟ سألته بحيرة أمتزجت ببعض الإستنكار ليأخذ صالح نفس عميق وهو يحاول إيجاد الصيغة المناسبة لحديثه قبل أن يقول:.
لا مش عيب بس غلط إن الإنسان يبالغ في خوفه على نفسه فيقفل على نفسه ويبعد الناس عنه وميروحش أماكن جديدة ولا يتعلم حاجات جديدة علشان خايف من الفشل أو خايف حد يجرحه أو خايف التجربة متبقاش أحسن حاجة. طالعته له ريتال بثغر فارغ لا تدرِ بماذا عليها أن تُعقب على حديثه فلقد كان صالح مُحقًا بالفعل لكن الأمر ليس بيدها أو هكذا كانت تظن هي، قاطع تفكيرها العميق وبحثها عن ردٍ على حديث الجالس برفقتها صوت خطوات جدها ووالدتها أثناء صعودهم السلم.
يا خبر، معلش يا ولاد حقكوا عليا، قوموا تعالوا يلا، أتفضل يا صالح يا ابني.
شكرًا لحضرتك، مفيش أي حاجة أحنا ياما نسينا المفاتيح عند تيته. قال صالح قبل أن يتبعهم نحو الداخل، أخذ يتأمل المكان بعيناه ببعض التوتر والخجل قبل أن يقول الآتي معتذرًا بحرج شديد:
معلش أنا عارف إن الزيارة غريبة ومش متوقعة بس أنا خدت اللوكيشن من نانسي، كان لازم أجي أبارك لحضرتك وريتال بنفسي.
طول عمرك صاحب واجب يا حبيبي، قولي بقى يا سيدي عايز تتغدى أيه النهاردة؟
لا لا يا طنط مفيش داعي للتعب أو التكلفة أنا ساعة بالكتير وهتحرك عالقاهرة.
عيب كده يا صالح يا ابني أزعل منك، عايز تخرج من هنا تقول إن بيت الحج رضوان مش بيت كرم وأصول؟ سأل جد ريتال بقليل من الإنفعال المتتزج بالمزاح لكن نبرته جعلت صالح يتوتر لذا قال الآتي بقليل من التلعثم:
العفو والله مش قصدي، خلاص اللي حضرتك تشوفه.
هو ده الكلام التمام، تعالي معايا يا زينة ثواني.
طلب والدها منها لتومئ وتغادر مقعدها، كان والدها يسألها بضع أشياء بشأن ما سيطهوه بمساعدتها وفي الوقت ذاته كانت أعين زينة تتابع صالح وريتال، في تلك الأثناء تذكر صالح أنه نسي منح ريتال هديته لذا أنتفض من مقعده بحثًا عن حقيبة الظهر خاصته.
في حاجة وقعت منك ولا بتدوى على أيه؟
لا لا مفيش حاجة، ثواني، أيوا، بدور على دي. قال صالح قبل أن يُخرج من حقيبته الكبيرة حقيبة هدايا مُبرقشة متوسطة الحجم، أتسعت أين ريتال بحماس قبل أن تسأله بخجل امتزج بالتوتر:
دي، علشاني؟
حاجة بسيطة كده يارب تعجبك.
أمسكت ريتال الحقيبة بحماس وهي تنظر إلى ما يوجد بداخلها والذي كان معطف طبي (بالطو) باللون الأبيض وقد تم تطريز اسم ريتال عليه يدويًا.
ده تحفة! أيه المفاجأة دي؟ متوقعتش خالص بجد شكرًا أوي!
المفاجأة الحقيقية إن أنا اللي مطرز اسمك على البالطو، طبعًا كان في محاولات فاشلة في الأول على قماش قديم بس الحمدلله ضبطت يعني.
يا نهار أبيض! كل ده علشاني؟ شكرًا بجد يا صالح ربنا يخليك ليا.
قالت ريتال بأمتنان شديد وهي تضم المعطف إلى صدرها بينما تضحك بصوتٍ مسموع، وقعت عيناه على صالح لتجده يتأملها بنظرات تمنت ريتال لو أنها اخطأت فهمها، نظرات لا تمت بصلة لنظرات الأخوة التي كان يدعيها صالح في السابق بل كان ينظر إليها بأعين لامعة وابتسامة واسعة ولحسن الحظ أن والدتها وجدها عادوا سريعًا ليقوموا بإنهاء تلك اللحظة التي كان يعيشها صالح.
قضى صالح معظم اليوم برفقتهم، تناولوا طعام الغداء واصطحبهم جدها في نزهة بعد أن انضمت فريدة إليهم، كان كل شيء يسير على ما يرام في هذا اليوم على غير العادة ولبرهة نسي كلًا من صالح وريتال كل الصعاب والمآسي التي مروا بها.
وفجأة شعر صالح أنها في الثانية عشرة من عمره يلهو في (حوش) بيت جدته برفقة ريتال ذات الضفائر وخصلات الشعر المبعثرة على الجانبين، لبضع سويعات نسي كل ما حدث بينه هو وريتال وكل الكلمات المؤذية التي صفعها كلًا منهم في وجه الآخر في الآونة الأخيرة.
تمنى صالح لو يمكنه إيقاف الزمن بحيث لا ينتهي هذا اليوم لكن للأسف في تمام التاسعة كان عليه التحرك بسيارته عائدًا إلى أحزانه وهمومه في منزل جدته وأبيه، ودع ريتال بتأثر غير معهود بعد أن وعدها بلقاء قريب.
بالعودة إلى القاهرة وقبل وصول صالح، كانت نانسي تجلس في منزل جدتها قبل أن تفاجئ هي بصوت.
بقولك يا نانسي،.
أفندم يا خالو. تمتمت بلا مبالاة بينما تعبث في هاتفها بحثًا عن حساب الطبيب الذي كان مسؤولاً عن حالتها فيما يخص جلسات العلاج الطبيعي، حمحم عبدالرحمن بحرج ليجذب انتباهها قبل أن يسألها عن الآتي بنبرة لا تخلو من التلعثم:
هي، هي ريتال عملت أيه؟ جابت كام قصدي؟
جابت 91? يا خالو.
بسم الله ما شاء الله، هي دي بنتي حبيبتي اللي رفعت رأسي وهتبقى أشطر دكتورة.
بنتك حبيبتك اه، طب أتمسى يا خالو وقول يا مساء، عن إذنك. تحدثت نانسي بإزدراء واضح ليمتعض وجه عبدالرحمن قبل أن يصيح في وجهها قائلًا الآتي بإستنكار واضح:
أنتِ ازاي تتكلمي معايا كده؟
وقبل أن تُجيبه نانسي وتبدأ في جدال لا داعي له سبقها صوت صالح الذي ظهر من اللامكان ليطلب منها الآتي بنبرة لا تخلو من الحزم:
اطلعي على فوق أنتِ يا نانسي.
حاضر يا صالح.
بص يا عمي هفهمك حاجة، الإحترام زيه زي أي حاجة في الدنيا بتكون مكتسبة، لما الإنسان يحترم نفسه كده وتبقى تصرفاته تدل على إنه بني آدم كويس الناس بتحترمه وتعمله قيمة لكن الإنسان اللي تصرفاته عبثية وغلط ومش مفهومة عمر ما حد هيحترمه.
قال صالح بسخرية شديدة ليمتعض وجه عبدالرحمن وكاد أن يتفوه بشئ لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة ليتابع صالح جرعته من الكلام المسموم المُوجع مُردفًا التالي:
وبعدين يا عمي يعني أنا أسف طبعًا عالكلام ده بس ده مرات حضرتك مش عملالك احترام قدامنا أو قدام أي حد منتظر من نانسي تحترمك؟
عندك حق. تمتم عبدالرحمن بإنكسار قبل أن يجذب هاتفه والمفاتيح خاصته ويصعد نحو الأعلى وقد استعد نفسيًا للحصول على جرعة من التوبيخ من زوجته كالمعتاد.
أن عبدالرحمن في مرحلة العقاب، مرحلة الندم عن كل ما أقترفه لكن الشعور بالندم والإعتذار لا يمحو الذنوب التي أقترفها وكذلك لن يُخفف من عقوبته، لقد هدم أسرته، عنف ابنته، طعن في شرف زوجته السابقة وقد وصل به الجنون لمحاولة قتلها والآن مهما بكى وتوسل طالبًا العفو والسماح أو الغفران منهم فهو لن يحصل عليهم قط فهو لا يستحق.
في مغرب اليوم التالي ذهبت نانسي برفقة والدتها إلى المركز الطبي كما أعتادت أن تفعل منذ وقت الحادثة لكنها اضطرت إلى التغيب عن بضع جلسات بسبب (دروس ومراجعات الثانوية العامة) والآن بعد أن انتهت تلك الضجة كان عليها العودة ومتابعة الجلسات كي لا تنتكس حالتها أكثر.
قابلت نانسي أدهم في طريقها نحو الطبيبة في الحجرة التي بالداخل، كانت تنوي الترحيب له لكنها انتظرت أن يفعل هو أولًا وقد فعل بالفعل حيث قال:
مساء الخير يا آنسة نانسي ليكِ وحشة، قصدي يعني كانت الجلسات واقفة بقالها فترة علشان امتحاناتك وكده.
لا أنا جيت بعد الإمتحانات على فكرة بس أنتَ مكنتش هنا، يعني بالصدفة عرفت إنك مش موجود أنا طبعًا مسألتش عليك وكده،.
اه اه ما أنا عارف، مبروك النجاح. قال مع ابتسامة صغيرة لتبادله الإبتسام قبل أن تُردف الآتي بقليل من الخجل:
الله يبارك فيك، الحمدلله بجد مكنتش مصدقة إني هعدي أنا طبعًا شاطرة يعني علشان تبقى عارف بس هو علشان الظروف كنت قلقانة بس يعني الحمدلله.
ألف ألف مبروك، معلش كنت عايز أقعد معاكي شوية بس لازم أمشي دلوقتي والدكتورة هتجيلك حالًا، good luck حظ موفق.
تمام ماشي. تمتمت بشرود وهي تتابعه بعيناها أثناء سيره مبتعدًا عنها.
بعد مرور بعض الوقت حينما انتهت نانسي من الجلسة تركتها الطبيبة وحدها كي تقوم بضبط ثيابها وهندمتها وقبل أن تغادر نانسي المكان وجدت الطبيبة عائشة تمنحها صندوق صغير، تعجبت نانسي قليلًا وهي تتناوله في يدها قبل أن تسألها بحيرة:
هو أيه ده؟
دكتور أدهم سابلك دول علشان نجاحك وكده. قالت عائشة أثناء فتح نانسي للصندوق الصغير والذي كان يحوي بداخله عدة أنواع مختلفة من الحلوى والشيكولاتة، ابتسمت نانسي ابتسامة واسعة قبل أن تقول الآتي بسخرية:
بس أنا مجموعي أقل من الفلوس اللي دفعها في الشيكولاتة دي كلها.
ياستي ألف مبروك الحمدلله إنك خلصتي من السنة دي.
أومئت نانسي بإبتسامة مجاملة فهي لم تشعر بالراحة تجاه عائشة تلك قط ولقد استشعرت عائشة ذلك لكنها قررت أن التعامل بلطف ولين قد يجعل نانسي تتقبلها على الأقل لحين انتهاء الجلسات تمامًا.
في عصر اليوم التالي قررت ريتال مصارحة والدتها بشأن طلب تليد لكن قبل أن تفعل فوجئت بأن تليد قد طلب من والدتها مقابلتهم مرة آخرى.
أنا مش فاهمة تليد أيه اللي عايز يشوفنا كل شوية هي شغلانة بقى؟ المرة اللي فاتت وافقت علشان قعد يتحايل عليا ويقولي حاجة مهمة المرة دي أيه بقى؟
بصراحة يا ماما أنا في موضوع كده يعني نسيت أحكيلك عليه،.
نسيتي تحكيلي ولا محكتيش قاصدة؟
بصراحة يا ماما خوفت من ردة فعلك وحاولت يعني أأجل كلام في الموضوع لحد ما تبقى رايقة كده بس حضرتك طول الوقت متضايقة.
حضرتي؟ طب قولي يا حبيبتي، سمعيني. قالت زينة بنبرة شبه حادة لتومئ ريتال وهي تزدرد ما في فمها بصعوبة قبل أن تبدأ في سرد طلب تليد...
في مساء ذلك اليوم حضرت فريدة إلى منزل جدها لتجلس ريتال إلى جانبها بوجوم وشرود تام لتسألها فريدة بحيرة عن السبب:
أنا ليه مش حاسة إنك مبسوطة؟ دي الكلية اللي كان نفسك فيها وتليد، تليد اللي أنتِ عندك مشاعر ناحيته عايز يتقدملك، ده حتى صالح ساب صاحبته ونانسي أحوالها بقت تمام وخالتو زينة ومتجوزه راجل زي العسل وجدو صحته كويسة ألف حمد وشكر ليك يارب، المشكلة فين بقى؟
مش عارفة، أنتِ مش هتفهميني، كل ده جميل وجميل أوي كمان لكن أنا لسه متعودتش، حياتي كل يومين بتتغير تغير جذري والدنيا عمالة تكبر وتوسع مني وأنا مش عارفة أيه الصح وأيه الغلط ومش عارفة حتى أيه اللي هيفرحني،.
تفكيرك الزيادة في كل حاجة ده هو اللي معكنن عليكِ عيشتك كلها. علقت فريدة وهي تتناول كمية كبيرة من المقرمشات الموضوعة أمامها ليمتعض وجه ريتال قبل أن تقول الآتي بإعتراض واضح:.
مش بمزاجي يا فريدة مش بمزاجي، دماغي عاملة زي الماتور اللي مش بيفصل، أنا مش عارفة الكلية اللي اختارتها كويسة فعلًا ولا هندم بعد كده ومعرفش تليد شخص مناسب ولا لا أنا كنت فاكراه إعجاب من بتاع المراهقين ده بس الموضوع بيقلب بجد وهو عايز ياخد خطوة حقيقية،.
تحدثت ريتال بنبرة أقرب إلى البكاء، مئات الأفكار في عقلها المشتت الصغير والذي لم يحظى بالراحة اللازمة قط، تنهدت تنهيدة طويلة تحاول منع دموعها من الإنهمار قبل أن تتابع حديثها مُردفة:.
وطبعًا أنا مش عارفة أتعود على عدم وجود ماما تاني وفي نفس الوقت مش قادرة أسيب جدو أو أقنعه إننا ننقل، كل حاجة معقدة ومحتاجة تفكير وكل قرار ليه تبعات أنا مش عارفة هبقى قدها ولا لا، أنا نفسي حد يقرر بدالي بس خلاص أنا كبرت وده مبقاش أوبشن للأسف،.
طيب أهدي كده وصلي على النبي وأنا هقولك حل لكل حاجة، أردفت فريدة وهي (تُربع) قدميها دلالة على الإنتباه والتركيز، تنهدت ريتال قبل أن تُرسل الصلوات قائلة:
عليه أفضل الصلاة والسلام، أشجيني.
بالنسبة لموضوع الكلية بسيط، أنتِ داخلة نفس الكلية اللي أنا فيها يعني هساعدك في المواد ولو بعد الشر حسيتِ إنك مش مرتاحة بعد أول ترم ممكن تحولي لأي كلية تانية مجموعك جايبها. قامت فريدة.
ماشي، أعمل أيه في جدو وتليد وماما؟
هي طنط زينة مش عاجبها الموضوع أوي يعني؟ سألت فريدة بقليل من المزاح لتتنهد ريتال تنهيدة طويلة قبل أن وقول الآتي:
لا حاجة بسيطة يعني هي بس صوتت في وشي لما حكتلها وقالتلي مش هسيبك تكرري غلطتي زمان وشيلي تليد ده من دماغك وأنسي الكلام اللي هو بيقوله خالص ده وكده يعني.
لا بسيطة فعلًا. عقبت فريدة ساخرة وهي تأخذ رشفة كبيرة من كوب المشروب الغازي الذي أمامها قبل أن تقول:
بسيطة بسيطة، كده كده أنا مش موافقة على خطط تليد الجهنامية دي بس برضوا متوقعتش ماما تتعصب أوي كده دي ختى مخلتنيش أكمل كلام وأقول كل حاجة.
ده رد فعل طبيعي متوقع من خالتو يعني بس الفكرة كلها في رفضك أنتِ أصلًا للموضوع، أنتِ لو كنتِ موافقة كنا ممكن نخلي دكتور فؤاد أو جدو يقنعها لكن أنتِ أصلًا مش موافقة.
عندك حق، أنا عندي مشاعر تجاه تليد وهو من أكتر الناس اللي وقفت جنبي ودعمتني في حياتي وأنا فعلًا شايفة فيه صفات كتير أتمنى تكون في جوزي المستقبلي بس موضوع السفر وارتباط وجواز دلوقتي، ده أنا لسه مبعرفش أنزل الشارع هنا لوحدي عايزاني أتجوز وكمان في بلد تانية؟
أنا شايفة إنك تصلي صلاة استخارة وتفكري كويس أوي وبعدها تبلغي تليد بقراراك لو أتفقتوا يجي يقرأ فاتحة لو لا فخلاص كل شيء قسمة ونصيب ودي حاجة متزعلش حد. أومئت ريتال بحسنًا قبل أن تتنهد تنهيدة كبيرة حيث غاصت مرة آخرى داخل دوامة من الأفكار اللامتناهية.
ثلاثة ليالي مرت كانت تقضيها ريتال في حجرتها في منزل جدها بهدوء تُفكر في حديثها مع تليد وتحاول التوصل إلى قرار وحينما فعلت هاتفت والدتها وطلبت منها ترتيب موعد للقاء تليد لتُخبره بردها النهائي على عرضه، حاولت زينة معرفة جواب ريتال لكن الأخيرة رفضت وأخبرتها أنها ستعرف حينما يحين الوقت لذلك.
بالفعل بعد مرور بضعة أيام حضر تليد إليهم وقد كان يطغى عليه شعوره بالحماس وربما القليل من التوتر لكن بداخله كان واثق من أن ريتال لن تخذله ولن ترده خائب الرجاء فمؤكد أنها تريد إخباره بموافقتها وتحديد موعد ليزور جدها لطلب يدها، بعد تبادل التحية جلس تليد وريتال على طاولة بينما جلست زينة على الطاولة المجاورة لهم.
تليد أنا فكرت كتير في الأيام اللي فاتت أو بمعنى أصح من يوم ما كلمتني وعرضت عليا عرضك.
وأيه ردك؟ طمنيني.
تليد أنا مش هقدر، الحياة اللي أنتَ عايز نعيشها دي صعبة أوي عليا أنا عيشت شهور مشتتة وتايهة ومش هقدر أكرر التجربة دي تاني،.
أيوا يعني أنا أعمل أيه يا ريتال علشان يرضيكِ طيب؟ سأل تليد بنبرة جمعت بين الخذلان وبعض الإستياء، لقد أصابته بنيران الإحباط وقد شعر بأنها تتخلى عنه بكل بساطة برفضها لعرضه.
وأنا أعمل أيه أنا كمان يا تليد؟ أنتَ مش فاهمني ومش عايز تفهمني حتى!
لا يا شيخة؟ بعد كل اللي بحاول أعمله علشانك بتقولي كده؟ سأل بنبرة أقرب إلى الصياح وكادت زينة التي تجلس على الطاولة المجاورة أن تتدخل لولا أن أشارت لها ريتال بأن تهدأ، أخذت نفس عميق قبل أن تُجيب عن أسئلة تليد قائلة:
يا تليد لما أنتَ تخطبني وتسافر وتجيلي كل سنة مرة في الأجازة هنقعد 5 سنين مخطوبين؟ ده منطق يعني؟
أومال عايزاني أعمل أيه طيب؟ بصي أحنا ممكن نتخطب أول سنة واللي بعدها أنزل نكتب الكتاب واللي بعدها أبعتلك تعيشي معايا هناك على ما أخلص دراستي.
وأكمل أنا دراستي ازاي يعني؟ هو مش أنا بدرس هنا؟ وبعدين نتجوز ازاي بس أحنا أولًا لسه صغيرين وثانيًا هتصرف عليا منين ولا هتسيب عمو وطنط يصرفوا علينا؟
والله؟ هي دي نظرتك ليا؟ مش راجل وعيل صغير مستني أهله يصرفوا عليه؟
مش قصدي كده أكيد يا تليد أنا بسألك مش بتريق عليك!
طيب أسمعيني كده براحة، أنا هشتغل شغل بارت تايم مع الدراسة وماما وبابا كده كده ملزومين يدفعولي مصاريف الكلية ما أنا ابنهم برضوا يعني.
ماشي جميل، فرضًا إننا عملنا كده، أنا هعمل أيه في دراستي اللي أنتَ مسقطها دي؟
طيب ما تدرسي معايا برا؟ كلية طب أسنان موجودة طبعًا وهندخل نفس الجامعة وهناخد سكن واحد ما أحنا هنبقى متجوزين.
بص حياة الحقيقة والسراب دي مش مناسبة معايا، وبعدين مين قال أصلًا إن أنا عايزة أعيش برا؟
أحنا مش هنعيش مدى الحياة أحنا هندرس فترة ونرجع.
يا تليد الدراسة برا دي مش بفلوس؟ وفلوس كتيرة كمان؟ أنا مش هقدر أكلف ماما وبابا كده.
أيوا يا ريتال طيب أنا أعمل أيه طيب؟ أنتِ بتقفلي كل السكك في وشي، كل ما أقترح إقتراح تقفليها في وشي!
معرفش يا تليد بس اللي أنا عارفاه ومتأكدة منه إني مش موافقة على موضوع السفر.
ماشي يا ريتال على راحتك، بعد إذنكوا. تمتم تليد بصوتٍ مسموع حتى يصل إلى زينة قبل أن يستقيم من مقعده ويُخرج ورقة نقدية بمئتي جنيه ويُلقيها على الطاولة ثمنًا لمشروبه هو وريتال قبل أن يغادر المكان بخطوات سريعة غاضبة.
أخذت تراقبه ريتال وهو يرحل في صمت، جاءت زينة لتجلس أمامها وبمجرد أن فعلت أنفجرت ريتال باكية وهي تُخفي وجهها بكلتا يديها بينما تهمس بكلمات غير مفهومة تنم عن حزنٍ كبير وتيه.
قاد تليد سيارته عائدًا إلى القاهرة بسرعة جنونية، الشرار يتطاير من عينه وكل بضع دقائق يقوم بصفع عجلة القيادة في غيظ شديد، هاتف تليد ياسين حينما أقترب من المنزل بحيث يسبقه ياسين إلى هناك لأن تليد يريده في أمر هام.
بمجرد أن وصل تليد قام بإلقاء أغراضه على أرضية حجرته بإهمال وقبل أن يسأله ياسين عن ما حدث وإن كان قد توقع بالفعل صرخ تليد في وجه صديقه قائلًا الآتي:
ريتال أنانية ومش بتفكر غير في نفسها!
تليد أهدى علشان متهبلش في الكلام، أنا كنت متوقع إنها هترفض، تليد يا حبيبي أنتوا لسه صغيرين والإختيارات اللي أنتَ بتحطها قدامها مش سهلة برضوا! كان ياسين يتحدث بطريقة عقلانية كالمعتاد مما زاد من ضيق تليد ليعقب بالآتي بسخرية لاذعة:
اسم الله محسسني إنك عندك خمسين سنة مكنش فرق سنة ولا اتنين متأفورش بقى، وبعدين هي لو فعلًا بتحبني وأنا غالي عندها زي ما هي غالية عندي كانت هتوافق وتحاول تقنع أهلها!
أكبر دليل إنك عيل يا تليد هو القفش والقمص اللي أنتَ فيه ومن غير زعل بقى الشخص الأناني الحقيقي في الموضوع ده كله هو أنتَ. صفع ياسين الحقائق وجهه ليطالعه تليد بصدمة وثغرٍ فارغ قبل أن يسأله بإستنكار واضح:
أنا؟ ده أنا عايز أريحها وبشوفلها حلول لكل المشاكل تقوم تقولي إن أنا أناني؟
أيوا أناني يا تليد، أنتَ عايزها تبعد عن أهلها وتسافر وتغير نظام حياتها كله وتدفع فلوس زيادة وتتجوز على طول وهي صغيرة جدًا علشان أنتَ عايز كده وعلشان أنتَ مرتب حياتك كده، طب مفكرتش يا أستاذ إن حضرتك تضحي ومتسافرش وتدرس هنا جنبها؟
مجموعي مش هيجيب طب هنا يا ياسين!
متستعبطش يا تليد ما تدخل خاص عادي يعني.
بقيت أنا الوحش دلوقتي يعني؟ تمام أوي، عالعموم خلاص مش فارقة.
تليد أنتَ لو هتفضل تتقمص زي العيال أنا هبطل أجيلك وهبطل أتكلم معاك، كده أو كده أنتَ بتقول مبقتش فارقة وأنتَ خلاص ربنا كرمك وهتدخل الجامعة ومبقتش محتاج ليا جنبك وممكن أطلع من حياتك عادي جدًا لو وجودي وكلامي بيضايقوك كده!
تحدث ياسين بضيق شديد وبجدية تامة وهو يسحب هاتفه وحقيبة الظهر الصغيرة خاصته إستعدادًا للرحيل لولا أن أقترب منه تليد بحركة خاطفة وهو يدفعه من كتفه مانعًا إياه من الرحيل بينما يعتذر منه قائلًا الآتي:.
أنا أسف، والله ما أقصد كده أبدًا، أنتَ أخويا الكبير وصاحبي وعارف إني من غيرك ولا حاجة، حقك عليا يا ياسين، أنا بس دماغي متلغبطة وكل خططتي باظت، ماما وبابا لما أقترحوا حوار السفر الفكرة دخلت دماغي وأقتنعت بيها أوي وحسيت إني خلاص مش هقدر أرسم أي سيناريو تاني لحياتي غير السفر لكن ريتال، أنا بحبها، بحبها حقيقي يا ياسين.
بتحبها للدرجة اللي تخليك تتخلى عن السيناريو اللي أنتَ راسمه وأحلامك؟
سأل ياسين بغتة سؤال لم يتوقعه تليد قط لذا أخذ يطالع ياسين بثغرٍ فارغ لا يدرِ بماذا يُجيب وتأخر النطق بالإجابة كان بمثابة إجابة بالنسبة إلى ياسين الذي ابتسم ابتسامه جانبية صغيرة قبل أن يقول:
كنت عارف.
مر أسبوعين على لقاء تليد وريتال، عادت هي إلى شعورها بالحزن والتوتر مرة آخرى وما زاد من ذلك الشعور هو أن تليد لم يحاول مهاتفتها ولم يبعث حتى بأي رسالة كان ذلك حتى وصلت رسالة على هاتف والدتها من تليد يطلب منها أن يلتقي بريتال، هكذا أخبرتها والدتها والغريب في الأمر أن والدتها لم تمانع ولم تعترض كما كانت تفعل في كل مرة بل أخبرتها بأن تستعد لذلك اللقاء في مغرب الغد بكل بساطة ولم تدرِ ريتال هل يجب أن يُسعدها ذلك أو يُقلقها...
وصلت ريتال إلى المكان المعتاد وكان برفقتها والدتها وفريدة، كان تليد قد تأخر عن موعده على غير العادة كذلك لتتعجب هي لكنها قررت أن تصبر فربما كان الطريق مزدحم.
بعد مرور بضع دقائق وصل تليد إلى هناك، عيناه الرمادية باهتة وخصلات شعره شبه مبعثرة وكأنه لم يهتم إهتمامه المبالغ في تصفيفها كما كان يفعل، إستقامت هي من مقعدها وسارت خطوتين نحوه وقد رسمت ابتسامة واسعة على ثغرها لم يُبادلها إياها لتزول خاصتها على الفور وقبل أن تُرحب به أو تنطق بأي شيء سبقها هو قائلًا الآتي بجمود:.
أنا جيت علشان أسلم عليكِ، الدراسة مش هتبدأ دلوقتي بس أنا هسافر أخلص ورق وهقعد مع قرايبنا هناك مؤقتًا لحد ما أستقر في السكن.
لا، ثواني، مش فاهمة، سكن أيه و، هو أنتَ بجد هتسافر يا تليد؟
أنا أسف يا ريتال مكنتش حابب إن الدنيا تمشي كده أو إن كل ده يحصل. كان يتحدث بنبرة لم تعتادها هي، نبرة باردة قاسية وهو يتحاشى النظر إلى عيناها المُحمرة والآن قد فهمت ريتال سبب حزن والدتها في الأيام الماضية وكذلك سبب موافقتها على هذا اللقاء.
بس كده؟ ده اللي عندك يعني؟
لو لينا نصيب مع بعض أكيد هنتقابل تاني.
صح أنتَ عندك حق، أمسك. تمتمت بنبرة حاولت أن تجعلها باردة كخاصته لكنها خرجت ضعيفة أشبه بالحشرجة بينما تنزع السلسال الفضي الذي أهداها إياه والذي يحوي بداخله الخاتم الفضي خاصته.
أيه ده؟
سلسلتك.
وبتديهالي ليه؟ خلاص مش عايزة أي حاجة تفكرك بيا؟ سأل تليد بصدمة لكن ريتال لم تُجيب عن سؤاله بل نظرت إليه بأعين دامعة لثانية قبل أن تنظر إلى الإتجاه الآخر.
تمام يا ريتال اللي أنتِ عايزاه بس أنا كده كده مش هاخدها عايزة تخليها معاكي عايزة ترميها أنتِ حرة بقى. تمتم بإنكسار شديد لتهرب دمعة من عيناها لكنها تكفكفها سريعًا وهي تعيد السلسال إلى أحدي جيوبها بقليل من العنف، ساد الصمت لبرهة قبل أن ينظر إلى عيناها نظرة طويلة عميقة وهو ينبس بالآتي:
مع السلامة يا ريتال، مع السلامة يا حبي،.
لم يستطع إكمال الجملة ورحل مبتعدًا عنها على الفور دون انتظار أن تودعه هي، أخذت تراقب خطواته وهي تهمس الآتي بينما تلوح له بإنكسار دون أن يراها:
مع السلامة يا تليد، مع السلامة يا أغلى حد في حياتي،.
للمرة التي لا تدري ريتال عددها أُجبرت ريتال على توديع شخصًا تُحبه، للمرة مجهولة العدد كان عليها أن تسمع بأذنيها صوت تحطم قلبها أثناء رحيل أحدهم بجزء منه ليتركها ناقصة، فارغة، بلا هوية، تُرى كم رحيل سيتحمل قلبها قبل أن يتوقف تمامًا؟
في تلك اللحظة حان موعد الغروب، غَربت الشمس عن السماء مندثرة داخل أحضان المياه الباردة وغابت شمس ريتال برحيلها بعيدًا دون أن تعلم متى سيحين موعد شروقها مرة آخرى...